حالة الجزيرة العربية قبل البعثة:
كانت الجزيرة العربية تعيش في أحط حالات انعدام الأخلاق البشرية. فلو عدنا بذاكرتنا إلى الوراء، حيث الزمن الذي سبق بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لوجدنا ما يشيب له شعر الوليد من هول ما كان سائدا.
من أبشع ما يمكن أن يتصوره العقل، تلك الأمور التي كانت تحدث في ربوع الجزيرة العربية من وأد للبنات!
بأي ذنب تضيع تلك الروح التي لم يكن يعبأ بها المجتمع، ولا يلقي لها بالا، ولا يضعها في حسبانه؟ تلك الروح التي كانت تفقد حياتها لأنها ليست ذكرا. ومن الذي كان يسلبها حياتها! إنه أبوها!
أي قسوة تلك وأي انحراف أخلاقي هذا، حين يئد الأب فلذة كبده بيديه؟!
لقد كان الرجال في الجزيرة العربية يكرهون إنجاب الإناث، ويعتريهم الهم والضيق حين يشاء الله أن يرزقهم بأنثى.
يقول الله عز وجل مصورا لهذه الصورة البشعة:
"وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مُسوّداً وهوكظيم يتوارى مِن القوم مِنْ سُوءِ ما بُشِّر به أيمسِكُهُ عَلى هُون أمْ يَدسُّهُفي التُراب ألا ساء ما يحكمونَ." (سورة النحل 59).
وأما المرأة المطلقة، فلم يكن من حقها أن تتزوج برجل آخر، إلا بعدما يأذن لها مطلقها، وربما أعجبه وأرضاه أن يتركها هكذا تعاني في حياتها نكاية بها. وإذا أذن لها، فيكون ذلك مقابل أن يأخذ منها مهرها الذي يهبه لها زوجها الثاني.
لم تكن المرأة كذلك تتمتع في هذا المجتمع بأي من الحقوق المالية، فلم تكن ترث ولم يكن لها ذمة مالية مستقلة.
ومن ناحية أخرى، كانت الأحقاد والكراهية والعصبية الجاهلية هي الأخلاق السائدة آنذاك بين قبائل العرب. فقد كانت رحى الحرب دائرة لسنوات عديدة بين الأوس والخزرج وهم الذين يقطنون المدينة نفسها ويتجاورون، إلا أنهم خضعوا لأحقاد النفس وسوء الخلق، فأصبحوا أشد الناس عداوة لبعضهم بعضا.
وكانت الأطماع المادية هي المسيطرة على عقول العرب، فانتشرت عادة النهب والإغارة على القبال الأخرى.
هذه حال المجتمع العربي آنذاك. أما من ناحية الدين والعبادة، فلم يكونوا أحسن حالا من وضعهم في الأخلاق والعلاقات الاجتماعية. فقد كانوا يعبدون ما ينحتون. ترى الرجل منهم ذا القوة والجاه والمكانة، يعبد حجرا ويتوسل إليه، ويضعه نصب عينيه في داره، بل ترى هذا الحجر الأصم، أغلى لديه من بعض ولده. وربما صنع الرجل منهم صنما من العجوة، حتى إذا اشتد به الجوع، أكله وكأنه لم يكن يتذلل إليه منذ قليل!
وكانت العبادات متنوعة بين القبائل؛ فمنهم من يعبد الشمس كحمير، ومنهم من يعبد الجن كخزاعة، ومنهم من يعبد القمر ككنانة. وكانت القبائل تعبد الكواكب؛ لكل قبيلة كوكب تعبده، وكأنه هو الذي خلقها!
أما الغالبية العظمى من أهل الجزيرة العربية، فقد كانت تعبد ما يزيد على ثلاثمائة وستينصنماً. وكانت قريش التي بها البيت الحرام، تتاجر بالدين وتجعله مصدرا أساسيا من مصادر الدخل القومي لديها، فكانت تتخذ حول الكعبة العديد والعديد من الأصنام، يستغلون بها الناس، ليعبدوا هذه الحجارة، وتزداد وارداتهم التجارية والمادية إثر هذه العبادة.
حال بقية العالم قبل البعثة:
أما لو تطرقنا إلي الوضع العالمي، فليست الحال بأفضل مما رأينا، فقد كانت الإمبراطوريتان السائدتان في ذلك الوقت هما إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم، وكانت هاتان الإمبراطوريتان سيدتي العالم في ذلك الوقت، بلا منازع أو شريك.
انتشر الظلم والقهر في بلاد الروم؛ فكان الشعب أحوج ما يكون للمسة حانية تحتضنه، وراية عدل ترتفع في سمائه، لتزيح عنه عبء هذا الظلم.
كذلك انتشرت الحروب الخارجية والنزاعات الداخلية، نتيجة الجدل العقيم بين الفئات المختلفة داخل الدولة الرومية، مما أضعف هذه البلاد وجعل الفوضى تعم فيها، وكذلك
السخط والحنق لما يمر به الشعب من قهر وظلم وانتهاك لبشريته وانتشار للمذابح في هذه البلاد.
كانت هذه البلاد تعيش في حالة من الظلم الشديد للشعوب؛ فقد فرضت الضرائب الباهظة على الشعوب الكادحة. أما الطبقة الحاكمة، فقد سبحت في بحور الملذات والترف والإسراف والانشغال بالملذات عن مصالح الشعوب.
كانت حال الشعوب في أوربا حالا عجيبة؛ فقد كانت تعيش في ظلمات الجهل والأمية، لا تعرف عن العلم شيئا. تسيطر الخرافات على تفكيرها. والمغالاة في بعض الأفكار هي طبيعتها. فقد كانوا (على سبيل المثال) يعقدون المؤتمرات لبحث حقيقة المرأة وطبيعتها وهل هي حيوان أم إنسان. وكانت أوربا تعيش أقصى حالات اللامبالاة بعدما اعتادوا على الخضوع والاستكانة.
أما في إيران، فقد كان الوضع على الدرجة نفسها من السوء. فقد كان هناك تمايز طبقي في ذلك المجتمع: طبقة تسيطر عل الموارد المالية وهي الطبقة العليا. أما بقية الشعب، فقد كانت ترضخ للمعاناة والفقر والحرمان، بل تتحمل أعباء بذخ هذه الطبقة على كاهلها. وكان الفقراء محرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية، وكانوا يعيشون كالعبيد.
أما التعليم، فكان مقصورا على الأمراء والأثرياء فقط، وحرم باقى الشعب من حقه الطبيعي في اكتساب العلوم والمعارف، وعاش في أحضان الجهل.
وكانت الحكومة الفارسية في هذه المرحلة تعاني من الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار.
كذلك انتشرت الإباحية والفساد وحالات هتك الأعراض. وكان الملوك يعتبرون أنفسهم من نسل آخر مختلف عن البشر، ففيهم يجري دم الآلهة، ولهم الحرية في أن يفعلوا في الناس ما يشاؤون.
وكان العالم في ذلك الوقت يعيش تحت لواء الحروب المتواصلة بين الفرس والروم، كما كانت الحروب قائمة بين القبائل العربية، وكأن الحرب هي الملاذ الوحيد آنذاك للعيش في هذه الحياة!
سنوات طويلة من الحروب المتواصلة، والفقر والظلم والاستبداد والقهر للشعوب. فكانت هذه الشعوب قد فاض بها، وأصبحت في أمس الحاجة إلى نهر طاهر ترتوي منه، وتغسل فيه همومها، وعدل صارم، لا يجامل الأثرياء على حساب الفقراء.
هذه هي حال العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. كان العالم قد غلفه الجهل والظلم فأبي الله إلا أن يرسل من يزيح صخرة هذا الجهل والظلم ويكون منبعا للرحمة بالبشرية، فكان قدوم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال ربه فيه وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
كانت المجتمعات بالفعل مهيأة تماما لاستقبال رسالة جديدة أساسها الأخلاق الكريمة؛
رسالة العدل ركيزتها، والرحمة والأمانة واحترام بشرية الإنسان، دعائمها.
كان لا بد من الرحمة بهذا العالم الذي أرهقت المظالم كاهله. رحمة يبعث الله بها رجلا ذا خلق عظيم. فبعثه الله عز وجل لينير ظلمات الحياة، ولتشرق فيها شمس الأخلاق من جديد.
هذا الخلق الذي تمتع به ذلك الرجل، هو الذي باتت البشرية في حاجة ملحة للعودة إليه في هذا الزمان، بعدما وقع هذا الانهيار الأخلاقي الذي يغلف حياة إنسانية هذا اليوم.
لذلك، كان من البديهي أن يكون هناك تعريف بصاحب هذا الخلق وهذه الرسالة التي تحتاجها البشرية، وأن نلقي الضوء على الجانب الأخلاقي والإنساني في حياة رسول الأخلاق والرحمة والعدل محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي شهد له أعداؤه بدماثة الخلق وبالعظمة الإنسانية، والذي شهد له ربه قبل أي أحد بأنه صاحب أعظم خلق:
لم تكن الظروف التي نشأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم محض صدفة أو بلا مغزى من ورائها، بل كانت هذه الظروف بترتيب من الله عز وجل؛ كي تُصقل شخصية النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
مر النبي صلي الله عليه وسلم قبل بعثته بمراحل تركت فيه أبلغ الأثر، ومن هذه المراحل:
مرحلة اليتم:
فقد ولد رسول الله يتيم الأب، وكأن هذا اليتم يراد من ورائه غرس بذور الرحمة في هذا القلب الذي سيحمل الحب لكل البشر والرحمة للعالم أجمع.
فهذا القلب الذي ذاق مرارة اليتم والحرمان من عطف الوالدين، تعلم كيف يكون رحيما بمن حوله، حتى وإن عادوه، وكيف يكون حريصا عليهم وإن عذبوه وأهانوه. فهو لا يريد لهم الخلود في النار أو ذوق لهيبها، بل يريد لهم التنعم بمرضاة الله والخلود في جناته.
الفقر وعدم الثراء:
لم يكن النبي محمد يتمتع بالثراء بين أقرانه ومجتمعه، بل كان رجلا فقيرا، يعيش كما يعيش عامة الناس في مجتمعه، يأكل كما يأكلون، ويلبس كما يلبسون.
لقد تربى في كنف عمه أبي طالب، بعدما مات أبوه وجده. وكان أبو طالب رجلا كثير العيال قليل المال، رغم مكانته في قومه. هذه الحال البسيطة التي وجد النبي نفسه عليها، دفعته إلى العمل، وعدم التواكل، وعدم الركون إلى الدعة، وعدم الانغماس في اجتماعات اللهو. فقد أخذ على نفسه أن يعمل ليساعد عمه في متطلبات الحياة. جعلت منه هذه الظروف، شخصا مسؤولا، رغم صغر سنه، وجعلت منه إنسانا يشعر بمن حوله ويشاركهم همومهم، وما يمرون به في حياتهم.
الأسرة العريقة:
رغم ظروف الفقر التي نشأ فيها النبي، إلا أنه كان من أسرة عريقة، لها مكانتها في الجزيرة العربية. وما من أحد إلا ويعترف بفضل هذه الأسرة وعراقتها. هذا النسب الذي انتسب له النبي، جعل منه رجلا ذا خلق قويم، لا يعرف البعد عن الفطرة، ولا يعرف التعامل بأسلوب السفهاء، يصل الرحم، ويعين ذا الحاجة، ويغيث الملهوف.
شجرة الأسرة:
اتفق النسابة العرب على أن نسب النبي هو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (وهو شيبة وقيل شيبة الحمد) بن هاشم (وهو عمرو) بن عبد مناف (وهو المغيرة) بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (وهو قريش ومعناها الذي قرّش أي جمع أجزاء القبيلة) بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
هذا النسب العريق، اعترف به أبو سفيان حين سأله هرقل: كيف نسبه فيكم؟ فأجاب: هو فينا ذو نسب. فقال هرقل: فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
رعي الغنم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا ورعى الغنم." (رواه البخاري).
هذا العمل الذي اختاره الله للأنبياء، واختاره لرسوله الكريم؛ محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن سوى لحكمة عظيمة، ولما يتركه في نفس صاحبه من خصال فاضلة.
إن الرجل الذي يعمل في هذا المجال، ويقوم على رعاية هذه الأغنام، ويتعامل معها بكل بساطة وتلقائية، لحري به أن يكون التواضع سمة بارزة في خلقه؛ هذا التواضع الذي من شأنه أن يجذب الناس إليه، وإلى رسالته فيما بعد.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تواضعا، فقد كان يخالط الفقراء والمساكين ويتعامل معهم بكل تقدير واحترام.
ولم تقف مزايا رعي الغنم الذي عمل به النبي، عند هذا الحد، بل لقد أكسب النبي الصبر الشديد. فقد كان يخرج بهذه الأغنام في قيظ الصحراء الملتهبة، يصبر على العطش الشديد والحر الشديد، ويصبر على الأغنام ورعايتها من طلوع الشمس حتى غروبها. وكان يصبر على جمع شتاتها، وهي التي تنتشر يمينا وشمالا، فأكسبه ذلك صفة الصبر في حياته عامة، فكان أصبر الناس على أذى قومه له، وأصبر الناس على تكذيب من حوله له، وعلى جهل الجاهلين معه، فكان أول أولي العزم الذين صبروا حتى نهاية حياتهم.
وهناك صفة رائعة، لا يمكننا أن نغفل عنها في معرض حديثنا عن هذا الموضوع، وهي التأمل الذي يتيحه هذا العمل لصاحبه. لقد كان النبي يتأمل في ما حوله من خلق الله، في السماء وأفقها، وفي الأرض ورحابها. كل هذا، جعله يعلم أن للوجود خالقا أعلى، وأنه محال أن تكون هذه المخلوقات العظيمة قد جاءت نتاجا للصدفة، أو جاءت بها هذه الأصنام الصماء التي يعبدها قومه.
وللشجاعة نصيب لابد وأن يذكر حين نتكلم عن رعي الغنم. فهذا الذي يرعى الغنم، يواجه خطر الحيوانات الضارية مثل الذئاب، ويواجه اللصوص الذين يسعون لنهب ما لدى غيرهم.
ترى كيف يكون نصيب شخص مثل هذا من الشجاعة؟
لابد وأن هذه الخصلة ستكون مكونا أساسيا في شخصيته.
وهذا ما ورد عن النبي بالفعل، حين وصف علي بن أبي طالب شجاعته قائلا:
"كنا إذا اشتد بنا البأس واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فمايكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى اللهعليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو." (رواه أحمد والطبراني والنسائي).
أما الرحمة، فقد كانت صفة ظاهرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لا وهو الذي يرعى الغنم، ويعاملها برفق وإحسان، ويحنو عليها، ويعاملها كما لو كانت بشرا يفهم ويعي، ويكون إلى جانبها إذا هي مرضت، ويسقيها إن عطشت ويطعمها إن جاعت.
وهذا ما يظهر في أحاديثه، حين يوصي بالرحمة بالحيوان، ويجرم تعذيب الحيوانات. وحري بالذي يرحم هذه الكائنات الضعيفة، أن يكون أرحم الناس بالبشر وأحرصهم على مصالحهم.
ورعي الغنم، أكسب النبي صفة الاعتماد على النفس، وحب الكسب من عمل اليد.
روى البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عمل يده."
كاتب الموضوع : sherif المنتدى : تعريف رسول الله للمسلمين و العالم
هذه الطبيعة البشرية التي تسعى لكسب قوتها بيديها، تكون حرة في اتخاذ قرارتها، لا تخضع لأحد، ولا تنحني لأي كائن كان.
ومن أعظم ما في رعي الغنم، أن هذا العمل يعوّد صاحبه البحث عن كل ما هو جيد لتلك الأغنام، من مراع خصبة وأماكن آمنة بعيدة عن المخاطر. وهذه الأمور ركائز أساسية في حياة الرسل عامة، حيث يبحثون عن الخير لأمتهم، ويسعون لتجنيبها ويلات البعد عن الله وعن الفطرة الإنسانية.
ظروف مجتمعه صلى الله عليه وسلم:
كان للظروف الاجتماعية التي أحاطت بالنبي في مجتمعه أثر واضح في تكوين شخصيته، فقد كان يعيش في مجتمع شديد الظلم، يعامل فيه الفقراء بازدراء شديد وبتفرقة كبيرة بين فئات المجتمع. كان الظلم واضحا، سواء كان ظلما للعبيد، أو المرأة، أو الفقراء.
هذا الظلم الشديد الذي كانت تعيشه الجزيرة العربية، جعل من النبي باحثا عن العدل للبشرية، حاملا في قلبه رغبة في مد يد العون لمجتمعه ولمن حوله، ليقيهم مغبة هذا الظلم البين. وقد تجلى هذا كثيرا في أحاديث النبي، وحين آخي بين المهاجرين والأنصار، فكان الغني يؤاخي الفقير والسيد يؤاخي العبد، ولا يجد في ذلك عيبا يعيبه، بل كان ذلك أمرا يسعى إليه لينال رضا الله عنه.
التجارة:
حين شب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمل في التجارة، وكانت هي مهنته التي يعيش منها. كان يتاجر ويتخلق بأخلاق الشرفاء، فهو من أصل شريف. وكان يتاجر وهو يتخلق برحمة الرحماء. تلك الرحمة التي تخلق بها لظروف يتمه. وكان يصبر في عمله صبرا عظيما كما علمه رعي الغنم. وقد تركت التجارة فيه أثرا واضحا؛ فقد تعلم من ممارسته للتجارة فن التفاوض مع غيره، مما أكسبه قدرة على التفاوض والإقناع والتأثير الإيجابي على من حوله.
كذلك، فقد أتاحت له التجارة فرصة التعامل مع فئات طبقية مختلفة وجنسيات مختلفة وطبائع بشرية متنوعة، مما أصقل قدرته على معرفة معادن الناس وفهمهم وتفهم أسلوبهم في التفكير والتعامل.
والتجارة لا يقف تأثيرها على هذه العوامل فحسب، بل تمتد لتعطي ممارسها قدرات هائلة على الإقناع، وتفهم احتياجات من يتعامل معهم، وفق إمكانياتهم.
وقد جعل عمل الرسول في التجارة منه اقتصاديا ماهرا، استطاع أن يبني اقتصاد دولة لا تملك غير الحروب والمنازعات بين أهلها، علاوة على وفود مهاجرين جدد إليها.
والتجارة تغرس في نفس صاحبها (إن كان من ذوي الأخلاق النجيبة) خلق التسامح والتجاوز عن الآخرين. وهذا ما كان يوصي به النبي التجار حين يقول:
"رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى." (رواه البخاري وابن ماجه).
