قد جعل الله تعالى في اختلاف الليل والنهار عبرةً لأولي الألباب، وخلفةً لمن أراد أن يتذكر أو أراد الشكور. والناظر إلى سرعة انقضاء الأيام وتصرم السنين يُدرك أنَّ الله ـ بحكمته ـ أراد من عباده التذكر والمحاسبة، والتوبة والمراجعة، وشكره على نعمه التي تغدو عليهم وتروح.
والشهور والأزمان لا فضل لشهرٍ على شهر، ولا ليوم على آخر إلا بما جعله الله فيها، أو ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، وخصها بفضل أو عبادة تقع فيها، وما سوى ذلك. فمن ادعى في يوم فضلًا أو زعم في شهرٍ مزية وقدرًا فقد قال منكرًا من القول وزورًا، وفاه بما ليس له به علم، وكان قوله مردودًا، وابتدع في دين الله ما ليس منه.
وبالمقابل فمن زعم أنَّ من الأيام يوم نحس وسوء، أو من الشهور شهر تطير وشؤم فقد شابه الجاهليين، وجعل للأيام والأزمان المدبَّرة المسخَّرة تأثيرًا في العالمين. والله مالك الليل والنهار يدبرها بحكمته وعلمه، لا خير إلا خيره، ولا طير إلا طيره، ولا إله غيره.
ومن ذلك ما أحدثه الجاهليون الأول، وبقيت آثاره عند بعض ضعاف الإيمان من التشاؤم بشهر صفر يضاهئون فعل المشركين، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
فأحببت جمع كلام أهل العلم في شأن صفر من الأحاديث وبيان فقهها، وبيان عقيدة الموحدين، والحذر من مشابهة المشركين والجاهليين في التشاؤم بالأيام والشهور.
التعريف بشهر صفر
شهر صفر هو الشهر الثاني من شهور السنة الهجرية، بعد شهر الله المحرم.
اختلف في سبب تسميته بهذا الاسم:
فقيل: لإصفار مكة من أهلها، أي: خلوها إذا سافروا فيه.
وقيل: سمَّوا الشهر صفرًا لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صِفرًا من المتاع (أي: يسلبونه متاعه، فيصبح لا متاع له)(1).
ما جاء في شهر صفر من السنة النبوية:
لم يرد في كتاب الله تعالى لفظ صفر، وإنما ورد ما يراد به صفر، كما في تفسير قول الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ...} [التوبة:5]، قال بعض أهل العلم: إن المراد به أشهر الإمهال؛ عشرون من ذي الحجة والشهر المحرم وشهر صفر وشهر ربيع الأول وعشرًا من ربيعٍ الآخر(2).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...} الآية [التوبة:37]، وسيأتي أن مِنْ أهل العلم مَنْ فسر «لا صفر»، بهذا النسيء، وهو التأخير.
وإنما جاء في الأحاديث الصحيحة والصريحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنها ما يلي:
1- عن أبي هريرة ت قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى(3) ولا طيرة ولا صفر(4) ولا هامة(5)»، فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال إبلي تكون في الرَّمْل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها يجربها؟ فقال: «فمن أعدى الأول» متفق عليه(6).
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى، ولا طيرة(7)، ولا هامة، ولا صفر» متفق عليه(8).
وفي رواية لمسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا غول(9)،... ولا صفر»(10).
3- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا يُعْدي شيء شيئًا»، فقال أعرابي: يا رسول الله، البعير أجرب الحشفة(11) نُدبِنْهُ(12) فيُجْرِبُ الإبلَ كلّها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا صفر، خلق الله كل نفس، فكتب حياتها ورزقها ومصائبها»(13).
4- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر، ويقولون: إذا برأ الدَّبر(14)، وعفا الأثر(15)، وانسلخ صفر، حلَّت العمرة لمن اعتمر. قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: «الحلُّ كله»(16).
المراد بـ (صفر) في الأحاديث المتقدمة:
اعلم وفقنا الله وإياك أن للعلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا صفر» ثلاثة أقوال:
1- المراد بصفر: داءٌ يكون في البطن يُصيب الماشية والناس، وهو أعدى من الجرب عند العرب، والمراد بنفي الصفر هنا: ما كانوا يعتقدونه بسببه من العدوى، وبه قال ابن عيينة وأحمد ورجحه البخاري في صحيحه، وابن جرير الطبري، وعضدوا ترجيحهم هذا بأنه قُرِن في الحديث مع نفي العدوى.
