كانواقَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾[ سورة الفرقان ، الآية : 63 ]إلى قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾[ سورة الفرقان ، الآية : 64 ]،
﴿ يَبِيتُونَ ﴾؛ يعني: يقطعون الليل. يقطعون ليلهم في هذا العمل ﴿ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ اقتصر على السجود؛ لأنه أفضل أركان الصلاة، ثم على القيام؛ لأنه أطولها. والسجود فيه: الدعاء، والذكر. والقيام فيه: قراءة القرآن، وفيه التأمين على قراءة الفاتحة. هكذا مدحهم أنهم ﴿ يَبِيتُونَ ﴾؛ يعني: ليلهم كله في هذا التهجد. يبيتون ﴿ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾.
ثم ذكر فضلهم، وذكر جزاءهم، فقال في آخر الآيات: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾
[ سورة الفرقان ، الآية : 75 ] هذا جزاؤهم ﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً ﴾الغرفة: جنس الغرف -يعني- الغرف المبنية في الجنة ﴿غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾[ سورة الزّمر ، الآية : 20 ] جعلها الله تعالى مساكن لعباد الرحمن، وجعل من أعمالهم هذا القيام الذي هو أنهم ﴿ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ .
وهكذا –أيضا- وصفوا في آية أخرى بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾[ سورة الذاريات ،الآيات : 15 ، 16 ،17 ، 18 ] ،﴿كانواقَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ الهجوع: هو النوم –يعني- لا ينامون إلا قليلا، لا ينامون في الليل إلا جزءا يسيرا بقية الليل، ماذا يفعلون؟ يصلون، ويتهجدون، ويركعون ويسجدون، ويتلذذون بهذه الصلاة التي يحبها الله تعالى.
وإذا كان في آخر الليل جلسوا يستغفرون –أي- يستغفرون ربهم، يُحسون بأنهم لم يقوموا بما يلزمهم، كأنهم مذنبون في ليلهم؛ فيختمون ليلهم بالاستغفار كما أمروا بذلك، أو كما مدحوا بذلك في آية أخرى؛ ففي قول الله تعالى: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾[ سورة آل عمران ، الآية : 17 ] ؛ يعني: أنهم في آخر الليل يستغفرون. كيف ذلك مع أنهم طوال ليلهم وهم يصلون؟ إذا جاء في آخر الليل يقولون: ربنا اغفر لنا.. ربنا اغفر لنا.. ربنا اغفر لنا. نستغفرك ونتوب إليك من تقصيرنا ومن إساءتنا ومن نقصنا. هكذا كانت حالتهم؛ ليلهم في تهجد، وآخر ليلهم في استغفار. هذا -بلا شك- مدح لمثل هؤلاء.
كذلك أيضا ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أفضل الأعمال فقال: « الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، وقرأ قول الله تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[ سورة السجدة، الآيتان : 16 ، 17 ]» جزاؤهم على أعمالهم هذا الجزاء الأوفى ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ لا يعلم أحد ما جزاؤهم عند الله تعالى؛ حيث أخفى جزاءهم فلا يعلمونه إلا بعدما يشاهدونه ﴿ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
من عملهم: أنهم إذا تتلى عليهم آيات ربهم يخرون عليها. يخرون: يسجدون ﴿ خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ سورة السجدة ، الآية : 15 ].
ثم ذكر أنهم ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ ﴾–أي- ما تطمئن على الفرش، يتقلبون من جنب إلى جنب، ثم مع ذلك يقومون إلى الصلاة، لا يهنؤهم النوم.
ذكر عن كثير منهم أنه كلما اضطجع وجلس على فراشه ربع ساعة أو نصف ساعة وهو يتململ قام وكبر وصلى، ثم إذا سئم جاء واضطجع ولا يهنأه النوم؛ حتى يقوم مرة أخرى فيصلي. هكذا ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾–أي- تمل من المضجع ولا تريده؛ ولو كان فراشا وطيئا؛ ولو كان فراشا لذيذا، وما ذاك إلا أنهم يحسون بأن الصلاة التي يقومون إليها ويصلونها أنها لذتهم؛ فلذلك لا يهنأهم النوم.
كذلك أيضا ورد في الأحاديث أدلة كثيرة تفيد الحث على الصلاة في الليل، والتهجد، وذكر حالة المتهجدين، زيادة على ما ذكر الله تعالى في مثل هذه الآيات الكريمات.
ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أول ما قدم المدينة سمعه عبد الله بن سلام أول ما سمع منه أنه قال: « أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام.. تدخلوا الجنة بسلام » يعني: أن صلاتك إذا هجع الناس حولك وأخذوا مضاجعهم، وقمت تصلي فإن ذلك من أشرف الأعمال؛ حيث إنك انفردت بهذا العمل دون غيرك ممن حولك « صلوا بالليل والناس نيام » .
