فقه السيرة شرح الدكتور / عبد العظيم بدوي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
انتهينا في دروس السيرة إلى دخول بني هاشم وبني المطلب والنبي -صلى الله عليه وسلم- شعب بني هاشم ليحموه من قريش بعدما عزموا على قلته، واستمر بنو هاشم وبنو المطلب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشعب ثلاث سنين، وقد كتبت قريش المقاطعة، ونصُّوا فيها على بنود ذكرنها، ألا ينكحوهم ولا ينكحوا منهم، ولا يشتروا منهم ولا يبيعوهم، ولا يخالطوهم ولا يجالسوهم، إلى آخر البنود التي ذكرناها في المقاطعة.
سنتحدث الآن -إن شاء الله تعالى- كيف انتهت هذه المقاطعة، وكيف خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أعمامه من شعب بني هاشم، وما هي الدروس المستفادة من هذه المقاطعة، وما هي الأحداث التي تلت هذه المقاطعة بعد خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشعب، كوفاة عمِّه وزوجه، والإسراء والمعراج، وخروجه بعد ذلك -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، ومحاولة بحثه عن مكان آخر يدعو فيه إلى الله -عز وجل- ويبلغ رسالة ربه.
فنقول -وبالله تعالى التوفيق:
لبث بنو هاشم في شعبهم ثلالث سنين، اشتدَّ عليهم البلاء والجهد، واضطروا إلى أن يأكلوا ورق الشجر والجلود اليابسة، فلما كان رأس ثلاث سنين قيَّد الله -سبحانه وتعالى- لنقد الصحيفة التي كتبوا فيها بنود المقاطعة وعلقوها على الكعب؛ قيد الله لها أناسًا من أشراف قريش يسعون في إنهاء هذا الحصار الاقتصادي، وخروج بني هاشم وبني المطلب من هذا الشعب.
وكان الذي تولى الانقلاب الداخلي لنقد الصحيفة:
هشام بن عمرو الهاشمي، هاشم بن عمرو هو الذي بدأ في دعوة الناس إلى نقد هذه الصحيفة وإبطالها وفكِّ هذا الحصار.
فقصد زهير بن أمية المخزومي، وكانت أم زهير عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا زهير، أقد رضيتَ أن تأكلَ الطعامَ وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟!
يرضيك أن تجلس تأكل وتشري وتلبس وتتمتع بالنساء، وأخوالك محاصرون لا يجدون ما يأكلون، لا يبتاعون، ولا يُبتَاعُ منهم، ولا يُنكحون، ولا يُنكَح إليهم؟!
أما إني أحلف بالله لو كان أخوال أبي الحكم بن هشام هم المحاصرين في الشعب، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إلى إليه، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه؛ ما أجابك إليه أبدًا.
فقال زهير: ويحك يا هشام، ماذا أفعل؟ وما موقفي؟ ما الذي أستطيع فعله؟
إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمتُ إلى هذه الصحيفة ومزقتها.
فقال له هشام: لقد وجدت لك رجلًا، إن كنت تريد رجلًا يمشي معك، فأنا عندي رجل.
قال: مَن هو؟
قال: أنا.
فقال له زهير: أبغنا ثالثًا، ابحث على ثالث معنا.
فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: أقد ضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك؟ موافق لقريش فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعًا.
قال: ويحك، ماذا أصنع، إنما أنا رجل واحد.
قال: قد وجدت لك ثانيًا.
قال: من؟
قال: أنا.
قال: أبغنا ثالثًا.
قال: قد فعلت.
قال: مَن هو؟
قال: زهير بن أبي أميَّة.
قال: أبغنا رابعًا.
فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له مثلما قال لمُطعِم.
فقال: ويحك، وهل نجد أحد يُعين على ذلك؟
قال: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، وأنت، نحن أربعة.
قال: أبغنا خامسًا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود فكلمه، وذكر له قرابته وحقهم عليه.
فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟
قال: نعم، ثم سمى له القوم الذين اتفق معهم.
فاتفقوا على أن يلتقوا بالحجون بمكة ليلًا، فاجتمعوا هناك واجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في نقد هذه الصحيفة وفكِّ هذا الحصار.
فقال زهير: أما أبدأكم فأكون أول مَن يتكلَّم؟
فلمَّا أصبحوا انطلقوا إلى أنديتهم، فغدا زهير وعليه حلة جميلة وثياب نظيفة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يتابعون، ولا يُبتاع منهم؟!
والله لا أقعد حتى تُشقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
فقال أبو جهل -وكان في ناحية من المسجد: كذبت، والله لا تُشق الصحيفة.
فقام زمعة بن الأسود، وقال لأبي جهل: أنتَ والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كُتبَت، لم نكن موافقين أصلًا على هذه الصحيفة.
فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كُتبَ فيها، ولا نُقرُّ به.
فقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذلك مَن قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كُتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك.
فلما تكلم الرهط الذين اتفقوا، قال أبو جهل:
هذا أمر قد قُضيَ بليل، أنتم رتبتم ومتفقين على هذا.
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم.
وقام المطعم بن عدي إلى الصحفية ليشقها، فوجد الأرضة -الدودة- قد أكلتها -أكلت الصحيفة كلها- إلا كلمة "بسمك اللهم" هي التي بقيت في الصحيفة.
وروى أبو إسحاق:
أن الله -عز وجل- أرسلَ على الصحيفة الأرضة، فلم تدعْ فيها اسمًا لله -عز وجل- إلا أكلته، وبقيَ فيها الظلم والقطيعة والبهتان، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك عمَّه، الرسول أخبر عمَّه بما حصل في الصحيفة قبل أن يعرف.
فذهب أبو طالب إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذبًا فلكم عليَّ أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقًا؛ فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟
إذن ابن إسحاق يقول في السيرة:
أن الله تعالى أعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن الأرضة أكلت الصحيفة، فقال: يا عمي حصل كذا وكذا في الصحيفة، فذهب أبو طالب لقريش، قال: محمد يقول حصل كذا وكذا. ما رأيكم؟
هو طبعًا في الشعب لم يرَ الصحيفة، ولم يأتِ الحرم، لكنه أخبر بأمر غائب عنه، فلا يمكن إلا أن يكون عن طريق الوحي.
فما رأيكم؟ إنك كان صادقًا تكون آية بيِّنة على صدقه، تتركونه وشأنه إن لم تؤمنوا به.
وإن كان كاذبًا أنا عليَّ أن آتيكم به لتقتلوه كما أردتم.
فأخذ عليهم الماثيق، وأخذوا عليه، فلما نشروها -أي الصحيفة- فإذا هي كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فقال المطعم وهشام:
نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالِئَ أحدًا في فساد أنفسنا وأشرافنا.
وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرجوا من الشعب.
هكذا انتهى الحصار، وانتهت المقاطعة، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أعمامه من هذا الشعب وذلك الحصار.
هذه المقاطعة، وهذا الحصار الاقتصادي الذي فرضته قريش على النبي وأعمامه فيها دروس وعبر، منها:
- إن المتأمل لبنود هذه الاتفاقية يجد أن قريشًا قد أحكمت البنود، ولم تدع فيها ثغرة
يمكن النفاذ من خلالها، مما يؤكد أنها وضعت بعد مداولات ومشاورات على نطاق
واسع، وشاركت في وضعها عقول مفكرة امتزجت معها خبرات عديدة، وحبكها
ذكاء مفرط.
- ثم إنهم علقوا الصحيفة بالكعبة، وتعليق الصحيفة بالكعبة يعطيها قدسية ومهابة،
ويجعل بنودها تأخذ طابع القداسة التي يجب التقيُّد والالتزام بها، لن العرب جميعًا
تقدس الكعب، وتضع لها مكانًا ساميًا من الحرمة والقدسية، فقريش حتى تجبر العامة
على احترام الصحيفة والالتزام ببنودها ومبادئها من المقاطعة؛ علقتها في الكعبة.