هذه السجايا التي كانت لرسول الله، كانت نتاج تربية ربه له وتأديبه له، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: أدبني ربي فأحسن تأديبي." (رواه ابن السمعاني). ثم نتاجا للظروف التي مر بها النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
إذا أردنا أن نعرف ونوضح مكانته صلى الله عليه وسلم، سنجد الكثير والكثير من الفضائل، ولكننا سنبدأ من حيث يجب أن تكون البداية. وسنعرّف بنسب هذا النبي الذي جاء إلى الدنيا حاملا لها الخير والسعادة والقيم والفضائل، هذا النبي الذي سطعت شمس رسالته على العالم أجمع، فأضاءت ظلمات غلفت النفوس لسنوات طوال، هذا الإنسان الذي أراد للإنسانية أن تعيش في رحابة الأخلاق، وتتحرر من قيد الرذائل والمعاصي.
مكانة النبي في قريش:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمتع بمكانة خاصة بين قبيلته؛ فالجميع يبجلونه ويسمونه بالصادق الأمين، ويرضون به حكما في أشد المواقف نزاعا، حتى قبل أن يبعث نبيا. ولعل خير مثال على ذلك، حادثة وضع الحجر الأسود. فحين تقادم بنيان الكعبة وصار بنيانها مرتفعاً قدر القامة، هدمتها قريش واجتمعوالبنائها، وكان ذلك قبل بعثة النبي (صلى الله عليه و سلم) بخمس سنين. فجزأوا البنيانأجزاء، واختصت كل جماعة منهم بقسم تبنيه. ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، اختصموافيمن يحمل الحجر الأسود ويضعه في مكانه الذي سوف يستقر فيه، حتى كادت تكون بينهمحرب وقتال. ثم احتكموا إلى أول داخل عليهم وأول قادم إليهم. وكان نبينا محمد صلى الله عليه و سلم أول داخل عليهم، فقالوا: هذا الأمين قبلنا به حكماً. فقال: هلمثوباً. فجيء بثوب، فوضع (صلى الله عليه وسلم) الحجر الأسود عليه بيده، ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب. فرفعوه حتى إذا بلغوا به موضعه رفعه رسول الله (صلى اللهعليه و سلم) بيده ووضعه في مكانه.
هذه الحادثة تبين لنا كيف أن محمدا كانت له مكانة مميزة بين عشيرته وقومه. فهم يرضون به حكما في أصعب المواقف.
مكانته بين الأنبياء:
في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بنيانا، فأحسنه وكمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. قال: فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين."
نعم، إنه خاتم النبيين الذي أرسله الله عز وجل ليكمل به للبشرية الرسالة التي خلقت من أجلها، وليضع للأخلاق لمساتها الأخيرة، حتى تكون مكتملة. فلابد من محمد حتى يكتمل بناء الأنبياء السابقين صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
ولقد كان فضل النبي على الأنبياء الآخرين بعدة فضائل، وهذا ما يوضحه لنا الحديث الشريف؛ فعن أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فضلت على الأنبياء بِسِت: أُعْطِيتُ جوامع الكَلِم ونُصِرتُ بالرُّعْب وأُحِلَّت ليالغنائم وجُعِلَت لي الأرض طَهُورًا ومسجدًا وأُرسلت إلى الخلق كافة، وختم بيالنبيون." (رواه مسلم).
وروى البخاري قريبا من هذا. وفي حديث جابر: "وأُعطيت الشفاعة." (رواه البخاريومسلم).
إنها فضائل تجعله مميزا بين الرسل والأنبياء. فهو الذي أرسل للخلق جميعا وللأزمان كلها، منذ بدء رسالته، بينما اختص كل نبي بقومه فقط.
فكل من عيسى وموسى، أرسل إلى بني إسرائيل، وأرسل صالح إلى ثمود. وهود إلى عاد. بينما أرسل محمد للعالمين كافة.
وهو الذي أعطي جوامع الكلم، فكانت كلماته بلسما يداوي، وعلما يعلم، وحكمة تنفع، ودينا يربي، وخلقا يرتقى به.
وكما نعلم جميعا، فإن لكل نبي شيئا اختصه به ربه. فموسى كليم الله، وإبراهيم خليل الله، وعيسى كلمة الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله. وأي مكانة أعظم من الحبيب؟ هكذا كانت مكانة الرسول بين الأنبياء، وما أعظمها من مكانة.
مكانته عند الله:
للرسول عند الله عز وجل، مكانة تميز بها عن بقية المرسلين. فنحن نرى دوما أن الله يخاطب المرسلين بأسمائهم، فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى... إلخ، بينما نادى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله له: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر.
ولقد رفع الله ذكر النبي في العالمين، وفي كل حين؛ حيث يقول عز وجل: "ورفعنا لك ذكرك." (سورة الشرح 4).
يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
مكانة النبي في القرآن الكريم:
لقد كانت مكانة النبي عظيمة دوما، وهذا ما تشهد به كلمات الله عز وجل، حين يمن الله على المسلمين بأنه بعث فيهم رسولا منهم ليعلمهم.
يقول تعالى: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ." (آل عمران 164).
ولقد زكى الله عقل النبي، فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (لنجم 2)، وزكى لسانه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (لنجم 3-4) وزكى فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (لنجم 11) وزكى بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (لنجم 17-18).
وآيات القرآن في ذلك كثيرة.
مكانته عند الصحابة:
لقد كان الصحابة يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر من حبهم لأنفسهم وبنيهم. فهو الذي أخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن الانغماس في المعاصي إلى التطهر والعيش في نعم الطاعات والأخلاق.
والقصص التي تروى لنا عن حب الصحابة للرسول، تجعل من يسمعها يتعلق بهذا الرجل العظيم، حتى وإن كان على غير دينه.
أخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : لما كان يوم أُحد، حاص أهل المدينة حيصة وقالوا : قُتِل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة. فخرجت امرأة منالأنصار محرمة، فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها. لا أدري أيهم استقبلت بهأولاً. فلما مرَّت على أحدهم قالت: من هذا ؟ قالوا : أبوك، أخوك، زوجك، ابنك،تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: أمامك، حتى دُفعت إلى رسولالله صلى الله عليه وسلم، فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب .
يا له من حب عظيم، حين لا تبالي تلك الصحابية بأمر أبيها وابنها وأخيها وزوجها، إن كانوا أحياء أم أموات، إن كانوا مصابين أم في عافية. لقد كان أول ما كانت ترنو إليه، الاطمئنان على حبيبها محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
من فضائله صلى الله عليه وسلم:
أنه أول من يقرع باب الجنة:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عيه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة." (رواه مسلم).
أنه أول شفيع يوم القيامة:
قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة." (رواه مسلم).
جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فيأتوني، فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع." (متفق عليه).
أنه أول من يفتح له باب الجنة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ قال: فأقول: محمد. قال: يقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك." (رواه مسلم).
أنه أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عيه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة. لم يُصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن نبياً من الأنبياء ما صدقه من أمته إلا رجل واحد." (رواه مسلم).
وعنه أيضا، قال: قال صلى الله عيه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة." (رواه مسلم).
من فضائله صلى الله عليه وسلم أنه خليل الرحمن:
وهذه الفضيلة لم تثبت لأحد غير نبينا وإبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا. إن صاحبكم خليل الله." (رواه مسلم).
من فضائله أنه شهيد وبشير:
فعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا، فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: "إني فرط لكم -أي سابقكم-، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها." (متفق عليه).
من فضائله أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم:
قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب 6).
قال الشوكاني في تفسيره "فتح القدير": "فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره، وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه، ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم، ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم، وتطلبه خواطرهم."
من فضائله صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد بني آدم:
فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد القوم يوم القيامة." (متفق عليه).
صلى الله عليه وسلم أمان لأمته:
حيث جاء في الحديث الصحيح: "أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون." (رواه مسلم).
من فضائله صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض:
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع." (رواه مسلم).
صاحب المقام المحمود:
ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا -أي جالسين على ركبهم-، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود." (رواه البخاري).
إذا أردنا أن نلقي نظرة عامة على أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نطل على هذه المكارم من أفق واقعي، فعلينا أن نعود إلى واقعه، وكيف كان يعيش. كيف كان يعامل الناس، كيف كان يحادثهم، كيف كان يتعامل في لحظات الغضب والرضا، كيف كان يعامل العدو والحبيب عند القضاء، وكيف كان يدعو إلى سبيل ربه.
كل هذه الأمور، لابد وأن ينظر الباحث عنها بعين بصيرة وعقل ناقد، قبل أن ينظر إليها بقلب ينبض بحب هذا الرجل.
والباحث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حين يتعامل معها بموضوعية تامة، سيجد ما يجعل قلبه يتعلق به وإن كان من مبغضيه. فقد كان صلى الله عليه وسلم يحوز مكارم الأخلاق كلها، وكيف لا وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه؟
كان النبي يتمتع بكمال في خلقه لم يبلغه سواه، فقد عصم من كل نقيصة وحاز الكمال من كل فضيلة.
الحوار وقبول الاختلاف مع الآخر:
الحوار والاختلاف مع الآخر، أمر حتمي، تفرضه طبيعة الحياة. وبما أن الحوار عبارة عن علاقة مباشرة بين طرفين أو أكثر، تقوم على التعبير وتبادل الأفكار والحجج والبراهين بهدف التواصل والإقناع أو التأثير، فمن الضروري أن يؤدي هذا الحوار إلى شيء من الاختلاف حول بعض الأمور وطرق تناولها. علاوة على أن هذا الآخر ربما اختلفت بيئته عن بيئتك، وثقافته الاجتماعية عن ثفافتك، مما يستوجب نوعا من التعايش وقبول الآخر، وقبول الحوار والتعايش معه، طالما أن هذا التعايش لا يمس شؤون العقيدة أو الثوابت الدينية.
والنبي صلى الله عليه وسلم بمنهجه الواضح في هذا الشأن، وضع لنا قواعد الحوار ومنهجية الاختلاف مع الآخر، وضرب لنا أروع الأمثلة على التعايش مع الآخر، حتى ولو كان على غير دينه، وحتى لو اختلفت عادته وتقاليده عن ما نشأ عليه النبي من عادات وتقاليد وأعراف.
واختلاف الرأي حدث على عهد النبي، فتعامل معه النبي بأفق متسع، وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة." (رواه البخاري). فخرجوا رضوان الله عليهم من المدينة إلى بني قريظة وحان وقت صلاة العصر، فاختلفالصحابة؛ فمنهم من قال: لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة." فنقول سمعناوأطعنا.
ومنهم من قال إن النبي، عليه الصلاة والسلام، أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج، وإذا حان الوقت، صلينا الصلاة لوقتها. فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يعنف أحداً منهم، ولم يوبخه على ما فهم.
هذه الحادثة من شأنها أن تترك في نفوس ذوي الألباب أثرا عميقا نحو قضية قبول الاختلاف مع الآخر عند النبي، وأن الحوار لا بد وأن يكون مفتوحا، وأن يتعامل معه الناس بعقل متقبل لأطر هذا الاختلاف.
فهاهو النبي لمّا علم بما حدث، أقر الفريقين على فعله، ولم يعاتب أحدا منهما.
والرسول يعلمنا بذلك التعامل مع الهدف بحكمة، وباستقلالية في الوسيلة طالما أنها لا تتعارض مع أحكام الشريعة.
والرسول ينهانا عن التمسك بنوعية الحوار المبني على الرأي مسبقا، لأنه سيكون حوارا عقيما، لا جدوى منه، وذلك في قوله: "إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك." (رواه أبو داود).
وهذا الحديث، رغم أنه توجيه لنا بعدم الحوار مع من يعجبون بآرائهم ويرفضون التحاور مع الآخر، إلا أنه في الوقت ذاته، توجيه لنا بعدم التشبث بآرائنا، ما دام هناك مساحة للتفاوض مع الآخر والحوار والنقاش معه.
وإذا كان النبي يعلمنا قبول الاختلاف مع الآخر والحوار معه وعدم الخضوع لأي نوع من التعصب لأفكارنا، فإنه يعلمنا كذلك ما هو أعمق وأشمل. فالأمر لا يقف عند حدود الاختلاف، فالحياة أرحب من ذلك، بل هناك التعايش مع الآخر وقبول أعرافه ما دامت لا تتعارض مع ما يفرضه عليك دينك. ونحن من خلال حديث الأحباش، يمكننا أن نلمس هذا الجانب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فها هو يعلمنا احترام تقاليد وأعراف البيئات الأخري المحيطة بنا، وعدم الوقوف أمامها ورفضها رفضا تاما، حتى ولو كانت حلالا، لا شيء فيها.
جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها - رأيت النبي صلىالله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر رضيالله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهم، أمناً بني أرفدة." يعني منالأمن.
هذه الطريقة في اللعب، والتي كان يلعب بها الأحباش تخالف طرق العرب، إلا أن النبي لم ينههم أو يزجرهم، بل تعايش معهم، وتقبل هذا العرف منهم، وتركهم يمارسون ما اعتادوا عليه بمنتهى الحرية، وبصدر رحب، وبقبول لهذا الأمر.
ولقد كان من طبيعة النبي، الانفتاح على الأمم الأخرى، والأخذ منها بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة. فلقد وافق على رأي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الخندق، رغم أنها خطة فارسية، لم يعتدها العرب من قبل، ولم يسمعوا عنها.
وربما تعاف نفسك بعض الأمور التي اعتادتها ثقافة معينة، فيرفضها عقلك تماما، وتتعامل معها بنفور، وربما امتد تأثير هذا الأمر عليك، فيجعلك تفرض رأيك على من حولك وترفض الحوار في هذه النقطة تحديدا. ولكن النبي يرفض هذا الأسلوب في التعامل مع مجريات الأحداث من حولك، ويرفض أن تتعامل مع البشر من حولك بفرض ما تقبله نفسك على الآخرين.
لقد كان خالد بن الوليد من محبي أكل الضب، وقدمه ذات يوم للنبي، فلم يأكل النبي، ولم يمنع خالدا من أكله، بل ترك له حرية فعل ما يحلو له في ذلك الأمر، كما أنه تعامل بذوق في هذا الاختلاف حيث بيّن لخالد أسباب عدم أكله له، حتى لا تأخذ الأفكار بخالد نحو طريق من شأنه أن يجعله يترك ما اعتاد عليه وأحبه.
ورد في الصحيحينعنابنعباسرضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن أكل الضب، فقيل له أحرام هو؟ قال: لا، ولكنلم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه.
بذلك، نجد أن النبي لم يحرم ثقافة الأفراد والبيئات، وإن كان هو رافضا لها من الناحية النفسية، طالما أنها لا تخالف الدين.
والنبي تعايش مع ثقافات مختلفة ومع نوعيات وعقائد مختلفة بصدر رحب ودون أي محاولة منه للمسّ بهذه الثقافات. ومن أمثلة ذلك، تعايش النبي مع اليهود، حيث عاش النبي معهم منذ قدومه إلى المدينة المنورة بكل سلام، وكان يعاملهم بأخلاقيات الإسلام، فيزور المريض منهم، ويتحمل إساءة الجار اليهودي، ويقوم لجنازة رجل يهودي.
روى الإمام البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت عليه جنازة يهودي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: "أليست نفساً؟"
ومنذ بداية وجود النبي في المدينة، ظهر حرصه على عدم عداوة اليهود، بل وقع معهم عهدا جميلا يدل على رغبة في العيش بسلام مع الطرف الآخر.
تعايش النبي مع غير المسلمين:
لما توسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية، وبخاصة في نجران، فتعامل معهم النبي بقبول لوجودهم في ظلال الدولة الإسلامية، وعقد معهم معاهدت من شأنها أن تؤمن لهم حرية ممارسة شعائرهم، والاعتقاد بما يعتقدون من ديانة.
فلقد جاء في معاهدة النبي لأهل نجران: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبيرسول الله، على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم... وكل ما تحتأيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن منكهانته. ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا، فبينهم النصف، غير ظالمين ولامظلومين."
وكان أول لقاء بين الإسلام - الدولة - وبين غيرالمسلمين المواطنين في دولة إسلامية هو الذي حدث في المدينة المنورة غداة الهجرةالنبوية إليها.
وكان لا بد للدولة من نظام يرجع أهلها إليه،وتتقيد سلطاتها به (دستور). عندئذ كتبت بأمر الرسول صلى الله عليه وسلَّم - والغالبأنها كتبت بإملائه شخصيا - الوثيقة السياسية الإسلامية الأولى المعروفة تاريخياباسم: وثيقة المدينة، أو صحيفة المدينة، أو كتاب النبي صلى الله عليه وسلَّم إلىأهل المدينة، أو كما يسميها المعاصرون: دستور المدينة.
وفي هذه الوثيقة نقرأ أنها:
-كتاب من محمد النبي رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛
-أنهم أمة من دون الناس؛
-وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غيرمظلومين ولا متناصر عليهم.
-وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحولدونه على مؤمن.
-وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموامحاربين.
-وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
-وأن لبني الشُطَيْبة مثل ما ليهود بني عوف. وأنالبر دون الإثم.
-وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.
فهذه تسع قبائل، أو تجمعات يهودية، تنص الوثيقةعليها، وتقرر لهم مثل ما ليهود بني عوف، وتضيف إلى ذلك أن مواليهم وبطانتهم كأنفسهم.
-وتقرر الوثيقة النبوية أن بينهم النصح - هموالمسلمون - على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصر والنصيحة، والبر دونالإثم، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره (أي الله شاهد ووكيل على ما تمالاتفاق عليه).
فهذه الوثيقة تجعل غير المسلمين المقيمين في دولةالمدينة مواطنين فيها، لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ماعلى المسلمين.
تعايش النبي مع المنافقين:
رغم علم النبي صلى الله عليه وسلم بالمنافقين وأسمائهم، ورغم علمه بخطورة المنافقين الذين يحاولون بث روح الهزيمة في صفوف المسلمين، والعمل على انقسام المسلمين، إلا أننا لم نر النبي يتعامل معهم بانغلاق أو يرفض التعامل معهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يخالطهم ويتعامل معهم ويسمع منهم. ولم يلجأ النبي رغم قدرته على ذلك إلى استخدام القوة ضد هذا التيار. كما لم يحرمهم النبي من أي من حقوقهم المدنية، فكانوا يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة مثل المسلمين، وكان النبي يسمح لهم بأن يدلوا بآرائهم في قضايا المجتمع، وأخذ نصيبهم من عطاء بيتالمال.
هكذا، من خلال تلك الومضات السريعة، يمكننا أن نعلم كيف كان محمد صلى الله عليه وسلم يتعايش مع من حوله بكل حب وسلامة صدر، ودون حمل ضغائن أو كراهية، وكيف كان يحث أتباعه من خلال سلوكه العملي وسنته الواقعية على التعايش والعيش بمنهجية الحوار الإيجابي البناء.
محمد نبي الشورى:
"وشاورهم في الأمر" (سورة آل عمران 159).
