إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة الإسلامية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة الإسلامية

    مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة الإسلامية
    المساهمة في الحياة عموماً وفي البناء الإسلامي على وجه الخصوص من الفضائل التي يُمدحُ بها الإنسان, وعليه فإنّ مساهمتها رضي الله عنها في البناء الإسلامي من أجلِّ الفضائل والمناقب, ودلّ على ذلك قولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"[1], وقولُه: "الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[2], والمخالطة نوعٌ من التفاعل مع المجتمع والناس.
    إنّ من أعظم مناقبها رضي الله عنها مساهمتها الكبيرة في الحياة الإسلامية, وفي نشوء المجتمع الإسلامي, وهي من الأوائل الذين شاركوا في بناء أسس وقواعد الأمة الإسلامية, فقد وُلدت في بيت إيمانيّ متميّز في حمْلِ الدعوة؛ وشاهدت منذ نعومة أظفارها تفاصيل الحركة الإسلامية الناشئة وتفاعلت معها, تقول رضي الله عنها: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ, وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً, ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ, فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ"[3], وهذا يعني أنّ عائشة وُلدتْ معَ المحاولات الأولى, والمجاهدات العظمى في مكّة, فتشربت القيم والمعاني الإسلامية مباشرة دون حجاب.
    وكان لها دور في الهجرة؛ فهي من المهاجرين الأولين, وكان دورها في الهجرة محدوداً لأنّها كانت دون ست سنوات من عمرها, ولكنّها مع ذلك شاركت أختها الكبيرة أسماء في تجهيز الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم وأبيها وهما في الغار عند الهجرة[4].
    وبعد أن استقر مقام المسلمين في مدينة رسول اللَّه, أرسل أبو بكر الصديق إلى ابنه عبد اللَّه يطلب منه أن يهاجر بأهل بيته؛ فاستجاب عبد اللَّه بن أبى بكر ومضى بهم مهاجرًا، وفى الطريق هاج بعير عائشة فصاحت أم رومان: وابنتاه واعروساه, ولكن اللَّه لطف، وأسرع الجميع إلى البعير ليسكن, ونزلت السيدة عائشة مع أهلها في دار بني الحارث بن الخزرج[5].
    وانظر إلى تلك الطفلة الصغيرة التي ساهمت في تجهيز الطعام, ثمّ هي اليوم تهاجر مع المؤمنين إلى المدينة المنورة؛ فهي مساهمة ومشاركة في خدمة الدين منذ أن فتحت عينيها على الحياة, وهذا من أعظم المناقب والفضائل.
    ثمّ ترقّت في مساهماتها ومشاركاتها بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكمال نضوجها العقلي والجسمي, ممّا أهلها بسبب تلك العوامل الذاتية والموضوعية لمساهمة أكبر وأوسع كان لها التأثير الواضح في تاريخ الإسلام وحتى يومنا هذا.
    وحجم المساهمة في هذه الحياة يعتمد على قدرات الشخص ومؤهلاته, والحقيقة التي لا ريب فيها أنّ السيدة عائشة رضي الله عنها كانت على مستوى شامخ من العلم والمعرفة يسعفها في ذلك ذاكرة حادة وذكاء لامع، فهي على جانبٍ عظيم من الدراية بأسرار الأحكام الشرعية, بالإضافة إلى معرفتها بالأمور الاجتماعيَّة والسياسية, وأهم من ذلك أنّها تربّت في بيئة ساعدتها على القيام بتلك المساهمات الجليلة, سواء وهي في بيت أبيها, أو وهي في بيت زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاجتمع لها المؤهلات والقدرات والبيئة المناسبة.
    لذلك كانت مساهماتها في كلّ مناحي الحياة الإسلامية, ومن ذلك مشاركتها في الغزوات, روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ[6] الْقِرَبَ, وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ, ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا, ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ[7].
    وهي رضي الله عنها مساهم أساسي في البناء الاجتماعي الإسلامي, فهي أكثر من روى في شؤون الأسرة والحياة الزوجية, لكنّها مع كل تلك المساهمات الجليلة اشتهرت في مساهمتين أساسيتين, هما: المساهمة العلمية, والمساهمة السياسية.


