بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنّان ، والصلاة والسلام على النّبيّ العدنان ، والآلِ والصحبِ ومن تَبِع بإحسان
أما بعد..
مضَى شهر رَجَب، وندعوا الله بُلوغَ رَمضَان
وقد أهلَّ عَلينَا مُقْبِلاً مِنَ أيام الخير شَهْر شَعْبَان
فعزمنا تزوداً مِنَ الْخِصَـالِ تَقَـرُّباً بِالطَّـاعَـاتِ لِلـرَّحْمَــن
وهَديُنا للخيرِ فيه نَبِيُّنَا، علَّمَنا وأخبرنا بأنَّا نَغْفُل عَنْ شَعْبَان
فلا تَغْفُلونَ بربِّكُم عن هذا ولا ذاك وتذكَّروا عِظَم المُقام في الجِنان
رزقنا الله وإياكم درجـات العُلىَ من الجنـة برحمتـه هو الكـريـم المستعـان
إذا كان علينا أن نجتهد في شهر شعبان، وأن نُكْثِر فيه من فعل الخيرات؛ فالأصل هو الإجتهاد طوال أيام العام،
لكن يبقَى السؤال..
والجواب لأن ذلك كان هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فعن أسَامَة بْنُ زَيْدٍ -رضى الله عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ:
« ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ »
رواه النسائي وحسنه الألباني
إذن فالاجـتـهــاد فـي شهر شـعـبــان له أسباب علَّمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم،
وهذا الاجتهاد يكون لأمور، مـنـهـــــا:-
أولاً: لأن شهر شعبان ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى:
فنحن أحوج ما نكون إلى رضا ربنا تبارك وتعالى حينما ترفع أعمالنا ونحن صائمون
وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد في الحديث السابق،
وفي رواية أخرى عند البيهقي في شعب الإيمان من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
« شعبانُ بينَ رجبَ وشهرِ رمضانَ ؛ تغفُلُ الناسُ عنه ، تُرفَعُ فيه أعمالُ العبادِ ، فأُحِبُّ أنْ لا يُرْفَعَ عملِي إلَّا وأنا صائِمٌ »
حسنه الإمام الألباني في صحيح الجامع
فـائــدة:
@@@@@@@@@
ورفع الأعمال إلى رب العالمين على ثلاثة أنواع:-
النوع الأول: أن تُرفع الأعمال إلى الله تعالى رفعاً عاماً كل يوم
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة -رضى الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
« يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ،
وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ،
فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟
فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ »
(يتعاقبون فيكم) تأتي طائفة بعد الأخرى. (يعرج) يصعد إلى السماء.
(فيسألهم وهو أعلم بهم) أي فيسأل الله تعالى الملائكة عن حال المصلين وهو أعلم بحالهم والحكمة من سؤالهم إظهار شهادتهم لبني آدم بالخير.
[تعليق الشيخ مصطفى البغا]
النوع الثاني: رفع الأعمال إلى الله تعالى يوم الاثنين والخميس،
وهذا عرض خاص غير العرض العام كل يوم
فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ:
« إِنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ كُلَّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ - أَوْ: كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ - فَيَغْفِرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ - أَوْ: لِكُلِّ مُؤْمِنٍ - إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ، فَيَقُولُ: أَخِّرْهُمَا »
وكان إبراهيم النخعي يبكى على امرأته يوم الخميس وتبكي إليه، ويقول: اليوم تُعْرَض أعمالنا على الله تعالى.
النوع الثالث: هو رفع الأعمال إلى الله تعالى في شهر شعبان
كما جاء في الحديث المذكور آنفاً الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ
ثانياً: لنتعود على فعل الخيرات وترك المنكرات، فيكون هذا طبعنا وعادتنا:
عملا بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
« الخيرُ عادةٌ والشَّرُّ لَجاجةٌ ومن يردِ اللَّهُ بهِ خيرًا يفقِّههُ في الدِّينِ »
(أخرجه ابن ماجة بسند صحيح)
ومن الفقه في الدين عمل الخيرات في كل الأوقات، وخصوصاً الأوقات الفاضلات.
ثالثاً: الاجتهاد في شعبان يكون استعداداً لرمضان:
وكما هو معلوم أن رمضان من الأوقات الفاضلات، ومن النفحات الربانية على الأمة الإسلامية،
والأمر كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
« افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ،
وَسَلُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ »
أخرجه ابن أبى الدنيا والطبراني من حديث أنس، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم: 1890
ولقد بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ينبغي على الإنسان منَّا أن يتعرض لهذه النفحات الربانية، والمنح الإلهية.