توجيه رباني لمحمد؛ نبي آخر الزمان، بأن يعتنق مبدأ الشورى في حياته، وهذا ما كان عليه النبي بالفعل.
رغم مكانة النبي عند ربه ومكانته بين أصحابه، إلا أنه كان يشاور من حوله دوما في مختلف الأمور. لم يكن يأخذ برأيه فحسب، بل كان يقدم رأي من حوله على رأيه لو اتفقت عليه الأغلبية، ولو كان هذا الرأي لصالح الأمة.
وأوضح دليل على ذلك كلمة النبي المشهورة: "أشيروا عليَّ أيها الناس." حين أراد الخروج إلى غزوة بدر، قال المقداد بن عمرو بكلمات خالدة: امض بنا يا رسول الله لما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
فاستبشر النبي خيرًا، وتوجه إلى الأنصار يطلب رأيهم، فنطق سعد بن معاذ -رضي الله عنه- بأعظم كلمات، بايع فيها الله ورسوله على التضحية من أجل دين الله. قال سعد: امض بنا يا رسول الله، فوالله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، إنا لصُدقٌ في القتال، صُبُرٌ في الحرب، ولعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك. فزاد فرح النبي واستبشاره، فانطلق بأصحابه ليقاتل أعداء الإسلام في غزوة بدر الكبرى. (تاريخ الطبري).
ومشاهد الشورى في حياة النبي مع من حوله عديدة، منها على سبيل المثال ذلك المشهد الذي دارت أحداثه يوم غزوة بدر، حيث رأى النبي أن يعسكر المسلمون في مكان معين، بينما رأى الحباب (أحد الصحابة) خلاف ذلك، فما كان من النبي القائد إلا أن استجاب لهذا الرأي، لما رأى فيه من مصلحة وخير للجيش.
ولم تكن هذه المواقف هي الوحيدة التي تبين لنا قيمة الشورى في حياة النبي،
يل كانت الشورى مبدأ عاما يسير به النبي في دربه. وكانت الشورى صفة أصيلة من صفات النبي. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه- قال: "ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله." (رواه الترمذي).
فها هو النبي صلى اله عليه وسلم يستشير صحابته في أسرى بدر، فيقول: إن الله أمكنكم. فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه رسول الله. فقال أبوبكر -رضي الله عنه: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء. (رواه أحمد).
وإن كان هذا الحديث يحمل من الرحمة معاني رائعة، إلا أنه في الوقت ذاته ينطوى على معان عظيمة تندرج تحت بند الشورى.
وفي غزوة أحد، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج لقريش خارج المدينة، وأراد التحصن بها، ولكن الشباب من المسلمين أرادوا الخروج لملاقاة قريش، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا ترك رأيه والأخذ برأيهم.
وفي لمحة أخرى من لمحات الشورى، نتعلم أهمية هذا المبدأ من النبي صلى الله عليه وسلم، حين أخذ برأي سلمان الفارسي في غزوة الخندق.
وفي صلح الحديبية، كان النبي قد عزم على الخروج إلى مكة، والصحابة يحلمون بعمرة يزورون فيها بيت الله الحرام. فلما علموا بالصلح، حزنوا ورفضوا الانصياع لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم بذبح الهدي والحلق، فأشارت عليه السيدة أم سلمة بأمر أخذ به، وكانت الشورى سببا في نجاة الصحابة من غضب الله عليهم لعصيانهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحين كان الرسول داخلا مكة فاتحا لها، أشار عليه عمه العباس بأن يجعل لأبي سفيان مقاماً، لحبّه للفخر، فاستجاب له وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
تقدير العلم والعقل عند النبي:
رغم أن نبي هذه الأمة كان أميا، إلا أنه كان أحرص الناس على نشر العلم بين أفراد المجتمع.
وقد كانت أمية النبي صلى الله عليه وسلم، حكمة من الله تعالى، حتى لا يقول المشككون في نبوته من قومه إنه تعلم القراءة، وقرأ كتب الآخرين، ونقلها إلى مجتمعهم الذي كانت تغلب عليه الأمية. فأميته برهان من الله تعالى على صدقه. فما يكون لرجل أمي أن يؤلف كتابا، إلا أن يكون من عند الله العليم الخبير.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تقديرا لقيمة العلم والعقل. فالعقل والعلم أخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر، فهما يقترنان سويا في مسيرة الحياة.
والرسول الذي كانت أول كلمة تسمعها أذنه من القرآن هي كلمة اقرأ، أراد أن يحمل الرسالة التي تلقاها، وينشرها، ويحث على التمسك بها. فهو يريد للأمة الإسلامية أن تكون أمة متعلمة عاقلة واعية، لا تعيش أسيرة قيود الجهل أو الخرافات.
وأحاديث النبي في قيمة العلم، ما أكثرها وما أروعها؛ فهو الذي يقول: "من سلك طريقاً يلتمس به علماً؛ سهّل الله به طريقاً إلى الجنة." (أخرجه مسلم).
وكما هو أسلوب النبي في كل ما له قيمة، فإنه يربط فعله بالجنة ونعيمها. فها هو يحث المسلمين على سلوك طرق العلم، حتى يكون ذلك عونا لهم على سلوك طرق الجنة. ويعلمنا النبي أن العالم له فضل، ربما لا يصل إليه سواه، حين يقول: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلمي الناس الخير." (رواه الترمذي).
ويقول: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء." (رواه أبو داود والترمذي).
يا له من فضل، حين يشعر العالم والباحث عن العلم، بأن كل ما حوله يعيش معه رحلة علمه، فيستغفر له. وحين ينعم بهذا الشعور، لابد وأنه سيتعمق أكثر في خبايا العلم، ليفيد البشرية، كما علمه نبيه ودينه.
بل نحن نرى النبي يجعل من العلماء ورثة للأنبياء، بسبب علمهم الذي حازوه وتفوقوا فيه، فيقول صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء." (رواه أبو داود والترمذي).
ورسولنا الكريم لا يريد أن تكون أمته أمة عابدة جاهلة، تعيش في برج عاجي بالعبادة فقط، بعيدا عن العلم، فيلفت أنظار صحابته إلى ذلك، حين يقول: "إن فضل العلم خير من فضل العبادة." (رواه الطبراني).
ويقول النبي في أفضلية العالم على العابد: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم." (رواه الترمذي).
ويجعل النبي العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، لا يمكن التهاون فيها، ويتضح ذلك في قوله: "طلب العلم فريضة على كل مسلم." (رواه ابن ماجه).
نعم، وهذه الفريضة لا تقف عند حدود العلم الشرعي، بل تمتد لتشمل جميع أنواع العلوم والمعارف التي يحتاجها المجتمع ولا يكون له غنى عنها، ويعتبر ذلك فرض كفاية، إن لم يقم به بعض الأفراد، أثم المجتمع بأكمله.
النبي يحث على تعليم اللغات:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يتعلم المسلمون اللغات المختلفة من أجل التواصل مع الآخر، وفهم الثقافات المختلفة، وكذلك من أجل الحرص على حيازة العلم بوجه خاص. ولقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كتبوا اليه، فتعلمه في خمسة عشر يوما.
وحين أسر المسلمون عددا من محاربي قريش في غزوة بدر، عرض عليهم النبي حريتهم وفك أسرهم، مقابل أن يعلم كل أسير عشرة من المسلمين.
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على العلم. فالعلم عنده قبل المال، فهو لم يطلب منهم مالا، بل طلب علما ينتشر خيره بين الناس.
وكان النبي حريصا على تعليم النساء، كما كان حريصا على تعليم الرجال، فها هو يطلب من الشفاء؛ إحدى متقنات الكتابة، أن تعلم حفصة رضي الله عنها. ولما تعلمت حفصة، حرص النبي ألا تقف عند ذلك، بل أن تزيد من علمها، فشجعها على تعلم تجويد الخط.
وإذا كان العلم له هذا الشأن في حياة الإنسان، فهو ذو شأن كبير كذلك بعد مماته، وهذا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له." (رواه مسلم).
وهكذا كان العلم شغلا شاغلا في حياة النبي، يريده أن يغمر المسلمين والبشرية بنوره.
وإذا كان العلم له هذه القيمة الهائلة عند النبي، فلابد أن يقترن بعقل واع حكيم. فما قيمة علم بلا عقل راجح؟ لذلك، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على تنقية العقول من شوائب الخرافات التي عاشت فيها لسنوات طوال.
لقد كان العرب يتشاءمون حين يخرجون لأمر ما، فيرون الطير قد طار شمالا، فيرجعون عن عزمهم ولا يسيرون في قضاء أعمالهم، اعتقادا منهم بأن هذا العمل سيصاحبه أكبر الضرر. فنهاهم النبي عن ذلك بقوله: "لا طيرة ولا هامة ولا صفر ، وفـرّ من المجذوم كما تَفرّ من الأسد." (متفق عليه).
وقوله صلى الله عليه وسلم "لا طيرة." أي: أي لا تشاؤم بالطير. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صفر." - بفتح الصاد والفاء- أي لا تشاؤم في شهر صفر، حيث كانوا يتشاءمون بهذا الشهر؛ لقدومه بعد شهر محرم، ويعتقدون أنه تزداد فيه الفتن والحروب.
فبين النبي كذب هذه الخرافات، حماية لعقولهم من الانغماس في مستنقع الجهل والخرافات، وأخذا بأيديهم نحو التمتع بعقل واع راشد، يصاحبه علم نافع.
الحب في حياة النبي:
الحب كلمة ربما يخجل البعض من ذكرها، وربما أنف البعض من أن يتعامل بها، أو يظهرها لمن حوله.
ونحن أثناء دراستنا لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما سرنا خطوة في هذا البحث، وجدنا الإنسانية والأخلاق تملأ على هذه الشخصية العظيمة جنباتها، ووجدنا للحب مكانا مميزا في حياة هذا النبي الذي علم البشرية كيف تتعامل بالحب. فمن خلال تعرفنا إلى حياة النبي، لابد وأن تستقر في نفوسنا روعة هذه المشاعر؛ روعة أن يعرف الإنسان كيف يحب، وكيف يعبر عن هذا الحب، وكيف يعيش بالحب، وكيف يتعامل مع كل من حوله وما حوله بالحب. وهذا ما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم إياه في كل مواقف حياته، فقد كان يحيا بالحب، ويعلّم بالحب، ويوجه بالحب، وينشر الإسلام بمشاعر الحب.
كانت ملامح الحب ظاهرة في تعامله مع من حوله من الناس، وما حوله من الأماكن والأشياء.
ولعل أبرز ما يلفت الأنظار في جانب الحب عند رسول الله أنه كان يحث الناس ويعلمهم كيف يعبرون عن مشاعرهم، ويوضح لهم بمواقفه الرقيقة قيمة التعبير عن هذا الحب لدى الآخرين. فقد حدث ذات يوم أن قال أحد الصحابة لرسول الله: إني أحب فلانا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب أحدكم أخاه فليُعلمه أنه يحبه." (رواه أحمد وأبو داود).
ما أعظمك يا حبيب الله. حريص أنت دوما على الرقي بمن حولك في كل شيء، حتى في نشر الحب. تريد لنا الوصول إلى أعلى الدرجات.
تعلمنا قيمة التعبير عن مشاعرنا لمن حولنا، وألا نجعل هذه المشاعر حبيسة الأدراج، وإلا فكيف يعرف الصديق أننا نحبه بينما لا نخبره بهذه المشاعر التي نشعر بها تجاهه؟
سيرة النبي محمد دعوة مفتوحة للحب؛ دعوة لكي لا نوصد الأبواب أمام مشاعرنا النبيلة والسامية، دعوة للتواصل بالحب والتصريح لأصدقائنا وأزواجنا بحبنا لهم، فهذا أحرى بأن يدوم الحب بين القلوب، ويشعر الطرف الآخر بقيمته لديك.
حبه لزوجاته صلى الله عليه وسلم:
من من الرجال اليوم يمكنه أن يقف أمام كل من يعرف ويقول أحب زوجتي، نعم أحبها، بل هي أحب الناس إلي؟
إنه عظيم حقا من يعبر عن مشاعره لزوجته على الملأ، رغم ما يقال من أن الرجال ينسون المشاعر عندما يتزوجون، ولا يلقون لها بالا عندما يمرون بعتبة الزوجية. إلا أن هذا الأمر بعيد تماما عن شخصيات فهمت الإسلام على حقيقته، وأبعد ما يكون عن شخصية النبي الذي علم الأزواج قيمة التعبير عن الحب لزوجاتهم، وقيمة أن يحيا الإنسان في بيته بالحب.
فهاهو النبي يتعامل مع عائشة بكل حب، وحين يُسأل عن أحب الناس إليه يقول: عائشة. ففي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية قِبَل نجد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال:عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها."
وكأن النبي يقول لنا إن أكثر إنسان أحبه قلبه هو عائشة، فهو يحمل لعائشة رضي الله عنها من المشاعر أكثر مما يحمله لغيرها منالناس. وهي أحب الناس قاطبة إليه، وهو لا يستحيي منهذا الأمر، أو يكتمه، بل يعلنه ويعرب عنه على الملأ.
هذا النبي المحب لزوجته، يعلم الرجال فن الرومانسية مع الأزواج، حين تشرب عائشة، فيبحث عن موضع فمها، ليشرب منه.
عن عائشة -رضي الله عنها-قالت: "كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي، فيضع فاه على موضع فِي." (رواه مسلم).
صورة رومانسية حقة، تأتينا من رجل يحمل أعباء لا مثيل لها. ومع ذلك، لا تطغى عليه أعباء وهموم الحياة، ولا تؤثر على بيته. صورة تعلمنا كيف يكون التعامل بحب ورومانسية مع شريك الحياة.
ولعل أصدق صورة تعبر عن حقيقة الحب في حياة النبي أنه حين مات، مات على صدر زوجته عائشة التي أحبها قلبه كثيرا.
مشهد يعجز عن وصفه أي تعبير وأي كلمات: النبي الخاتم تنتهي حياته بلمسة حب، حين يموت في أحضان زوجته.
لماذا لم يمت وهو يحج؟!
لماذا لم يمت وهو يصلي؟!
وهو ساجد لله عز وجل؟!
إنها رسالة عظيمة مؤداها: إن هذا الدين هو دين الحب والحنان والمودة، وهذا النبي محب للحب ولكل من حوله وما حوله. محب للبشرية جميعا.
فمن الذي بعد كل ذلك، يمكنه أن يغفل هذا الجانب في حياة رسولنا؟
من من الناس يمكنه أن يمر بحياة النبي، دون أن يستنشق عبق هذه المشاعر ويأخذ بعضا من نفحاتها، ليتعلم كيف يسير على درب النبي، فيحيا بلا متاعب في حياته الخاصة؟
حبه لأصحابه صلى الله عليه وسلم:
العلاقة بين النبي وأصحابه، علاقة حب قوية الأواصر، متينة الأركان.
أبو بكر رفيق رحلة الحياة، تربطه بالنبي علاقة إنسانية رائعة، وعلاقة حب عظيم. ولقد بدت دلائل هذا الحب من الرسول لأبي بكر، حين استعد للهجرة. فقد اختار أبا بكر ليكون رفيقه في هذه الهجرة، وليكون حامل سر هذه الهجرة.
كان النبي يحب أبا بكر كثيرا، ويقضي معه أجمل أوقاته، ويعبر له عن حبه، ويتكلم كثيرا عن فضل أبي بكر.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلا. إن صاحبكم خليل الله." (رواه مسلم).
وقد وصفة الرسولصلى الله عليه وسلم بالصدّيق، فعن أنس بن مالكرضي الله عنه قال: صعد رسول اللهصلى الله عليه وسلم أُحداً ومعه أبوبكر وعمروعثمان، فرجف بهم فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبيوصديق وشهيدان." (رواه مسلم).
وقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وذاتيده أبوبكر." (رواه الترمذي). وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقضي في مال أبي بكر كمايقضي في مال نفسه.
وعن أبي هريرةرضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر." (رواه أحمد). فبكى أبوبكر وقال: "وهل أنا ومالي إلا لك يارسول الله."
هذا الحب الذي عاش به النبي لصديقه ورفيق رحلة حياته، يعلمنا كيف تكون الصداقة خالية من المصالح الشخصية، ويعلمنا قيمة الصديق الحقيقي، وقيمة وجوده إلى جوارنا في الحياة، ويعلمنا قيمة الاحتفاظ بهذا الصديق، وكيف نكون له خير عون في الحياة، وكيف نشبعه من صداقتنا، وما تحويه هذه الصداقة من حب ورحمة.
الحب لمن لم يرهم بعد:
أن تحب شخصا تعرفه وتخالطه، فهذا لا يدعو إلى العجب، ولكن أن تحب شخصا لم تره بعد، فهذا حقا ما يدعو إلى العجب!
نحن أتباع النبي لم نره ولم يرنا، ومع ذلك يخبر النبي أصحابه بحبه لنا، حين يقول للصحابة: "وددت لو رأيت إخواني. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين يأتون من بعدي ويؤمنون بي ولم يروني." (رواه الإمام أحمد وأبو يعلى).
هذا التعبير عن الحب والاشتياق لأناس لم يرهم، ما هو إلا خير تعبير عن طبيعة هذه الشخصية العظيمة التي تحيا بالحب وتعبر عن حبها في كل مناسبة.
إنه الحب للخير وللصلاح وللفطرة السليمة. فما الذي يدعوه لحب أناس لم يرهم بعد، سوى أنهم يتمتعون بالخير والتقوى، رغم أنهم لم يروا حامل هذه الرسالة؟
ما أروع مشاعرك يا رسول المشاعر. ما أعظمك حين تغرس في نفوسنا حب الخير والإيمان بتركك هذه الرسالة لنا!
وما أعظمك حين تعلمنا كيف نحب من حولنا، ولو لم يكونوا أهلنا، فنحبهم لأنهم يسيرون على درب الخير والصلاح!
حبه للمكان الذي عاش فيه:
حب الأوطان أنشودة طالما تغني بها الشعراء، وتباروا فيمن يعبر عن حبه لوطنه أكثر ممن سبقوه. ولو أمعنا النظر، لوجدنا لوحة فنية رقيقة، يرسمها النبي بكلماته العذبة، حين يعبر عن حبه لوطنه. فهاهو صلى الله عليه وسلم حين يخرج من مكة مهاجرا إلى المدينة، إذا به وعيناه تتعلقان بحدود وطنه، وقلبه يكاد لا يفارقه الحب لهذا الوطن، ولسانه ينطق بهذه المشاعر التي تخالج نفسه الكريمة، ويقول وهو ينظر إلى بلده ودموعه تلامس خده الكريم، في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي، عن عبد اللّه بن عدي بن الحصراء أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحَزْوَرَة مِنْ مَكَّةَ يَقُول: "وَاللَّه إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللَّهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللَّهِ إِلى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ." (رواه الترمذي).