- ثم إن من الدروس المستفادة من هذه المقاطعة:
أن نعلم أن الدعوة الإسلامية كانت تحقق انتصارات عظيمة، وكانت السنوات الثلاث
التي قضاها النبي ومَن معه من المسلمين فضلًا عن أعمامه، كانت هذه السنوات الثلاث
زادًا عظيمًا في البناء والتربية، حيث ساهم بعضهم في تحمُّل آلام الجوع والخوف والصبر
على الابتلاء وضبط الأعصاب، والضغط على النفوس والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار.
- وكانت هذه الحادثة سببًا في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر
في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج، ثلاث سنين وبنو هاشم وبنو المطلب
محاصرين، كلما الناس تحج، لا يجدونهم، أين؟ قريش فرضت عليهم حصار.
فذاع الخبر في كل القبائل، ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي
يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، أثار ذلك في
نفوسهم أن هذه الدعوة دعوة حق، ولولا أنها دعوة حق لَمَا تحمَّل صاحب الرسالة
وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب من أجلها.
- كذلك أثار هذا الحصار وهذه المقاطعة سخط العرب على كفار مكة لقسوتهم على
بني هاشم وبني المطلب، كما أثار عطفهم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه،
فما أن انفكَّ الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام، وحتى ذاع أمر هذه الدعوة، وتردد
صداها في كل بلاد العرب، وهكذا ارتدَّ سلاح الحصار الاقتصادي على أصحابه، وكان
عاملًا قويًّا من عوامل انتشار الدعوة، عكس ما أراد زعماء الشرك تمامًا
من هذا الحصر.
فقد كانوا أرادوا إطفاء نور الله؛ فأبى الله إلا أن يتمَّ نوره.
أرادوا إقصاء الناس عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه؛ فكان
هذا الحصار سببًا في نشر الخبر في القبائل ومعرفتهم أن صاحب هذه
الدعوة على حق.
وكان لوقوف بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحملهم
معه هذا الحصار الاقتصادي والاجتماعي كان له أثر في الفقه الإسلامي حيث إن الله
-سبحانه وتعالى- جعل لهم سهم ذوي القربى من خمس الغنائم، حيث قال تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الأنفال: 41].
فهذه هي الدروس المستفادة من الحصار الاقتصادي الذي فرضته قريش على النبي
-صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم وبني المطلب.
ولمَّا انجالت الغمَّة، وأزال الله الكربة عن بني هاشم والمطلب، وعن الرسول والمؤمنين
بشق الصحيفة الظالمة؛ عادت الأمور كما كانت، ولكن حدث حادثان سببا للنبي
-صلى الله عليه وسلم- غاية الحزن.
بعد الخروج من الشعب حدث حادثان جلبا للرسول -صلى الله عليه وسلم- حزنًا شديدًا:
أحدهما:
موت عمه أبي طالب الذي كان ينصره ويمنعه من قريش، ولما بدأ المرض
مع أبي طالب واشتدَّ عليه وثقل به؛ مشى إليه أشراف قريش، منهم عتبة
ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل، وغيره.
فقالو:
يا أبا طالب إنك منَّا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى -يعني نراك ستموت-
وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك -انت تعرف ما الذي بيننا
وبين محمد- فادعه، فخذ له منَّا وخذ لنا منه.
يعني ائتي محمد واتفق معه أن يكفَّ عنَّا ونكفَّ عنه، ويتركنا وديننا ونتركه ودينه.
فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عمه فجاءه، فقال أبو طالب:
يا ابن أخي، هؤلاء الأشراف -أشراف قومك- قد اجتمعوا لك ليعطوك ويأخذوا منك.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
«نعم، كلمة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم»،
ما أريده منكم كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم.
