هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السِّحر الذي
سحرته اليهود به([1])
قد أنكر هذا طائفة من الناس، وقالوا لا يجوز هذا عليه، وظنوه نقصًا وعيبًا، وليس الأمر كما زعموا بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسُّم لا فرق بينهما، وقد ثبت في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: سُحِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليُخَيَّل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن، وذلك أشد ما يكون من السحر([2]).
قال القاضي عياض: والسحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل يجوز عليه صلى الله عليه وسلم ، كأنواع الأمراض مما لا ينكر، ولا يقدح في نبوته صلى الله عليه وسلم ، وأما كونه يُخَيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، وليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طُروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها، ولا فُضِّلَ من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان.
والمقصود: ذكر هديه في علاج هذا المرض، وقد روي عنه فيه نوعان:
أحدهما – وهو أبلغهما – استخراجه وإبطاله، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه سبحانه في ذلك، فَدُلَّ عليه، فاستخرجه من بئر، فكان في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر([3])، فلما استخرجه ذهب ما به، حتى كأنما أنشط من عقال([4]) فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ.
والنوع الثاني: الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر، فإن للسحر تأثيرًا في الطبيعة، وهيجان أخلاطها، وتشويش مزاجها، فإذا ظهر أثره في عضو، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو، نفع جدًا.
وقد ذكر أبو عبيد في كتاب (غريب الحديث) له بإسناده، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طُبَّ([5]) قال أبو عبيد: معنى طُبَّ: أي سحر.
وقد أشكل هذا على من قل علمه، وقال: ما للحجامة والسحر، وما الرَّابطة بين هذا الداء وهذا الدواء، ولو وجد هذا القائل أبقراط، أو ابن سينا، أو غيرهما قد نص على هذا العلاج، لتلقاه بالقبول والتسليم وقال: قد نصَّ عليه من لا يُشَكُّ في معرفته وفضله.
فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به صلى الله عليه وسلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدَّم منه، فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية.
والسحر: هو مُركَّب من تأثيرات الأرواح الخبيثة، وانفعال القوى الطبيعية عنها، وهو أشد ما يكون من السحر، ولا سيما في الموضع الذي انتهى السحر إليه، واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع المعالجة إذا استعملت على القانون الذي ينبغي.
قال أبقراط: الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها.
وقالت طائفة من الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب بهذا الداء، وكان يُخيلَّ إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ، وغلبت على البطن المقدم منه، فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له، وكان استعمال الحجامة إذ ذاك من أبلغ الأدوية، وأنفع المعالجة، فاحتجم، وكان ذلك قبل أن يوحى إليه أن ذلك من السحر، فلما جاءه الوحي من الله تعالى، وأخبره أنه قد سحر، عدل إلى العلاج الحقيقى وهو استخراج السحر وإبطاله، فسأل الله سبحانه، فدله على مكانه، فاستخرجه، فقام كأنما أنشط من عقال، وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده، وظاهر جوارحه، لا على عقله وقلبه، ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه من إتيان النساء بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له، ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض، والله أعلم. تفسير قوله تعالى
} ومن شَرِّ النَّفَّاثاتِ في الْعُقَدْ{
قوله تعالى: }وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ{.
قال مجاهد وعكرمة: يعني السواحر، قال مجاهد: إذا رقين ونفثن في العُقَد، وفي الحديث: أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتكيت يا محمد؟ فقال: (نعم) فقال: باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، ومن شر كل حاسد وعين، الله يشفيك([6]) ولعل هذا كان من شكواه صلى الله عليه وسلم حين سحر، ثم عافاه الله تعالى وشفاه، ورد كيد السحرة الحسَّاد من اليهود في رؤوسهم وجعل تدميرهم في تدبيرهم.