2- المراد بصفر: داءٌ يأخذ البطن(17) يقال إنه دود فيه كبار كالحيات، وكانوا يعتقدون أنه يعدي، فنفى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قال به سفيان بن عيينة والإمام أحمد وابن جرير وغيرهم.
3- المراد بصفر: شهر صفر، ثم اختلفوا في تفسيره على قولين:
أحدهما: نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، فكانوا يستحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وهذا قول مالك، وأبي عبيدة(18).
والثاني: أن أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بصفر ويقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا حكاه أبو داود عن محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك(19).
قال ابن رجب: «ولعل هذا القول أشبه الأقوال، وكثير من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينهى عن السفر فيه، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها»(20).
ثم قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح، وإنما الزمان كله خلق الله تعالى، وفيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤوم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى، كما قال ابن مسعود ت: «إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحيين؛ (يعني اللسان)..، ثم أطال ـ رحمه الله ـ في هذا المعنى والاستدلال له بما ورد عن السلف الصالح، فانظره فإنه نفيس(21).
صفر عند العرب في الجاهلية:
كان للعرب في شهر صفر منكران عظيمان:
الأول: هو النسيء الذي ذكره الله عنهم في القرآن بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} [التوبة: من الآية37]، وهو التلاعب به تقديمًا وتأخيرًا.
والثاني: التشاؤم به.
وتوضيح ذلك كما يلي:
أولاً: التلاعب في صفر تقديمًا وتأخيرًا:
من المعلوم أنَّ الله تعالى خلق السَّنَة وعدة شهورها اثنا عشر شهرًا، وقد جعل الله تعالى منها أربعة حُرمًا، حرَّم فيها القتال تعظيمًا لشأنها، وهذه الأشهر هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب.
ومصداق ذلك في كتاب الله قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان...»(22).
وقد عَلِمَ المشركون ذلك، لكنهم كانوا يؤخرون فيها ويقدمون على أهوائهم، ومن ذلك: أنهم جعلوا شهر صفر بدلًا من المحرَّم! وكانوا يعتقدون أنَّ العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وهذه طائفة من أقوال أهل العلم في ذلك:
1- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرَّم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدَّبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر: حلَّت العمرة لمن اعتمر»(23).
2- قال ابن العربي ـ رحمه الله ـ في كيفية النسيء ثلاثة أقوال:
الأول: عن ابن عباس رضي الله عنه أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كل عام، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يجاب، ألا وإن صفرًا العام الأول حلال، فنحرمه عامًا، ونحله عامًا، وكانوا مع هوازن وغطفان وبني سليم، وفي لفظة: أنه كان يقول: إنا قدمنا المحرم وأخرنا صفرًا، ثم يأتي العام الثاني فيقول: إنا حرمنا صفرًا وأخرنا المحرم؛ فهو هذا التأخير.
الثاني: الزيادة: قال قتادة: عمد قوم من أهل الضلالة فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم، فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرم، فيحرمونه ذلك العام، ثم يقوم في العام المقبل فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت صفرًا فيحرمونه ذلك العام، ويقولون: الصَفَرَان.
وروى ابن وهب، وابن القاسم عن مالك نحوه، قال: كان أهل الجاهلية يجعلونه صفرين، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صفر»، وكذلك روى أشهب عنه.
الثالث: تبديل الحج: قال مجاهد ـ رحمه الله ـ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} حجُّوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجُّوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافت حجة أبي بكر ت في ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في خطبته: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض»، رواه ابن عباس رضي الله عنه وغيره، واللفظ له قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا في هذا الموقف، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام إلى يوم تلقون ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. وقد بلغت، فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإنَّ كل ربا موضوع، ولكم رؤوس أموالكم، لا تَظلِمون ولا تُظلمون، قضى الله أن لا ربا، وإنَّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعًا في بني ليث فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فقد رضي به، فاحذروه أيها الناس على دينكم، وإن {النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {مَا حَرَّمَ اللَّهُ}، وإنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان»(24)، وذكر سائر الحديث(25) ا.هـ.