فقال أبو جهل: كلمة واحدة؟ لا، خذ عشر كلمات، ما الكمة التي تريدها منَّا.
قال: «تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه».
فصفقوا بأيدهم متعجبين من هذه الكلمة، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلة
إلهًا واحد؟ إن هذا لعجب!
لأن القوم قد ألفوا تعدد الآله، كانوا كل يوم لهم إله يُعبَد.
ولذلك لمَّا دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- مكة عام الفتح وجد 360 صنم، 360 إله!
فالرسول يقول لهم اعبدوا إلهًا واحدًا، فتعجبوا وقالوا: إن هذا لشيء عجاب.
ثم قال بعضهم لبعض:
إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم
حتى حكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا.
فقال أبو طالب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم:
والله يا ابن أخي ما رأيتك شألتهم شططًا، لماذ تفرقوا عنك، أنت لم تسألهم شيئًا كبيرًا،
لماذا لم يقبلوا ويعطوك هذه الكلمة؟
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصًا جدًا على إيمان عمِّه أبي طالب،كفله يتيمًا
وآواه إليه، وكان يحبه ويكرمه ويدنيه منه، ومنعه من المشركين، ونصره وآزره وعزره،
فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتمنى أن يسلم عمه ويؤمن ويتَّبعه حتى يُختم له بخاتمة
السعادة في لحظاته الأخيرة من حياته، ولكن شياطين الإنس من قريش وعنجهية الجاهلية
حالت بينه وبين ذلك.
روى البخاري في صحيحه:
أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل،
فقال النبي لعمه: «أي عمِّ، قال: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله»
-يعني قل: لا إله إلا الله، لعل أشفع لك بها عند الله -عز وجل- يوم القيامة.
وفي رواية: «أشهد لك بها عند الله».
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي مية لأب طالب: أترغب عن لة عبد المطلب؟
-تأتي في آخر حياتك وتغيِّر دينك؟! تترك ينك آبائك وأجدادك وتمشي خلف ابن أخيك؟!
فلم يزالا يكلمانه في ذلك حتى قال آخر شيء كلمه به: هو على ملة عبد المطلب.
وأبى أن يجيب رسول الله إلى ما دعاه إليه من "لا إله إلا الله".
ِّفمات على ملة عبد المطلب ولم يرمن بالله ورسوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:
«لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عن ذلك».
وحزن -صلى الله عليه وسلم- على وفاة عمه أبي طالب على الكفر والشرك بالله -عز وجل-
بالرغم مما قدمه للإسلام وللدعوة.
قال: «لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عن ذلك»، فنهاه الله عن الاستغفار له، قال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113].
وفي حزن النبي على وفاة عمه على الكفر قال الله له
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، "لا" حرف نفي، فنفى الله هذه الهداية عن نبيه.
في آية أخرى قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، بالإثبات.
إذن هنا هدايتان:
- هداية أثبتها الله لرسله -صلى الله عليه وسلم.
- وهداية نفاها عنه.
ما الفرق بين الهدايتين؟ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} بالإثبات {إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: هذه هداية الدعوة، هداية الدعوة والإرشاد والبيان.
كما في آية أخرى قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون: 73].
إذن {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، هذه هداية الدعوة، وإنك لتدعوهم.
أما الهداية المنفية عن رسول الله فهي هداية التوفيق { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]. هذه هداية التوفيق.
يعني الداعية يحرص على هداية فلان، وكل يومد يجلس معه، وكل يوم يدعوه إلى الإسلام،
وإلى الله -عز وجل-، هذه هداية الدعوة.
لكن الداعية لا يملك قلب المدعو حتى يجعله يقبل الدعوة ويتبعه على ما جاءه به من
عند الله -عز وجل-، فهذه الهداية المنفية.
فهداية التوفيق بيد الله -سبحانه وتعالى- { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}.
