5 - موته - صلى الله عليه وسلم - كغيره من الأنبياء والرسل ،
قال الله تعالى في سورة الزمر الآية /30:(( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ))
وقال تعالى في سورة الأنبياء الآية /34- 35: (( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ))
ثم إن المسلمين يدينون جميعا بأن الأنبياء قبله قديما قد ماتوا ، وانقضت أعمارهم التي كتب الله لهم في الدنيا ، وأصبحوا في عالم البرزخ ، وحيث ورد في النصوص ما يقتضي حياة الشهداء كقوله تعالى في سورة آل عمران الآية 169 ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ))
فإن الأنبياء أولى بهذه الحياة ،
ومعلوم أن الشهداء قد خرجوا من هذه الحياة الدنيا ، وقد قست أموالهم بين الورثة ، وحلت نساؤهم لغيرهم ، فكان ذلك أوضح دليل على موتهم ، ولكن الله تعالى نهى أن نقول لهم أموات في قوله عز وجل في سورة البقرة الآية 154 ((وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ))
وهذه الحياة لا نعلم كيفيتها إلا أنا نتحقق أن أرواحهم خرجت من أبدانهم ، وأن أعمارهم انقضت ، وأعمالهم قد ختمت ،
وقد فسرت حياتهم في الحديث الصحيح بأن أرواحهم جعلت في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة وهو في صحيح مسلم 13 / 30 ) عن ابن مسعود - رضي الله عنه .
وهذا يحقق أنها قد فارقت أبدانهم ، وإنما تميزوا بهذه الحياة الخاصة ، ومعلوم أن الأنبياء والرسل أولى بهذه الحياة ،
وبكل حال فإنها لا تمكنهم من إجابة من دعاهم ، أو إعطاء من سألهم ، فنحن نعتقد أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء ، وقد تميز بحماية جسده عن البلى ، كما ثبت في سنن أبي داود عن أوس بن أوس عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "إن من خير أيامكم يوم الجمعة ، فأكثروا من الصلاة علي فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي قالوا : يا رسول الله كيف تعرض عليك وقد أرمت . قال :إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء" سنن النسائي الجمعة (1374),سنن أبو داود الصلاة (1047),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1636),مسند أحمد بن حنبل (4/8),سنن الدارمي الصلاة (1572).
وهذا أوضح دليل على أن روحه قد خرجت من جسده ، ورفعت إلى الرفيق الأعلى ، كما كان ذلك آخر طلبه من الدنيا ،
وكذا قد ورد في الحديث عن أبي هريرة قوله - صلى الله عليه وسلم – "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" و هو في سنن أبو داود المناسك (2041),مسند أحمد بن حنبل (2/527). وفي كيفية هذا الرد خلاف والله أعلم بذلك ،
وقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا ، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " سنن أبو داود المناسك (2042),مسند أحمد بن حنبل (2/367).
وروى الحافظ الضياء في المختارة وغيره عن علي بن الحسن بن علي - رضي الله عنه - أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو ، فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إلا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم" سنن أبو داود المناسك (2042),مسند أحمد بن حنبل (2/367).
وقال سعيد بن منصور : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال : رآني الحسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - عند القبر فناداني فقال : مالي رأيتك عند القبر ؟ فقلت : سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إذا دخلت المسجد فسلم . ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم ، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء"صحيح البخاري المغازي (4177), صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531),سنن النسائي المساجد (703),مسند أحمد بن حنبل (6/146),سنن الدارمي الصلاة (1403).
فهذه الآثار تدل على شهرة ذلك عند السلف ، وحرصهم على حفظ هذه السنة وتبليغها ،
ومعنى قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبورا" أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور التي لا تجوز الصلاة عندها ، والمراد صلاة التطوع . سنن أبو داود المناسك (2042),مسند أحمد بن حنبل (2/367).
ولا تتخذوا قبري عيدا" نهى - صلى الله عليه وسلم - من زيارة قبره على وجه مخصوص واجتماع معهود ، بحيث يكون كالعيد الذي يتكرر الاجتماع فيه في زمن محدد ، ويحصل به فرح واغتباط يعود ويتكرر كل عام مرة ومرارا ،
ثم أخبرنا بأن صلاتنا تبلغه أين ما كنا ، يعني أن ما يناله من الصلاة والسلام حاصل مع القرب
والبعد ، فلا مزية لمن صلى عليه أو سلم عند القبر ، وهذا معنى قول الحسن بن الحسن ( ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء )
ومن قصد القبر للسلام فقط ، ولم يكن قصده المسجد ، فقد اتخذه عيدا ، كما فهم ذلك الحسن بن الحسن - رضي الله عنه –
وقد كره الإمام مالك - رحمه الله - لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد يأتي القبر النبوي ؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك قال : ( ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ) ذكره شيخ الإسلام في الاقتضاء 366 ، 394 بنحو .
