هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخص شهر شعبان
وماورد من فضائل وبدع تخص الشهر
قد ورد في فضائل شهر شعبان أحاديث منها :
ما ثبت عن أسامة بن زيد أنه قال :
يا رسول الله لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان قال :
"ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" .
رواه النسائي في "السنن الصغرى" (2358) ، وهو حديث جيد ، وحسنه المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/130) .
صيام النبي صلى الله عليه وسلم له أو أكثره ؛
فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصوم ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان ، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان .
رواه البخاري (1946) ومسلم (2674) .
وثبت عن أم سلمة أنها قالت :
ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان . رواه الترمذي (731) والنسائي (2353) .
وعن عائشة أنها قالت :
ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صياماً منه في شعبان كان يصومه إلا قليلاً بل كان يصومه كله .
رواه أحمد (24920) والترمذي (731) وأبو داود (2436) والنسائي (2179) .
وقالت عائشة :
كان أحب الشهور إليه أن يصومه شعبان ، ثم يصله برمضان .
رواه أحمد (25151) وعنه أبو داود (2432) .
نزول الباري في ليلة النصف منه :
فقد ثبت من حديث أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" .
رواه ابن ماجه (1434) .
وقد دل هذا الحديث على أن
الله جعل هذه الليلة وقتاً لمغفرة الذنوب ، ولعل من حكمة ذلك أن تكون ليلة شاخصة ظاهرة يراجع المرء فيها نفسه ، ويصحح أعماله وعلاقته بالخالق والمخلوق ؛ فالخالق بتجنب أخطر الذنوب وهو الشرك ، والمخلوق بتجنب ما هو من أقبح الذنوب المتعلقة بحقوقهم وهي الحقد والمشاحنة .
فمن كان القيام عادته ، أو وافقت نشاطه وفراغه فله أن يقومها كبقية الليالي التي توافق ذلك ، وإلا فلا يخصها بالقيام لمعنى هذا الحديث ؛ لعدم الدلالة فيه على المطلوب ، وقد تأيد هذا بالهدي التركي من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ؛ فلو كان هدياً لهم لنقل ؛ إذ إن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ؛ لو كان موجوداً ، ومن المعلوم أن المقتضي للفعل موجود ، والمانع منتف ، والعبادة محضة ؛ فكان دليلاً على عدم مشروعية قيامها .
وأما حديث علي رضي الله عنه مرفوعا :
إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول ألا من مستغفر لي فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر"
فهو حديث شديد الوهن ، وقد ضعفه ابن المديني والبخاري والمنذري وابن رجب والذهبي وابن حجر الهيثمي، وحكم عليه آخرون بالوضع .
فذكر أن تخصيص يومها بالصيام وليلها بالقيام بدعة ، وتعقب قول ابن الصلاح بمشروعية قيامها ؛ وتعليل ابن الصلاح بدخولها تحت الأمر الوارد بمطلق الصلاة ، وذكر الهيتمي أن السبكي رد ذلك بأن ما لم يرد فيه إلا مطلق طلب الصلاة ، وأنها خير موضوع فلا يطلب منه شيء بخصوصه ؛ فمتى خص شيئاً منه بزمان أو مكان أو نحو ذلك دخل في قسم البدعة ، وإنما المطلوب منه عمومه فيفعل لما فيه من العموم لا لكونه مطلوباً بالخصوص ، وذكر أن قيامها ممنوع جماعة أو فرادى ، وأن صوم يومها سنة من حيث كونه من جملة الأيام البيض ؛ لا من حيث خصوصه .
إلى أن قال :
( .. والحاصل أن لهذه الليلة فضلا ، وأنه يقع فيها مغفرة مخصوصة واستجابة مخصوصة ، ومن ثم قال الشافعي رضي الله عنه : إن الدعاء يستجاب فيها ، وإنما النزاع في الصلاة المخصوصة ليلتها ، وقد علمت أنها بدعة قبيحة مذمومة ، يمنع منها فاعلها ، وإن جاء أن التابعين من أهل الشام ؛ كمكحول و خالد بن معدان و لقمان وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها بالعبادة ، وعنهم أخذ الناس ما ابتدعوه فيها ، ولم يستندوا في ذلك لدليل صحيح ، ومن ثم قيل : إنهم إنما استندوا بآثار إسرائيلية ، ومن ثم أنكر ذلك عليهم أكثر علماء الحجاز ؛ كعطاء وابن أبي مليكة وفقهاء المدينة ، وهو قول أصحاب الشافعي ومالك وغيرهم قالوا : وذلك كله بدعة إذ لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه ) .
