بدء إسلام الأنصاروهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
ولما جاء الموسم تعّرَض رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر منهم يبلغون الستة، وكلهم من الخزرج وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك من بني زريق، وقُطْبة بن عامر من بني سَلِمة، وعقبة بن عامر من بني حَرَام، وجابر بن عبد الله من بني عبيد بن عدي، ودعاهم إلى الإسلام وإلى معاونته في تبليغ رسالة ربه، فقال بعضهم لبعض: إنه للنبي الذي كانت تَعِدُكم به يهود فلا يَسْبِقُنَّكُمْ إليه، فآمنوا به وصدّقوه، وقالوا: إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك، ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل، وهذا هو بَدء الإسلام لعرب يثرب.
العقبة الأولى
فلما كان العام المقبل قدم اثنا عشر رجلاً، منهم عَشَرة من الخزرج، واثنان من الأوس، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث، ورافع بن مالك، وذكوان بن قيس، وعُبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر، وهؤلاء من الخزرج، وأبو الهيثم بن التَّيِّهان، وعُوَيم بن ساعدة وهما من الأوس، فاجتمعوا به عند العقبة، وأسلموا وبايعوا رسول الله على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فإن وَفَوا فلهم الجنة، وإن غَشوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى الله عز وجل، إن شاء غفر وإن شاء عذب، وهذه هي العقبة الأولى.
فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير العبدري وعبد الله ابن أُم مكتوم وهو ابن خال خديجة يُقرآنهم القرآن، ويفقهانهم في الدين،
العقبة الثانية
ولما كان وقت الحج في العام الذي يلي البيعة الأولى، قدم مكة كثيرون منهم يريدون الحج، وبينهم كثير من مُشركيهم، ولما قابل وفدهم رسول الله، واعدوه المقابلة ليلاً عند العقبة، فأمرهم أن لا يُنبِّهوا في ذلك الوقت نائماً، ولا ينتظروا غائباً، لأن كل هذه الأعمال كانت خفية من قريش كيلا يطّلعوا على الأمر، فيسعَوا في نقض ما أبرم، شأنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره. ولما فرغ الأنصار من حجهم توجهوا إلى موعدهم كاتمين أمرهم عمّن معهم من المشركين وكان ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول فكانوا يتسللون الرجل والرجلين حتى تم عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً منهم اثنان وستون من الخزرج وأحد عشر من الأوس ومعهم امرأتان وهما: نُسَيبة بنت كعب من بني النجار وأسماء بنت عمرو من بني سَلمة ووافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك وليس معه إلا عمه العباس بن عبد المطلب وهو على دين قومه ولكن أراد أن يحضر أمر ابن أخيه ليكونَ متوثقاً له فلما اجتمعوا عرَّفهم العباس بأن ابن أخيه لم يزل في مَنَعة من قومه حيث لم يمكِّنوا منه أحداً ممّن أظهر له العداوة والبغضاء وتحملوا من ذلك أعظم الشدة ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإلا فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم فقال كبيرهم المتكلم عنهم البَراء بن معرور: والله لو كان لنا في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل مُهَجنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينذاك ابتدأت المبايعة وهي العقبة الثانية فبايعه الرجال على ما طلب وأول من بايع أسعد بن زرارة وقيل البراء بن معرور ثم تخير منهم اثني عشر نقيباً لكل عشيرة منهم واحد تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وهم: أبو الهيثم بن التَّيِّهان وأسعد بن زرارة وأسيد بن حضير والبراء بن معرور ورافع بن مالك وسعد بن خيثمة وسعد بن الربيع وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وعبد الله بن عمرو وعبادة بن الصامت والمنذر بن عمرو ثم قال لهم: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريِّين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل على قومي.
هجرة المسلمين إلى المدينة
ولما رجع الأنصار إلى المدينة ظهر بينهم الإسلام أكثر من المرة الأولى. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فازداد عليهم أذى المشركين لما سمعوا أنه حالف قوماً عليهم، فأمر عليه الصلاة والسلام جميع المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يتسلَّلون خيفة قريش أن تمنعهم.
وأول من خرج أبو سلمة المخزومي زوجُ أم سلمة ومعه زوجه، وكان قومها منعوها منه ولكنهم أطلقوها بعد فَلحقت به. وتتابع المهاجرون فراراً بدينهم ليتمكنوا من عبادة الله الذي امتزج حبّه بلحمهم ودمهم، حتى صاروا لا يعبؤون بمفارقة أوطانهم والابتعاد عن آبائهم ما دام في ذلك رضا الله ورسوله. ولم يبق بمكة منهم إلا أبو بكر وعلي وصهيب وزيد بن حارثة، وقليلون من المستضعفين الذين لم تمكِّنهم حالُهم من الهجرة.
وقد أراد أبو بكر الهجرة فقال له عليه الصلاة والسلام: «على رِسْلك فإني أرجو أن يؤذن لي»، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم». فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر استعداداً لذلك.