ـ ففي رمضان منح الرحمن، ونسائم القرآن، وروائح الجنان, فمن أراد أن يفوز بجوائز رمضان فليستعد لها من الآن
فمن تَدَّرب في شعبان على الصيام، والقيام، وقراءة القرآن، والصدقة، كان كذلك في رمضان.
ومَـن لم يتعود من الآن على فعل الخيرات؛ فإنه سيخرج من رمضان كما دخل فيه،
وله حظ ونصيب من هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي والحاكم:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
« رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ،
وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ،
وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ »
ومعنى رغم
- رَغْم مَأْخُوذ مِنْ الرَّغْم وَهُوَ التُّرَاب ، وَكَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ بِأَنْ يُلْصَق أَنْفه بِالتُّرَابِ... ( قاله ابن حجر ) .
- فَمَعْنَى ( أَرْغَمَ اللَّه أَنْفه ) أَيْ أَلْصَقَهُ بِالرَّغَام ، وَأَذَلَّهُ ... ( قاله النووي )
- وقال المباركفوري : أَيْ لَصِقَ أَنْفُهُ بِالتُّرَابِ كِنَايَةً عَنْ حُصُولِ الذّلِّ .
فهيا بنا أيها الكرام الأفاضل... هيا من الآن نستعد لموسم الغفران.
فالأمر يحتاج إلى فطنة وذكاء ومراجعة للنفس
ولنسأل أنفسنا..
كم من رمضان مرَّ علينا وخرجنا منه وكأنَّه لم يكن –عياذا بالله-، وكنّا غير راضين عن أنفسنا؟!،
وكم تمنينا ومَنِّينا أنفسنا أنه في العام القادم سنكون أكثر اجتهاداً ونشاطاً؟!
كم.. وكم.. وكم؟!!
لكن مَن يضمن عمره؟! ومَن يضمن قلبه؟!
فالعمر بيد الله, كما أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبُها كيف يشاء,
فربما كتب الله لأحدنا البقاء حتى أدرك رمضان القادم كما كان يتمنَّى, لكن هل يضمن قلبه؟!
فإذا كان خرج من رمضان -وهو موسم المغفرة- سفر اليدين,
فمتى سَيُغْفَر له؟
إن لم يُغْفَر له في رمضان.. فمتى؟!
إن لم تثمر الشجرة في أوانها فمتى تثمر؟!
والاجتهـاد في شعبان يكون عـن طريق:-
1. المحافظة على الفرائض، وعدم التفريط فيها، والإكثار من النوافل
2. الإكثار من الصيام في شعبان
3. ويستحب الإكثار من الصدقة، وقراءة القرآن في شعبان
رابعاً: الاجتهاد في شعبان حتى لا نُكتب فيه من الغافلين:
فقد بيَّن النبي الأمين صلى الله عليه وسلم: أن شهر شعبان شهر يَغفلُ فيه الناس
فقال كما عند الإمام أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد-رضي الله عنهما-:
"ذلك شهر يغفل الناس عنه"
وإذا غفل الناس عن شعبان، لم يكن للمؤمنين أن يغفلوا عنه، فإن المؤمنين مُقْبِلون دوماً على ربهم، لا يغفلون عن ذكره، ولا ينقطعون عن عبادته،
فهو سبحانه الذي يُدبِّر شئونهم، ويصلح أحوالهم، ويأخذ بنواصيهم إليه أخذ الكرام عليه, فالمؤمنون يعلمون أن البعد عن الله سبب الشقاء والخسران،
كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
(المنافقون:9)
فلذلك هم دائماً وقوف ببابه، يلوذون بجنابه, عزهم في الانكسار والتذلل له، لذَّتُهم في مناجاته, حياتهم في طاعته وعبادته.
ويزدادون طاعة وعبادة في مواسم الطاعات، ويتعرضون للنفحات لعل الله أن يرزقهم الجنات، وينجيهم من اللفحات.
ويزدادون طاعة وعبادة كذلك في وقت الهرج, وحين يغفل الناس
أعاذنا الله وإياكم من الغفلة وشرها أو أن نكون من الغافلين
وكتب لنا ولكم الخيرات مسارعين لها بالإزدياد من الطاعات
ولذة القرب للرحمن تقرب عباده المُخْلِصِين المُخْلَصِين
وبلَّغنا وإياكم شهر رمضان وهو راضٍ عنَّا
وكتب لنا ولكم الفوز بجنات النعيم
فندخلها برحمة الله مع الفائزين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
تعليق