ثانيًا: التشاؤم منه:
أما التشاؤم من شهر صفر فقد كان مشهورًا عند أهل الجاهلية، ولا زالت بقاياه في بعض من ينتسب إلى الإسلام، وجاءت الشريعة الغراء بنفيه والنهي عنه، وذلك في كتاب الله ï»·، وفيما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78].
وقال: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131]. وقال: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]. وقال: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:18-19].
فقد وصف الله تعالى في هذه الآيات أعداء الرسل عليهم السلام بالتطير والتشاؤم على وجه الذم والتقبيح لفعلهم والتجهيل والتسفيه لعقولهم، فهم لا يفقهون ولا يعلمون، بل هم مفتونون مسرفون، وفي ذلك أعظم زاجر عن هذه الخصلة الذميمة، قال صديق حسن خان ـ رحمه الله ـ: «وبالجملة، التطير من عمل أهل الجاهلية المشركين، وقد ذمهم الله تعالى به، ونهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه شرك»(26).
وأما النهي عنه في السنة المباركة فقد صحت في ذلك أحاديث كثيرة، قال النووي ـ رحمه الله ـ: «وقد تظاهرت الأحاديث في النهي عن الطيرة»(27)، فمن ذلك:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر»(28).
قال النووي ـ رحمه الله ـ: «والتطير: التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي، وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح، فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمن تبركوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا بها، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، فنفى الشرع ذلك وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير بنفع ولا ضر»(29).
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وهذا يحتمل أن يكون نفيًا، وأن يكون نهيًا، أي: لا تطيروا، ولكن قوله غ في الحديث: «لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة»، يدل على أن المراد النفي، وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النَّهي؛ لأنَّ النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه»(30).
قوله: «ولا هامَة» المحفوظ من روايتها تخفيف الميم، قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: «قال القزاز: الهامة: طائر من طير الليل، كأنه يعني البومة. وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نعت إليَّ نفسي أو أحدًا من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أنَّ عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمون ذلك الطائر الصدى. فعلى هذا فالمعنى في الحديث: لا حياة لهامة الميت، وعلى الأول: لا شؤم بالبومة ونحوها»(31).
قوله: «ولا صفر» قال البغوي ـ رحمه الله ـ: «معناه أن العرب كانت تقول: الصفر حية تكون في البطن تصيب الإنسان والماشية، تؤذيه إذا جاع، وهي أعدى من الجرب عند العرب، فأبطل الشرع أنها تعدي، وقيل في الصفر: إنه تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر، وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا يتشائمون بصفر، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك»(32).
2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك ـ ثلاثًا ـ وما منا إلا، ولكنَّ الله يذهبه بالتوكل»(33).
قال البيهقي ـ رحمه الله ـ: «قال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ يريد ـ والله تعالى أعلم ـ الطيرة شرك على ما كان أهل الجاهلية يعتقدون فيها، ثم قال: «وما منا إلا» يقال: هذا من قول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: وما منا إلا وقع في قلبه شيء عند ذلك على ما جرت به العادة، وقضت به التجربة، لكنه لا يقر فيه، بل يحسن اعتقاده أن لا مدبر سوى الله تعالى، فيسأل الله الخير، ويستعيذ به من الشر، ويمضي على وجهه متوكلًا على الله»(34).
وقال النووي ـ رحمه الله ـ: «أي: اعتقاد أنها تنفع أو تضر، إذ عملوا بمقتضاها مُعتقدين تأثيرها، فهو شرك؛ لأنهم جعلوا لها أثرًا في الفعل والإيجاد»(35).
وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: «وإنما جعل ذلك شركًا لاعتقادهم أنَّ ذلك يجلب نفعًا أو يدفع ضرًا، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى»(36).
وقال صديق حسن خان ـ رحمه الله ـ: «وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك؛ لما فيه من تعلق القلب بغير الله»(37).
وقال ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين:
الأول: أنَّ المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غيره، الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له؛ فأي رابط بين هذا الأمر وبين ما يحصل لك؟! وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد؛ لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، إذن فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق»(38).
3- عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تَطير أو تُطير له»(39).
