السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله
الحمد لله رفع بلا عمد السماوات، ومد الأرض وجعلها قطع متجاورات، وأرسل الريح فجعلها مبشرات، وجعل للإنسان معقبات، يحفظونه بأمر الله من البليات، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من كل الثمرات
رزقا للعباد
ولكل قوم هاد
والصلاة والسلام على نبي الرحمات، ورسول البشريات، وخاتم الرسالات، محمد صلوات ربي عليه والتسليمات
وعلى آله ومن والاه حق الموالات
وبعد،،
قال الإمام –القيم- ابن القيم رحمه الله وطيب ثراه في كتابه الذي ألفه وهو مسافر فسماه
زاد المعاد
ليكون زادا لكل مسافر في سفره، فهو يحوي سنن الحبيب صلى الله عليه وسلم وهديه،
وما أطال الإمام فيه ومع ذلك الكتاب دون أي تعليقات عليه يخرج فيما لا يقل عن مجلدين كبار
قال رحمه الله
((فسبحان من عَظُمَ جودُه وكرمُه أن يُحيطَ به علم الخلائق، فقد أعطى السلعة، وأعطى الثمن، ووفق لتكميل العقد، وقبل المبيعَ على عيبه، وأعاض عليه أجلَّ –أي أعظم- الأثمان، واشترى عبده من نفسه بماله، وجمع له بين الثمن والمثمَّن، وأثنى عليه، ومدحه بهذا العقد وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه)).
ا.هـ من كلام ابن القيم
لله در ابن قيم الجوزية، كلام يشع منه النور ويفوح منه عطر الزهور
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال
((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة))
والحديث رواه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني.
فهذه الجنة هي سلعة الله، وقد دلنا الله جل وعلا على العقد الذي به نأخذ هذه السلعة
قال تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}
[الصف : 10 - 12]
فمن الذي يوفق العبد للإيمان؟
إنه الله، فلولا أن أذن الله للعبد بالإيمان ما آمن
فهذا محض فضل
ومنة ونعمة من الله وكرم وجود وتوفيق ورحمة
ثم اسمع رعاك الله ماذا قال الله تعالى
قال تعالى
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ
وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
[التوبة : 111]
من الذي اشترى من المؤمنين؟
ومن الذي وهب المؤمنين أنفسهم وأموالهم وإيمانهم؟
يا إلهي
عجبت وربي ما هذه العظمة
هو الذي خلقك وهو الذي رزقك وهو الذي وفقك للإيمان وهو الذي تفضل عليك،
ثم يشتري منك هذه النفس التي وفقها هو للإيمان والعمل الصالح، ثم يبشر المؤمنين بأن هذا البيع ماضٍ لا محالة وأنه هو الفوز العظيم
بالله دلوني
ألا يستحق منا ربنا ألّا نحب سواه مثله، ألا يستحق أن يكون أحب إلينا مما سواه
ثم رسوله النبي صلى الله عليه وسلم الذي دلنا على ربنا جل وعلا
ألا نحبه ونحب رسوله كي نذوق حلاوة الإيمان؟
أللإيمان حلاوة؟
نعم للإيمان حلاوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما))
والحديث رواه البخاري وأحمد وغيرهما من طريق أنس بن مالك رضى الله عنه
أحبتي في الله
إن الصحابة لما وصل إليهم هذا المفهوم، فهموه ووعوه بحق، وفهموا مراد الله منهم ولذلك رأينا منهم العجب العجاب
ومن ذلك ما روه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق أنس بن مالك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر قال
((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام الأنصاري:يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض
قال: نعم
قال: بخ بخ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ
قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها
قال: فإنك من أهلها
فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن
ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة
قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل)).
سبحان ربي
أرئيتم هذا الرجل الذي ما إن سمع ذكر الجنة من النبي صلى الله عليه وسلم،إلا نهض وقام ليعمل لها مع أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره أنه من أهلها
ثم تأملوا قوله لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة ، ما الذي حمله على رمي هذه التمرات التي لن تكلفه سوى دقيقة أو دقيقتين على الأكثر
هلا انتظر حتى أكلها
لا
رماها لأن حب الجنة ملء قلبه وعقله وروحه وكيانه، فانشغل بالله وبالجنة فقط وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنت من أهلها، فجال خاطره ويكأنه يجول في الجنة بين روضاتها وجنانها وأنهارها وسهولها، فهب من مكانه ليقاتل فيقتل حتى يدخل الجنة لأنه يعلم أن الذي يحول بينه وبين الجنة أنه حي في هذه الدنيا، لذلك قال إنها لحياة طويلة فقام فقاتل فقتل.
ثم انظر لهذا الصحابي الكبير القدر العظيم الشأن
إنه أنس بن النضر، ففي الحديث الذي روه البخاري من طريق أنس بن مالك قال
((غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع
فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه-
وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال:
يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد
قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع
قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه)).