نعم، رغم كل ما عانى منه النبي في هذا البلد من متاعب وشقاء وهموم، إلا أنه كان يحب بلده بكل كيانه وبكل ذرة في قلبه. وعلى الرغم من أن مكة كانت معقلا للشرك والظلم والبطش، إلا أن قلبه ظل يفيض حبا لهذا البلد. إنها مشاعر سامية تربطه بوطنه، وعلاقة وجدانية بينه وبين الأرض التي أقلته، وحب حري بكل مواطن أن يتعلمه من هذا المحب، ويشعر به تجاه الأرض التي ولد فيها وعاش وتربى فيها، مهما قاسى وعانى في بلده.
حبه لبناته:
الأبوة مشاعر دافئة تعيش بين جوانح الآباء، ولكن القليل من الآباء من يعرف كيف يعبر عن حبه لبنيه، وأقل من ذلك: أولئك الذين يعرفون كيف يعبرون عن مشاعرهم لبناتهم بوجه خاص.
كان النبي صلى الله عليه وسلم مثلا يحتذى به في التعامل مع بناته، وكان يحب فاطمة ابنته رضي الله عنها حبا جما، فيقوم لها إذا دخلت عليه، ويقبلها ويجلسها في مجلسه.
تقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة. وكانت إذا دخلت عليه، قام إليها، فقبلها، ورحب بها، وكذلك كانت هي تصنع به." (رواه مسلم).
وكان من حبه لها صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يخرج من المدينة مسافرا حتي يرى فاطمة، ويكون آخر عهده بالمدينة رؤية وجهها الكريم. وحين يعود إلى المدينة، يكون أول عهده المسجد، فيصلي به ركعتين، ثم يذهب إليها متشوقا وقلبه مملوء بالاشتياق لها.
الحب بين فاطمة والنبي، كان حبا أبويا عظيما. فهاهو النبي لم يطق فراق فاطمة حين تقدم إليها علي بن أبي طالب، طالبا الزواج منها، فبحث عن وسيلة لتكون إلى جواره. وكم كانت فرحة النبي حين وفر أحد الصحابة مسكنا لفاطمة قريبا من الرسول صلى الله عليه وسلم.
حبه للصلاة:
لم يكن حب النبي صلى الله عليه وسلم يقف عند حدود الأشخاص، بل كان أعظم من ذلك. فها نحن نرى النبي صلى الله عليه وسلم يحب الصلاة حبا جما ويصفها بأنها قرة عينه ويقول: "وجعلت قرة عيني في الصلاة." (صحيح الجامع الصغير).
ياله من لفظ جميل؛ يعبر عن عظيم الحب لهذه العبادة التي تملكت من قلب النبي صلى الله عليه وسلم. وكان النبي إذا حزبه أمر، هرع إلى الصلاة وقال: "أرحنا بها يا بلال." (رواه أحمد وأبو داود).
فأي موضع يجد الإنسان فيه راحته أكثر مما يجدها مع من يحب وما يحب؟
وكان النبي يطيل في صلاته حين يصلي منفردا؛ فهي راحة قلبه.
صح عن عائشة رضي الله عنها وقد سئلت: كيف كانت صلاته صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً." (رواه البخاري).
وحين يعمق بنا المسير أكثر في بحار الحب عند النبي، نجد دعوة مفتوحة لنشر الحب والمودة بين الناس، وجعل هذا الحب وسيلة وطريقا إلى الجنة.
وحين يجعل النبي الحب في الله بين الناس وسيلة للوصول إلى الفوز بظل الله في حر يوم القيامة، فلابد وأن هذا عرض موفق لتجارة رابحة. الحب مقابل ظل الله عز وجل! ومن منا لا يحلم بهذه المكانة؟!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلّهم فيظلّي يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي." (رواه مسلم).
ولقد كان حرص النبي شديدا على إرساء قواعد الحب في قلوب الناس، وكان يبرز مزايا هذا الحب ببراعة لا مثيل لها. فكان يخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه كلما زاد حبنا لمن حولنا حبا لله وفي الله، فزنا بحب الله لنا. قال صلى الله عليه وسلم: "ما تحاب رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز وجلأشدهما حبا لصاحبه." (السلسلة الصحيحة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن رجلا زارأخا له في قرية، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أنيأحببته في الله تعالى. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه." (رواه مسلم).
ليس ذلك فحسب، بل والإيمان عند رسول الله مقترن بحب الآخرين، وحب الخير لهم. فها هو النبي يقدم لنا دعوة واضحة وصريحة لحب الخير للآخرين، وأن نعاملهم كما نحب أن يعاملونا.
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا يؤمن أحدكم حتىيحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه." (رواه الشيخان).
إذاً، علينا بالحب في الله الذي لا تعكره المصالح ولا تدنسه الشهوات .والنبي لم يوصنا بالمحبة ويدعنا نعتمد على أنفسنا، بل أوضح لنا بعض الوسائل التي تؤصل الحب بين الناس حين قال: "تهادوا تحابوا."
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا." (رواه البيهقي).
فحين يتهادى الأحبة، تزداد القلوب مودة وحبا. وحين تصلك هدية رقيقة ممن تحب، تجد قلبك قد ازداد حبا وتقديرا لهذا الحبيب.
إنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا وسائل وطرقا من شأنها أن ترقق القلوب وتجعلها ألين وأقدر على استيعاب مشاعر الحب من الآخرين.
ومن هذه الوسائل أن النبي كان حريصا على أن نظهر مشاعرنا لمن نحب. فكان يقول: "إذا أحب أحدكم أخاه في الله، فليبين له، فإنه خير فيالألفة ، و أبقى في المودة." (السلسلة الصحيحة).
والحب عند النبي له ضوابط عقلية رائعة. فنبي الحكمة لم يدعنا لمشاعرنا تتحكم فينا كما يحلو لها، فهو يعلم ماذا يفعل الأخلاء بعضهم ببعض حين يكونون أتقياء، وحين يكونون غير ذلك. فكان حرص النبي بالمحبين شديدا. فكما علمهم كيف يحافظون على من يحبون وكيف يصلون بهذا الحب إلى منزلة سامية، كان يعلمهم كيف يختارون من يحبون ويصادقون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوءكحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه،وإما أن تجد منه ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجدمنه ريحا منتنة." (متفق عليه).
إنه مثل رائع يعلمنا كيف نختار الصديق الذي يعاشرنا في رحلة الحياة. فإما أن نختاره بوعي وإدراك، فيكون لنا كحامل المسك لا نجد منه سوى الخير، وأما أن يكون كنافخ الكير الذي لا تأتينا من ورائه سوى الأضرار. ويقول النبي في توجيه آخر:"المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل." (رواه أبو داود والترمذيّ).
والنبي كما يوضح لنا أثر الحب والصداقة على الناس في الدنيا، يوضح لنا كذلك أثر هذا الحب علينا في الآخرة. فإذا كنا نحب الأخيار الأبرار، فنحن معهم يوم القيامة. وهي دعوة لنا لكي ننتقي أصدقاءنا وأحبابنا وألا تضيعنا عواطفنا وتغرقنا في بحار علاقات من شأنها أن تغير فطرتنا وتنحدر بنا نحو الرذائل وسوء الخلق.
في الصحيحين من حديث أنسرضي الله عنهأن النبيصلى الله عليه وسلمقال : "المرء مع من أحب."
ترى كيف يكون المجتمع حين يحب كل فرد منه أخاه كما يحب نفسه؟ وكيف يكون حال المجتمع، حين يسعى أفراده للعيش بحب واختيار دقيق لمن يحبونه ويشاطرونه رحلة الحياة؟ لابد وأن البشرية لو تمسكت بهذه اللمسات الدافئة، ستعيش أهنأ ما تكون.
إن البشرية اليوم في حاجة ماسة وملحة لعودة الحب إليها وللعيش بالحب بعدما طغت عليها الماديات، وغلظت المشاعر والشهوات.
البشرية بحاجة ملحة إلى عودة معاني الحب السامية، التي لا يمكن اختزالها في علاقة بين رجل وامرأة، بل تمتد لتشمل الأهل والأصدقاء، حتى المكان الذي نعيش فيه. ولن تجد البشرية إنسانا يكون خير قدوة لها في الحب مثل محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعث برسالة كلها الحب، وعاش بالحب، ومات بالحب.
المزاح والترويح عن النفس والآخرين في حياة النبي:
رغم الأعباء الثقيلة واالمهام الجسام التي كان رسول الله متحملا لها، إلا أنك ترى وجهه دوماً مشرقاً بالبشر والحبور.
ابتسامة عذبة لا تفارق وجهه المملوء تفاؤلا وسرورا. لم يُر قط عابسا ولا متجهما، بل كان دوما ناشراً لجو المرح والبهجة في المكان الذي يتواجد فيه.
يريد للبشرية أن تغلف حياتها السعادة.. يمزح ويمازح.. يبتسم ويداعب.. يمازح بأدب وذوق.. يعلم ويربي بمزاحه.. يعلمنا كيف نجعل من المزاح وسيلة للتربية تارة ووسيلة لنشر الحب تارة أخرى.
مزاحه يجعلك تتعلق به وتحبه، وتشعر أنك أمام رجل مختلف عن كل البشر. أنّى له بهذا الوقت، وهذه القدرة على المرح والمزاح، وهو في ما هو فيه من تحمل لمهام الدعوة ونشر الإسلام؟
ولعل أبرز ما يلفت الأنظار في جانب الحب عند رسول الله أنه كان يحث الناس ويعلمهم كيف يعبرون عن مشاعرهم، ويوضح لهم بمواقفه الرقيقة قيمة التعبير عن هذا الحب لدى الآخرين. فقد حدث ذات يوم أن قال أحد الصحابة لرسول الله: إني أحب فلانا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب أحدكم أخاه فليُعلمه أنه يحبه." (رواه أحمد وأبو داود).
ما أعظمك يا حبيب الله. حريص أنت دوما على الرقي بمن حولك في كل شيء، حتى في نشر الحب. تريد لنا الوصول إلى أعلى الدرجات.
تعلمنا قيمة التعبير عن مشاعرنا لمن حولنا، وألا نجعل هذه المشاعر حبيسة الأدراج، وإلا فكيف يعرف الصديق أننا نحبه بينما لا نخبره بهذه المشاعر التي نشعر بها تجاهه؟
سيرة النبي محمد دعوة مفتوحة للحب؛ دعوة لكي لا نوصد الأبواب أمام مشاعرنا النبيلة والسامية، دعوة للتواصل بالحب والتصريح لأصدقائنا وأزواجنا بحبنا لهم، فهذا أحرى بأن يدوم الحب بين القلوب، ويشعر الطرف الآخر بقيمته لديك.
حبه لزوجاته صلى الله عليه وسلم:
من من الرجال اليوم يمكنه أن يقف أمام كل من يعرف ويقول أحب زوجتي، نعم أحبها، بل هي أحب الناس إلي؟
إنه عظيم حقا من يعبر عن مشاعره لزوجته على الملأ، رغم ما يقال من أن الرجال ينسون المشاعر عندما يتزوجون، ولا يلقون لها بالا عندما يمرون بعتبة الزوجية. إلا أن هذا الأمر بعيد تماما عن شخصيات فهمت الإسلام على حقيقته، وأبعد ما يكون عن شخصية النبي الذي علم الأزواج قيمة التعبير عن الحب لزوجاتهم، وقيمة أن يحيا الإنسان في بيته بالحب.
فهاهو النبي يتعامل مع عائشة بكل حب، وحين يُسأل عن أحب الناس إليه يقول: عائشة. ففي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية قِبَل نجد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال:عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها."
وكأن النبي يقول لنا إن أكثر إنسان أحبه قلبه هو عائشة، فهو يحمل لعائشة رضي الله عنها من المشاعر أكثر مما يحمله لغيرها منالناس. وهي أحب الناس قاطبة إليه، وهو لا يستحيي منهذا الأمر، أو يكتمه، بل يعلنه ويعرب عنه على الملأ.
هذا النبي المحب لزوجته، يعلم الرجال فن الرومانسية مع الأزواج، حين تشرب عائشة، فيبحث عن موضع فمها، ليشرب منه.
عن عائشة -رضي الله عنها-قالت: "كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي، فيضع فاه على موضع فِي." (رواه مسلم).
صورة رومانسية حقة، تأتينا من رجل يحمل أعباء لا مثيل لها. ومع ذلك، لا تطغى عليه أعباء وهموم الحياة، ولا تؤثر على بيته. صورة تعلمنا كيف يكون التعامل بحب ورومانسية مع شريك الحياة.
ولعل أصدق صورة تعبر عن حقيقة الحب في حياة النبي أنه حين مات، مات على صدر زوجته عائشة التي أحبها قلبه كثيرا.
مشهد يعجز عن وصفه أي تعبير وأي كلمات: النبي الخاتم تنتهي حياته بلمسة حب، حين يموت في أحضان زوجته.
لماذا لم يمت وهو يحج؟!
لماذا لم يمت وهو يصلي؟!
وهو ساجد لله عز وجل؟!
إنها رسالة عظيمة مؤداها: إن هذا الدين هو دين الحب والحنان والمودة، وهذا النبي محب للحب ولكل من حوله وما حوله. محب للبشرية جميعا.
فمن الذي بعد كل ذلك، يمكنه أن يغفل هذا الجانب في حياة رسولنا؟
من من الناس يمكنه أن يمر بحياة النبي، دون أن يستنشق عبق هذه المشاعر ويأخذ بعضا من نفحاتها، ليتعلم كيف يسير على درب النبي، فيحيا بلا متاعب في حياته الخاصة؟
حبه لأصحابه صلى الله عليه وسلم:
العلاقة بين النبي وأصحابه، علاقة حب قوية الأواصر، متينة الأركان.
أبو بكر رفيق رحلة الحياة، تربطه بالنبي علاقة إنسانية رائعة، وعلاقة حب عظيم. ولقد بدت دلائل هذا الحب من الرسول لأبي بكر، حين استعد للهجرة. فقد اختار أبا بكر ليكون رفيقه في هذه الهجرة، وليكون حامل سر هذه الهجرة.
كان النبي يحب أبا بكر كثيرا، ويقضي معه أجمل أوقاته، ويعبر له عن حبه، ويتكلم كثيرا عن فضل أبي بكر.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلا. إن صاحبكم خليل الله." (رواه مسلم).
وقد وصفة الرسولصلى الله عليه وسلم بالصدّيق، فعن أنس بن مالكرضي الله عنه قال: صعد رسول اللهصلى الله عليه وسلم أُحداً ومعه أبوبكر وعمروعثمان، فرجف بهم فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبيوصديق وشهيدان." (رواه مسلم).
وقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وذاتيده أبوبكر." (رواه الترمذي). وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقضي في مال أبي بكر كمايقضي في مال نفسه.
وعن أبي هريرةرضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر." (رواه أحمد). فبكى أبوبكر وقال: "وهل أنا ومالي إلا لك يارسول الله."
هذا الحب الذي عاش به النبي لصديقه ورفيق رحلة حياته، يعلمنا كيف تكون الصداقة خالية من المصالح الشخصية، ويعلمنا قيمة الصديق الحقيقي، وقيمة وجوده إلى جوارنا في الحياة، ويعلمنا قيمة الاحتفاظ بهذا الصديق، وكيف نكون له خير عون في الحياة، وكيف نشبعه من صداقتنا، وما تحويه هذه الصداقة من حب ورحمة.
الحب لمن لم يرهم بعد:
أن تحب شخصا تعرفه وتخالطه، فهذا لا يدعو إلى العجب، ولكن أن تحب شخصا لم تره بعد، فهذا حقا ما يدعو إلى العجب!
نحن أتباع النبي لم نره ولم يرنا، ومع ذلك يخبر النبي أصحابه بحبه لنا، حين يقول للصحابة: "وددت لو رأيت إخواني. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين يأتون من بعدي ويؤمنون بي ولم يروني." (رواه الإمام أحمد وأبو يعلى).
هذا التعبير عن الحب والاشتياق لأناس لم يرهم، ما هو إلا خير تعبير عن طبيعة هذه الشخصية العظيمة التي تحيا بالحب وتعبر عن حبها في كل مناسبة.
إنه الحب للخير وللصلاح وللفطرة السليمة. فما الذي يدعوه لحب أناس لم يرهم بعد، سوى أنهم يتمتعون بالخير والتقوى، رغم أنهم لم يروا حامل هذه الرسالة؟
ما أروع مشاعرك يا رسول المشاعر. ما أعظمك حين تغرس في نفوسنا حب الخير والإيمان بتركك هذه الرسالة لنا!
وما أعظمك حين تعلمنا كيف نحب من حولنا، ولو لم يكونوا أهلنا، فنحبهم لأنهم يسيرون على درب الخير والصلاح!
حبه للمكان الذي عاش فيه:
كانت الجزيرة العربية تعيش في أحط حالات انعدام الأخلاق البشرية. فلو عدنا بذاكرتنا إلى الوراء، حيث الزمن الذي سبق بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لوجدنا ما يشيب له شعر الوليد من هول ما كان سائدا.
من أبشع ما يمكن أن يتصوره العقل، تلك الأمور التي كانت تحدث في ربوع الجزيرة العربية من وأد للبنات!
بأي ذنب تضيع تلك الروح التي لم يكن يعبأ بها المجتمع، ولا يلقي لها بالا، ولا يضعها في حسبانه؟ تلك الروح التي كانت تفقد حياتها لأنها ليست ذكرا. ومن الذي كان يسلبها حياتها! إنه أبوها!
أي قسوة تلك وأي انحراف أخلاقي هذا، حين يئد الأب فلذة كبده بيديه؟!
لقد كان الرجال في الجزيرة العربية يكرهون إنجاب الإناث، ويعتريهم الهم والضيق حين يشاء الله أن يرزقهم بأنثى.
يقول الله عز وجل مصورا لهذه الصورة البشعة:
"وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مُسوّداً وهوكظيم يتوارى مِن القوم مِنْ سُوءِ ما بُشِّر به أيمسِكُهُ عَلى هُون أمْ يَدسُّهُفي التُراب ألا ساء ما يحكمونَ." (سورة النحل 59).
وقد ذكر ابن الأثير في كتابه «أُسد الغابة» في مادة: قيس: أن النبيـ صلى الله عليه وآله وسلم ـسأل قيساً عن عدد البنات اللاتي وأدهنَّ في الجاهلية: فأجاب قيسٌ بأنه وأداثنتي عشرة بنتاً له.