وأما صلاة الألفية فهي صلاة البراءة عند من ابتدعها
، وصفتها عندهم أنها مائة ركعة ، في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة ، وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات ، وتصلى عندهم ليلة النصف من شعبان ، وسميت بالألفية لأنها يقرأ فيها بقل هو الله أحد ألف مرة .
ولم يثبت فيها جديث ؛ فهي من البدع المحدثة .
بل ليلة القدر هي التي تكون في رمضان في العشر الأواخر منه ، وعلى ذلك جماهير العلماء حكى ذلك القرطبي في تفسيره (4/569) والنسفي في تفسيره (4/186) .
وعُرف القول بأنها ليلة القدر عن عكرمة رحمه الله .
وأما الحكمة من كثرة صيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان
فقد ذُكِرتْ في حديث أسامة آنف الذكر ، وهي حكمتان :
الأولى :
أنه شهر يغفل الناس عنه ، ويستحب لمحل الغفلة أن يكون موضعاً للعبادة ، وأعظم ذكر الله تعالى العمل الصالح .
ولهذا ثبت في حديث معقل بن يسار في "المعجم الكبير" للطبراني مرفوعاً : "عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إلي" . وهو في مسلم دون ذكر الفتنة ؛ فأيام الفتنة محل للغفلة فناسب إحياء العبادة لطردها .
وقال الحافظ ابن رجب في "لطائف المعارف" ص 250 عن حكمة صيام شعبان :
(.. لمَّا اكتنفه شهران عظيمان : الشهر الحرام وشهر الصيام ، اشتغل الناس بهما عنه ؛ فصار مغفولاً عنه .. ) أهـ .
والحكمة الثانية :
أنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ؛ فأحب صلى الله عليه وسلم أن يرفع عمله وهو صائم ؛ كما جاء ذلك في الحديث المذكور .
ومن المعلوم في معتقد السلف أن هذا النزول حقيقي يليق بجلال الله لا تعرف كيفيته ، ولا يشبه نزول المخلوقين .
الظاهر من هديه صلى الله عليه وسلم أنه صام أكثره ، والذي جاء في حديث عائشة بأنه كان يصومه كله معارض ببعض روايات حديث عائشة نفسه حيث جاء فيها : كان يصومه إلا قليلاً .
وقد وجهه العلماء ؛ كابن المبارك فقال ؛ كما في "الاستذكار" لابن عبد البر (2/372) : جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يُقال صام الشهر كله ، ويؤيده ؛ كما قال ابن حجر في "فتح الباري"(3/732) : ما ثبت في صحيح مسلم من حديثها أنها قالت : ولا صام شهراً كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان .
أقول : ويؤيده أيضاً أن صيام الشهر كله لو وقع فهو مما يُعرف وينتشر ، فينقله بقية الصحابة ، ولم يذكر صيامه كله إلا عائشة رضي الله عنها ، وكلامها موجه بما ذكره ابن المبارك رحمه الله .
والمداومة على صيام أكثره سنة ؛ لرواية الصحابة له من أوجه متعددة .
( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان) فقد رواه أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة ، وصححه جمع من المحدثين ، وضعفه جمع آخر ، وأصح الاتجاهين في ذلك هو القول بضعفه ؛ لأن في سنده العلاء بن عبدالرحمن ، وهو وإن كان صدوقاً إلا إن له أوهاماً هذه إحداها ، وقد اعتبر من أوهامه ؛ لمعارضة حديثه هذا أحاديث أخرى ، منها حديث : (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين) الحديث ،
وغيرها مما دل على مشروعية الصيام بعد النصف من شعبان .
ولا يمكن الجمع بين الأحاديث التي قالت بمشروعية الصيام بأن يُحمل هذا الحديث على الكراهة ؛
فالعبادة لا تكون إلا واجبة أو مستحبة ؛ فلا تكون مكروهة ولا محرمة ؛ فعليه لا يمكن أن تُشرع عبادة الصوم بعد النصف من شعبان وهي في ذات الوقت مكروهة فضلاً عن أن تكون محرمة ، وحيث لم يظهر وجه صحيح للجمع بين هذه الأحاديث فإن الأرجح أن يكون هذا أحد أوهامه رحمه الله .
والله أعلم .
وقد ضعف حديث أبي هريرة هذا أئمة ، منهم ابن مهدي وابن معين وأحمد وأبو زرعة ، وذكر ابن رجب أن أحمد رده بحديث :
لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين)
الحديث .
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
تعليق