طالَ شوقُ بطاحِ مكّةَ إلى سحابةٍ حانيةٍ تنثُرُ الوَدْقَ المُنعش فترويَ ظمأََ الخزامى،
وتندّي النسائمَ المشتاقة ليقظة الفجر الموعود، وسنا الشمس الجديدة، وتسقي الريمَ ذات العطش،
وتخفّفَ من لهيبِ الصحراء الحارقِ على السُّراة الذين يبحثون عن مأمنٍ يناجون فيه الله سبحانه وتعالى...
تسامى حنينُ الكعبة، وراحت جدرانُها الجريحة تحلُمُ بصوتٍ دافئٍ يلهجُ بكلمة التوحيد، ويسبّحُ الخالقَ الأحدَ الفردَ الصّمد..
حمائمُ لا تأمَنُ على أعشاشها، وظباءٌ تُفجَعُ بريمها، وضفائرُ تُهان، وحجارةٌ تُعبَد، وقلوبٌ مسكونةٌ بالطّهر والنقاء تُستَعبدُ، وتوثّقُ بتُهَمةِ التوحيد.
هناك، وفي تلك اللحظات الحاسمة كان نهرُ الرحمة المُنتظَر يترقرقُ فوق الرمال، فتنمو على ضفّتيه الأعشابُ الخُضر، وكان صوتُ المحبّة يخترقُ الأسماعَ المشتاقةَ، ويتغلغلُ في الصدورِ المكلومة فيملؤُها أملاً وسعادة..
صوتُ المحبّةِ والرحمةِ المهداة هو محمد -صلى الله عليه وسلّم- الذي آنسَ وحشةَ الأرجاء، وغُربةَ الأرض التي طالما اشتاقت لجباه الساجدين ودموعهم، ووهبَ الدواءَ لأصحابِ الأدواء...
فالتفّ حوله نجومُ الصحابة التفافَ الفراش حول الغصن المزهر، وبدأت رحلةُ النور تشقُّ دياجيرَ الظلام... تلكمُ الرحلةُ المظفّرة، المتوشّحة بالتّضحية والمعاناة والتّضييق من رموز معسكر الباطل ورؤوس الكفر...
عندما أرادَ زعماءُ الباطل في قريش إطفاءَ نور الله بأفواههم، إذْ لم تُلامسْ دعوةُ نبيّ الهداية قلوبَهم التي هي كالحجارة بل أشدّ قسوة..كانت غزوةُ بدر هي الحلّ الوحيد؛ فافتتحها سعدٌ بن معاذ بنشيدٍ خالد رداً على طلبِ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مشورة الناس فقال: "... فامضِ يارسول الله لما أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقّ، لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخُضتَه لخُضناه معك، ما تخلّف منا رجلٌ واحد.... إنّا لصُبُرٌ بالحرب صُدُقٌ في اللقاء، لعلّ الله يريكَ منا ما تقرّ به عينك..." [سيرة ابن هشام ص 360].
وفي يوم الجمعة السابع عشر من رمضان التحمَ الجيشان، وغمامةُ العناية الإلهية تهمي غيثاً على الموحّدين، وتقدّمَ حمزةُ أسدُ الله وأسدُ رسوله فأردى شيبة بن ربيعة، وتقدّم الفدائيّ الصّنديد علي بن أبي طالب فأردى الوليدَ بن عتبة صريعاً يعفّر وجهه بالتراب.. ورسول الله -صلى الله عليه وسلّم- يناشدُ ربّه ما وعَدَه من النّصر، فجاء أبو بكرٍ قائلاً: "... بعضَ مناشدتِكَ ربّك، فإنّ الله مُنجزٌ لكَ ما وعَدَك"، فقال له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم-: "أبشر يا أبا بكر، أتاكَ نصرُ الله؛ هذا جبريلُ آخذٌ بعنانِ فرسٍ يقودُه، على ثنايا النّقع" [سيرة ابن هشام ص 367].
وما هي إلا سويعةٌ حتى تطايرت رؤوسُ الكفرِ تحتَ أقدامِ حملةِ راياتِ التوحيد، وحاملي مشاعل الضياء، كواكب الدّنيا وحصونها، وأسفرَ وجهُ بلالٍ وحذيفةَ وعبد الله بن مسعود، وهم يعيشون أروع اللحظات المعطّرة بنشوة انتصار الحقّ...
تأمّلوا هذه الآيات التي تقطرُ نصراً ورحمةً من خالق الكون إلى من يوحّده، إلى الثلّة الطاهرة التي هاجرت إلى الله ورسوله، لا تبتغي مالاً ولا عرضاً من الدّنيا، ولا جاهاً ولا سلطاناً...
قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 123-126].
وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9].
وانقشَع غبارُ الحرب لتظهر بسمةُ الكون عن نصرٍ مؤزّر للمسلمين وخسارةٍ فادحة للمشركين، وأُلقِيَت جثثُ صناديدِ المشركين في قليبِ بدر،وراح رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم- يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعَدنا ربّنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟" فقال عمر: ما تكلّم من أرواح لا أجساد لها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: "والذي نفسُ محمد بيده ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم" [البخاري 5-8 ومسلم بنحوه في 8-163].
غزوة بدر - الشيخ عبد الحميد كشك
غزوة بدر الشيخ إبراهيم الطحان
غزوة بدر الكبرى محمود نصر
متابعة غزوة بدر الكبرى محمود نصر
غزوة بدر - الشيخ بدر المشاري
غزوة بدر الدكتور عائض القرنى
غزوة بدر دروس وعبر - الشيخ أيمن سامي
غزوة بدر - الشيخ أبو إسحاق الحويني
غزوة بدر - الشيخ أبو إسحاق الحوينى
وهكذا كتبَ الله النّصر للمسلمين في بدر -وهم قلّةٌ عدداً وعدّةً- على المشركين الطغاة الذين هم كثرة في العدد والعدّة، وهذا يجعلنا نقفُ للحظاتٍ أمام الدروس والعبر التي ينبغي أن نستخلصَها من غزوة بدر لكي يستحضرها المسلمون في أذهانهم في كل رمضان..
تعليق