وقد افتخر «الفرزدق» بإحياء جدِّه للموؤدات في كثير منشعره إذ قال:
ومنّا الّذي منَع الوائدات وأحيا الوئيد فلميُوأد
هذا، ولم يقتصر الوضع على ذلك الحد، بل انتشرت المهانة للمرأة في المجتمع الجاهلي. كانت المراة كسقط المتاع إذا مات زوجها، أصبحت إرثا لقرابته يفعل فيها ما يشاء. فربما تزوجها لو كانت امرأة ذات حسن وجمال، أو ترد عليه الصداق الذي أخذته من زوجها الميت، أو ربما حبسها حتى الموت، إن لم يكن له حاجة في الزواج منها.وقد افتخر «الفرزدق» بإحياء جدِّه للموؤدات في كثير منشعره إذ قال:
ومنّا الّذي منَع الوائدات وأحيا الوئيد فلميُوأد
وأما المرأة المطلقة، فلم يكن من حقها أن تتزوج برجل آخر، إلا بعدما يأذن لها مطلقها، وربما أعجبه وأرضاه أن يتركها هكذا تعاني في حياتها نكاية بها. وإذا أذن لها، فيكون ذلك مقابل أن يأخذ منها مهرها الذي يهبه لها زوجها الثاني.
لم تكن المرأة كذلك تتمتع في هذا المجتمع بأي من الحقوق المالية، فلم تكن ترث ولم يكن لها ذمة مالية مستقلة.
ومن ناحية أخرى، كانت الأحقاد والكراهية والعصبية الجاهلية هي الأخلاق السائدة آنذاك بين قبائل العرب. فقد كانت رحى الحرب دائرة لسنوات عديدة بين الأوس والخزرج وهم الذين يقطنون المدينة نفسها ويتجاورون، إلا أنهم خضعوا لأحقاد النفس وسوء الخلق، فأصبحوا أشد الناس عداوة لبعضهم بعضا.
وكانت الأطماع المادية هي المسيطرة على عقول العرب، فانتشرت عادة النهب والإغارة على القبال الأخرى.
وكانت العبادات متنوعة بين القبائل؛ فمنهم من يعبد الشمس كحمير، ومنهم من يعبد الجن كخزاعة، ومنهم من يعبد القمر ككنانة. وكانت القبائل تعبد الكواكب؛ لكل قبيلة كوكب تعبده، وكأنه هو الذي خلقها!
أما الغالبية العظمى من أهل الجزيرة العربية، فقد كانت تعبد ما يزيد على ثلاثمائة وستينصنماً. وكانت قريش التي بها البيت الحرام، تتاجر بالدين وتجعله مصدرا أساسيا من مصادر الدخل القومي لديها، فكانت تتخذ حول الكعبة العديد والعديد من الأصنام، يستغلون بها الناس، ليعبدوا هذه الحجارة، وتزداد وارداتهم التجارية والمادية إثر هذه العبادة.
حال بقية العالم قبل البعثة:
أما لو تطرقنا إلي الوضع العالمي، فليست الحال بأفضل مما رأينا، فقد كانت الإمبراطوريتان السائدتان في ذلك الوقت هما إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم، وكانت هاتان الإمبراطوريتان سيدتي العالم في ذلك الوقت، بلا منازع أو شريك.
انتشر الظلم والقهر في بلاد الروم؛ فكان الشعب أحوج ما يكون للمسة حانية تحتضنه، وراية عدل ترتفع في سمائه، لتزيح عنه عبء هذا الظلم.
كذلك انتشرت الحروب الخارجية والنزاعات الداخلية، نتيجة الجدل العقيم بين الفئات المختلفة داخل الدولة الرومية، مما أضعف هذه البلاد وجعل الفوضى تعم فيها، وكذلك
السخط والحنق لما يمر به الشعب من قهر وظلم وانتهاك لبشريته وانتشار للمذابح في هذه البلاد.
كانت هذه البلاد تعيش في حالة من الظلم الشديد للشعوب؛ فقد فرضت الضرائب الباهظة على الشعوب الكادحة. أما الطبقة الحاكمة، فقد سبحت في بحور الملذات والترف والإسراف والانشغال بالملذات عن مصالح الشعوب.
كانت حال الشعوب في أوربا حالا عجيبة؛ فقد كانت تعيش في ظلمات الجهل والأمية، لا تعرف عن العلم شيئا. تسيطر الخرافات على تفكيرها. والمغالاة في بعض الأفكار هي طبيعتها. فقد كانوا (على سبيل المثال) يعقدون المؤتمرات لبحث حقيقة المرأة وطبيعتها وهل هي حيوان أم إنسان. وكانت أوربا تعيش أقصى حالات اللامبالاة بعدما اعتادوا على الخضوع والاستكانة.
أما في إيران، فقد كان الوضع على الدرجة نفسها من السوء. فقد كان هناك تمايز طبقي في ذلك المجتمع: طبقة تسيطر عل الموارد المالية وهي الطبقة العليا. أما بقية الشعب، فقد كانت ترضخ للمعاناة والفقر والحرمان، بل تتحمل أعباء بذخ هذه الطبقة على كاهلها. وكان الفقراء محرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية، وكانوا يعيشون كالعبيد.
أما التعليم، فكان مقصورا على الأمراء والأثرياء فقط، وحرم باقى الشعب من حقه الطبيعي في اكتساب العلوم والمعارف، وعاش في أحضان الجهل.
وكانت الحكومة الفارسية في هذه المرحلة تعاني من الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار.
كذلك انتشرت الإباحية والفساد وحالات هتك الأعراض. وكان الملوك يعتبرون أنفسهم من نسل آخر مختلف عن البشر، ففيهم يجري دم الآلهة، ولهم الحرية في أن يفعلوا في الناس ما يشاؤون.
وكان العالم في ذلك الوقت يعيش تحت لواء الحروب المتواصلة بين الفرس والروم، كما كانت الحروب قائمة بين القبائل العربية، وكأن الحرب هي الملاذ الوحيد آنذاك للعيش في هذه الحياة!
سنوات طويلة من الحروب المتواصلة، والفقر والظلم والاستبداد والقهر للشعوب. فكانت هذه الشعوب قد فاض بها، وأصبحت في أمس الحاجة إلى نهر طاهر ترتوي منه، وتغسل فيه همومها، وعدل صارم، لا يجامل الأثرياء على حساب الفقراء.
هذه هي حال العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. كان العالم قد غلفه الجهل والظلم فأبي الله إلا أن يرسل من يزيح صخرة هذا الجهل والظلم ويكون منبعا للرحمة بالبشرية، فكان قدوم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال ربه فيه وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
كانت المجتمعات بالفعل مهيأة تماما لاستقبال رسالة جديدة أساسها الأخلاق الكريمة؛
رسالة العدل ركيزتها، والرحمة والأمانة واحترام بشرية الإنسان، دعائمها.
كان لا بد من الرحمة بهذا العالم الذي أرهقت المظالم كاهله. رحمة يبعث الله بها رجلا ذا خلق عظيم. فبعثه الله عز وجل لينير ظلمات الحياة، ولتشرق فيها شمس الأخلاق من جديد.
هذا الخلق الذي تمتع به ذلك الرجل، هو الذي باتت البشرية في حاجة ملحة للعودة إليه في هذا الزمان، بعدما وقع هذا الانهيار الأخلاقي الذي يغلف حياة إنسانية هذا اليوم.
لذلك، كان من البديهي أن يكون هناك تعريف بصاحب هذا الخلق وهذه الرسالة التي تحتاجها البشرية، وأن نلقي الضوء على الجانب الأخلاقي والإنساني في حياة رسول الأخلاق والرحمة والعدل محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي شهد له أعداؤه بدماثة الخلق وبالعظمة الإنسانية، والذي شهد له ربه قبل أي أحد بأنه صاحب أعظم خلق:
"وإنك لعلى خلق عظيم."
مقدمة
مر النبي صلي الله عليه وسلم قبل بعثته بمراحل تركت فيه أبلغ الأثر، ومن هذه المراحل:
مرحلة اليتم:
فهذا القلب الذي ذاق مرارة اليتم والحرمان من عطف الوالدين، تعلم كيف يكون رحيما بمن حوله، حتى وإن عادوه، وكيف يكون حريصا عليهم وإن عذبوه وأهانوه. فهو لا يريد لهم الخلود في النار أو ذوق لهيبها، بل يريد لهم التنعم بمرضاة الله والخلود في جناته.
الفقر وعدم الثراء:
لم يكن النبي محمد يتمتع بالثراء بين أقرانه ومجتمعه، بل كان رجلا فقيرا، يعيش كما يعيش عامة الناس في مجتمعه، يأكل كما يأكلون، ويلبس كما يلبسون.
الأسرة العريقة:
رغم ظروف الفقر التي نشأ فيها النبي، إلا أنه كان من أسرة عريقة، لها مكانتها في الجزيرة العربية. وما من أحد إلا ويعترف بفضل هذه الأسرة وعراقتها. هذا النسب الذي انتسب له النبي، جعل منه رجلا ذا خلق قويم، لا يعرف البعد عن الفطرة، ولا يعرف التعامل بأسلوب السفهاء، يصل الرحم، ويعين ذا الحاجة، ويغيث الملهوف.
شجرة الأسرة:
اتفق النسابة العرب على أن نسب النبي هو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (وهو شيبة وقيل شيبة الحمد) بن هاشم (وهو عمرو) بن عبد مناف (وهو المغيرة) بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (وهو قريش ومعناها الذي قرّش أي جمع أجزاء القبيلة) بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
هذا النسب العريق، اعترف به أبو سفيان حين سأله هرقل: كيف نسبه فيكم؟ فأجاب: هو فينا ذو نسب. فقال هرقل: فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
رعي الغنم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا ورعى الغنم." (رواه البخاري).
هذا العمل الذي اختاره الله للأنبياء، واختاره لرسوله الكريم؛ محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن سوى لحكمة عظيمة، ولما يتركه في نفس صاحبه من خصال فاضلة.
إن الرجل الذي يعمل في هذا المجال، ويقوم على رعاية هذه الأغنام، ويتعامل معها بكل بساطة وتلقائية، لحري به أن يكون التواضع سمة بارزة في خلقه؛ هذا التواضع الذي من شأنه أن يجذب الناس إليه، وإلى رسالته فيما بعد.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تواضعا، فقد كان يخالط الفقراء والمساكين ويتعامل معهم بكل تقدير واحترام.
ولم تقف مزايا رعي الغنم الذي عمل به النبي، عند هذا الحد، بل لقد أكسب النبي الصبر الشديد. فقد كان يخرج بهذه الأغنام في قيظ الصحراء الملتهبة، يصبر على العطش الشديد والحر الشديد، ويصبر على الأغنام ورعايتها من طلوع الشمس حتى غروبها. وكان يصبر على جمع شتاتها، وهي التي تنتشر يمينا وشمالا، فأكسبه ذلك صفة الصبر في حياته عامة، فكان أصبر الناس على أذى قومه له، وأصبر الناس على تكذيب من حوله له، وعلى جهل الجاهلين معه، فكان أول أولي العزم الذين صبروا حتى نهاية حياتهم.
وهناك صفة رائعة، لا يمكننا أن نغفل عنها في معرض حديثنا عن هذا الموضوع، وهي التأمل الذي يتيحه هذا العمل لصاحبه. لقد كان النبي يتأمل في ما حوله من خلق الله، في السماء وأفقها، وفي الأرض ورحابها. كل هذا، جعله يعلم أن للوجود خالقا أعلى، وأنه محال أن تكون هذه المخلوقات العظيمة قد جاءت نتاجا للصدفة، أو جاءت بها هذه الأصنام الصماء التي يعبدها قومه.
وللشجاعة نصيب لابد وأن يذكر حين نتكلم عن رعي الغنم. فهذا الذي يرعى الغنم، يواجه خطر الحيوانات الضارية مثل الذئاب، ويواجه اللصوص الذين يسعون لنهب ما لدى غيرهم.
ترى كيف يكون نصيب شخص مثل هذا من الشجاعة؟
لابد وأن هذه الخصلة ستكون مكونا أساسيا في شخصيته.
وهذا ما ورد عن النبي بالفعل، حين وصف علي بن أبي طالب شجاعته قائلا:
"كنا إذا اشتد بنا البأس واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فمايكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى اللهعليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو." (رواه أحمد والطبراني والنسائي).
أما الرحمة، فقد كانت صفة ظاهرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لا وهو الذي يرعى الغنم، ويعاملها برفق وإحسان، ويحنو عليها، ويعاملها كما لو كانت بشرا يفهم ويعي، ويكون إلى جانبها إذا هي مرضت، ويسقيها إن عطشت ويطعمها إن جاعت.
وهذا ما يظهر في أحاديثه، حين يوصي بالرحمة بالحيوان، ويجرم تعذيب الحيوانات. وحري بالذي يرحم هذه الكائنات الضعيفة، أن يكون أرحم الناس بالبشر وأحرصهم على مصالحهم.
ورعي الغنم، أكسب النبي صفة الاعتماد على النفس، وحب الكسب من عمل اليد.
روى البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عمل يده."
كاتب الموضوع : sherif المنتدى : تعريف رسول الله للمسلمين و العالم
هذه الطبيعة البشرية التي تسعى لكسب قوتها بيديها، تكون حرة في اتخاذ قرارتها، لا تخضع لأحد، ولا تنحني لأي كائن كان.
ومن أعظم ما في رعي الغنم، أن هذا العمل يعوّد صاحبه البحث عن كل ما هو جيد لتلك الأغنام، من مراع خصبة وأماكن آمنة بعيدة عن المخاطر. وهذه الأمور ركائز أساسية في حياة الرسل عامة، حيث يبحثون عن الخير لأمتهم، ويسعون لتجنيبها ويلات البعد عن الله وعن الفطرة الإنسانية.
ظروف مجتمعه صلى الله عليه وسلم:
كان للظروف الاجتماعية التي أحاطت بالنبي في مجتمعه أثر واضح في تكوين شخصيته، فقد كان يعيش في مجتمع شديد الظلم، يعامل فيه الفقراء بازدراء شديد وبتفرقة كبيرة بين فئات المجتمع. كان الظلم واضحا، سواء كان ظلما للعبيد، أو المرأة، أو الفقراء.
هذا الظلم الشديد الذي كانت تعيشه الجزيرة العربية، جعل من النبي باحثا عن العدل للبشرية، حاملا في قلبه رغبة في مد يد العون لمجتمعه ولمن حوله، ليقيهم مغبة هذا الظلم البين. وقد تجلى هذا كثيرا في أحاديث النبي، وحين آخي بين المهاجرين والأنصار، فكان الغني يؤاخي الفقير والسيد يؤاخي العبد، ولا يجد في ذلك عيبا يعيبه، بل كان ذلك أمرا يسعى إليه لينال رضا الله عنه.
التجارة:
حين شب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمل في التجارة، وكانت هي مهنته التي يعيش منها. كان يتاجر ويتخلق بأخلاق الشرفاء، فهو من أصل شريف. وكان يتاجر وهو يتخلق برحمة الرحماء. تلك الرحمة التي تخلق بها لظروف يتمه. وكان يصبر في عمله صبرا عظيما كما علمه رعي الغنم. وقد تركت التجارة فيه أثرا واضحا؛ فقد تعلم من ممارسته للتجارة فن التفاوض مع غيره، مما أكسبه قدرة على التفاوض والإقناع والتأثير الإيجابي على من حوله.
كذلك، فقد أتاحت له التجارة فرصة التعامل مع فئات طبقية مختلفة وجنسيات مختلفة وطبائع بشرية متنوعة، مما أصقل قدرته على معرفة معادن الناس وفهمهم وتفهم أسلوبهم في التفكير والتعامل.
والتجارة لا يقف تأثيرها على هذه العوامل فحسب، بل تمتد لتعطي ممارسها قدرات هائلة على الإقناع، وتفهم احتياجات من يتعامل معهم، وفق إمكانياتهم.
وقد جعل عمل الرسول في التجارة منه اقتصاديا ماهرا، استطاع أن يبني اقتصاد دولة لا تملك غير الحروب والمنازعات بين أهلها، علاوة على وفود مهاجرين جدد إليها.
والتجارة تغرس في نفس صاحبها (إن كان من ذوي الأخلاق النجيبة) خلق التسامح والتجاوز عن الآخرين. وهذا ما كان يوصي به النبي التجار حين يقول:
"رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى." (رواه البخاري وابن ماجه).
هذه السجايا التي كانت لرسول الله، كانت نتاج تربية ربه له وتأديبه له، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: أدبني ربي فأحسن تأديبي." (رواه ابن السمعاني). ثم نتاجا للظروف التي مر بها النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
الباب الأول
التعريف بالنبي ومكانته
التعريف بالنبي ومكانته
إذا أردنا أن نعرف ونوضح مكانته صلى الله عليه وسلم، سنجد الكثير والكثير من الفضائل، ولكننا سنبدأ من حيث يجب أن تكون البداية. وسنعرّف بنسب هذا النبي الذي جاء إلى الدنيا حاملا لها الخير والسعادة والقيم والفضائل، هذا النبي الذي سطعت شمس رسالته على العالم أجمع، فأضاءت ظلمات غلفت النفوس لسنوات طوال، هذا الإنسان الذي أراد للإنسانية أن تعيش في رحابة الأخلاق، وتتحرر من قيد الرذائل والمعاصي.
مكانة النبي في قريش:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمتع بمكانة خاصة بين قبيلته؛ فالجميع يبجلونه ويسمونه بالصادق الأمين، ويرضون به حكما في أشد المواقف نزاعا، حتى قبل أن يبعث نبيا. ولعل خير مثال على ذلك، حادثة وضع الحجر الأسود. فحين تقادم بنيان الكعبة وصار بنيانها مرتفعاً قدر القامة، هدمتها قريش واجتمعوالبنائها، وكان ذلك قبل بعثة النبي (صلى الله عليه و سلم) بخمس سنين. فجزأوا البنيانأجزاء، واختصت كل جماعة منهم بقسم تبنيه. ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، اختصموافيمن يحمل الحجر الأسود ويضعه في مكانه الذي سوف يستقر فيه، حتى كادت تكون بينهمحرب وقتال. ثم احتكموا إلى أول داخل عليهم وأول قادم إليهم. وكان نبينا محمد صلى الله عليه و سلم أول داخل عليهم، فقالوا: هذا الأمين قبلنا به حكماً. فقال: هلمثوباً. فجيء بثوب، فوضع (صلى الله عليه وسلم) الحجر الأسود عليه بيده، ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب. فرفعوه حتى إذا بلغوا به موضعه رفعه رسول الله (صلى اللهعليه و سلم) بيده ووضعه في مكانه.
هذه الحادثة تبين لنا كيف أن محمدا كانت له مكانة مميزة بين عشيرته وقومه. فهم يرضون به حكما في أصعب المواقف.
مكانته بين الأنبياء:
في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بنيانا، فأحسنه وكمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. قال: فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين."
