كان أحلم الناس ، وأشجع الناس ، وأعدل الناس ، وأعف الناس ، لم تمسَّ يده قط يدامرأة لا يملك رقها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه ، وكان أسخى الناس ، لا يبيت عنده دينار ولا درهم ، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفَجَأَهُ الليلُ لم يأو إلى منزله حتى يتبرَّأَ منه إلى من يحتاج إليه ،لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير ،ويضع سائر ذلك في سبيل الله ، لا يُسأَلُ شيئا إلا أعطاه ، ثم يعود على قوت عامه فيؤثِرُ منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء ،وكان يخصف النعل ، ويرقع الثوب ، ويخدم في مهنة أهله ، ويقطع اللحم معهن ،وكان أشد الناس حياء ، لا يثبت بصره في وجه أحد ، ويجيب دعوة العبد والحر ،ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويكافئ عليها ، ولا يأكل الصدقة ، ولايستكبر عن إجابة الأمة والمسكين ، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه ، وينفذ الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه ،
وَجَدَ مِن فُضَلاء أصحابه وخيارهم قتيلا بين اليهود فلم يَحِفْ عليهم ولازاد على مُرِّ الحق ، بل وداه بمائة ناقة وإنَّ بأصحابه لحاجة إلى بعيرواحد يتقوون به ، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع ، ولا يتورع عن مطعم حلال ، لا يأكل متكئا ولا على خِوان ، لم يشبع من خبزٍ ثلاثةَ أيام متواليةحتى لقي الله تعالى ، إيثارا على نفسه لا فقرا ولا بخلا ، يجيب الوليمة ،ويعود المرضى ، ويشهد الجنائز ، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس ، أشدالناس تواضعا ، وأسكنهم في غير كبر ، وأبلغهم من غير تطويل ، وأحسنهمبِشْرًا ، لا يهوله شيء من أمور الدنيا ،
ويلبس ما وجد ، يردف خلفه عبده أو غيره ، يركب ما أمكنه ، مرة فرسا ، ومرةبعيرا ، ومرة بغلة ، ومرة حمارا ، ومرة يمشي حافيا بلا رداء ولا عمامة ولاقلنسوة ، يعود المرضى في أقصى المدينة ، يحب الطيب ، ويكرة الرائحة الرديئة، يجالس الفقراء ، ويؤاكل المساكين ، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ، ويتألفأهل الشرف بالبر لهم ، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم، لا يجفو على أحد ، يقبل معذرة من اعتذر إليه ، يمزح ولا يقول إلا حقا ،يضحك من غير قهقهة ، يرى اللعب المباح فلا ينكره ، يسابق أهله ، وترفعالأصوات عليه فيصبر ، وكان له عبيد وإماء لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس ،ولا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد منه من صلاح نفسه ،لا يحتقر مسكينا لفقره وزمانته [ الزمانة : المرض المزمن ] ، ولا يهاب ملكا لملكه ، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستويا .
ومما رواه أبو البختري قال : ما شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من المؤمنين بشتيمة إلا جعل لها كفارة ورحمة ، وقال : ( إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا ) ، وكان إذا سئل أن يدعو على أحد ، مسلم أو كافر ، عدل عن الدعاء عليه إلى الدعاء له ، وما ضرب بيده أحدا قط ، وما خير بين أمرين إلااختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم ، وقد وصفه الله تعالى في التوراة قبل أن يبعثه ، فقال : محمد رسول الله ، عبدي المختار ، لا فظ ولاغليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ،وكان من خلقة أن يبدأ من لقيه بالسلام ، ومن قاومه لحاجة صابره حتى يكون هوالمنصرف ، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر ، ولم يكن يُعرَف مجلسه من مجلس أصحابه ، قال الله تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْحَوْلِكَ ) آل عمران/159
قد جمع الله له السيرة الفاضلة والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ،نشأ في بلاد الجهل والصحارى في فقره وفي رعاية الغنم ، يتيما لا أب له ولاأم ، فعلمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق ، والطرق الحميدة وأخبارالأولين والآخرين ، وما فيه النجاة والفوز في الآخرة والغبطة والخلاص في الدنيا ، ولزوم الواجب وترك الفضول ، وفقنا الله لطاعته في أمره والتأسي به في فعله آمين يا رب العالمين " انتهى بشيء من الاختصار .
ولا يحسبن أحد أن ما سبق من قبيل الكلام الإنشائي الخطابي ، بل كل جملة فيه جاء في المسانيد والصحاح والسنن عشرات الأحاديث الصحيحة المسندة مما يدل عليه ويشهد له ، ومن أراد الاطلاع عليه افليرجع إلى كتاب ( الشمائل المحمدية ) للإمام الترمذي .
أبو حامد الغزالي رحمه الله في "إحياء علوم الدين" (2/430-442)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تعليق