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
انتهينا في دروس السيرة إلى دخول بني هاشم وبني المطلب والنبي -صلى الله عليه وسلم- شعب بني هاشم ليحموه من قريش بعدما عزموا على قلته، واستمر بنو هاشم وبنو المطلب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشعب ثلاث سنين، وقد كتبت قريش المقاطعة، ونصُّوا فيها على بنود ذكرنها، ألا ينكحوهم ولا ينكحوا منهم، ولا يشتروا منهم ولا يبيعوهم، ولا يخالطوهم ولا يجالسوهم، إلى آخر البنود التي ذكرناها في المقاطعة.
سنتحدث الآن -إن شاء الله تعالى- كيف انتهت هذه المقاطعة، وكيف خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أعمامه من شعب بني هاشم، وما هي الدروس المستفادة من هذه المقاطعة، وما هي الأحداث التي تلت هذه المقاطعة بعد خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشعب، كوفاة عمِّه وزوجه، والإسراء والمعراج، وخروجه بعد ذلك -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، ومحاولة بحثه عن مكان آخر يدعو فيه إلى الله -عز وجل- ويبلغ رسالة ربه.
فنقول -وبالله تعالى التوفيق:
لبث بنو هاشم في شعبهم ثلالث سنين، اشتدَّ عليهم البلاء والجهد، واضطروا إلى أن يأكلوا ورق الشجر والجلود اليابسة، فلما كان رأس ثلاث سنين قيَّد الله -سبحانه وتعالى- لنقد الصحيفة التي كتبوا فيها بنود المقاطعة وعلقوها على الكعب؛ قيد الله لها أناسًا من أشراف قريش يسعون في إنهاء هذا الحصار الاقتصادي، وخروج بني هاشم وبني المطلب من هذا الشعب.
وكان الذي تولى الانقلاب الداخلي لنقد الصحيفة:
هشام بن عمرو الهاشمي، هاشم بن عمرو هو الذي بدأ في دعوة الناس إلى نقد هذه الصحيفة وإبطالها وفكِّ هذا الحصار.
فقصد زهير بن أمية المخزومي، وكانت أم زهير عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا زهير، أقد رضيتَ أن تأكلَ الطعامَ وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟!
يرضيك أن تجلس تأكل وتشري وتلبس وتتمتع بالنساء، وأخوالك محاصرون لا يجدون ما يأكلون، لا يبتاعون، ولا يُبتَاعُ منهم، ولا يُنكحون، ولا يُنكَح إليهم؟!
أما إني أحلف بالله لو كان أخوال أبي الحكم بن هشام هم المحاصرين في الشعب، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إلى إليه، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه؛ ما أجابك إليه أبدًا.
فقال زهير: ويحك يا هشام، ماذا أفعل؟ وما موقفي؟ ما الذي أستطيع فعله؟
إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمتُ إلى هذه الصحيفة ومزقتها.
فقال له هشام: لقد وجدت لك رجلًا، إن كنت تريد رجلًا يمشي معك، فأنا عندي رجل.
قال: مَن هو؟
قال: أنا.
فقال له زهير: أبغنا ثالثًا، ابحث على ثالث معنا.
فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: أقد ضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك؟ موافق لقريش فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعًا.
قال: ويحك، ماذا أصنع، إنما أنا رجل واحد.
قال: قد وجدت لك ثانيًا.
قال: من؟
قال: أنا.
قال: أبغنا ثالثًا.
قال: قد فعلت.
قال: مَن هو؟
قال: زهير بن أبي أميَّة.
قال: أبغنا رابعًا.
فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له مثلما قال لمُطعِم.
فقال: ويحك، وهل نجد أحد يُعين على ذلك؟
قال: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، وأنت، نحن أربعة.
قال: أبغنا خامسًا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود فكلمه، وذكر له قرابته وحقهم عليه.
فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟
قال: نعم، ثم سمى له القوم الذين اتفق معهم.
فاتفقوا على أن يلتقوا بالحجون بمكة ليلًا، فاجتمعوا هناك واجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في نقد هذه الصحيفة وفكِّ هذا الحصار.
فقال زهير: أما أبدأكم فأكون أول مَن يتكلَّم؟
فلمَّا أصبحوا انطلقوا إلى أنديتهم، فغدا زهير وعليه حلة جميلة وثياب نظيفة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يتابعون، ولا يُبتاع منهم؟!
والله لا أقعد حتى تُشقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
فقال أبو جهل -وكان في ناحية من المسجد: كذبت، والله لا تُشق الصحيفة.
فقام زمعة بن الأسود، وقال لأبي جهل: أنتَ والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كُتبَت، لم نكن موافقين أصلًا على هذه الصحيفة.
فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كُتبَ فيها، ولا نُقرُّ به.
فقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذلك مَن قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كُتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك.
فلما تكلم الرهط الذين اتفقوا، قال أبو جهل:
هذا أمر قد قُضيَ بليل، أنتم رتبتم ومتفقين على هذا.
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم.
وقام المطعم بن عدي إلى الصحفية ليشقها، فوجد الأرضة -الدودة- قد أكلتها -أكلت الصحيفة كلها- إلا كلمة "بسمك اللهم" هي التي بقيت في الصحيفة.
وروى أبو إسحاق:
أن الله -عز وجل- أرسلَ على الصحيفة الأرضة، فلم تدعْ فيها اسمًا لله -عز وجل- إلا أكلته، وبقيَ فيها الظلم والقطيعة والبهتان، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك عمَّه، الرسول أخبر عمَّه بما حصل في الصحيفة قبل أن يعرف.
فذهب أبو طالب إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذبًا فلكم عليَّ أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقًا؛ فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟
إذن ابن إسحاق يقول في السيرة:
أن الله تعالى أعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن الأرضة أكلت الصحيفة، فقال: يا عمي حصل كذا وكذا في الصحيفة، فذهب أبو طالب لقريش، قال: محمد يقول حصل كذا وكذا. ما رأيكم؟
هو طبعًا في الشعب لم يرَ الصحيفة، ولم يأتِ الحرم، لكنه أخبر بأمر غائب عنه، فلا يمكن إلا أن يكون عن طريق الوحي.
فما رأيكم؟ إنك كان صادقًا تكون آية بيِّنة على صدقه، تتركونه وشأنه إن لم تؤمنوا به.
وإن كان كاذبًا أنا عليَّ أن آتيكم به لتقتلوه كما أردتم.
فأخذ عليهم الماثيق، وأخذوا عليه، فلما نشروها -أي الصحيفة- فإذا هي كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فقال المطعم وهشام:
نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالِئَ أحدًا في فساد أنفسنا وأشرافنا.
وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرجوا من الشعب.
هكذا انتهى الحصار، وانتهت المقاطعة، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أعمامه من هذا الشعب وذلك الحصار.
هذه المقاطعة، وهذا الحصار الاقتصادي الذي فرضته قريش على النبي وأعمامه فيها دروس وعبر، منها:
- إن المتأمل لبنود هذه الاتفاقية يجد أن قريشًا قد أحكمت البنود، ولم تدع فيها ثغرة
يمكن النفاذ من خلالها، مما يؤكد أنها وضعت بعد مداولات ومشاورات على نطاق
واسع، وشاركت في وضعها عقول مفكرة امتزجت معها خبرات عديدة، وحبكها
ذكاء مفرط.
- ثم إنهم علقوا الصحيفة بالكعبة، وتعليق الصحيفة بالكعبة يعطيها قدسية ومهابة،
ويجعل بنودها تأخذ طابع القداسة التي يجب التقيُّد والالتزام بها، لن العرب جميعًا
تقدس الكعب، وتضع لها مكانًا ساميًا من الحرمة والقدسية، فقريش حتى تجبر العامة
على احترام الصحيفة والالتزام ببنودها ومبادئها من المقاطعة؛ علقتها في الكعبة.