روى البخاري في كتاب الطب من صحيحه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن. قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا فقال: (يا عائشة أعلمِت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلَّي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبَّه؟ قال (لبيد بن أعصم) رجل من بني زريق حليف اليهود كان منافقًا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وأين؟ قل: في جف طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذروان، قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: (هذه البئر التي أُريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رؤوس الشياطين)، قال: فاستخرج، فقلت: أفلا تنشَّرت؟ فقال: (أَمَّا الله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا)([7]) وروى الثعلبي في تفسيره، قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما: كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدبَّت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له (ابن أعصم) ثم دسها في بئر لبني زريق، يقال له ذروان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوب، ولا يدري ما عراه، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طُبَّ، قال: وما طُبْ؟ قال: سُحِرْ،قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: وبم طبه؟ قال: بمشط ومشاطة، قال: وأين هو؟ قال: في جُفِّ طَلْعِة ذكر تحت راعوفةٍ في بئر ذروان، (و الجُفُّ) قشر الطلع، (والراعوفة) حجر في أسفل البئر ناتيء يقوم عليه الماتح، فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم : مذعورًا، وقال: (يا عائشة أما شعرتِ أن الله أخبرني بدائي) ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء البئر، كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجف، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود فيه اثنا عشر عقدة مغروزة بالإبر، فأنزل الله تعالى السورتين، (الفلق والناس) فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خِفّة حين انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل عليه السلام يقول: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من حاسد وعين، الله يشفيك، فقالوا: يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث نقتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرًا)([8])، ([9])
· · · ·
ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار، والآيات، والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشد، كانت أبلغ في النشرة([10])، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر، قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من محبة الله مغمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه.
وعند السحرة: أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء، الضعاف الإيمان والصبيان، والجهال، وأهل البوادي، ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية.
وبالجملة: فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلها إلى السلفيات، قالوا: والمسحور هو الذي يعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقًا بشيء كثير الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها، فتجدها فارغة لاعدة معها، وفيها ميل إلى ما يناسبها، فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره، والله أعلم.
([1]) من كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم) بتحقيق الأرنؤوط 4/124 – 127.
([2])أخرجه البخاري 10/199 في الطب: باب هل يستخرد السحر، ومسلم (2189) في السلام: باب السحر.
([3])هو من تمام حديث عائشة المتقدم، والمشط معروف، والمشاطة: هي الشعر الذي يسقط من الرأس أو اللحية عند تسريحه، والجف: وعاء طلع النخل، وهو الغشاء الذي يكون عليه، ويطلق على الذكر والأنثى، ولذا قيده في الحديث بقوله (طلعة ذكر).
([4]) انظر (الفتح) 10/200.
([5]) لا يصح.
([6]) رواه مسلم
([7]) ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد.
([8])قال ابن كثير: هكذا أورده الثعلبي بدون إسناد وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم.
([9])من تفسير ابن كثير 4/573 – 574.
([10]) النُشرة – بالضم – ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسًا من الجن، سميت نشرة، لأنه ينشّر بها عنه ما ضاره من الداء، أي: يكشف ويزال.
سحرته اليهود به([1])
قد أنكر هذا طائفة من الناس، وقالوا لا يجوز هذا عليه، وظنوه نقصًا وعيبًا، وليس الأمر كما زعموا بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسُّم لا فرق بينهما، وقد ثبت في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: سُحِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليُخَيَّل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن، وذلك أشد ما يكون من السحر([2]).
قال القاضي عياض: والسحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل يجوز عليه صلى الله عليه وسلم ، كأنواع الأمراض مما لا ينكر، ولا يقدح في نبوته صلى الله عليه وسلم ، وأما كونه يُخَيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، وليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طُروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها، ولا فُضِّلَ من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان.
والمقصود: ذكر هديه في علاج هذا المرض، وقد روي عنه فيه نوعان:
أحدهما – وهو أبلغهما – استخراجه وإبطاله، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه سبحانه في ذلك، فَدُلَّ عليه، فاستخرجه من بئر، فكان في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر([3])، فلما استخرجه ذهب ما به، حتى كأنما أنشط من عقال([4]) فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ.
والنوع الثاني: الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر، فإن للسحر تأثيرًا في الطبيعة، وهيجان أخلاطها، وتشويش مزاجها، فإذا ظهر أثره في عضو، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو، نفع جدًا.
وقد ذكر أبو عبيد في كتاب (غريب الحديث) له بإسناده، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طُبَّ([5]) قال أبو عبيد: معنى طُبَّ: أي سحر.
وقد أشكل هذا على من قل علمه، وقال: ما للحجامة والسحر، وما الرَّابطة بين هذا الداء وهذا الدواء، ولو وجد هذا القائل أبقراط، أو ابن سينا، أو غيرهما قد نص على هذا العلاج، لتلقاه بالقبول والتسليم وقال: قد نصَّ عليه من لا يُشَكُّ في معرفته وفضله.
فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به صلى الله عليه وسلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدَّم منه، فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية.
والسحر: هو مُركَّب من تأثيرات الأرواح الخبيثة، وانفعال القوى الطبيعية عنها، وهو أشد ما يكون من السحر، ولا سيما في الموضع الذي انتهى السحر إليه، واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع المعالجة إذا استعملت على القانون الذي ينبغي.
قال أبقراط: الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها.