قال الحليمي ما ملخصه: «كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة... وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء، فسموا الكل تطيرًا؛ لأنَّ أصله الأول... فجاء الشرع برفع ذلك كله، وقال: «من تكهَّن أو ردَّه عن سفرٍ تطيرٌ فليس منا»، ونحو ذلك من الأحاديث. وذلك إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجبًا ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله تعالى، فأما إن علم أن الله هو المدبر ولكنه أشفق من الشر؛ لأن التجارب قضت بأن صوتًا من أصواتها معلومًا أو حالًا من أحوالها معلومة يُردفها مكروه، فإن وطن نفسه على ذلك أساء، وإن سأل الله الخير واستعاذ به من الشر ومضى متوكلًا لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك، وإلا فيؤاخذ به، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه الذي اعتقده عقوبة له، كما كان يقع كثيرًا لأهل الجاهلية، والله أعلم»(40).
إشكال وجوابه:
في الصحيحين من حديث ابن عمر ب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار»(41).
فاختلف أهل العلم ـ رحمهم الله ـ في توجيه هذا الحديث مع ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم من نفي الشؤم والطيرة والنهي عنهما، وهذه أقوالهم باختصار(42):
1- قال بعضهم: إن الحديث ليس على ظاهره، وإنما هو إخبار عما كان عليه أهل الجاهلية؛ فعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة ل، فقالا: إن أبا هريرة ت يحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار». قال: فطارت شقّة منها في السماء وشِقّة في الأرض، قال السندي: شقة بكسر فتشديد، أي قطعة وهذه مبالغة في الغضب والغيظ. فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة»، ثم قرأت عائشة رضي الله عنها: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22](43).
2- وقال آخرون: بل الحديث على ظاهره وفيه إثبات للطيرة، ولكن لهذا توجيهه، وهو أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأعلمهم أن لا طيرة، فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة، وبهذا يكون حصول الشؤم في هذه الأشياء لمن تطير بها دون من لم يتطير.
3- وقال آخرون: إن التطير منفي ولا وقوع له، ولكن لما كانت هذه الأشياء هي أكثر ما يتطير به الناس، أبيح لمن وقع في نفسه شيء نحوها أن يتركه ويستبدل به غيره؛ حتى يغلق باب التطير ويرتاح من تحديث نفسه بذلك.
4- وحمل بعضهم الشؤم على ظاهره، ولكن فسره بمعنى جرى قدر الله بوقوعه لدى بعض الناس، فيكون المسلم مأمورًا حينئذ بمجانبة ما يكره.
5- قال الخطابي ـ رحمه الله ـ: «معناه: إبطال مذهبهم في الطيرة بالسوانح والبوارح من الطير والظباء ونحوها، إلا أنه يقول: إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس لا يعجبه ارتباطه، فليفارقها بأن ينتقل عن الدار ويبيع الفرس، وكان محل هذا الكلام محل استثناء الشيء من غير جنسه، وسبيله سبيل الخروج من كلام إلى غيره، وقد قيل: إن شؤم الدار ضيقها وسوء جوارها، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها، وشؤم المرأة أن لا تلد»(44).
6- وقيل: بل هو بيان أنه لو كانت الطيرة ثابتة لكانت في هذه الأشياء، لكنها غير ثابتة في هذه الأشياء، فلا ثبوت له أصلًا.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وبالجملة فإخباره غ بالشؤم أنه يكون في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانًا مشؤومة على من قاربها وسكنها، وأعيانًا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدًا مباركًا يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدًا شرًّا مشؤومًا نذلا، يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها، فكذلك الدار والمرأة والفرس.
والله سبحانه خالق الخير والشر، والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودًا مباركة، ويقضي بسعادة من قارنها، وحصول اليمن له والبركة، ويخلق بعض ذلك نحوسًا يتنحس بها من قارنها، وكل ذلك بقضائه وقدره، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة؛ فكما خلق المسك وغيره من حامل الأرواح الطيبة، ولذذ بها من قارنها من الناس، وخلق ضدها وجعلها سببًا لإيذاء من قارنها من الناس، والفرق بين هذين النوعين يُدرك بالحس، فكذلك في الديار والنساء والخيل، فهذا لون، والطيرة الشركية لون آخر»(45).
[/SIZE]
تعليق