هذا رجل شم ريح الجنة وهو حي فحمله هذا على الجد،ولذلك قال لأني أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع
فهذا رجل عاهد الله عهدا أنه لو أمهله الله لقتال مقبل أن يقاتل في سبيل الله قتال الفرسان تعويضا لما فاته في بدر
وقد صدق الله فصدقه الله فمات شهيدا ونزل فيه قول الله تعالى
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}
[الأحزاب : 23]
وأنس بن النضر هذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره))
وذلك أن أخته وكان اسمها الرُبَيّع كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص
فقال أنس: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فرضوا –أي أولياء المرأة- بالأرش- أي بالفدية-
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) وهو جزء من الحديث السابق
وقال ابن الجوزي في كتابه العاطر صيد الخاطر
((ولولا جد أنس بن النضر في ترك هواه وقد سمعت من آثار عزمته لئن أشهدني الله
مشهداً ليرين الله ما أصنع، فأقبل يوم أحد يقاتل حتى قتل فلم يعرف إلاببنانه
فلولا هذا العزم ما كان انبساط وجهه يوم حلف والله لا تكسر سن الربيع)).
ومثال آخر لرجل آخر من رجال الصحابة رضوان الله عليه، إنه رجل أعرابي وخبره في سنن النسائي وغيره وصححه الألباني
فعن شداد بن الهاد رضي الله عنه: ((أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه
ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا
قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم
فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا
قال: قسمته لك
قال: ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا -وأشار إلى حلقه بسهم-
فأموت فأدخل الجنة
فقال: إن تصدق الله يصدقك
فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو
قالوا:نعم
قال: صدق الله فصدقه
ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته:
اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك)).
ما على هذا اتبعتك
لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم على عرض من الدنيا زائل يحوذه، ولا لمكانة يحوذها بعد القتال، ولم يتبعه من أجل إظهار شجاعة يتزلف بها ويتكسب بها من وجوه الدنيا ما شاء، ولم يبتغ في هذا رفعة في الدنيا وجاه ومديح وثناء
وإنما
اتبع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقتل سبيل الله
ليس هذا فحسب
بل أشار إلى الموضع الذي يريد أن يقتل منه، فقدر الله أن يكون موته من نفس الموضع الذي أشار إليه
فهذا رجل عاهد الله وصدق الله في عهده فصدقه الله، فنال الجنة بهذا الصدق وهذه العزيمة
هذا ولست بمستقص لك إنما هي إشارة
هؤلاء الرجال
من الذي وفقهم لهذا العزم وهذا الصدق؟
من الذي وهبهم أسباب دخولهم الجنة؟
ومن الذي اشترى منهم أنفسهم بهذا الصدق؟
ومن الذي أعطاهم الجنة؟
إنه الله الملك الوهاب الكريم الحليم
فيا أحبة
إن الجنة التي نشتاق إليها إنما هي خلق من خلق الله يهبه لمن يشاء
وإن النفس المؤمنة التي تدخل الجنة الذي خلقها ووهبها الإيمان إنما هو الله عز وجل
وإن الذي يشتري هذه النفس المؤمنة من المؤمنين بعقد ليعاوض عليه إنما هو الله
وإن العوض الذي يعاوضه الله بهذا الشراء وهو الجنة إنما هو محض فضل من الله
وإن العبد مهما فعل ففعله معيب ناقص، ومع ذلك يقبل الله منه على عيبه
فلله ما أعظمه وما أحلمه
رب كريم جواد
وكان الحسن البصري إذا قرأ قول الله تعالى
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}
يقول أنفس هو خلقها وأموال هو رزقها
وأخيرا أقول
إن الجنة لن ينالها أحد بعمله مهما كان عمله، ومهما كان هو حتى النبي صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة بعمله، فدخول الجنة إنما هو فضل من الله ورحمة وهبة ليس إلا
ولست أعني بهذا أن نترك العمل
وإنما علينا العمل للجنة لأن العمل للجنة دليل على توفيق الله للعبد أن يكون ممن يتغمده الله برحمته، فيدخله الجنة وليس أدل على أنه لا يجوز ترك العمل ارتكانًا على أن دخول الجنة إنما هو بفضل الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك العبادة قط
مع أنه كان مغفور الذنب مطهر القلب
فما بالنا بالذي لا يدري أقبل الله منه عمله أم لا
لذلك العمل للجنة أصل أصيل وركن ركين
قال تعالى
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}
[آل عمران : 133 - 135]
وقال تعالى {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
[البقرة : 25]
وقال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
[البقرة : 82]
وقال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}
[النساء : 57]
وهكذا ستجد السايق القرآني، أن أصحاب الجنة هم الذين يعملون الصالحات
إنها الجنة يا كرام هي سلعة الله الغالية
فهلا نبذل لها ونقتفي أثر النبي صلى الله علي وسلم وصحابته كي ننال بذلك القدح المعلى، ليسعد بنا النبي صلى الله عليه وسلم على الحوض ولا نكون ممن تدفعه الملائكة بعيدا عن الحوض لأنهم بدلوا وغيروا وتركوا العمل الصالح وسلكوا غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واتخذوا سبيل الفجار الفساق
ولكن مع العمل تكون قلوبنا متعلقة بالله أنه لولا فضل الله لن ندخل الجنة أبدا وإن صمنا النهار وقمنا الليل واعتكفنا العمر كله
قلت ما قرأتم
فما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان وأنا أرجع عنه ولا أقول به وأستغفر الله منه ولا أعدم نصيحة ناصح
وأسأل الله تعالى أن يجعل ما قرأتم زادا لحسن المسير إليه وعتادا ليمن القدوم عليه
إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل
كتبه
المعتز بالله العلي الفقير إلى جوده الجلي
أبـو يـوسـف الـوراقـي
المعتز بالله العلي الفقير إلى جوده الجلي
أبـو يـوسـف الـوراقـي
تعليق