وكذلك ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين »وهذا خير كثير، مجرد أنك تقوم الليل؛ ولو لم تقرأ إلا عشر آيات، عشر آيات فقط من القرآن في ليلتك، وفي صلاتك لا تكتب من الغافلين؛ فإن الغافلين.. هم الذين حرموا من فضل الله تعالى، وحرموا من أداء هذه العبادة.
كذلك أيضا ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رحم الله رجلا قام من الليل، وأيقظ امرأته؛ فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل، وأيقظت زوجها؛ فإن أبى نضحت في وجهه الماء »–يعني- من باب التنشيط، يعني: أنه قد يكون متثاقلا في النوم، فإذا صُب على وجهه الماء؛ فإنه يزول عنه النعاس، ويزول عنه الكسل؛ ويقوم نشيطا -بإذن الله تعالى-. هذا من فضل الله.. أنه يستحق الرحمة إذا أقام امرأته، أو أقامت زوجها.
وورد –أيضا- في حديث آخر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قام الرجل من الليل، وأيقظ امرأته، فصليا، كتبا من القانتين والقانتات» -أي- كتب الله تعالى لهم هذا الأجر؛ وذلك لأنهما يتعاونان على الخير، يساعد الرجل امرأته، فيقوم وتقوم معه، وكل منهما يصلي؛ فيكونان بذلك من القانتين الذين مدحهم الله في قوله تعالى: ﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ﴾ [ سورة الأحزاب ، الآية : 35 ] إلى قوله: ﴿ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾.
فنقول: لا شك أن هذه الأدلة الواضحة تفيد أن قيام الليل والصلاة فيه من أفضل القربات، وأشرف الأعمال.
وقد كان السلف -رحمهم الله تعالى- يعتنون بقيام الليل، وقدوتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن الله تعالى أمره بقيام الليل فكان يمتثل ذلك. أمره في أول ما أنزل عليه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾[ سورة المزمل ،الآيات : 1 ، 2 ، 3 ،4 ]؛ فامتثل ذلك، فكان يقوم أكثر الليل.
وكذلك أيضا صحابته -رضي الله عنهم- يقومون مثل ما يقوم، أو قريبا منه، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ﴾[ سورة المزمل ، الآية : 20 ]–أي- قريبا من ﴿ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ﴾ ،﴿وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ﴾–أي- وتقوم نصفه أحيانا، وتقوم ثلثه؛ فكان هذا دأبه. ثم قال: ﴿ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ﴾[ سورة المزمل ، الآية : 20 ]–أي- كان هذا عملهم. فكان -صلى الله عليه وسلم- يصلي نصف الليل، أو ثلث الليل على الأقل، أو ثلثيه؛ إمتثالا لهذا الأمر: ﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾.
حفظ عنه كما في حديث ابن عباس لما بات عند خالته قال له أبوه: اذهب فبت عند خالتك ميمونة في الليلة التي يكون فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- عندها. يقول ابن عباس: « فلما كان نصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعل يمسح النوم عن وجهه، وقرأ العشر الآيات من آخر سورة آل عمران » وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [ سورة آل عمران، الآية : 190]ثم إنه قام وتوضأ. يقول ابن عباس :فكبر. ثم قال ابن عباس : «قمت، وتوضأت، وكبرت عن يساره، فأدارني عن يمينه » يقول: «فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر » ذكر أنه صلى ثلاثة عشر ركعة، يسلم من كل ركعتين، والثالثة عشر هي الوتر؛ الركعة الأخيرة. يقول: ثم اضطجع قليلا حتى أذن الفجر ؛ يعني: أنه مكث نحو خمس ساعات، أو ست ساعات وهو يصلي. ولا شك أنه قد يحس بشيء من التعب؛ فاضطجع قليلا ليريح نفسه، فلما أذن قام وصلى ركعتين خفيفتين؛ وهما سنة الفجر، ثم خرج إلى الصلاة.
فحفظ ابن عباس عنه: أنه صلى ثلاث عشرة ركعة في تلك الليلة، وأنه قضاها في نحو نصف الليل، أو ثلثه، أو ثلثيه. وهذا تطبيق لما أخبر الله تعالى، أو لما أمره به: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ﴾.
كان الصحابة أيضا -رضي الله عنهم- يتلذذون بقيام الليل، يقتدون بنبيهم، ويقتدون بعباد الله الصالحين الذين مدحهم بقوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ﴾فيقتدون بهم في هذا العمل الصالح، ويحبون أن يصلوا.
كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يصلي كل ليلة الليل كله، إذا صلى العشاء كبر، وابتدأ يقرأ القرآن من أوله من سورة البقرة، وإذا كان في آخر الليل وإذا هو قد ختم، ولا يقطع قراءته؛ إلا لسجدات التلاوة، ويجعل قراءته القرآن كله في ركعة وترا. هذه صلاته. هكذا يقول بعض الصحابة: راقبت عثمان -رضي الله عنه- وإذا هو يقرأ، ثم يسجد، ثم يقوم فيقرأ ويقرأ ويقرأ ثم يسجد، ثم يقرأ ويقرأ ثم يسجد، وإذا هو إنما يسجد سجدات التلاوة. السجدات التي في القرآن: في آخر الأعراف، وفي الرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، إلى آخرها... فهكذا قيامه.
عمر -رضي الله عنه- وكذلك أبو بكر كانوا يقومون الليل، وكانوا يقومون في آخره؛ يعني: الثلث الأخير من الليل، أو نحوه.
كان أبو بكر -رضي الله عنه- يسر بالقراءة، فسئل عن ذلك، فقال: أسمع نفسي وأناجي ربي. يعني: أن ربي يسمعني؛ ولو كانت قراءتي خفية.
أما عمر -رضي الله عنه- فإنه كان يجهر بالقراءة، فقيل له: لماذا؟ فقال: أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان. يعني: أن القراءة بجهر توقظ الوسنان الذي هو من المتثاقلين. الوسن: هو النعاس ونحوه، وأطرد الشيطان.
ولما كان كذلك كان الكثير من الصحابة -رضي الله عنهم- يحبون قراءة القرآن، والإكثار منه، منهم: عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- رأى رؤيا؛ أنه جاءه ملك، أو جاءه ملكان في المنام، وذهبا به إلى جهنم، ورأى النار. يقول: ورأيت فيها أناسا قد عرفتهم، فلقيني ملك فقال: لا تراع، لن تراع. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : « إن عبد الله رجل صالح؛ لو كان يقوم من الليل »؛ فكان بعد ذلك لا ينام من الليل؛ إلا قليلا، كان يتهجد طوال ليله.
ومنهم: عبد الله بن عمرو بن العاص ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقوم الليل، ويختم في كل ليلة، يختم القرآن في قيام كل ليلة؛ ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفق به، وعلم بأن ذلك قد يكلفه، ويشق عليه، فقال له: « اختم القرآن في تهجدك في كل سبع »في كل ليلة تقرأ سبع القرآن .
فكان في الليلة الأولى في ليلة الجمعة يقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ليلة واحدة في صلاة، وفي الليلة بعدها يقرأ من المائدة إلى آخر التوبة، وفي الليلة الثالثة من أول يونس إلى آخر النحل، وفي الليلة الرابعة من أول الإسراء إلى آخر الفرقان، وفي الليلة الخامسة من أول الشعراء إلى آخر يس، وفي الليلة السادسة من أول الصافات إلى آخر الحجرات، وفي الليلة السابعة من سورة ق إلى آخر القرآن، كل ليلة يقرأ هذا في تهجده، لا شك أن هذا دليل على أنهم يحبون قراءة القرآن في الصلاة ولا يملون.
وكذلك أيضا السلف -رحمهم الله- كان أبو سليمان الداراني أحد التابعين يقول: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم. يريد بأهل الليل: أهل التهجد الذين يقطعون ليلهم في صلاة، وفي عبادة، وفي تهجد.
ويقول بعض السلف -رحمهم الله- إذا لم تقدر على قيام الليل فاعلم أنك محروم؛ قيدتك خطيئتك. ويقول آخر: لما سألوا الحسن -رحمه الله- قالوا له: ما لنا لا نقدر على قيام الليل؟ فقال: قيدتكم خطاياكم. أي: أن الذين لا يقدرون على قيام الليل؛ سبب ذلك.. أن ذنوبهم تراكمت عليهم، وأنهم تثاقلوا عن صلاة الليل.
ولا شك أن صلاة الليل يعتبرونها أفضل من صلاة النهار، وأنها أفضل التطوع؛ ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- « أفضل الصيام بعد رمضان.. شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة.. قيام الليل» –يعني- التهجد.
ويعتبره بعض العلماء من أسباب الرزق، ومن أسباب السعة. وما ذاك إلا أن هذه العبادة التي في الليل يتفرغ فيها المصلي، ويقبل على صلاته، ويزداد خشوعه وخضوعه، ويتواطأ قلبه ولسانه؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾[ سورة المزمل، الآية : 6 ]﴿ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ﴾–يعني- قائمه، إذا قام بعد أن نام يسمى ناشئا ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ﴾ يعني: إن قائمي الليل، أو قيام الليل ﴿ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ الوطء: التواطؤ -يعني- تواطؤ القلب واللسان. وأصوب قولا –أي- أنه في هذه الحالة يكون قراءته صوابا يسلم من الخطايا، ويسلم من الزلل، وما أشبه ذلك.