    مساهمتها العلمية
    لقد حازت رضي اللَّه عنها علمًا غزيرًا صافيًا من نبع النبوة الذي لا ينضب، فكانت "من أكبر فقهاء الصحابة, وأحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية. روي لها ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث. اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا, وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثمانية وخمسين. روت عن خلق من الصحابة, وروى عنها جماعات من الصحابة والتابعين قريب من المائتين"[8], وتخرج من مدرسة أم المؤمنين عائشة عددٌ كبير من سادة العلماء ومشاهير التابعين، ومسند الإمام أحمد بن حنبل يضم في طياته أكبر عدد من مروياتها رضي الله عنها.
    وكانت بحرًا زاخرًا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، وكانت مدرسة قائمة بذاتها، وكبيرة محدثات عصرها, ونابغته في الذكاء والفصاحة والبلاغة، فكانت عاملا كبيرا ذا تأثير عميق في نشر تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم[9]؛ فقد ورد عن أبى موسى رضى اللَّه عنه أنّه قال: "مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا"[10], وقيل: أنّها أفقه النساء مطلقًا[11], بلا نزاع في ذلك بين أهل العلم, يقول الذهبي: "ولا أعلم في أمه محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقا، امرأة أعلم منها"[12].
    وقد استقلت بالفتوى رضي الله عنه, وحازت على هذا المنصب الجليل المبارك منذ وفاة النبي رضي الله عنها، وأصبحت مرجع السائلين ومأوى المسترشدين، وبقيت على هذا المنصب في زمن الخلفاء كلهم إلى أن وافاها الأجل, وشهد بعلمها كبار الصحابة؛ فهذا علي يقول: "لقد علم أولوا العلم من آل محمد, وعائشة بنت أبي بكر فسألوها أنّ أصحاب ذي الثدية ملعونون على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم"[13], وكان الصحابة إذا أشكل الأمر عليهم من الدين، استفتوها فيجدون علمه عندها[14].
    وشهد لها أهل التحقيق بالتقدم والإصابة[15], يقول الإمام الزُهري : "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين, وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل"[16], وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة من أفقه الناس وأحسن الناس رأيا في العامة"[17], وقيل لمسروق: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ فقال: "والذي نفسي بيده لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض"[18], وعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْصَحَ مِنْ عَائِشَةَ"[19].
    ومن الجدير ذكره أنّ كثيراً من الأحكام الشرعية التي عرفناها من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وخاصة تلك التي تخص النساء إنما عُرِفَت من أحاديث روتها السيدة عائشة رضي الله عنها؛ فلأم المؤمنين دورٌ مميّز في هذا المجال, لأنّ النساء حين يسألن النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوعاتٍ تخصُّ حالَهن يسألنه غالباً وهو في بيته وبين نسائه، وأفضل من ينقل تلك الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؛ ولهذا كان لها دورٌ كبير في الدعوة[20].
    وقد اشتغلت بالفتوى من خلافة أبي بكر إلى أن توفيت, وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت[21], ولم تكتفِ رضي الله عنها بما عرفت من النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما اجتهدت في استنباط الأحكام للوقائع التي لم تجد لها حكماً في الكتاب أو السنة، فكانت إذا سئلت عن حكم مسألة ما بحثت في الكتاب والسنة، فإن لم تجد اجتهدت لاستنباط الحكم، حتى قيل: إنّ ربع الأحكام الشرعية منقولة عنها[22].
    ولمْ لمْ يكنْ لعائشة إلاّ هذه المنقبة العظيمة لكفاها فخراً, ولجعلها تتبوأ المقام السامي والمنزلة الرفيعة؛ فكم من مسلمٍ نفعتْ, وكم من مفسدةٍ درأتْ, بنشرها ذلك العلم الجليل, وهذا ما جعل ابن القيم رحمه الله حين عقد مفاضلة بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهنّ, أن يقول: "وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم؛ فلا ريب أنّ عائشة أعلم وأنفع للأمة, وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرُها, واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها"[23].
    وفي هذا تأكيدٌ لدور المرأة في المعرفة والعلم والحياة, وهي دعوة للتأسي بأمّ المؤمنين, وهي التي كانت تقول: "رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن"[24]؛ فدعوة المرأة للعلم ليست دعوة للانحلال والسفور, وإنّما هي دعوة لما يُعينها على النهوض بوظيفتها في هذه الحياة, ويجعلها أقدر على القيام بمسؤولياتها, وفي هذا مفخرة للدّين الذي خرج هذا النموذج الباهر[25].
    مَنْـهَجُهَا العَـلْمِي
    اعتمدت في منهجها الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية, وساعدها في ذلك تلقيها للوحيين مشافهة من فم رسول الله, ثمّ اتكأتْ على القياس وإلحاق النظير بالنظير, وامتاز منهجها العلمي بعدة ميّزات وخصائص, أهمها:
    الأولى: الحياء ليس مانعاً من موانع العلم, ودلّ على هذا قولُها: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ, لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ"[26], وعن عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: اخْتَلَفَ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ, فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنْ الدَّفْقِ أَوْ مِنْ الْمَاءِ, وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ, فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأُذِنَ لِي؛ فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ, إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ؛ فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ. قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ"[27], والشواهد كثيرة, واقتصر على ما يكفي للدلالة على منهجها.
    الثانية: الأسلوب الاستدلالي[28], ويكفي أنْ أسوقَ مثالا واحدا للدلالة على قدرتها الفائقة في جمع الأدلة واستنباط الأحكام منها, بأسلوب دقيق وفهم عميق, فقد روى الترمذي عن مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ:
    مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, وَاللَّهُ يَقُولُ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ", "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ".
    وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجِلِينِي, أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى", "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ". قَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَنْ هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ مَا رَأَيْتُهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
    وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, يَقُولُ اللَّهُ: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولَ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ".
    وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, وَاللَّهُ يَقُولُ: "قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ"[29].
    الثالثة: الأسلوب الاستفهامي, وهو أسلوب يدلّ على ذكاء صاحبه, وكانت رضي الله عنها تتمتع بحسن السؤال والاستفسار والمحاورة, ومن ذلك قولُها: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ" أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: "لَا, يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ, وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ, وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ, أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ"[30].
    وَسَأَلْتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ", فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "عَلَى الصِّرَاطِ"[31], والناظر في أسئلتها يُدرك أنّ ميّزات هذه الشخصية الواعية المدركة.
    وتأمّل حوارها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الحساب والعرض حين سمعته قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ". قَالَتْ: "أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا", فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ, وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ"[32], وَفي الحديث دلالة على ذكاء عائشة, وفِيهِ جَوَاز الْمُنَاظَرَة وَمُقَابَلَة السُّنَّة بِالْكِتَابِ [33]. الرابعة: القياس والمنطق العقلي
    والمنطق عندها ليس متحرراً من القرآن والسنّة, بل مبنيٌّ عليهما, ومثال ذلك أنّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا أنَّ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ؛ فَقَالَتْ: "شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلَابِ, وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً, فَتَبْدُو لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ
    أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ"[34]؛ فالمنطق العقلي يأبى أنْ تُشبه المرأة بالحمير والكلاب[35].
    وَذُكِرَ عِنْدَها رضي الله عنها قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَتْ: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ, إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ, فَقَالَ: أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ"[36]أيْ "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ, وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ"[37], وهذا منطقٌ سليم, لأنّ البكاء عملُ الآخرين, والله سبحانه يقول: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْر أُخْرَى".
    ولمّا سمعت بقول أبي هريرة "من غسل ميتا اغتسل, وَمن حمله توضأ", قالت رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: "أََوَنَجَّسَ موتى الْمُسْلِمِيْنَ؟ وما عَلَى رَجُل لَوْ حمل عودا"[38], وهذا الكلام منها يعتمد المنطق والقياس, وكأنّها تقول: إنّ المنطق يأبى نجاسة المسلم, ولا يوجب غسلاً لحملِ عود.
    وفي ختام هذا المبحث المُختصر جداً, أُنبّه على أنّني أتحدث عن فقيهة الأمة, فهي راوية كبيرة للحديث, ومفسرة للقرآن, وأديبة خطيبة فصيحة, وما نُقلَ عنها من علم أكثر من أن يُحصى, ولكنّني ذكرتُ لمحة موجزة منه للدلالة على منقبة من مناقبها الجليلة.