- ثم إن من الدروس المستفادة من هذه المقاطعة:
أن نعلم أن الدعوة الإسلامية كانت تحقق انتصارات عظيمة، وكانت السنوات الثلاث
التي قضاها النبي ومَن معه من المسلمين فضلًا عن أعمامه، كانت هذه السنوات الثلاث
زادًا عظيمًا في البناء والتربية، حيث ساهم بعضهم في تحمُّل آلام الجوع والخوف والصبر
على الابتلاء وضبط الأعصاب، والضغط على النفوس والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار.
- وكانت هذه الحادثة سببًا في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر
في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج، ثلاث سنين وبنو هاشم وبنو المطلب
محاصرين، كلما الناس تحج، لا يجدونهم، أين؟ قريش فرضت عليهم حصار.
فذاع الخبر في كل القبائل، ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي
يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، أثار ذلك في
نفوسهم أن هذه الدعوة دعوة حق، ولولا أنها دعوة حق لَمَا تحمَّل صاحب الرسالة
وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب من أجلها.
- كذلك أثار هذا الحصار وهذه المقاطعة سخط العرب على كفار مكة لقسوتهم على
بني هاشم وبني المطلب، كما أثار عطفهم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه،
فما أن انفكَّ الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام، وحتى ذاع أمر هذه الدعوة، وتردد
صداها في كل بلاد العرب، وهكذا ارتدَّ سلاح الحصار الاقتصادي على أصحابه، وكان
عاملًا قويًّا من عوامل انتشار الدعوة، عكس ما أراد زعماء الشرك تمامًا
من هذا الحصر.
فقد كانوا أرادوا إطفاء نور الله؛ فأبى الله إلا أن يتمَّ نوره.
أرادوا إقصاء الناس عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه؛ فكان
هذا الحصار سببًا في نشر الخبر في القبائل ومعرفتهم أن صاحب هذه
الدعوة على حق.
وكان لوقوف بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحملهم
معه هذا الحصار الاقتصادي والاجتماعي كان له أثر في الفقه الإسلامي حيث إن الله
-سبحانه وتعالى- جعل لهم سهم ذوي القربى من خمس الغنائم، حيث قال تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الأنفال: 41].
فهذه هي الدروس المستفادة من الحصار الاقتصادي الذي فرضته قريش على النبي
-صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم وبني المطلب.
ولمَّا انجالت الغمَّة، وأزال الله الكربة عن بني هاشم والمطلب، وعن الرسول والمؤمنين
بشق الصحيفة الظالمة؛ عادت الأمور كما كانت، ولكن حدث حادثان سببا للنبي
-صلى الله عليه وسلم- غاية الحزن.
بعد الخروج من الشعب حدث حادثان جلبا للرسول -صلى الله عليه وسلم- حزنًا شديدًا:
أحدهما:
موت عمه أبي طالب الذي كان ينصره ويمنعه من قريش، ولما بدأ المرض
مع أبي طالب واشتدَّ عليه وثقل به؛ مشى إليه أشراف قريش، منهم عتبة
ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل، وغيره.
فقالو:
يا أبا طالب إنك منَّا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى -يعني نراك ستموت-
وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك -انت تعرف ما الذي بيننا
وبين محمد- فادعه، فخذ له منَّا وخذ لنا منه.
يعني ائتي محمد واتفق معه أن يكفَّ عنَّا ونكفَّ عنه، ويتركنا وديننا ونتركه ودينه.
فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عمه فجاءه، فقال أبو طالب:
يا ابن أخي، هؤلاء الأشراف -أشراف قومك- قد اجتمعوا لك ليعطوك ويأخذوا منك.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
«نعم، كلمة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم»،
ما أريده منكم كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم.