لقد عرفنا كثيرا من آبائنا وأجدادنا وإخواننا وجيراننا لا يتركون الصلاة في آخر الليل؛ ولو على الأقل ساعة أو ساعتين، وبعد ذلك.. فقدت هذه العبادة إلا ما شاء الله.
ولعل سبب ذلك.. أن أولئك الأولين كانوا ينامون أول الليل، نشاهدهم ساعة ما يفرغون من صلاة العشاء يأتون إلى فرشهم، وينامون مباشرة، وإذا كان في آخر الليل قبل الفجر بساعة أو بساعتين فكأن هناك من يوقظهم، يستيقظون نشيطين، ثم يتوضأ أحدهم، ولا يزال يصلي؛ وذلك لأنهم يعتبرون آخر الليل أفضل الأوقات، أفضل أوقات الليل؛ وذلك لأنه وقت النزول الإلهي الذي ثبت في الحديث: «أن الله تعالى ينزل آخر كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ثم يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ » يتودد إلى عباده وهو غني عنهم. فذلك الوقت الذي هو أشرف الأوقات، الذي هو آخر الليل -وقت هذا النزول، وقت هذا التودد- ليكون أقرب إلى أن المسلم يجتهد فيه، ويكون في ذلك الوقت منتبها متيقظا.
يستيقظون تفوتهم صلاة الصبح كما تشاهدون أن المساجد يقل عدد المصلين فيها، فلا يكون فيها، أو لا يحضر فيها في صلاة الصبح إلا العدد القليل أما في هذه الأزمنة.. حيث ابتلي الكثير بالسهر أول الليل؛ بحيث إنهم يسهرون إلى نصف الليل، وربما إلى آخر الليل، فعلى أي شيء يسهرون؟!! لا شك أن سهرهم أول الليل ووسطه إما على غناء وزمر، وإما على نظر إلى أفلام وصور عارية وفاتنة، وإما على لهو وسهو، وقيل وقال، وكلام لا أهمية له؛ فيقطعون جزءا من الليل على هذه الحالة، فإذا جاء آخر الليل وإذا هم كسالى، وكثير منهم لا ينامون إلا في الساعة الواحدة أو الثانية، ومتى.
فنتواصى أيها الإخوة.. بأن ننام مبكرين إذا كان أحدنا لا يكفيه إلا النوم الكثير؛ حتى نستيقظ آخر الليل؛ ولو قبل الفجر بنصف ساعة أو بساعة نصلي فيها ما تيسر. نقول هذا ونحن مفرطون، ونحن غافلون، ونحن متكاسلون. نسأل الله العفو والعافية.
لا شك أن جنس الصلاة لذيذة عند عباد الله تعالى، وأن المصلي هو الذي يلتذ بها، ويجد فيها راحته. وقد ذكرنا قول أبي سليمان الداراني أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم. يعني: أن الذين يتهجدون، ويصلون الليل؛ ولو الليل كله يلتذون بهذه الصلاة، ويجدون لها راحة، ويجدون لها طمأنينة، ويخشعون فيها ويخضعون، يتلذذون بها غاية التلذذ.
أما أهل اللهو الذين هم أهل الغناء، والطرب، والزمر، والصور، وما أشبهها؛ فإنهم على باطل، ثم إنهم أذلة؛ إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فإن ذل المعاصي لا يفارق قلوبهم.
وبكل حال.. نتواصى بأن نهجر اللهو والسهو، ونهجر السهر على المعاصي، أو على ما لا أهمية له، ونأخذ على أيدي أولادنا الذين يسهرون هذه السهرات الطويلة، ونمنعهم من ذلك، كما يشتكي كثير من الآباء أن أولادهم، أن أبناءهم يذهب أحدهم في أول الليل ولا يأتي إلا في آخره قبيل الفجر بساعة أو بساعتين يذهب في تلك المقاهي، أو في تلك الاستراحات، أو ما أشبه ذلك، وماذا يفعل؟ لا شك أنه ليس على خير؛ وإنما هو على لهو وسهو، أو على محرمات. ثم تكون نتيجة ذلك.. فوات الصلوات، فلا يصلي إلا في الضحى إذا كان يصلي، أو تثقل عليه هذه العبادة.
فإذا أخذنا على أيدي سفهائنا، وأمرناهم بالخير، ودربناهم على الطاعة، وكذلك أيضا دربنا أنفسنا على النوم مبكرا، وعلى الصلاة بما تيسر؛ فإن ذلك -والحمد لله- يكون من أسباب إعانتنا على طاعة الله.
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يعيننا على طاعته، وأن يجعلنا من أحبابه الذين يلتذون بقيام الليل، والذين يتهجدون في ليلهم، ويتبعون سنة نبيهم؛ إنه على كل شيء قدير. والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد .
﴿ يَبِيتُونَ ﴾؛ يعني: يقطعون الليل. يقطعون ليلهم في هذا العمل ﴿ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ اقتصر على السجود؛ لأنه أفضل أركان الصلاة، ثم على القيام؛ لأنه أطولها. والسجود فيه: الدعاء، والذكر. والقيام فيه: قراءة القرآن، وفيه التأمين على قراءة الفاتحة. هكذا مدحهم أنهم ﴿ يَبِيتُونَ ﴾؛ يعني: ليلهم كله في هذا التهجد. يبيتون ﴿ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾.
ثم ذكر فضلهم، وذكر جزاءهم، فقال في آخر الآيات: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾
[ سورة الفرقان ، الآية : 75 ] هذا جزاؤهم ﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً ﴾الغرفة: جنس الغرف -يعني- الغرف المبنية في الجنة ﴿غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾[ سورة الزّمر ، الآية : 20 ] جعلها الله تعالى مساكن لعباد الرحمن، وجعل من أعمالهم هذا القيام الذي هو أنهم ﴿ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ .
وهكذا –أيضا- وصفوا في آية أخرى بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾[ سورة الذاريات ،الآيات : 15 ، 16 ،17 ، 18 ] ،﴿كانواقَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ الهجوع: هو النوم –يعني- لا ينامون إلا قليلا، لا ينامون في الليل إلا جزءا يسيرا بقية الليل، ماذا يفعلون؟ يصلون، ويتهجدون، ويركعون ويسجدون، ويتلذذون بهذه الصلاة التي يحبها الله تعالى.
وإذا كان في آخر الليل جلسوا يستغفرون –أي- يستغفرون ربهم، يُحسون بأنهم لم يقوموا بما يلزمهم، كأنهم مذنبون في ليلهم؛ فيختمون ليلهم بالاستغفار كما أمروا بذلك، أو كما مدحوا بذلك في آية أخرى؛ ففي قول الله تعالى: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾[ سورة آل عمران ، الآية : 17 ] ؛ يعني: أنهم في آخر الليل يستغفرون. كيف ذلك مع أنهم طوال ليلهم وهم يصلون؟ إذا جاء في آخر الليل يقولون: ربنا اغفر لنا.. ربنا اغفر لنا.. ربنا اغفر لنا. نستغفرك ونتوب إليك من تقصيرنا ومن إساءتنا ومن نقصنا. هكذا كانت حالتهم؛ ليلهم في تهجد، وآخر ليلهم في استغفار. هذا -بلا شك- مدح لمثل هؤلاء.
كذلك أيضا ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أفضل الأعمال فقال: « الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، وقرأ قول الله تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[ سورة السجدة، الآيتان : 16 ، 17 ]» جزاؤهم على أعمالهم هذا الجزاء الأوفى ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ لا يعلم أحد ما جزاؤهم عند الله تعالى؛ حيث أخفى جزاءهم فلا يعلمونه إلا بعدما يشاهدونه ﴿ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
من عملهم: أنهم إذا تتلى عليهم آيات ربهم يخرون عليها. يخرون: يسجدون ﴿ خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ سورة السجدة ، الآية : 15 ].
ثم ذكر أنهم ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ ﴾–أي- ما تطمئن على الفرش، يتقلبون من جنب إلى جنب، ثم مع ذلك يقومون إلى الصلاة، لا يهنؤهم النوم.
ذكر عن كثير منهم أنه كلما اضطجع وجلس على فراشه ربع ساعة أو نصف ساعة وهو يتململ قام وكبر وصلى، ثم إذا سئم جاء واضطجع ولا يهنأه النوم؛ حتى يقوم مرة أخرى فيصلي. هكذا ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾–أي- تمل من المضجع ولا تريده؛ ولو كان فراشا وطيئا؛ ولو كان فراشا لذيذا، وما ذاك إلا أنهم يحسون بأن الصلاة التي يقومون إليها ويصلونها أنها لذتهم؛ فلذلك لا يهنأهم النوم.
كذلك أيضا ورد في الأحاديث أدلة كثيرة تفيد الحث على الصلاة في الليل، والتهجد، وذكر حالة المتهجدين، زيادة على ما ذكر الله تعالى في مثل هذه الآيات الكريمات.
ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أول ما قدم المدينة سمعه عبد الله بن سلام أول ما سمع منه أنه قال: « أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام.. تدخلوا الجنة بسلام » يعني: أن صلاتك إذا هجع الناس حولك وأخذوا مضاجعهم، وقمت تصلي فإن ذلك من أشرف الأعمال؛ حيث إنك انفردت بهذا العمل دون غيرك ممن حولك « صلوا بالليل والناس نيام » .
