شكر رسول الله
كان رسول الله شاكرًا لأَنْعُمِ الله العظيمة التي وهبها اللهُ له وأحاطه بها؛ فقد كان واقع رسول الله منسجمًا مع ما أعطاه الله تعالى من نِعَمٍ، فلم يكن شكر رسول الله مجرَّد كلمات تقال، ولكنَّها كانت واقعًا حيًّا مَعِيشًا، فنرى رسول الله في سيرته راكعًا ساجدًا عابدًا لله تعالى، فاعلاً للخير، مسبِّحًا بحمد الله، مُتَّبِعًا في ذلك الآيات القرآنيَّة التي تحضُّ على العبادة والحمد؛ منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
حقيقة عبادة رسول اللهرسول الله والصلاة
ذُكرت أحاديثُ كثيرةٌ، ومواقفُ عديدةٌ فَسَّرت وأبانت حقيقة عبادة رسول الله لربِّه جلَّ وعلا؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ نبي الله كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر[1] قدماه، فقالت عائشة: لِمَ تصنعُ هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! قال: "أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا"[2]. وقد أبان هذا الردُّ الجميل رؤية رسول الله لمسألة العبادة، فهو لا يراها تكليفًا ربَّانيًّا فقط، بل إنه يقوم بها عن حُبٍّ وإرادة، كنوع من الشكر العميق للإله القدير الذي أعطى ومنح، وهذا يُفَسِّر أيضًا طول عبادته وشِدَّة إرهاقه لنفسه فيها.
وتصف السيدة عائشة -رضي الله عنها- في حديث آخر صلاة رسول الله بالليل، بقولها: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاتُهُ -تَعْنِي بِاللَّيْلِ- فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلاةِ"[3].
فكان رسول الله يجد راحته في الإكثار من الصلاة وقراءة القرآن؛ فيروي حذيفة قائلاً: صلَّيْتُ مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المائة. ثم مضى، فقلتُ: يُصَلِّي بها في ركعة. فمضى، فقلتُ: يركع بها. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً؛ إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ، ثم ركع، فجعل يقول: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ". فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". ثم قام طويلاً قريبًا ممَّا ركع، ثم سجد، فقال: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى". فكان سجوده قريبًا من قيامه[4].
وكان رسول الله يُكثر من قيام الليل؛ لما فيه من الخلوة بينه وبين ربِّه I؛ لذلك قال عنه رسول الله : "أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ قِيَامُ اللَّيْلِ"[5]. ومن شِدَّة حُبِّ رسول الله لقيام الليل كان يقضيه في الصباح إذا فاته لأمر ما؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "... كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً..."[6].
وهذا الحُبُّ العميق لعبادة الله -خاصَّة الصلاة- يُفَسِّر أيضًا قول رسول الله لبلال بن رباح : "قُمْ يَا بِلالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاةِ"[7]. ويقول رسول الله في حديث آخر: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ"[8].
ولا غَرْوَ أنَّ نِعم الله I وعطاياه وفضله تستتبع حمدًا جزيلاً، وهو ما كان يقوم به رسول الله ؛ فكان لسان رسول الله دائمًا رطبًا بذِكْرِ الله وحَمْدِه على نِعمه وأفضاله؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ"[9].
رسول الله والصوم
ونرى رسول الله في الصوم يَزِيدُ البذلَ والعطاء، وفي العشر الأواخر من شهر رمضان يتعهَّد نفسه بمضاعفة العبادة، فقد روت عائشة -رضي الله عنها- فقالت: "كَانَ النَّبِيُّ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ[10]، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"[11].
كذلك، كان رسول الله مواظبًا على صيام الاثنين والخميس، وقد ذكر عِلَّة ذلك بقوله: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"[12]. وكان رسول الله يحبُّ الصيام في الهواجر[13] وفي الأيام شديدة الحرِّ؛ فعن أبي الدرداء قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولُ اللهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ"[14].
وهكذا كان رسول الله يتعامل مع قضيَّة العبادة من منطلق الشكر لا الفرض فقط، ومن منطلق البذل والتطوع والزيادة لا أداء الواجب؛ ممَّا أعطى عبادته شكلاً متميِّزًا باهرًا في صورته.
د. راغب السرجاني
..................
[1] تتفطر: أي تتشقُّ، وفي رواية للبخاري: "حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ". انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/2820، والمباركفوري: تحفة الأحوذي 2/461، وابن منظور: لسان العرب، مادة فطر 5/55.
[2] البخاري: كتاب التفسير، باب سورة الفتح (4557)، ومسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820).
[3] البخاري: كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر (949)، وأبو داود (1336)، وعند الترمذي: "عن زيد بن ثابت، قال: تسحرنا مع النبي ثم قمنا إلى الصلاة. قال: قلت: كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية" (703).
[4] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772)، والنسائي (1133)، وأحمد (23415).
[5] أبو داود: كتاب الصيام، باب في صوم المحرم (2429)، وأحمد (8488)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. والنسائي (1614)، ومسند عبد بن حميد عن أبي هريرة (1427)، واللفظ له، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (1236).
[6] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض (746)، وأحمد (24314)، وابن حبان (2552).
[7] أبو داود: كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة (4985)، وأحمد (23137)، وقال شعيب الأرناءوط: رجاله ثقات، لكن اختلف على سالم بن أبي الجعد في إسناده. والطبراني: المعجم الكبير (6215)، والبوصيري: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (900)، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (1253).
[8] أحمد عن أنس بن مالك (13526)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والنسائي (3939)، والبيهقي: السنن الكبرى 7/78، ومصنف عبد الرزاق (7939)، والطبراني في المعجم الكبير (17388)، وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (658).
[9] مسلم: كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها (373)، والترمذي (3384)، وأبو داود (18)، وابن ماجه (302)، وأحمد (26419).
[10] شدَّ مئزره: المئزر ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن، وشده كناية عن اعتزال النساء، وقيل: أَراد تشميره للعبادة، يقال: شَدَدْتُ للأَمر مئزري أَي تشمَّرت وتهيَّأتُ له. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 4/269، وابن منظور: لسان العرب، مادة أزر 4/16.
[11] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان (1920)، وأحمد (24422)، وابن خزيمة (2029)، وسبل السلام (653).
[12] الترمذي عن أبي هريرة: كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس (747)، وأحمد (21801)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والنسائي (2358)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2959).
[13] الهواجر: جمع الهاجرة، وهي اشتدادُ الحرِّ نصفَ النهار. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة هجر 5/250.
[14] البخاري: كتاب الصوم، باب إذا صام أيام من رمضان ثم سافر (1843)، ومسلم: كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1122).
تعليق