نعم، إنه خاتم النبيين الذي أرسله الله عز وجل ليكمل به للبشرية الرسالة التي خلقت من أجلها، وليضع للأخلاق لمساتها الأخيرة، حتى تكون مكتملة. فلابد من محمد حتى يكتمل بناء الأنبياء السابقين صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
ولقد كان فضل النبي على الأنبياء الآخرين بعدة فضائل، وهذا ما يوضحه لنا الحديث الشريف؛ فعن أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فضلت على الأنبياء بِسِت: أُعْطِيتُ جوامع الكَلِم ونُصِرتُ بالرُّعْب وأُحِلَّت ليالغنائم وجُعِلَت لي الأرض طَهُورًا ومسجدًا وأُرسلت إلى الخلق كافة، وختم بيالنبيون." (رواه مسلم).
وروى البخاري قريبا من هذا. وفي حديث جابر: "وأُعطيت الشفاعة." (رواه البخاريومسلم).
إنها فضائل تجعله مميزا بين الرسل والأنبياء. فهو الذي أرسل للخلق جميعا وللأزمان كلها، منذ بدء رسالته، بينما اختص كل نبي بقومه فقط.
فكل من عيسى وموسى، أرسل إلى بني إسرائيل، وأرسل صالح إلى ثمود. وهود إلى عاد. بينما أرسل محمد للعالمين كافة.
وهو الذي أعطي جوامع الكلم، فكانت كلماته بلسما يداوي، وعلما يعلم، وحكمة تنفع، ودينا يربي، وخلقا يرتقى به.
وكما نعلم جميعا، فإن لكل نبي شيئا اختصه به ربه. فموسى كليم الله، وإبراهيم خليل الله، وعيسى كلمة الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله. وأي مكانة أعظم من الحبيب؟ هكذا كانت مكانة الرسول بين الأنبياء، وما أعظمها من مكانة.
مكانته عند الله:
للرسول عند الله عز وجل، مكانة تميز بها عن بقية المرسلين. فنحن نرى دوما أن الله يخاطب المرسلين بأسمائهم، فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى... إلخ، بينما نادى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله له: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر.
ولقد رفع الله ذكر النبي في العالمين، وفي كل حين؛ حيث يقول عز وجل: "ورفعنا لك ذكرك." (سورة الشرح 4).
يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
ولقد بين لنا الله عز وجل أن طاعة النبي صلى الله عليه و سلم ومبايعته، هي عين طاعة الله تعالى ومبايعته :
قال تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْتَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [سورة النساء 80[.
وأقسم الله تعالى بعظيم قدره حين قال: {لَعَمْرُكَ إنَّهُم لَفِيسَكْرَتِهِم يَعْمَهونَ} (سورة الحجر 72) .
اتفق أهل التفسير في هذا أنَّهُقَسَمٌ من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعناه : وبقائكَ يامحمدُ، وقيل وعيشك، وقيل وحياتك. وهذا نهاية التكريم وغاية البر والتشريف.
وكان الله عز وجل يثني على أنبيائه السابقين بما فيهم من أخلاق كريمة؛ ويذكر لكل نبي صفات محددة. فقال عن خليله إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} (سورة هود 75) وقال عن إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} (سورة مريم 54) وقال عن موسى: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} (سورة مريم 51) وقال عن أيوب {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص 44) وحين تحدث عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بين أنه حاز الكمالات كلها فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (سورة القلم 4).قال تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْتَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [سورة النساء 80[.
وأقسم الله تعالى بعظيم قدره حين قال: {لَعَمْرُكَ إنَّهُم لَفِيسَكْرَتِهِم يَعْمَهونَ} (سورة الحجر 72) .
اتفق أهل التفسير في هذا أنَّهُقَسَمٌ من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعناه : وبقائكَ يامحمدُ، وقيل وعيشك، وقيل وحياتك. وهذا نهاية التكريم وغاية البر والتشريف.
مكانة النبي في القرآن الكريم:
لقد كانت مكانة النبي عظيمة دوما، وهذا ما تشهد به كلمات الله عز وجل، حين يمن الله على المسلمين بأنه بعث فيهم رسولا منهم ليعلمهم.
يقول تعالى: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ." (آل عمران 164).
ولقد زكى الله عقل النبي، فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (لنجم 2)، وزكى لسانه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (لنجم 3-4) وزكى فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (لنجم 11) وزكى بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (لنجم 17-18).
وآيات القرآن في ذلك كثيرة.
مكانته عند الصحابة:
لقد كان الصحابة يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر من حبهم لأنفسهم وبنيهم. فهو الذي أخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن الانغماس في المعاصي إلى التطهر والعيش في نعم الطاعات والأخلاق.
والقصص التي تروى لنا عن حب الصحابة للرسول، تجعل من يسمعها يتعلق بهذا الرجل العظيم، حتى وإن كان على غير دينه.
أخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : لما كان يوم أُحد، حاص أهل المدينة حيصة وقالوا : قُتِل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة. فخرجت امرأة منالأنصار محرمة، فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها. لا أدري أيهم استقبلت بهأولاً. فلما مرَّت على أحدهم قالت: من هذا ؟ قالوا : أبوك، أخوك، زوجك، ابنك،تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: أمامك، حتى دُفعت إلى رسولالله صلى الله عليه وسلم، فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب .
يا له من حب عظيم، حين لا تبالي تلك الصحابية بأمر أبيها وابنها وأخيها وزوجها، إن كانوا أحياء أم أموات، إن كانوا مصابين أم في عافية. لقد كان أول ما كانت ترنو إليه، الاطمئنان على حبيبها محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
من فضائله صلى الله عليه وسلم:
أنه أول من يقرع باب الجنة:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عيه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة." (رواه مسلم).
أنه أول شفيع يوم القيامة:
قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة." (رواه مسلم).
جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فيأتوني، فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع." (متفق عليه).
أنه أول من يفتح له باب الجنة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ قال: فأقول: محمد. قال: يقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك." (رواه مسلم).
أنه أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عيه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة. لم يُصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن نبياً من الأنبياء ما صدقه من أمته إلا رجل واحد." (رواه مسلم).
وعنه أيضا، قال: قال صلى الله عيه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة." (رواه مسلم).
من فضائله صلى الله عليه وسلم أنه خليل الرحمن:
وهذه الفضيلة لم تثبت لأحد غير نبينا وإبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا. إن صاحبكم خليل الله." (رواه مسلم).
من فضائله أنه شهيد وبشير:
فعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا، فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: "إني فرط لكم -أي سابقكم-، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها." (متفق عليه).
من فضائله أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم:
قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب 6).
قال الشوكاني في تفسيره "فتح القدير": "فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره، وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه، ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم، ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم، وتطلبه خواطرهم."
من فضائله صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد بني آدم:
فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد القوم يوم القيامة." (متفق عليه).
صلى الله عليه وسلم أمان لأمته:
حيث جاء في الحديث الصحيح: "أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون." (رواه مسلم).
من فضائله صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض:
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع." (رواه مسلم).
صاحب المقام المحمود:
ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا -أي جالسين على ركبهم-، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود." (رواه البخاري).
الباب الثاني
نظرة عامة على أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
نظرة عامة على أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
إذا أردنا أن نلقي نظرة عامة على أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نطل على هذه المكارم من أفق واقعي، فعلينا أن نعود إلى واقعه، وكيف كان يعيش. كيف كان يعامل الناس، كيف كان يحادثهم، كيف كان يتعامل في لحظات الغضب والرضا، كيف كان يعامل العدو والحبيب عند القضاء، وكيف كان يدعو إلى سبيل ربه.
كل هذه الأمور، لابد وأن ينظر الباحث عنها بعين بصيرة وعقل ناقد، قبل أن ينظر إليها بقلب ينبض بحب هذا الرجل.
والباحث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حين يتعامل معها بموضوعية تامة، سيجد ما يجعل قلبه يتعلق به وإن كان من مبغضيه. فقد كان صلى الله عليه وسلم يحوز مكارم الأخلاق كلها، وكيف لا وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه؟
كان النبي يتمتع بكمال في خلقه لم يبلغه سواه، فقد عصم من كل نقيصة وحاز الكمال من كل فضيلة.
الحوار وقبول الاختلاف مع الآخر:
الحوار والاختلاف مع الآخر، أمر حتمي، تفرضه طبيعة الحياة. وبما أن الحوار عبارة عن علاقة مباشرة بين طرفين أو أكثر، تقوم على التعبير وتبادل الأفكار والحجج والبراهين بهدف التواصل والإقناع أو التأثير، فمن الضروري أن يؤدي هذا الحوار إلى شيء من الاختلاف حول بعض الأمور وطرق تناولها. علاوة على أن هذا الآخر ربما اختلفت بيئته عن بيئتك، وثقافته الاجتماعية عن ثفافتك، مما يستوجب نوعا من التعايش وقبول الآخر، وقبول الحوار والتعايش معه، طالما أن هذا التعايش لا يمس شؤون العقيدة أو الثوابت الدينية.
والنبي صلى الله عليه وسلم بمنهجه الواضح في هذا الشأن، وضع لنا قواعد الحوار ومنهجية الاختلاف مع الآخر، وضرب لنا أروع الأمثلة على التعايش مع الآخر، حتى ولو كان على غير دينه، وحتى لو اختلفت عادته وتقاليده عن ما نشأ عليه النبي من عادات وتقاليد وأعراف.
واختلاف الرأي حدث على عهد النبي، فتعامل معه النبي بأفق متسع، وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة." (رواه البخاري). فخرجوا رضوان الله عليهم من المدينة إلى بني قريظة وحان وقت صلاة العصر، فاختلفالصحابة؛ فمنهم من قال: لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة." فنقول سمعناوأطعنا.
ومنهم من قال إن النبي، عليه الصلاة والسلام، أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج، وإذا حان الوقت، صلينا الصلاة لوقتها. فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يعنف أحداً منهم، ولم يوبخه على ما فهم.
هذه الحادثة من شأنها أن تترك في نفوس ذوي الألباب أثرا عميقا نحو قضية قبول الاختلاف مع الآخر عند النبي، وأن الحوار لا بد وأن يكون مفتوحا، وأن يتعامل معه الناس بعقل متقبل لأطر هذا الاختلاف.
فهاهو النبي لمّا علم بما حدث، أقر الفريقين على فعله، ولم يعاتب أحدا منهما.
والرسول يعلمنا بذلك التعامل مع الهدف بحكمة، وباستقلالية في الوسيلة طالما أنها لا تتعارض مع أحكام الشريعة.
والرسول ينهانا عن التمسك بنوعية الحوار المبني على الرأي مسبقا، لأنه سيكون حوارا عقيما، لا جدوى منه، وذلك في قوله: "إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك." (رواه أبو داود).
وهذا الحديث، رغم أنه توجيه لنا بعدم الحوار مع من يعجبون بآرائهم ويرفضون التحاور مع الآخر، إلا أنه في الوقت ذاته، توجيه لنا بعدم التشبث بآرائنا، ما دام هناك مساحة للتفاوض مع الآخر والحوار والنقاش معه.
وإذا كان النبي يعلمنا قبول الاختلاف مع الآخر والحوار معه وعدم الخضوع لأي نوع من التعصب لأفكارنا، فإنه يعلمنا كذلك ما هو أعمق وأشمل. فالأمر لا يقف عند حدود الاختلاف، فالحياة أرحب من ذلك، بل هناك التعايش مع الآخر وقبول أعرافه ما دامت لا تتعارض مع ما يفرضه عليك دينك. ونحن من خلال حديث الأحباش، يمكننا أن نلمس هذا الجانب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فها هو يعلمنا احترام تقاليد وأعراف البيئات الأخري المحيطة بنا، وعدم الوقوف أمامها ورفضها رفضا تاما، حتى ولو كانت حلالا، لا شيء فيها.
جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها - رأيت النبي صلىالله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر رضيالله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهم، أمناً بني أرفدة." يعني منالأمن.
هذه الطريقة في اللعب، والتي كان يلعب بها الأحباش تخالف طرق العرب، إلا أن النبي لم ينههم أو يزجرهم، بل تعايش معهم، وتقبل هذا العرف منهم، وتركهم يمارسون ما اعتادوا عليه بمنتهى الحرية، وبصدر رحب، وبقبول لهذا الأمر.
ولقد كان من طبيعة النبي، الانفتاح على الأمم الأخرى، والأخذ منها بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة. فلقد وافق على رأي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الخندق، رغم أنها خطة فارسية، لم يعتدها العرب من قبل، ولم يسمعوا عنها.
وربما تعاف نفسك بعض الأمور التي اعتادتها ثقافة معينة، فيرفضها عقلك تماما، وتتعامل معها بنفور، وربما امتد تأثير هذا الأمر عليك، فيجعلك تفرض رأيك على من حولك وترفض الحوار في هذه النقطة تحديدا. ولكن النبي يرفض هذا الأسلوب في التعامل مع مجريات الأحداث من حولك، ويرفض أن تتعامل مع البشر من حولك بفرض ما تقبله نفسك على الآخرين.
لقد كان خالد بن الوليد من محبي أكل الضب، وقدمه ذات يوم للنبي، فلم يأكل النبي، ولم يمنع خالدا من أكله، بل ترك له حرية فعل ما يحلو له في ذلك الأمر، كما أنه تعامل بذوق في هذا الاختلاف حيث بيّن لخالد أسباب عدم أكله له، حتى لا تأخذ الأفكار بخالد نحو طريق من شأنه أن يجعله يترك ما اعتاد عليه وأحبه.
ورد في الصحيحينعنابنعباسرضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن أكل الضب، فقيل له أحرام هو؟ قال: لا، ولكنلم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه.
بذلك، نجد أن النبي لم يحرم ثقافة الأفراد والبيئات، وإن كان هو رافضا لها من الناحية النفسية، طالما أنها لا تخالف الدين.
والنبي تعايش مع ثقافات مختلفة ومع نوعيات وعقائد مختلفة بصدر رحب ودون أي محاولة منه للمسّ بهذه الثقافات. ومن أمثلة ذلك، تعايش النبي مع اليهود، حيث عاش النبي معهم منذ قدومه إلى المدينة المنورة بكل سلام، وكان يعاملهم بأخلاقيات الإسلام، فيزور المريض منهم، ويتحمل إساءة الجار اليهودي، ويقوم لجنازة رجل يهودي.
روى الإمام البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت عليه جنازة يهودي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: "أليست نفساً؟"
ومنذ بداية وجود النبي في المدينة، ظهر حرصه على عدم عداوة اليهود، بل وقع معهم عهدا جميلا يدل على رغبة في العيش بسلام مع الطرف الآخر.
تعايش النبي مع غير المسلمين:
لما توسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية، وبخاصة في نجران، فتعامل معهم النبي بقبول لوجودهم في ظلال الدولة الإسلامية، وعقد معهم معاهدت من شأنها أن تؤمن لهم حرية ممارسة شعائرهم، والاعتقاد بما يعتقدون من ديانة.
فلقد جاء في معاهدة النبي لأهل نجران: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبيرسول الله، على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم... وكل ما تحتأيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن منكهانته. ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا، فبينهم النصف، غير ظالمين ولامظلومين."
وكان أول لقاء بين الإسلام - الدولة - وبين غيرالمسلمين المواطنين في دولة إسلامية هو الذي حدث في المدينة المنورة غداة الهجرةالنبوية إليها.
وكان لا بد للدولة من نظام يرجع أهلها إليه،وتتقيد سلطاتها به (دستور). عندئذ كتبت بأمر الرسول صلى الله عليه وسلَّم - والغالبأنها كتبت بإملائه شخصيا - الوثيقة السياسية الإسلامية الأولى المعروفة تاريخياباسم: وثيقة المدينة، أو صحيفة المدينة، أو كتاب النبي صلى الله عليه وسلَّم إلىأهل المدينة، أو كما يسميها المعاصرون: دستور المدينة.
وفي هذه الوثيقة نقرأ أنها:
-كتاب من محمد النبي رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛
-أنهم أمة من دون الناس؛
-وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غيرمظلومين ولا متناصر عليهم.
-وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحولدونه على مؤمن.
-وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموامحاربين.
-وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهوددينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم.
-وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.-وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
-وأن لبني الشُطَيْبة مثل ما ليهود بني عوف. وأنالبر دون الإثم.
-وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.
فهذه تسع قبائل، أو تجمعات يهودية، تنص الوثيقةعليها، وتقرر لهم مثل ما ليهود بني عوف، وتضيف إلى ذلك أن مواليهم وبطانتهم كأنفسهم.
-وتقرر الوثيقة النبوية أن بينهم النصح - هموالمسلمون - على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصر والنصيحة، والبر دونالإثم، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره (أي الله شاهد ووكيل على ما تمالاتفاق عليه).
فهذه الوثيقة تجعل غير المسلمين المقيمين في دولةالمدينة مواطنين فيها، لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ماعلى المسلمين.
تعايش النبي مع المنافقين:
رغم علم النبي صلى الله عليه وسلم بالمنافقين وأسمائهم، ورغم علمه بخطورة المنافقين الذين يحاولون بث روح الهزيمة في صفوف المسلمين، والعمل على انقسام المسلمين، إلا أننا لم نر النبي يتعامل معهم بانغلاق أو يرفض التعامل معهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يخالطهم ويتعامل معهم ويسمع منهم. ولم يلجأ النبي رغم قدرته على ذلك إلى استخدام القوة ضد هذا التيار. كما لم يحرمهم النبي من أي من حقوقهم المدنية، فكانوا يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة مثل المسلمين، وكان النبي يسمح لهم بأن يدلوا بآرائهم في قضايا المجتمع، وأخذ نصيبهم من عطاء بيتالمال.
هكذا، من خلال تلك الومضات السريعة، يمكننا أن نعلم كيف كان محمد صلى الله عليه وسلم يتعايش مع من حوله بكل حب وسلامة صدر، ودون حمل ضغائن أو كراهية، وكيف كان يحث أتباعه من خلال سلوكه العملي وسنته الواقعية على التعايش والعيش بمنهجية الحوار الإيجابي البناء.
محمد نبي الشورى:
"وشاورهم في الأمر" (سورة آل عمران 159).
توجيه رباني لمحمد؛ نبي آخر الزمان، بأن يعتنق مبدأ الشورى في حياته، وهذا ما كان عليه النبي بالفعل.
رغم مكانة النبي عند ربه ومكانته بين أصحابه، إلا أنه كان يشاور من حوله دوما في مختلف الأمور. لم يكن يأخذ برأيه فحسب، بل كان يقدم رأي من حوله على رأيه لو اتفقت عليه الأغلبية، ولو كان هذا الرأي لصالح الأمة.
