التاريخ والتراجم
الكامل في التاريخ
عز الدين أبو الحسن علي المعروف بابن الأثير
في المحرم من هذه السنة ضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثًا إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد مولاه وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين فتكلم المنافقون في إمارته وقالوا: أمر غلامًا على جلة المهاجرين والأنصار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وإنه لخليق للإمارة وكان أبوه خليقًا لها» . وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون منهم: أبو بكر وعمر فبينما الناس على ذلك ابتدئ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرضه.
ذكر مرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته ابتدئ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرضه أواخر صفر في بيت زينب بنت جحش وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه في بيت ميمونة فجمع نساءه فاستأذنهن أن يتمرض في بيت عائشة ووصلت أخبار بظهور الأسود العنسي باليمن ومسيلمة باليمامة وطليحة في بني أسد وعسكر بسميراء وسيجيء ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى.
فتأخر مسير أسامة لمرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولخبر الأسود العنسي ومسيلمة فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاصبًا رأسًا من الصداع فقال: إني رأيت فيما يرى النائم أن في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأولتهما بكذاب اليمامة وكذاب صنعاء.
وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال: «لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
وخرج أسامة فضرب بالجرف العسكر وتمهل الناس وثقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يشغله شدة مرضه على إنفاذ أمر الله فأرسل إلى نفر من الأنصار في أمر الأسود فأصيب الأسود في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل وفاته بيوم فأرسل إلى جماعة من الناس يحثهم على جهاد من عنهم من المرتدين.
وقال أبو مويهبة مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيقظني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة وقال: إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فسلم عليهم ثم قال: ليهنئكم ما أصبحتم فيه قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم.
ثم قال: قد أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد بها ثم الجنة وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي.
ثم قالت عائشة: فلما رجع من البقيع وجدتي وأنا أجد صداعًا وأنا أقول: وارأساه! قال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه! ثم قال: ما ضرك لو مت قبل فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك فقلت: كأني بك والله لو فعلت ذلك فرجعت إلى بيتي فعرست ببعض نسائك.
فتبسم وتتام به وجعه وتمرض في بيتي. فخرج منه يومًا بين رجلين أحدهما الفضل بن العباس والآخر علي قال الفضل: فأخرجته حتى جلس على المنبر فحمد الله وكان أول ما تكلم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن صلى على أصحاب أحد فأكثر واستغفر لهم ثم قال: أيها الناس إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستفد منه ومن أخذت له مالًا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقًا إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس.
ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى.
فادعى عليه رجلٌ بثلاثة دراهم فأعطاه عوضها.
ثم قال: أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.
ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ثم قال: إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده.
فبكى أبو بكر وقال:
فديناك بأنفسنا وآبائنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا بيقين في المسجد باب إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحدًا أفضل في الصحبة عندي منه ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخوة الإسلام.
ثم أوصى بالأنصار فقال: يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد والأنصار عيبتي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم.
قال ابن مسعود: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر.
فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فنظر إلينا فشدد ودمعت عيناه وقال: مرحبًا بكم حياكم الله رحمكم الله آواكم الله حفظم الله رفعكم الله وفقكم الله سلمكم الله قبلكم الله أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأؤديكم إليه إني لكم منه نذير وبشير ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين» «القصص: 83» . صلى الله عليه وسلم.
قلنا: فمتى أجلك قال: دنا الفراق والمنقلب إلى الله وسدرة المنتهى والرفيق الأعلى وجنة المأوى. فقلنا: من يغسلك قال: أهلي الأدنى فالأدنى.قلنا: فيم نكفنك قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض.
قلنا: فمن يصلي عليك قال: مهلًا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرًا.
فبكينا وبكى ثم قال: إذا غسلمتوني
وكفتنتموني فضعوني على سريري على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعةً ليصلي علي جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت مع الملائكة ثم ادخلوا علي فوجًا فوجًا فصلوا علي ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد أقرئوا أنفسكم مني السلام ومن غاب من أصحاب فاقرئوه مني السلام وما تابعكم على ديني فاقرئوه السلام.
يتبع...
تعليق