عبادات الخفاء وقُرَب السِّر المشتملة على تعظيم أمر الله - تعالى - ونهيه ، والإكثار من مناجاته فهي عمل آخر جاءت النصوص والآثار مكثرة من الحثّ عليه ، فمن ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ } (فاطر:18) ، أي : يخافونه سبحانه حال خلوتهم به بعيداً عن أعين الخلق ، وقوله - عزَّ وجلَّ - : { إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (البقرة : 271) ، والآية الكريمة ظاهرة في تفضيل صدقة السِّر ، والتي ثبت أنها تطفئ غضب الرب سبحانه ، وجاء من السبعة الذين يظلّهم الله - تعالى - يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه : « رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه » .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقه، والمسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقه» ، قال الترمذي : « ومعنى هذا الحديث أن الذي يسرُّ بقراءة القرآن أفضلُ من الذي يجهر بقراءة القرآن ؛ لأن صدقة السِّر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية » .
وما ذاك إلا لما في قُرْبَة السِّرِّ بعيداً عن رؤية الخلق من عظم إيمانٍ ، وكمال أدبٍ مع الله - تعالى - وتعظيمٍ له سبحانه ، ولما فيها من حضور قلبٍ واجتماع هَمٍّ وابتعادٍ عن القواطع والمشتتات ، وثقةٍ بالله - تعالى - ، وأُنْسٍ به ، واطمئنانٍ إليه ، ومراقبةٍ له ، ومخافةٍ منه ، ومطالعة مِنَّتِه ، وتطلعٍ للظفر بمحبته وثوابه ، ولما فيها من تخليصٍ للنفس من الطمع بثناء الخلق وحب مدحهم وكراهية ذمّهم ، وضمان سلامتها من بعض دسائس السوء من رياء وسمعة وتصنُّع ، فهي أبلغ في التضرع والخشوع ، وأمكن في التذلّل والخضوع .
ولذا ؛ فقد جاء التوجيه النبوي الكريم بحثِّ العبد المؤمن على أن يكون له عبادة في السِّر ، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه مرفوعاً قال : « من استطاع منكم أن يكون له خِبءٌ من عملٍ صالحٍ فليفعل » ، وكان الفضيل بن عياض يقول : ( كان يقال : من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرةِ قلوبهم خلائقُ ثلاثة : الحلم ، والأناة ، وحظٌّ من قيام الليل ) ، ويحكي الخريبي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها ، وقال مسلم بن يسار : ( ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عزَّ وجلَّ ).
ومن تأمَّل سير السلف وجد اهتماماً بليغاً بعبادة القلب ، التي هي روح العبودية ولبّها ، بل هي الأصل وإنما أعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة لها ، فهذا الصحابي الجليل والإمام الجِهْبِذ ابن مسعود رضي الله عنه يقول : « من صلى صلاة عند الناس لا يصلي مثلها إذا خلا ، فهي استهانة استهان بها ربه » ، ثم تلا قوله - تعالى - : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } (النساء : 108) ، وفي يوم قال رضي الله عنه لأصحابه : « أنتم أكثر صلاة وأكثر جهاداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا خيراً منكم ، قالوا : ِبمَ ذاك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة » .
ويقول وهب بن منبه : ( يا بُنيّ أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق الله فيها فعلك في العلانية ، .. ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من السَّريرة ، فإن مَثَلَ العلانية مع السَّريرة كمَثَلِ ورق الشجر مع عِرْقها : العلانية ورقها ، والسَّريرة عِرْقها . إن نُخِر العِرْق هلكت الشجرة كلها ؛ ورقها وعودها ، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها ؛ ثمرها وورقها ، فلا يزال ما ظهر من الشجرة في خير ما كان عِرْقها مستخفياً لا يُرى منه شيء . كذلك الدين لا يزال صالحاً ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانيته ، فإن العلانية تنفع مع السَّريرة الصالحة كما ينفع عِرْقَ الشجرة صلاحُ فرعها ، وإن كان حياتها من قبل عِرْقها فإن فرعها زينتها وجمالها ، وإن كانت السَّريرة هي ملاك الدين فإن العلانية معها تُزَيِّن الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عزَّ وجلَّ » ، وهذا الإمام أحمد يوصي ابن المديني قائلاً : ( ألزم التقوى قلبك ، وانصب الآخرة أمامك ) ، فمراد الله - تعالى - ومطلوبه من عباده صلاح قلوبهم ، والتي لا صلاح لها إلا بأن يستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه ، ويمتلئ من ذلك ، يقول ابن رجب : ( فأفضل الناس من سلكَ طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - وخواصّ أصحابه في الاقتصاد في العبادة البدنية والاجتهاد في الأحوال القلبية ؛ فإن سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان ) .
كما يجد المطالع لسيرهم عنايةً فائقة بعبادة السِّر وعمل الخفية ، فعن محمد بن إسحاق قال : ( كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل ، وعن زائدة :( أن منصور بن المعتمر مكث ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها ، وكان يبكي ،فتقول له أمه : يا بني ! قتلت قتيلاً ؟ فيقول : أنا أعلم بما صنعت بنفسي .
فإذا كان الصبح كحل عينيه ، ودهن رأسه ، وبرق شفتيه ، وخرج إلى الناس ) .
وقال محمد بن واسع : ( لقد أدركت رجالاً ، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة ، قد بلَّ ما تحت خدّه من دموعه لا تشعر به امرأته .
ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خدّه ولا يشعر به الذي إلى جانبه ، وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله ، ويخفي ذلك ، فإذا كان عند الصبح رفع صوته ، كأنه قام تلك الساعة ، والأمر أكثر من أن يحصر .
عبادة السر حبل متين بين العبد وبين ربه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يكون له خبيء من عمل صالح فليفعل)
تعليق