وقالت طائفة من الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب بهذا الداء، وكان يُخيلَّ إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ، وغلبت على البطن المقدم منه، فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له، وكان استعمال الحجامة إذ ذاك من أبلغ الأدوية، وأنفع المعالجة، فاحتجم، وكان ذلك قبل أن يوحى إليه أن ذلك من السحر، فلما جاءه الوحي من الله تعالى، وأخبره أنه قد سحر، عدل إلى العلاج الحقيقى وهو استخراج السحر وإبطاله، فسأل الله سبحانه، فدله على مكانه، فاستخرجه، فقام كأنما أنشط من عقال، وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده، وظاهر جوارحه، لا على عقله وقلبه، ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه من إتيان النساء بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له، ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض، والله أعلم. تفسير قوله تعالى
} ومن شَرِّ النَّفَّاثاتِ في الْعُقَدْ{
قوله تعالى: }وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ{.
قال مجاهد وعكرمة: يعني السواحر، قال مجاهد: إذا رقين ونفثن في العُقَد، وفي الحديث: أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتكيت يا محمد؟ فقال: (نعم) فقال: باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، ومن شر كل حاسد وعين، الله يشفيك([6]) ولعل هذا كان من شكواه صلى الله عليه وسلم حين سحر، ثم عافاه الله تعالى وشفاه، ورد كيد السحرة الحسَّاد من اليهود في رؤوسهم وجعل تدميرهم في تدبيرهم.
روى البخاري في كتاب الطب من صحيحه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن. قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا فقال: (يا عائشة أعلمِت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلَّي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبَّه؟ قال (لبيد بن أعصم) رجل من بني زريق حليف اليهود كان منافقًا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وأين؟ قل: في جف طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذروان، قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: (هذه البئر التي أُريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رؤوس الشياطين)، قال: فاستخرج، فقلت: أفلا تنشَّرت؟ فقال: (أَمَّا الله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا)([7]) وروى الثعلبي في تفسيره، قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما: كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدبَّت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له (ابن أعصم) ثم دسها في بئر لبني زريق، يقال له ذروان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوب، ولا يدري ما عراه، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طُبَّ، قال: وما طُبْ؟ قال: سُحِرْ،قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: وبم طبه؟ قال: بمشط ومشاطة، قال: وأين هو؟ قال: في جُفِّ طَلْعِة ذكر تحت راعوفةٍ في بئر ذروان، (و الجُفُّ) قشر الطلع، (والراعوفة) حجر في أسفل البئر ناتيء يقوم عليه الماتح، فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم : مذعورًا، وقال: (يا عائشة أما شعرتِ أن الله أخبرني بدائي) ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء البئر، كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجف، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود فيه اثنا عشر عقدة مغروزة بالإبر، فأنزل الله تعالى السورتين، (الفلق والناس) فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خِفّة حين انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل عليه السلام يقول: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من حاسد وعين، الله يشفيك، فقالوا: يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث نقتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرًا)([8])، ([9])
· · · ·
ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار، والآيات، والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشد، كانت أبلغ في النشرة([10])، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر، قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من محبة الله مغمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه.
وعند السحرة: أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء، الضعاف الإيمان والصبيان، والجهال، وأهل البوادي، ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية.
وبالجملة: فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلها إلى السلفيات، قالوا: والمسحور هو الذي يعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقًا بشيء كثير الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها، فتجدها فارغة لاعدة معها، وفيها ميل إلى ما يناسبها، فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره، والله أعلم.
([1]) من كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم) بتحقيق الأرنؤوط 4/124 – 127.
([2])أخرجه البخاري 10/199 في الطب: باب هل يستخرد السحر، ومسلم (2189) في السلام: باب السحر.
([3])هو من تمام حديث عائشة المتقدم، والمشط معروف، والمشاطة: هي الشعر الذي يسقط من الرأس أو اللحية عند تسريحه، والجف: وعاء طلع النخل، وهو الغشاء الذي يكون عليه، ويطلق على الذكر والأنثى، ولذا قيده في الحديث بقوله (طلعة ذكر).
([4]) انظر (الفتح) 10/200.
([5]) لا يصح.
([6]) رواه مسلم
([7]) ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد.
([8])قال ابن كثير: هكذا أورده الثعلبي بدون إسناد وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم.
([9])من تفسير ابن كثير 4/573 – 574.
([10]) النُشرة – بالضم – ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسًا من الجن، سميت نشرة، لأنه ينشّر بها عنه ما ضاره من الداء، أي: يكشف ويزال.
تعليق