وأوضح دليل على ذلك كلمة النبي المشهورة: "أشيروا عليَّ أيها الناس." حين أراد الخروج إلى غزوة بدر، قال المقداد بن عمرو بكلمات خالدة: امض بنا يا رسول الله لما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
فاستبشر النبي خيرًا، وتوجه إلى الأنصار يطلب رأيهم، فنطق سعد بن معاذ -رضي الله عنه- بأعظم كلمات، بايع فيها الله ورسوله على التضحية من أجل دين الله. قال سعد: امض بنا يا رسول الله، فوالله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، إنا لصُدقٌ في القتال، صُبُرٌ في الحرب، ولعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك. فزاد فرح النبي واستبشاره، فانطلق بأصحابه ليقاتل أعداء الإسلام في غزوة بدر الكبرى. (تاريخ الطبري).
ومشاهد الشورى في حياة النبي مع من حوله عديدة، منها على سبيل المثال ذلك المشهد الذي دارت أحداثه يوم غزوة بدر، حيث رأى النبي أن يعسكر المسلمون في مكان معين، بينما رأى الحباب (أحد الصحابة) خلاف ذلك، فما كان من النبي القائد إلا أن استجاب لهذا الرأي، لما رأى فيه من مصلحة وخير للجيش.
ولم تكن هذه المواقف هي الوحيدة التي تبين لنا قيمة الشورى في حياة النبي،
يل كانت الشورى مبدأ عاما يسير به النبي في دربه. وكانت الشورى صفة أصيلة من صفات النبي. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه- قال: "ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله." (رواه الترمذي).
فها هو النبي صلى اله عليه وسلم يستشير صحابته في أسرى بدر، فيقول: إن الله أمكنكم. فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه رسول الله. فقال أبوبكر -رضي الله عنه: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء. (رواه أحمد).
وإن كان هذا الحديث يحمل من الرحمة معاني رائعة، إلا أنه في الوقت ذاته ينطوى على معان عظيمة تندرج تحت بند الشورى.
وفي غزوة أحد، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج لقريش خارج المدينة، وأراد التحصن بها، ولكن الشباب من المسلمين أرادوا الخروج لملاقاة قريش، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا ترك رأيه والأخذ برأيهم.
وفي لمحة أخرى من لمحات الشورى، نتعلم أهمية هذا المبدأ من النبي صلى الله عليه وسلم، حين أخذ برأي سلمان الفارسي في غزوة الخندق.
وفي صلح الحديبية، كان النبي قد عزم على الخروج إلى مكة، والصحابة يحلمون بعمرة يزورون فيها بيت الله الحرام. فلما علموا بالصلح، حزنوا ورفضوا الانصياع لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم بذبح الهدي والحلق، فأشارت عليه السيدة أم سلمة بأمر أخذ به، وكانت الشورى سببا في نجاة الصحابة من غضب الله عليهم لعصيانهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحين كان الرسول داخلا مكة فاتحا لها، أشار عليه عمه العباس بأن يجعل لأبي سفيان مقاماً، لحبّه للفخر، فاستجاب له وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
ولقد كان النبي يحث على اتخاذ مبدأ الشورى في كل مناسبة تستدعي ذلك، فكان يقول: "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه." (رواه ابن ماجه).
وقال صلى الله عليه وسلم: "من استشاره أخوه المسلم، فأشار عليه بغير رشد، فقد خانه." (رواه أحمد).
والشورى التي يحثنا النبي عليها، تتحقق من ورائها أهداف عظيمة، كما علمنا النبي، فهي تعمل على نشر الألفة بين أفراد المجتمع، حين تنتشر فيه الديمقراطية، ويبتعد عن الفردية في اتخاذ القرارات. وهي وسيلة للكشف عن الموهوبين فكريا، ومن بإمكانهم وضع خطط يؤخذ بها في المواقف الطارئة، كما ظهر لنا في غزوتي بدر والخندق، مما يفتح الباب لاستثمار هذه المواهب والطاقات الفكرية، والاستفادة من كل العناصر المتميزة في المجتمع. وحين تكون الشورى أمرا إلهيا وأمرا نبويا، لابد أن هذا المجتمع (إن تمسك بهذا الأمر وسار على دربه) سيحوز التوفيق والنجاح.وقال صلى الله عليه وسلم: "من استشاره أخوه المسلم، فأشار عليه بغير رشد، فقد خانه." (رواه أحمد).
تقدير العلم والعقل عند النبي:
رغم أن نبي هذه الأمة كان أميا، إلا أنه كان أحرص الناس على نشر العلم بين أفراد المجتمع.
وقد كانت أمية النبي صلى الله عليه وسلم، حكمة من الله تعالى، حتى لا يقول المشككون في نبوته من قومه إنه تعلم القراءة، وقرأ كتب الآخرين، ونقلها إلى مجتمعهم الذي كانت تغلب عليه الأمية. فأميته برهان من الله تعالى على صدقه. فما يكون لرجل أمي أن يؤلف كتابا، إلا أن يكون من عند الله العليم الخبير.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تقديرا لقيمة العلم والعقل. فالعقل والعلم أخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر، فهما يقترنان سويا في مسيرة الحياة.
والرسول الذي كانت أول كلمة تسمعها أذنه من القرآن هي كلمة اقرأ، أراد أن يحمل الرسالة التي تلقاها، وينشرها، ويحث على التمسك بها. فهو يريد للأمة الإسلامية أن تكون أمة متعلمة عاقلة واعية، لا تعيش أسيرة قيود الجهل أو الخرافات.
وأحاديث النبي في قيمة العلم، ما أكثرها وما أروعها؛ فهو الذي يقول: "من سلك طريقاً يلتمس به علماً؛ سهّل الله به طريقاً إلى الجنة." (أخرجه مسلم).
وكما هو أسلوب النبي في كل ما له قيمة، فإنه يربط فعله بالجنة ونعيمها. فها هو يحث المسلمين على سلوك طرق العلم، حتى يكون ذلك عونا لهم على سلوك طرق الجنة. ويعلمنا النبي أن العالم له فضل، ربما لا يصل إليه سواه، حين يقول: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلمي الناس الخير." (رواه الترمذي).
ويقول: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء." (رواه أبو داود والترمذي).
يا له من فضل، حين يشعر العالم والباحث عن العلم، بأن كل ما حوله يعيش معه رحلة علمه، فيستغفر له. وحين ينعم بهذا الشعور، لابد وأنه سيتعمق أكثر في خبايا العلم، ليفيد البشرية، كما علمه نبيه ودينه.
بل نحن نرى النبي يجعل من العلماء ورثة للأنبياء، بسبب علمهم الذي حازوه وتفوقوا فيه، فيقول صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء." (رواه أبو داود والترمذي).
ورسولنا الكريم لا يريد أن تكون أمته أمة عابدة جاهلة، تعيش في برج عاجي بالعبادة فقط، بعيدا عن العلم، فيلفت أنظار صحابته إلى ذلك، حين يقول: "إن فضل العلم خير من فضل العبادة." (رواه الطبراني).
ويقول النبي في أفضلية العالم على العابد: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم." (رواه الترمذي).
ويجعل النبي العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، لا يمكن التهاون فيها، ويتضح ذلك في قوله: "طلب العلم فريضة على كل مسلم." (رواه ابن ماجه).
نعم، وهذه الفريضة لا تقف عند حدود العلم الشرعي، بل تمتد لتشمل جميع أنواع العلوم والمعارف التي يحتاجها المجتمع ولا يكون له غنى عنها، ويعتبر ذلك فرض كفاية، إن لم يقم به بعض الأفراد، أثم المجتمع بأكمله.
النبي يحث على تعليم اللغات:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يتعلم المسلمون اللغات المختلفة من أجل التواصل مع الآخر، وفهم الثقافات المختلفة، وكذلك من أجل الحرص على حيازة العلم بوجه خاص. ولقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كتبوا اليه، فتعلمه في خمسة عشر يوما.
وحين أسر المسلمون عددا من محاربي قريش في غزوة بدر، عرض عليهم النبي حريتهم وفك أسرهم، مقابل أن يعلم كل أسير عشرة من المسلمين.
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على العلم. فالعلم عنده قبل المال، فهو لم يطلب منهم مالا، بل طلب علما ينتشر خيره بين الناس.
وكان النبي حريصا على تعليم النساء، كما كان حريصا على تعليم الرجال، فها هو يطلب من الشفاء؛ إحدى متقنات الكتابة، أن تعلم حفصة رضي الله عنها. ولما تعلمت حفصة، حرص النبي ألا تقف عند ذلك، بل أن تزيد من علمها، فشجعها على تعلم تجويد الخط.
وإذا كان العلم له هذا الشأن في حياة الإنسان، فهو ذو شأن كبير كذلك بعد مماته، وهذا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له." (رواه مسلم).
وهكذا كان العلم شغلا شاغلا في حياة النبي، يريده أن يغمر المسلمين والبشرية بنوره.
وإذا كان العلم له هذه القيمة الهائلة عند النبي، فلابد أن يقترن بعقل واع حكيم. فما قيمة علم بلا عقل راجح؟ لذلك، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على تنقية العقول من شوائب الخرافات التي عاشت فيها لسنوات طوال.
لقد كان العرب يتشاءمون حين يخرجون لأمر ما، فيرون الطير قد طار شمالا، فيرجعون عن عزمهم ولا يسيرون في قضاء أعمالهم، اعتقادا منهم بأن هذا العمل سيصاحبه أكبر الضرر. فنهاهم النبي عن ذلك بقوله: "لا طيرة ولا هامة ولا صفر ، وفـرّ من المجذوم كما تَفرّ من الأسد." (متفق عليه).
وقوله صلى الله عليه وسلم "لا طيرة." أي: أي لا تشاؤم بالطير. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صفر." - بفتح الصاد والفاء- أي لا تشاؤم في شهر صفر، حيث كانوا يتشاءمون بهذا الشهر؛ لقدومه بعد شهر محرم، ويعتقدون أنه تزداد فيه الفتن والحروب.
فبين النبي كذب هذه الخرافات، حماية لعقولهم من الانغماس في مستنقع الجهل والخرافات، وأخذا بأيديهم نحو التمتع بعقل واع راشد، يصاحبه علم نافع.
الحب في حياة النبي:
الحب كلمة ربما يخجل البعض من ذكرها، وربما أنف البعض من أن يتعامل بها، أو يظهرها لمن حوله.
ونحن أثناء دراستنا لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما سرنا خطوة في هذا البحث، وجدنا الإنسانية والأخلاق تملأ على هذه الشخصية العظيمة جنباتها، ووجدنا للحب مكانا مميزا في حياة هذا النبي الذي علم البشرية كيف تتعامل بالحب. فمن خلال تعرفنا إلى حياة النبي، لابد وأن تستقر في نفوسنا روعة هذه المشاعر؛ روعة أن يعرف الإنسان كيف يحب، وكيف يعبر عن هذا الحب، وكيف يعيش بالحب، وكيف يتعامل مع كل من حوله وما حوله بالحب. وهذا ما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم إياه في كل مواقف حياته، فقد كان يحيا بالحب، ويعلّم بالحب، ويوجه بالحب، وينشر الإسلام بمشاعر الحب.
كانت ملامح الحب ظاهرة في تعامله مع من حوله من الناس، وما حوله من الأماكن والأشياء.
ولعل أبرز ما يلفت الأنظار في جانب الحب عند رسول الله أنه كان يحث الناس ويعلمهم كيف يعبرون عن مشاعرهم، ويوضح لهم بمواقفه الرقيقة قيمة التعبير عن هذا الحب لدى الآخرين. فقد حدث ذات يوم أن قال أحد الصحابة لرسول الله: إني أحب فلانا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب أحدكم أخاه فليُعلمه أنه يحبه." (رواه أحمد وأبو داود).
ما أعظمك يا حبيب الله. حريص أنت دوما على الرقي بمن حولك في كل شيء، حتى في نشر الحب. تريد لنا الوصول إلى أعلى الدرجات.
تعلمنا قيمة التعبير عن مشاعرنا لمن حولنا، وألا نجعل هذه المشاعر حبيسة الأدراج، وإلا فكيف يعرف الصديق أننا نحبه بينما لا نخبره بهذه المشاعر التي نشعر بها تجاهه؟
سيرة النبي محمد دعوة مفتوحة للحب؛ دعوة لكي لا نوصد الأبواب أمام مشاعرنا النبيلة والسامية، دعوة للتواصل بالحب والتصريح لأصدقائنا وأزواجنا بحبنا لهم، فهذا أحرى بأن يدوم الحب بين القلوب، ويشعر الطرف الآخر بقيمته لديك.
حبه لزوجاته صلى الله عليه وسلم:
من من الرجال اليوم يمكنه أن يقف أمام كل من يعرف ويقول أحب زوجتي، نعم أحبها، بل هي أحب الناس إلي؟
إنه عظيم حقا من يعبر عن مشاعره لزوجته على الملأ، رغم ما يقال من أن الرجال ينسون المشاعر عندما يتزوجون، ولا يلقون لها بالا عندما يمرون بعتبة الزوجية. إلا أن هذا الأمر بعيد تماما عن شخصيات فهمت الإسلام على حقيقته، وأبعد ما يكون عن شخصية النبي الذي علم الأزواج قيمة التعبير عن الحب لزوجاتهم، وقيمة أن يحيا الإنسان في بيته بالحب.
فهاهو النبي يتعامل مع عائشة بكل حب، وحين يُسأل عن أحب الناس إليه يقول: عائشة. ففي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية قِبَل نجد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال:عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها."
وكأن النبي يقول لنا إن أكثر إنسان أحبه قلبه هو عائشة، فهو يحمل لعائشة رضي الله عنها من المشاعر أكثر مما يحمله لغيرها منالناس. وهي أحب الناس قاطبة إليه، وهو لا يستحيي منهذا الأمر، أو يكتمه، بل يعلنه ويعرب عنه على الملأ.
هذا النبي المحب لزوجته، يعلم الرجال فن الرومانسية مع الأزواج، حين تشرب عائشة، فيبحث عن موضع فمها، ليشرب منه.
عن عائشة -رضي الله عنها-قالت: "كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي، فيضع فاه على موضع فِي." (رواه مسلم).
صورة رومانسية حقة، تأتينا من رجل يحمل أعباء لا مثيل لها. ومع ذلك، لا تطغى عليه أعباء وهموم الحياة، ولا تؤثر على بيته. صورة تعلمنا كيف يكون التعامل بحب ورومانسية مع شريك الحياة.
ولعل أصدق صورة تعبر عن حقيقة الحب في حياة النبي أنه حين مات، مات على صدر زوجته عائشة التي أحبها قلبه كثيرا.
مشهد يعجز عن وصفه أي تعبير وأي كلمات: النبي الخاتم تنتهي حياته بلمسة حب، حين يموت في أحضان زوجته.
لماذا لم يمت وهو يحج؟!
لماذا لم يمت وهو يصلي؟!
وهو ساجد لله عز وجل؟!
إنها رسالة عظيمة مؤداها: إن هذا الدين هو دين الحب والحنان والمودة، وهذا النبي محب للحب ولكل من حوله وما حوله. محب للبشرية جميعا.
فمن الذي بعد كل ذلك، يمكنه أن يغفل هذا الجانب في حياة رسولنا؟
من من الناس يمكنه أن يمر بحياة النبي، دون أن يستنشق عبق هذه المشاعر ويأخذ بعضا من نفحاتها، ليتعلم كيف يسير على درب النبي، فيحيا بلا متاعب في حياته الخاصة؟
حبه لأصحابه صلى الله عليه وسلم:
العلاقة بين النبي وأصحابه، علاقة حب قوية الأواصر، متينة الأركان.
أبو بكر رفيق رحلة الحياة، تربطه بالنبي علاقة إنسانية رائعة، وعلاقة حب عظيم. ولقد بدت دلائل هذا الحب من الرسول لأبي بكر، حين استعد للهجرة. فقد اختار أبا بكر ليكون رفيقه في هذه الهجرة، وليكون حامل سر هذه الهجرة.
كان النبي يحب أبا بكر كثيرا، ويقضي معه أجمل أوقاته، ويعبر له عن حبه، ويتكلم كثيرا عن فضل أبي بكر.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلا. إن صاحبكم خليل الله." (رواه مسلم).
وقد وصفة الرسولصلى الله عليه وسلم بالصدّيق، فعن أنس بن مالكرضي الله عنه قال: صعد رسول اللهصلى الله عليه وسلم أُحداً ومعه أبوبكر وعمروعثمان، فرجف بهم فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبيوصديق وشهيدان." (رواه مسلم).
وقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وذاتيده أبوبكر." (رواه الترمذي). وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقضي في مال أبي بكر كمايقضي في مال نفسه.
وعن أبي هريرةرضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر." (رواه أحمد). فبكى أبوبكر وقال: "وهل أنا ومالي إلا لك يارسول الله."
هذا الحب الذي عاش به النبي لصديقه ورفيق رحلة حياته، يعلمنا كيف تكون الصداقة خالية من المصالح الشخصية، ويعلمنا قيمة الصديق الحقيقي، وقيمة وجوده إلى جوارنا في الحياة، ويعلمنا قيمة الاحتفاظ بهذا الصديق، وكيف نكون له خير عون في الحياة، وكيف نشبعه من صداقتنا، وما تحويه هذه الصداقة من حب ورحمة.
الحب لمن لم يرهم بعد:
أن تحب شخصا تعرفه وتخالطه، فهذا لا يدعو إلى العجب، ولكن أن تحب شخصا لم تره بعد، فهذا حقا ما يدعو إلى العجب!
نحن أتباع النبي لم نره ولم يرنا، ومع ذلك يخبر النبي أصحابه بحبه لنا، حين يقول للصحابة: "وددت لو رأيت إخواني. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين يأتون من بعدي ويؤمنون بي ولم يروني." (رواه الإمام أحمد وأبو يعلى).
هذا التعبير عن الحب والاشتياق لأناس لم يرهم، ما هو إلا خير تعبير عن طبيعة هذه الشخصية العظيمة التي تحيا بالحب وتعبر عن حبها في كل مناسبة.
إنه الحب للخير وللصلاح وللفطرة السليمة. فما الذي يدعوه لحب أناس لم يرهم بعد، سوى أنهم يتمتعون بالخير والتقوى، رغم أنهم لم يروا حامل هذه الرسالة؟
ما أروع مشاعرك يا رسول المشاعر. ما أعظمك حين تغرس في نفوسنا حب الخير والإيمان بتركك هذه الرسالة لنا!
وما أعظمك حين تعلمنا كيف نحب من حولنا، ولو لم يكونوا أهلنا، فنحبهم لأنهم يسيرون على درب الخير والصلاح!