وكذلك ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين »وهذا خير كثير، مجرد أنك تقوم الليل؛ ولو لم تقرأ إلا عشر آيات، عشر آيات فقط من القرآن في ليلتك، وفي صلاتك لا تكتب من الغافلين؛ فإن الغافلين.. هم الذين حرموا من فضل الله تعالى، وحرموا من أداء هذه العبادة.
كذلك أيضا ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رحم الله رجلا قام من الليل، وأيقظ امرأته؛ فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل، وأيقظت زوجها؛ فإن أبى نضحت في وجهه الماء »–يعني- من باب التنشيط، يعني: أنه قد يكون متثاقلا في النوم، فإذا صُب على وجهه الماء؛ فإنه يزول عنه النعاس، ويزول عنه الكسل؛ ويقوم نشيطا -بإذن الله تعالى-. هذا من فضل الله.. أنه يستحق الرحمة إذا أقام امرأته، أو أقامت زوجها.
وورد –أيضا- في حديث آخر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قام الرجل من الليل، وأيقظ امرأته، فصليا، كتبا من القانتين والقانتات» -أي- كتب الله تعالى لهم هذا الأجر؛ وذلك لأنهما يتعاونان على الخير، يساعد الرجل امرأته، فيقوم وتقوم معه، وكل منهما يصلي؛ فيكونان بذلك من القانتين الذين مدحهم الله في قوله تعالى: ﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ﴾ [ سورة الأحزاب ، الآية : 35 ] إلى قوله: ﴿ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾.
فنقول: لا شك أن هذه الأدلة الواضحة تفيد أن قيام الليل والصلاة فيه من أفضل القربات، وأشرف الأعمال.
اهتمام النبيّ ﷺ وصحابته بقيام اللّيل
وقد كان السلف -رحمهم الله تعالى- يعتنون بقيام الليل، وقدوتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن الله تعالى أمره بقيام الليل فكان يمتثل ذلك. أمره في أول ما أنزل عليه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾[ سورة المزمل ،الآيات : 1 ، 2 ، 3 ،4 ]؛ فامتثل ذلك، فكان يقوم أكثر الليل.
وكذلك أيضا صحابته -رضي الله عنهم- يقومون مثل ما يقوم، أو قريبا منه، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ﴾[ سورة المزمل ، الآية : 20 ]–أي- قريبا من ﴿ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ﴾ ،﴿وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ﴾–أي- وتقوم نصفه أحيانا، وتقوم ثلثه؛ فكان هذا دأبه. ثم قال: ﴿ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ﴾[ سورة المزمل ، الآية : 20 ]–أي- كان هذا عملهم. فكان -صلى الله عليه وسلم- يصلي نصف الليل، أو ثلث الليل على الأقل، أو ثلثيه؛ إمتثالا لهذا الأمر: ﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾.
حفظ عنه كما في حديث ابن عباس لما بات عند خالته قال له أبوه: اذهب فبت عند خالتك ميمونة في الليلة التي يكون فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- عندها. يقول ابن عباس: « فلما كان نصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعل يمسح النوم عن وجهه، وقرأ العشر الآيات من آخر سورة آل عمران » وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [ سورة آل عمران، الآية : 190]ثم إنه قام وتوضأ. يقول ابن عباس :فكبر. ثم قال ابن عباس : «قمت، وتوضأت، وكبرت عن يساره، فأدارني عن يمينه » يقول: «فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر » ذكر أنه صلى ثلاثة عشر ركعة، يسلم من كل ركعتين، والثالثة عشر هي الوتر؛ الركعة الأخيرة. يقول: ثم اضطجع قليلا حتى أذن الفجر ؛ يعني: أنه مكث نحو خمس ساعات، أو ست ساعات وهو يصلي. ولا شك أنه قد يحس بشيء من التعب؛ فاضطجع قليلا ليريح نفسه، فلما أذن قام وصلى ركعتين خفيفتين؛ وهما سنة الفجر، ثم خرج إلى الصلاة.
فحفظ ابن عباس عنه: أنه صلى ثلاث عشرة ركعة في تلك الليلة، وأنه قضاها في نحو نصف الليل، أو ثلثه، أو ثلثيه. وهذا تطبيق لما أخبر الله تعالى، أو لما أمره به: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ﴾.
كان الصحابة أيضا -رضي الله عنهم- يتلذذون بقيام الليل، يقتدون بنبيهم، ويقتدون بعباد الله الصالحين الذين مدحهم بقوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ﴾فيقتدون بهم في هذا العمل الصالح، ويحبون أن يصلوا.
كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يصلي كل ليلة الليل كله، إذا صلى العشاء كبر، وابتدأ يقرأ القرآن من أوله من سورة البقرة، وإذا كان في آخر الليل وإذا هو قد ختم، ولا يقطع قراءته؛ إلا لسجدات التلاوة، ويجعل قراءته القرآن كله في ركعة وترا. هذه صلاته. هكذا يقول بعض الصحابة: راقبت عثمان -رضي الله عنه- وإذا هو يقرأ، ثم يسجد، ثم يقوم فيقرأ ويقرأ ويقرأ ثم يسجد، ثم يقرأ ويقرأ ثم يسجد، وإذا هو إنما يسجد سجدات التلاوة. السجدات التي في القرآن: في آخر الأعراف، وفي الرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، إلى آخرها... فهكذا قيامه.
عمر -رضي الله عنه- وكذلك أبو بكر كانوا يقومون الليل، وكانوا يقومون في آخره؛ يعني: الثلث الأخير من الليل، أو نحوه.
كان أبو بكر -رضي الله عنه- يسر بالقراءة، فسئل عن ذلك، فقال: أسمع نفسي وأناجي ربي. يعني: أن ربي يسمعني؛ ولو كانت قراءتي خفية.
أما عمر -رضي الله عنه- فإنه كان يجهر بالقراءة، فقيل له: لماذا؟ فقال: أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان. يعني: أن القراءة بجهر توقظ الوسنان الذي هو من المتثاقلين. الوسن: هو النعاس ونحوه، وأطرد الشيطان.
ولما كان كذلك كان الكثير من الصحابة -رضي الله عنهم- يحبون قراءة القرآن، والإكثار منه، منهم: عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- رأى رؤيا؛ أنه جاءه ملك، أو جاءه ملكان في المنام، وذهبا به إلى جهنم، ورأى النار. يقول: ورأيت فيها أناسا قد عرفتهم، فلقيني ملك فقال: لا تراع، لن تراع. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : « إن عبد الله رجل صالح؛ لو كان يقوم من الليل »؛ فكان بعد ذلك لا ينام من الليل؛ إلا قليلا، كان يتهجد طوال ليله.
ومنهم: عبد الله بن عمرو بن العاص ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقوم الليل، ويختم في كل ليلة، يختم القرآن في قيام كل ليلة؛ ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفق به، وعلم بأن ذلك قد يكلفه، ويشق عليه، فقال له: « اختم القرآن في تهجدك في كل سبع »في كل ليلة تقرأ سبع القرآن .
فكان في الليلة الأولى في ليلة الجمعة يقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ليلة واحدة في صلاة، وفي الليلة بعدها يقرأ من المائدة إلى آخر التوبة، وفي الليلة الثالثة من أول يونس إلى آخر النحل، وفي الليلة الرابعة من أول الإسراء إلى آخر الفرقان، وفي الليلة الخامسة من أول الشعراء إلى آخر يس، وفي الليلة السادسة من أول الصافات إلى آخر الحجرات، وفي الليلة السابعة من سورة ق إلى آخر القرآن، كل ليلة يقرأ هذا في تهجده، لا شك أن هذا دليل على أنهم يحبون قراءة القرآن في الصلاة ولا يملون.
حرص السَّلَف على قيام اللّيل
وكذلك أيضا السلف -رحمهم الله- كان أبو سليمان الداراني أحد التابعين يقول: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم. يريد بأهل الليل: أهل التهجد الذين يقطعون ليلهم في صلاة، وفي عبادة، وفي تهجد.
ويقول بعض السلف -رحمهم الله- إذا لم تقدر على قيام الليل فاعلم أنك محروم؛ قيدتك خطيئتك. ويقول آخر: لما سألوا الحسن -رحمه الله- قالوا له: ما لنا لا نقدر على قيام الليل؟ فقال: قيدتكم خطاياكم. أي: أن الذين لا يقدرون على قيام الليل؛ سبب ذلك.. أن ذنوبهم تراكمت عليهم، وأنهم تثاقلوا عن صلاة الليل.
ولا شك أن صلاة الليل يعتبرونها أفضل من صلاة النهار، وأنها أفضل التطوع؛ ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- « أفضل الصيام بعد رمضان.. شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة.. قيام الليل» –يعني- التهجد.
ويعتبره بعض العلماء من أسباب الرزق، ومن أسباب السعة. وما ذاك إلا أن هذه العبادة التي في الليل يتفرغ فيها المصلي، ويقبل على صلاته، ويزداد خشوعه وخضوعه، ويتواطأ قلبه ولسانه؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾[ سورة المزمل، الآية : 6 ]﴿ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ﴾–يعني- قائمه، إذا قام بعد أن نام يسمى ناشئا ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ﴾ يعني: إن قائمي الليل، أو قيام الليل ﴿ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ الوطء: التواطؤ -يعني- تواطؤ القلب واللسان. وأصوب قولا –أي- أنه في هذه الحالة يكون قراءته صوابا يسلم من الخطايا، ويسلم من الزلل، وما أشبه ذلك.