دار الندوة
دار الندوة
أما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا بمَسِّ الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة الأنصار له على الذَود عنه حتى الموت، فاجتمع رؤساؤهم وقادتهم في دار الندوة وهي دار قصيّبن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه. فقال قائل منهم: نخرجه من أرضنا كي نستريح منه، فرُفِض هذا الرأي لأنهم قالوا: إذا خرج اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حلاوة منطقه وعذوبة لفظه. وقال لهم طاغيتهم: بل نقتله، ولنمنع بني أبيه من الأخذ بثأره، نأخذ من كل قبيلة شاباً جلداً يجتمعون أمام داره، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيفترق دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم بل يرضون بالدية، فأقرّوا هذا الرأي. هذا مكرهم، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[1] فأعلم نبيه بما دبره الأعداء في سرّهم، وأمره باللحاق بدار هجرته، بدار فيها ينشر الإسلام، ويكون فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم العزة والمنعة. وهذا من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر الإسلام بمكة لقال المبغضون: إن قريشاً أرادوا مُلْكَ العرب، فعمَدوا إلى شخص منهم، وأوعزوا إليه أنْ يدَّعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل مآربهم، ولكنهم كانوا له أعداء ألدَّاء، آذوه شديد الأذى حتى اختار الله له مفارقة بلادهم والبعد عنهم.
هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
فتوجه من ساعته إلى صديقه أبي بكر وأعلمه أن الله قد أذِنَ له في الهجرة فسأله أبو بكر الصحبةَ فقال نعم ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا معدَّتين لذلك فجهزهما أحثّ الجهاز وصُنعت لهما سُفْرَة في جِرَاب فقطعت أسماء بنت أبي بكر نِطاقها وربطت به على فم الجراب واستأجرا عبد الله بن أُرَيقط من بني الدِّيل بن بكر وكان هادياً ماهراً وهو على دين كفار قريش فأمِنَاه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ ثم فارق الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وواعده المقابلة ليلاً خارج مكة وكانت هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما أقرّوا عليه فاجتمعوا حول باب الدار ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخله فلما جاء ميعاد الخروج أمر ابن عمه عليّاً بالمبيت مكانه كيلا يقع الشك في وجوده أثناء الليل فإنهم كانوا يرددون النظر من شقوق الباب ليعلموا وجوده ثم سجَّى عليَّاً ببرده وخرج على القوم وهو يقرأ (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)[2] أما المشركون فلما علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون علي بن أبي طالب لا محمد بن عبد الله هاجت عواطفهم فأرسلوا الطلب من كل جهة وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمد أو يدل عليه، وقد وصلوا في طلبهم إلى ذلك الغار الذي فيه طِلْبَتُهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما حتى أبكى ذلك أبا بكر فقال له عليه الصلاة والسلام (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[3] فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يَحِنْ لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار بل صار أعدى الأعداء أمية بن خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار.
النزول بقُباء
فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء والذي حققه المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع الأول الذي يوافق 20 سبتمبر سنة 622، وهذا أول تاريخ جديد لظهور الإسلام بعد أن مضى عليه ثلاث عشرة سنة، وهو مضيق عليه من مشركي قريش ورسول الله ممنوع من الجهر بعبادة ربه أما الآن فقد آواه الله هو وصحابته رضوان الله عليهم بعد أن كانوا قليلاً يتخطفهم الناس.
فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء والذي حققه المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع الأول الذي يوافق 20 سبتمبر سنة 622، وهذا أول تاريخ جديد لظهور الإسلام بعد أن مضى عليه ثلاث عشرة سنة، وهو مضيق عليه من مشركي قريش ورسول الله ممنوع من الجهر بعبادة ربه أما الآن فقد آواه الله هو وصحابته رضوان الله عليهم بعد أن كانوا قليلاً يتخطفهم الناس.
هجرة الأنبياء
وبهذه الهجرة تمّت لرسولنا صلى الله عليه وسلم سُنَّةُ إخوانه من الأنبياء من قبله فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته، فهاجر عنها من إبراهيم أبي الأنبياء، وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في طاعة الله.
فَسَلْ مصر وتاريخها تُنبئك عن إسرائيل (يعقوب) وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من بَنِيها ترحيباً بهم وتركهم وما يعبدون إكراماً ليوسف وحكمته. ولما مضت سنون، نسي فيها المصريون تدبير يوسف وفضله عليهم، فاضطهدوا بني إسرائيل وآذوهم، خرج بهم موسى وهارون ليتمكنوا من إعطاء الله حقه في عبادته وهرب المسيح عليه السلام من اليهود حينما كذَّبوه، فأرادوا الفتك به حتى كان من ضمن تعاليمه لتلاميذه طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات ثم قال بعد افرحوا وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السموات فإنهم طردوا الأنبياء الذين قبلكم وسَل القرى التي حلّت بها نقمة الله بكفر أهلها كديار لوط وعاد وثمود تنبئك عن مُهَاجَرة الأنبياء منها قبل حلول النقمة فلا غرابة أن هاجر عليه الصلاة والسلام من بلاد منعه أهلها من تتميم ما أراده الله {سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)[4][1] سورة آل عمران 54
[2] سورة يس 6
[3] سورة التوبة 40
[4] سورة الأحزاب 62
تعليق