حبه للمكان الذي عاش فيه:
حب الأوطان أنشودة طالما تغني بها الشعراء، وتباروا فيمن يعبر عن حبه لوطنه أكثر ممن سبقوه. ولو أمعنا النظر، لوجدنا لوحة فنية رقيقة، يرسمها النبي بكلماته العذبة، حين يعبر عن حبه لوطنه. فهاهو صلى الله عليه وسلم حين يخرج من مكة مهاجرا إلى المدينة، إذا به وعيناه تتعلقان بحدود وطنه، وقلبه يكاد لا يفارقه الحب لهذا الوطن، ولسانه ينطق بهذه المشاعر التي تخالج نفسه الكريمة، ويقول وهو ينظر إلى بلده ودموعه تلامس خده الكريم، في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي، عن عبد اللّه بن عدي بن الحصراء أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحَزْوَرَة مِنْ مَكَّةَ يَقُول: "وَاللَّه إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللَّهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللَّهِ إِلى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ." (رواه الترمذي).
نعم، رغم كل ما عانى منه النبي في هذا البلد من متاعب وشقاء وهموم، إلا أنه كان يحب بلده بكل كيانه وبكل ذرة في قلبه. وعلى الرغم من أن مكة كانت معقلا للشرك والظلم والبطش، إلا أن قلبه ظل يفيض حبا لهذا البلد. إنها مشاعر سامية تربطه بوطنه، وعلاقة وجدانية بينه وبين الأرض التي أقلته، وحب حري بكل مواطن أن يتعلمه من هذا المحب، ويشعر به تجاه الأرض التي ولد فيها وعاش وتربى فيها، مهما قاسى وعانى في بلده.
حبه لبناته:
الأبوة مشاعر دافئة تعيش بين جوانح الآباء، ولكن القليل من الآباء من يعرف كيف يعبر عن حبه لبنيه، وأقل من ذلك: أولئك الذين يعرفون كيف يعبرون عن مشاعرهم لبناتهم بوجه خاص.
كان النبي صلى الله عليه وسلم مثلا يحتذى به في التعامل مع بناته، وكان يحب فاطمة ابنته رضي الله عنها حبا جما، فيقوم لها إذا دخلت عليه، ويقبلها ويجلسها في مجلسه.
تقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة. وكانت إذا دخلت عليه، قام إليها، فقبلها، ورحب بها، وكذلك كانت هي تصنع به." (رواه مسلم).
وكان من حبه لها صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يخرج من المدينة مسافرا حتي يرى فاطمة، ويكون آخر عهده بالمدينة رؤية وجهها الكريم. وحين يعود إلى المدينة، يكون أول عهده المسجد، فيصلي به ركعتين، ثم يذهب إليها متشوقا وقلبه مملوء بالاشتياق لها.
الحب بين فاطمة والنبي، كان حبا أبويا عظيما. فهاهو النبي لم يطق فراق فاطمة حين تقدم إليها علي بن أبي طالب، طالبا الزواج منها، فبحث عن وسيلة لتكون إلى جواره. وكم كانت فرحة النبي حين وفر أحد الصحابة مسكنا لفاطمة قريبا من الرسول صلى الله عليه وسلم.
حبه للصلاة:
لم يكن حب النبي صلى الله عليه وسلم يقف عند حدود الأشخاص، بل كان أعظم من ذلك. فها نحن نرى النبي صلى الله عليه وسلم يحب الصلاة حبا جما ويصفها بأنها قرة عينه ويقول: "وجعلت قرة عيني في الصلاة." (صحيح الجامع الصغير).
ياله من لفظ جميل؛ يعبر عن عظيم الحب لهذه العبادة التي تملكت من قلب النبي صلى الله عليه وسلم. وكان النبي إذا حزبه أمر، هرع إلى الصلاة وقال: "أرحنا بها يا بلال." (رواه أحمد وأبو داود).
فأي موضع يجد الإنسان فيه راحته أكثر مما يجدها مع من يحب وما يحب؟
وكان النبي يطيل في صلاته حين يصلي منفردا؛ فهي راحة قلبه.
صح عن عائشة رضي الله عنها وقد سئلت: كيف كانت صلاته صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً." (رواه البخاري).
وحين يعمق بنا المسير أكثر في بحار الحب عند النبي، نجد دعوة مفتوحة لنشر الحب والمودة بين الناس، وجعل هذا الحب وسيلة وطريقا إلى الجنة.
عن أبي هريرة رضي اللهعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم." (رواه مسلم).
نعم، إنها وسائل لإرساء قواعد هذه المشاعر في القلوب، حتى تعم الرحمة والمودة بين الناس. إنه يعلمنا بعض الوسائل التي من شأنها نشر الحب في المجتمعات. وقد كانت دعوته دوما، دعوة للسلام وإفشاء السلام من أجل غرس بذور المودة. فكيف يكون حال شخص لا تعرفه حين تلقي عليه السلام في الغدو والرواح؟ وكيف يكون حال عدو حين تبدأ لقاءه بسلام؟ وكيف يكون حال المجتمع حين يعمه الحب والسلام؟
نعم، إنها وسائل لإرساء قواعد هذه المشاعر في القلوب، حتى تعم الرحمة والمودة بين الناس. إنه يعلمنا بعض الوسائل التي من شأنها نشر الحب في المجتمعات. وقد كانت دعوته دوما، دعوة للسلام وإفشاء السلام من أجل غرس بذور المودة. فكيف يكون حال شخص لا تعرفه حين تلقي عليه السلام في الغدو والرواح؟ وكيف يكون حال عدو حين تبدأ لقاءه بسلام؟ وكيف يكون حال المجتمع حين يعمه الحب والسلام؟
وحين يجعل النبي الحب في الله بين الناس وسيلة للوصول إلى الفوز بظل الله في حر يوم القيامة، فلابد وأن هذا عرض موفق لتجارة رابحة. الحب مقابل ظل الله عز وجل! ومن منا لا يحلم بهذه المكانة؟!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلّهم فيظلّي يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي." (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن رجلا زارأخا له في قرية، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أنيأحببته في الله تعالى. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه." (رواه مسلم).
ليس ذلك فحسب، بل والإيمان عند رسول الله مقترن بحب الآخرين، وحب الخير لهم. فها هو النبي يقدم لنا دعوة واضحة وصريحة لحب الخير للآخرين، وأن نعاملهم كما نحب أن يعاملونا.
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا يؤمن أحدكم حتىيحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه." (رواه الشيخان).
إذاً، علينا بالحب في الله الذي لا تعكره المصالح ولا تدنسه الشهوات .والنبي لم يوصنا بالمحبة ويدعنا نعتمد على أنفسنا، بل أوضح لنا بعض الوسائل التي تؤصل الحب بين الناس حين قال: "تهادوا تحابوا."
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا." (رواه البيهقي).
فحين يتهادى الأحبة، تزداد القلوب مودة وحبا. وحين تصلك هدية رقيقة ممن تحب، تجد قلبك قد ازداد حبا وتقديرا لهذا الحبيب.
إنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا وسائل وطرقا من شأنها أن ترقق القلوب وتجعلها ألين وأقدر على استيعاب مشاعر الحب من الآخرين.
ومن هذه الوسائل أن النبي كان حريصا على أن نظهر مشاعرنا لمن نحب. فكان يقول: "إذا أحب أحدكم أخاه في الله، فليبين له، فإنه خير فيالألفة ، و أبقى في المودة." (السلسلة الصحيحة).
وعن أنس بن مالك قال : مررجل بالنبي صلى الله عليه و سلم وعنده ناس ، فقال رجل ممن عنده : إني لأحب هذا لله، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: "أعلمته؟" قال: لا ، قال : "قم إليه فأعلمه "فقام إليه فأعلمه. فقال: أحبّك الذي أحببتني له. ثم رجع فسأله النبي صلىالله عليه و سلم فأخبره بما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أنت مع من أحببت، ولك ما احتسبت." (رواه أحمد والحاكم).
عن المقداد بنمعدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحب." (رواه أبو داود والترمذي).
عن المقداد بنمعدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحب." (رواه أبو داود والترمذي).
والحب عند النبي له ضوابط عقلية رائعة. فنبي الحكمة لم يدعنا لمشاعرنا تتحكم فينا كما يحلو لها، فهو يعلم ماذا يفعل الأخلاء بعضهم ببعض حين يكونون أتقياء، وحين يكونون غير ذلك. فكان حرص النبي بالمحبين شديدا. فكما علمهم كيف يحافظون على من يحبون وكيف يصلون بهذا الحب إلى منزلة سامية، كان يعلمهم كيف يختارون من يحبون ويصادقون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوءكحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه،وإما أن تجد منه ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجدمنه ريحا منتنة." (متفق عليه).
إنه مثل رائع يعلمنا كيف نختار الصديق الذي يعاشرنا في رحلة الحياة. فإما أن نختاره بوعي وإدراك، فيكون لنا كحامل المسك لا نجد منه سوى الخير، وأما أن يكون كنافخ الكير الذي لا تأتينا من ورائه سوى الأضرار. ويقول النبي في توجيه آخر:"المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل." (رواه أبو داود والترمذيّ).
والنبي كما يوضح لنا أثر الحب والصداقة على الناس في الدنيا، يوضح لنا كذلك أثر هذا الحب علينا في الآخرة. فإذا كنا نحب الأخيار الأبرار، فنحن معهم يوم القيامة. وهي دعوة لنا لكي ننتقي أصدقاءنا وأحبابنا وألا تضيعنا عواطفنا وتغرقنا في بحار علاقات من شأنها أن تغير فطرتنا وتنحدر بنا نحو الرذائل وسوء الخلق.
في الصحيحين من حديث أنسرضي الله عنهأن النبيصلى الله عليه وسلمقال : "المرء مع من أحب."
ترى كيف يكون المجتمع حين يحب كل فرد منه أخاه كما يحب نفسه؟ وكيف يكون حال المجتمع، حين يسعى أفراده للعيش بحب واختيار دقيق لمن يحبونه ويشاطرونه رحلة الحياة؟ لابد وأن البشرية لو تمسكت بهذه اللمسات الدافئة، ستعيش أهنأ ما تكون.
إن البشرية اليوم في حاجة ماسة وملحة لعودة الحب إليها وللعيش بالحب بعدما طغت عليها الماديات، وغلظت المشاعر والشهوات.
البشرية بحاجة ملحة إلى عودة معاني الحب السامية، التي لا يمكن اختزالها في علاقة بين رجل وامرأة، بل تمتد لتشمل الأهل والأصدقاء، حتى المكان الذي نعيش فيه. ولن تجد البشرية إنسانا يكون خير قدوة لها في الحب مثل محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعث برسالة كلها الحب، وعاش بالحب، ومات بالحب.
المزاح والترويح عن النفس والآخرين في حياة النبي:
رغم الأعباء الثقيلة واالمهام الجسام التي كان رسول الله متحملا لها، إلا أنك ترى وجهه دوماً مشرقاً بالبشر والحبور.
ابتسامة عذبة لا تفارق وجهه المملوء تفاؤلا وسرورا. لم يُر قط عابسا ولا متجهما، بل كان دوما ناشراً لجو المرح والبهجة في المكان الذي يتواجد فيه.
يريد للبشرية أن تغلف حياتها السعادة.. يمزح ويمازح.. يبتسم ويداعب.. يمازح بأدب وذوق.. يعلم ويربي بمزاحه.. يعلمنا كيف نجعل من المزاح وسيلة للتربية تارة ووسيلة لنشر الحب تارة أخرى.
مزاحه يجعلك تتعلق به وتحبه، وتشعر أنك أمام رجل مختلف عن كل البشر. أنّى له بهذا الوقت، وهذه القدرة على المرح والمزاح، وهو في ما هو فيه من تحمل لمهام الدعوة ونشر الإسلام؟
ولعل أبرز ما يلفت الأنظار في جانب الحب عند رسول الله أنه كان يحث الناس ويعلمهم كيف يعبرون عن مشاعرهم، ويوضح لهم بمواقفه الرقيقة قيمة التعبير عن هذا الحب لدى الآخرين. فقد حدث ذات يوم أن قال أحد الصحابة لرسول الله: إني أحب فلانا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب أحدكم أخاه فليُعلمه أنه يحبه." (رواه أحمد وأبو داود).
ما أعظمك يا حبيب الله. حريص أنت دوما على الرقي بمن حولك في كل شيء، حتى في نشر الحب. تريد لنا الوصول إلى أعلى الدرجات.
تعلمنا قيمة التعبير عن مشاعرنا لمن حولنا، وألا نجعل هذه المشاعر حبيسة الأدراج، وإلا فكيف يعرف الصديق أننا نحبه بينما لا نخبره بهذه المشاعر التي نشعر بها تجاهه؟
سيرة النبي محمد دعوة مفتوحة للحب؛ دعوة لكي لا نوصد الأبواب أمام مشاعرنا النبيلة والسامية، دعوة للتواصل بالحب والتصريح لأصدقائنا وأزواجنا بحبنا لهم، فهذا أحرى بأن يدوم الحب بين القلوب، ويشعر الطرف الآخر بقيمته لديك.
حبه لزوجاته صلى الله عليه وسلم:
من من الرجال اليوم يمكنه أن يقف أمام كل من يعرف ويقول أحب زوجتي، نعم أحبها، بل هي أحب الناس إلي؟
إنه عظيم حقا من يعبر عن مشاعره لزوجته على الملأ، رغم ما يقال من أن الرجال ينسون المشاعر عندما يتزوجون، ولا يلقون لها بالا عندما يمرون بعتبة الزوجية. إلا أن هذا الأمر بعيد تماما عن شخصيات فهمت الإسلام على حقيقته، وأبعد ما يكون عن شخصية النبي الذي علم الأزواج قيمة التعبير عن الحب لزوجاتهم، وقيمة أن يحيا الإنسان في بيته بالحب.
فهاهو النبي يتعامل مع عائشة بكل حب، وحين يُسأل عن أحب الناس إليه يقول: عائشة. ففي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية قِبَل نجد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال:عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها."
وكأن النبي يقول لنا إن أكثر إنسان أحبه قلبه هو عائشة، فهو يحمل لعائشة رضي الله عنها من المشاعر أكثر مما يحمله لغيرها منالناس. وهي أحب الناس قاطبة إليه، وهو لا يستحيي منهذا الأمر، أو يكتمه، بل يعلنه ويعرب عنه على الملأ.
هذا النبي المحب لزوجته، يعلم الرجال فن الرومانسية مع الأزواج، حين تشرب عائشة، فيبحث عن موضع فمها، ليشرب منه.
عن عائشة -رضي الله عنها-قالت: "كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي، فيضع فاه على موضع فِي." (رواه مسلم).
صورة رومانسية حقة، تأتينا من رجل يحمل أعباء لا مثيل لها. ومع ذلك، لا تطغى عليه أعباء وهموم الحياة، ولا تؤثر على بيته. صورة تعلمنا كيف يكون التعامل بحب ورومانسية مع شريك الحياة.
ولعل أصدق صورة تعبر عن حقيقة الحب في حياة النبي أنه حين مات، مات على صدر زوجته عائشة التي أحبها قلبه كثيرا.
مشهد يعجز عن وصفه أي تعبير وأي كلمات: النبي الخاتم تنتهي حياته بلمسة حب، حين يموت في أحضان زوجته.
لماذا لم يمت وهو يحج؟!
لماذا لم يمت وهو يصلي؟!
وهو ساجد لله عز وجل؟!
إنها رسالة عظيمة مؤداها: إن هذا الدين هو دين الحب والحنان والمودة، وهذا النبي محب للحب ولكل من حوله وما حوله. محب للبشرية جميعا.
فمن الذي بعد كل ذلك، يمكنه أن يغفل هذا الجانب في حياة رسولنا؟
من من الناس يمكنه أن يمر بحياة النبي، دون أن يستنشق عبق هذه المشاعر ويأخذ بعضا من نفحاتها، ليتعلم كيف يسير على درب النبي، فيحيا بلا متاعب في حياته الخاصة؟
حبه لأصحابه صلى الله عليه وسلم:
العلاقة بين النبي وأصحابه، علاقة حب قوية الأواصر، متينة الأركان.
أبو بكر رفيق رحلة الحياة، تربطه بالنبي علاقة إنسانية رائعة، وعلاقة حب عظيم. ولقد بدت دلائل هذا الحب من الرسول لأبي بكر، حين استعد للهجرة. فقد اختار أبا بكر ليكون رفيقه في هذه الهجرة، وليكون حامل سر هذه الهجرة.
كان النبي يحب أبا بكر كثيرا، ويقضي معه أجمل أوقاته، ويعبر له عن حبه، ويتكلم كثيرا عن فضل أبي بكر.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلا. إن صاحبكم خليل الله." (رواه مسلم).
وقد وصفة الرسولصلى الله عليه وسلم بالصدّيق، فعن أنس بن مالكرضي الله عنه قال: صعد رسول اللهصلى الله عليه وسلم أُحداً ومعه أبوبكر وعمروعثمان، فرجف بهم فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبيوصديق وشهيدان." (رواه مسلم).
وقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وذاتيده أبوبكر." (رواه الترمذي). وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقضي في مال أبي بكر كمايقضي في مال نفسه.
وعن أبي هريرةرضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر." (رواه أحمد). فبكى أبوبكر وقال: "وهل أنا ومالي إلا لك يارسول الله."
هذا الحب الذي عاش به النبي لصديقه ورفيق رحلة حياته، يعلمنا كيف تكون الصداقة خالية من المصالح الشخصية، ويعلمنا قيمة الصديق الحقيقي، وقيمة وجوده إلى جوارنا في الحياة، ويعلمنا قيمة الاحتفاظ بهذا الصديق، وكيف نكون له خير عون في الحياة، وكيف نشبعه من صداقتنا، وما تحويه هذه الصداقة من حب ورحمة.
الحب لمن لم يرهم بعد:
أن تحب شخصا تعرفه وتخالطه، فهذا لا يدعو إلى العجب، ولكن أن تحب شخصا لم تره بعد، فهذا حقا ما يدعو إلى العجب!
نحن أتباع النبي لم نره ولم يرنا، ومع ذلك يخبر النبي أصحابه بحبه لنا، حين يقول للصحابة: "وددت لو رأيت إخواني. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين يأتون من بعدي ويؤمنون بي ولم يروني." (رواه الإمام أحمد وأبو يعلى).
هذا التعبير عن الحب والاشتياق لأناس لم يرهم، ما هو إلا خير تعبير عن طبيعة هذه الشخصية العظيمة التي تحيا بالحب وتعبر عن حبها في كل مناسبة.
إنه الحب للخير وللصلاح وللفطرة السليمة. فما الذي يدعوه لحب أناس لم يرهم بعد، سوى أنهم يتمتعون بالخير والتقوى، رغم أنهم لم يروا حامل هذه الرسالة؟
ما أروع مشاعرك يا رسول المشاعر. ما أعظمك حين تغرس في نفوسنا حب الخير والإيمان بتركك هذه الرسالة لنا!
وما أعظمك حين تعلمنا كيف نحب من حولنا، ولو لم يكونوا أهلنا، فنحبهم لأنهم يسيرون على درب الخير والصلاح!
حبه للمكان الذي عاش فيه:
تعليق