لقد عرفنا كثيرا من آبائنا وأجدادنا وإخواننا وجيراننا لا يتركون الصلاة في آخر الليل؛ ولو على الأقل ساعة أو ساعتين، وبعد ذلك.. فقدت هذه العبادة إلا ما شاء الله.
ولعل سبب ذلك.. أن أولئك الأولين كانوا ينامون أول الليل، نشاهدهم ساعة ما يفرغون من صلاة العشاء يأتون إلى فرشهم، وينامون مباشرة، وإذا كان في آخر الليل قبل الفجر بساعة أو بساعتين فكأن هناك من يوقظهم، يستيقظون نشيطين، ثم يتوضأ أحدهم، ولا يزال يصلي؛ وذلك لأنهم يعتبرون آخر الليل أفضل الأوقات، أفضل أوقات الليل؛ وذلك لأنه وقت النزول الإلهي الذي ثبت في الحديث: «أن الله تعالى ينزل آخر كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ثم يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ » يتودد إلى عباده وهو غني عنهم. فذلك الوقت الذي هو أشرف الأوقات، الذي هو آخر الليل -وقت هذا النزول، وقت هذا التودد- ليكون أقرب إلى أن المسلم يجتهد فيه، ويكون في ذلك الوقت منتبها متيقظا.
يستيقظون تفوتهم صلاة الصبح كما تشاهدون أن المساجد يقل عدد المصلين فيها، فلا يكون فيها، أو لا يحضر فيها في صلاة الصبح إلا العدد القليل أما في هذه الأزمنة.. حيث ابتلي الكثير بالسهر أول الليل؛ بحيث إنهم يسهرون إلى نصف الليل، وربما إلى آخر الليل، فعلى أي شيء يسهرون؟!! لا شك أن سهرهم أول الليل ووسطه إما على غناء وزمر، وإما على نظر إلى أفلام وصور عارية وفاتنة، وإما على لهو وسهو، وقيل وقال، وكلام لا أهمية له؛ فيقطعون جزءا من الليل على هذه الحالة، فإذا جاء آخر الليل وإذا هم كسالى، وكثير منهم لا ينامون إلا في الساعة الواحدة أو الثانية، ومتى.
فنتواصى أيها الإخوة.. بأن ننام مبكرين إذا كان أحدنا لا يكفيه إلا النوم الكثير؛ حتى نستيقظ آخر الليل؛ ولو قبل الفجر بنصف ساعة أو بساعة نصلي فيها ما تيسر. نقول هذا ونحن مفرطون، ونحن غافلون، ونحن متكاسلون. نسأل الله العفو والعافية.
الالتذاذ بالصَّلاةِ
لا شك أن جنس الصلاة لذيذة عند عباد الله تعالى، وأن المصلي هو الذي يلتذ بها، ويجد فيها راحته. وقد ذكرنا قول أبي سليمان الداراني أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم. يعني: أن الذين يتهجدون، ويصلون الليل؛ ولو الليل كله يلتذون بهذه الصلاة، ويجدون لها راحة، ويجدون لها طمأنينة، ويخشعون فيها ويخضعون، يتلذذون بها غاية التلذذ.
أما أهل اللهو الذين هم أهل الغناء، والطرب، والزمر، والصور، وما أشبهها؛ فإنهم على باطل، ثم إنهم أذلة؛ إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فإن ذل المعاصي لا يفارق قلوبهم.
وبكل حال.. نتواصى بأن نهجر اللهو والسهو، ونهجر السهر على المعاصي، أو على ما لا أهمية له، ونأخذ على أيدي أولادنا الذين يسهرون هذه السهرات الطويلة، ونمنعهم من ذلك، كما يشتكي كثير من الآباء أن أولادهم، أن أبناءهم يذهب أحدهم في أول الليل ولا يأتي إلا في آخره قبيل الفجر بساعة أو بساعتين يذهب في تلك المقاهي، أو في تلك الاستراحات، أو ما أشبه ذلك، وماذا يفعل؟ لا شك أنه ليس على خير؛ وإنما هو على لهو وسهو، أو على محرمات. ثم تكون نتيجة ذلك.. فوات الصلوات، فلا يصلي إلا في الضحى إذا كان يصلي، أو تثقل عليه هذه العبادة.
فإذا أخذنا على أيدي سفهائنا، وأمرناهم بالخير، ودربناهم على الطاعة، وكذلك أيضا دربنا أنفسنا على النوم مبكرا، وعلى الصلاة بما تيسر؛ فإن ذلك -والحمد لله- يكون من أسباب إعانتنا على طاعة الله.
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يعيننا على طاعته، وأن يجعلنا من أحبابه الذين يلتذون بقيام الليل، والذين يتهجدون في ليلهم، ويتبعون سنة نبيهم؛ إنه على كل شيء قدير. والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد .
تعليق