فقال أبو جهل: كلمة واحدة؟ لا، خذ عشر كلمات، ما الكمة التي تريدها منَّا.
قال: «تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه».
فصفقوا بأيدهم متعجبين من هذه الكلمة، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلة
إلهًا واحد؟ إن هذا لعجب!
لأن القوم قد ألفوا تعدد الآله، كانوا كل يوم لهم إله يُعبَد.
ولذلك لمَّا دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- مكة عام الفتح وجد 360 صنم، 360 إله!
فالرسول يقول لهم اعبدوا إلهًا واحدًا، فتعجبوا وقالوا: إن هذا لشيء عجاب.
ثم قال بعضهم لبعض:
إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم
حتى حكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا.
فقال أبو طالب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم:
والله يا ابن أخي ما رأيتك شألتهم شططًا، لماذ تفرقوا عنك، أنت لم تسألهم شيئًا كبيرًا،
لماذا لم يقبلوا ويعطوك هذه الكلمة؟
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصًا جدًا على إيمان عمِّه أبي طالب،كفله يتيمًا
وآواه إليه، وكان يحبه ويكرمه ويدنيه منه، ومنعه من المشركين، ونصره وآزره وعزره،
فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتمنى أن يسلم عمه ويؤمن ويتَّبعه حتى يُختم له بخاتمة
السعادة في لحظاته الأخيرة من حياته، ولكن شياطين الإنس من قريش وعنجهية الجاهلية
حالت بينه وبين ذلك.
روى البخاري في صحيحه:
أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل،
فقال النبي لعمه: «أي عمِّ، قال: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله»
-يعني قل: لا إله إلا الله، لعل أشفع لك بها عند الله -عز وجل- يوم القيامة.
وفي رواية: «أشهد لك بها عند الله».
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي مية لأب طالب: أترغب عن لة عبد المطلب؟
-تأتي في آخر حياتك وتغيِّر دينك؟! تترك ينك آبائك وأجدادك وتمشي خلف ابن أخيك؟!
فلم يزالا يكلمانه في ذلك حتى قال آخر شيء كلمه به: هو على ملة عبد المطلب.
وأبى أن يجيب رسول الله إلى ما دعاه إليه من "لا إله إلا الله".
ِّفمات على ملة عبد المطلب ولم يرمن بالله ورسوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:
«لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عن ذلك».
وحزن -صلى الله عليه وسلم- على وفاة عمه أبي طالب على الكفر والشرك بالله -عز وجل-
بالرغم مما قدمه للإسلام وللدعوة.
قال: «لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عن ذلك»، فنهاه الله عن الاستغفار له، قال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113].
وفي حزن النبي على وفاة عمه على الكفر قال الله له
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، "لا" حرف نفي، فنفى الله هذه الهداية عن نبيه.
في آية أخرى قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، بالإثبات.
إذن هنا هدايتان:
- هداية أثبتها الله لرسله -صلى الله عليه وسلم.
- وهداية نفاها عنه.
ما الفرق بين الهدايتين؟ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} بالإثبات {إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: هذه هداية الدعوة، هداية الدعوة والإرشاد والبيان.
كما في آية أخرى قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون: 73].
إذن {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، هذه هداية الدعوة، وإنك لتدعوهم.
أما الهداية المنفية عن رسول الله فهي هداية التوفيق { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]. هذه هداية التوفيق.
يعني الداعية يحرص على هداية فلان، وكل يومد يجلس معه، وكل يوم يدعوه إلى الإسلام،
وإلى الله -عز وجل-، هذه هداية الدعوة.
لكن الداعية لا يملك قلب المدعو حتى يجعله يقبل الدعوة ويتبعه على ما جاءه به من
عند الله -عز وجل-، فهذه الهداية المنفية.
فهداية التوفيق بيد الله -سبحانه وتعالى- { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}.
تعليق