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - وكذا كبار التابعين يصلون في المسجد النبوي خلف الخلفاء الراشدين أغلب الأوقات ، ثم ينصرفون بعد السلام أو يجلسون في قراءة أو عبادة ، ولم يحفظ عنهم الإتيان إلى القبر بعد كل صلاة ، بل يكتفون بالصلاة والسلام عليه في التشهد ، وذلك أفضل من الوقوف أمام القبر لذلك ، رغم تمكنهم من الوصول إلى القبر في حياة عائشة وبعدها قبل بناء الحيطان دونه بعد أن أدخل في توسعة المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك ،
وبكل حال فإن الصحابة لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره ، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج إذا قدم من سفر فيسلم عليه ثم ينصرف ، كما نقل ذلك عن ابن عمر ،
ولم يحفظ عن غيره من الصحابة ، ولم يكن يفعله دائما ،
فتكرار ذلك كل وقت بدعة ووسيلة إلى تعظيمه أو دعائه مع الله ،
وقد اتفق الأئمة - رحمهم الله - أن من سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر ، وإنما يستقبل القبلة التي هي أفضل الجهات وأرجى لقبول الدعاء ،
وأما الحكاية عن مالك أنه قال للمنصور : ولم تصرف وجهك عنه . . . بل استقبله واستشفع به . . الخ فهي حكاية موضوعة مكذوبة عليه ، كما حقق ذلك العلماء رحمهم الله ذكر ذلك شيخ الإسلام أيضا في الاقتضاء ص 395 وغيره . .
تابع الأمر السابع : الاقتصاد والتوسط في حقه - صلى الله عليه وسلم - : 6 - منع السفر لمجرد زيارة القبر النبوي ، ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى)
ومعنى ذلك النهي عن السفر إلى بقعة أو موضع لقصد التعبد فيه ، لاعتقاد أن العمل فيه مضاعف أو له مزية على غيره من المواضع ، فدخل في ذلك منع السفر لزيارة القبور ولو قبور الأنبياء ، فإنه من اتخاذها أعيادا ، والاعتقاد في المقبورين بما يكون وسيلة إلى عبادتهم مع الله تعالى ، كما هو الواقع من المشركين في هذا الزمان وقبله ، حيث ينشئون الأسفار الطويلة إلى قبور الأولياء كما زعموا ، أو يتجشمون المشقات ، وينفقون الأموال الطائلة ، ومتى وصلوا إلى تلك المشاهد كما أسموها حطوا رحالهم ، وأخذوا في الهتاف والنداء لا أولئك الأموات ، وعملوا هناك مالا يصلح إلا لله رب العالمين ، من الطواف بتلك الأضرحة والتمسح بترابها ، والدعاء لأربابها ، والذبح والنحر لها ونحو ذلك ،
فهذا ما خافه عليه الصلاة والسلام من منعه شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ، وقد كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - رسالة ذكر فيها اختلاف العلماء في حكم شد الرحال لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، ورجح المنع ، وذكر أنه قول ابن بطة وأبي الوفاء ابن عقيل ، والجوينى والقاضي عياض وغيرهم ، بل هو قول الجمهور ، ونص عليه مالك ، ولم يخالفه أحد من الأئمة ،
ولكن ليس المراد النهي عن زيارة القبور بدون شد رحل ، فقد ورد الترغيب فيها ، وأنها تذكر الآخرة ، وأن الزائر يدعو للأموات ويترحم عليهم ، وهذا يحصل في أقرب مقبرة عنده ، فإن كل بلد لا تخلو من المقابر ،
فأما إعمال المطي والسفر إلى بلد بعيد لأجل بقعة أو قبر ، فإنما يكون ذلك لاعتقاد عظمة ذلك المقبور ، وأهليته أن يعظم ويدعى ويرجى ، فيصرف له خالص العبادة ،
فلا جرم ورود النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ، وقد روى الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما منعا شد الرحل إلى الطور ، لأجل الصلاة فيه ، واستدلا بحديث النهي عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مع أن الله ذكر الطور وسماه بالوادي المقدس ، والبقعة المباركة ، وكلم عبده موسى هناك ،
وعلى هذا فمن سافر إلى المدينة قاصدا المسجد النبوي الذي تكون الصلاة فيه بألف صلاة فسفره طاعة وقربة ، وله بعد الصلاة في المسجد أن يسلم على القبر الشريف ، وعلى قبور الصحابة والشهداء ، ويدعو لهم ،
فأما من أنشأ السفر لأجل القبر نفسه ، سواء للسلام عليه أو للدعاء عنده فسفره بدعة منكرة ، حيث خالف حديث لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم فأما الأحاديث المروية في فضل الزيارة للقبر الشريف فكلها ضعيفة أو موضوعة ، كما حقق ذلك العلماء ،
تعليق