    [1] رواه الطبراني في الكبير (12/453) حديث رقم (13646), وروى نحوه البيهقي, وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة المختصرة (2/574), حديث رقم (906), وقال: حسن.

    [2] سنن الترمذي, كِتَاب صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب مِنْهُ, حديث رقم (2431).

    [3] صحيح البخاري, كِتَاب الصَّلَاةِ, بَاب الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ, حديث رقم (456).

    [4] انظر: الخلاصة في بيان رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالرافضة (1/68).

    [5] انظر: عشرة النساء للنسائي (1/11).

    [6] مَعْنَاهُ تُسْرِعَانِ الْمَشْيَ كَالْهَرْوَلَةِ.

    [7] صحيح البخاري, كتاب الجهاد والسير, بَاب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ, حديث رقم: 2667.

    [8] عمدة القاري (1/100), وانظر: الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ (1/40), و سير أعلام النبلاء (2/139).

    [9] انظر: نواسخ القرآن (1/104).

    [10] سنن الترمذي, كِتَاب الْمَنَاقِبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب مِنْ فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, حديث رقم (3818).

    [11] انظر: سلسلة الأحاديث الواهية وصحح حديثك (1/26).

    [12] انظر: سير أعلام النبلاء (2/140).

    [13] قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والأوسط بإسنادين, ورجال أحدهما ثقات, وانظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/359).

    [14] انظر: تفسير القرآن العظيم (6/405).

    [15] انظر: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية (2/376).

    [16] موطأ الإمام مالك, أبواب الصلاة, باب وقوت الصلاة, (1/45).

    [17] انظر: أسد الغابة (1/1384).

    [18] المعجم الكبير (23/181), حديث رقم (291), وقال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن, وانظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/388).

    [19] سنن الترمذي, كِتَاب الْمَنَاقِبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب مِنْ فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, حديث رقم (3819), وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

    [20] انظر: المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام (9/149).

    [21] انظر: الطبقات الكبرى (2/375), وتهذيب الكمال (23/431), وأنساب الأشراف (1/185).

    [22] انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري(11/70), وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (10/255), ونساء حول الرسول (1/15).

    [23] بدائع الفوائد (3/683).

    [24] انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/175), والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار (1/293), وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (1/156).

    [25] ومن أراد الاطلاع على محاوراتها ومناقشاته مع الصحابة, فليرجع إلى كتاب "الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ" للإمَامِ بَدْرِ الدّيْنِ الزَّرْكَشَيِّ.

    [26] سنن ابن ماجة, كِتَاب الطَّهَارَةِ وَسُنَنِهَا, بَاب فِي الْحَائِضِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ, حديث رقم (634).

    [27] صحيح مسلم, كِتَاب الْحَيْضِ, بَاب نَسْخِ الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ, حديث رقم (526).

    [28] انظر: عائشة معلمة الرجال والأجيال (85).

    [29] سنن الترمذي, كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ, حديث رقم (2994), وقال أبو عيسى: حديث حسن صحيح.

    [30] سنن الترمذي, كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ, حديث رقم (3099).

    [31] صحيح مسلم, كِتَاب صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ, بَاب فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَصِفَةِ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, حديث رقم (4999).

    [32] صحيح البخاري, كِتَاب الْعِلْمِ, بَاب مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَفْهَمْهُ فَرَاجَعَ فِيهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ, حديث رقم (100).

    [33] انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (1/168).

    [34] صحيح البخاري, كِتَاب الصَّلَاةِ, بَاب مَنْ قَالَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ, حديث رقم (484).

    [35] والحديث عن تشبيه المرأة بالحمير والكلاب خطير على الدعوة في هذه الأيام, لما فيه من انتقاص من قدر المرأة وتحقيرها, ومثلُ ذلك يُقال بمن يُفتي بالوضوء من لمس المرأة, وفي حديث عائشة الذي رواه البخاري "فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَ رِجْلَيَّ فَقَبَضْتُهُمَا" ردٌ عليهم.

    [36] صحيح مسلم, كتاب الجنائز, بَاب الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ, حديث رقم (1546).

    [37] صحيح البخاري, كِتَاب الْمَغَازِي, بَاب قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ, حديث رقم (3681).

    [38] انظر: الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ (1/122).



  • #2
    رد: مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة الإسلامية

    اسال الله تعالى ان يبارك فيكم ان ينفع بكم
    "إذا وجدت الأيام تمر عليك ، و ليس لكتاب الله حظ من أيامك و ساعات ليلك و نهارك ، فابك على نفسك ، و اسأل الله العافية، و انطرح بين يدي الله منيبا مستغفرا ، فما ذلك إلا لذنب بينك و بين الله ، فوالله ما حرم عبد الطاعة إلا دل ذلك على بعده من الله عز وجل"

    تعليق


    • #3
      مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة السياسية تلك هي أمّنا رضي الله ع

      مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة السياسية تلك هي أمّنا رضي الله عنها وأرضاها.
      وأقصد بالسياسة هي تلك الإجراءات والنّظم التي تؤدي إلى اتخاذ قرارات في شؤون المجتمع الخاضع لها, وكيفية تنفيذها[1], فكل نشاط يؤثر في تلك القرارات هو نشاط سياسي, وفي ضوء هذا المفهوم السياسي فإنّ للمرأة في الإسلام دور سياسي ملحوظ منذ بداية الدعوة, والشواهد على ذلك كثيرة.
      لقد كانت بيعة النساء[2] على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الشواهد الأساسية على دور المرأة المحوري في العمل السياسي؛ فالبيعة ترتبط مباشرة في مسألة الحكم والحاكم والرعية, ولها بعد تعبديّ يرتبط بالولاء والالتزام والطاعة؛ فهو دور أساسي لا يُمكن لأحد أن يتجاهله, وهكذا سار الأمر في بيعة الخلفاء؛ فالنساء كالرجال سواء يبايعنّ وليّ الأمر.
      فالحديث عن مساهمة أمّ المؤمنين في الحياة السياسية ينسجم تماماً مع هذه الرؤية لدور المرأة السياسي في الإسلام, ولكن قدْ يكون الدور مختصراً أو متسعا تبعاً للظروف والأحوال, وسأعرض لبعض أدوارها ومواقفها السياسية رضي الله عنها, والتي تؤكد عظمة أمّ المؤمنين, ومدى تأثيرها الإيجابي في الحياة السياسية الإسلامية, وتؤكد – أيضاً - حقيقةَ أنّ المرأة مشاركٌ أساسي في السياسية.
      وما كان لهذه الشخصية الكبيرة أن تغيب عن مشهد الأحداث, وخصوصاً إذا كانت الأحداث جسام, يدفعها إلى ذلك الشعور بالواجب المُلقى على عاتقها, ثمّ الإحساس بالقدرة على التأثير والتغيير والإصلاح, يقولُ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ". قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ"[3], والنَّصِيحَة لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ في مُعَاوَنَتهمْ عَلَى الْحَقّ وَطَاعَتُِهِمْ فِيهِ وَأَمْرِهِمْ بِهِ, وَتَنْبِيههمْ وَتَذْكِيرهمْ وَإِعْلَامهمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغهُمْ مِنْ حُقُوق الْمُسْلِمِينَ[4].
      دورها السياسي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
      المرأة حين تتكامل شخصيتها لا تكتفي بالمهمات السهلة, ونحن هنا أمام زوجة النبي صلى الله عليه وسلم, وأمام زوجة الحاكم الأعلى للدولة؛ فمهمتها ووظيفتها تتناسب مع الموقع الذي تشغله, فالراحة النفسية للزوج في بيته أساسُ في نجاحه وتفوقه وتفرغه للمسؤوليات المُلقاة على عاتقه, وهي رضي الله عنها وفّرت هذا الإسناد, والشواهد التي ذكرتُها في مناقبها كثيرة.
      لم يقتصر دورها على الإسناد النفسي, والرضا بشظف العيش وقسوته, بل ساندته في غزواته, واسْتَأْذَنْتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ؛ فَقَالَ: "جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ"[5], وشاركت في الخندق وأحد, وكلُّ ذلك ضمن وظيفتها المساندة للقائد العام للقوات الإسلامية[6].
      دورها السياسي في عهد الشيخين
      لم يكن للسيدة عائشة دور سياسي مُمَيّز عن باقي النساء لا في عهد النبوة, ولا في عهد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, واقتصر دورها الخاص المُميّز في عهد الشيخين في الإجابة عن الاستفسارات الشرعية فيما يخصّ النساء غالباً, وبقي الحال على ما هو عليه الشطرَ الأول من خلافة عثمان رضي الله عنه.
      كان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها[7], وكانوا يجلسون قرب حجرتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, ويستفتونها في الأمور الدينية, وكانت السيدة عائشة تفتي وتدرس وتبلغ وهي جالسة في حجرتها التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم[8].




      موقفها من بعض سياسات عثمان رضي الله عنه
      تتحدث كثير من الروايات, وهي في مجموعها تُعطينا حقيقة مُؤكدة مفادها أنّ الصحابة اعترضوا على بعض سياسات عثمان, وخصوصا في الشطر الأخير من ولايته عليهم[9], ودون الخوض في تفاصيل تلك الاعتراضات كانت عائشةُ من أولئك المعترضين[10], ومن هنا كان أول ظهور سياسي مميز ومهم جداً للسيدة عائشة رضي الله عنها.
      ولا يُمكن فهم موقف السيدة عائشة السياسي في تلك المرحلة بعيدًا عن فهم الفتنة نفسها وأحداثها ورجالها وظروفها، إذ لا يمكن عزلها ومحاكمتها وكأنّها خارج الظرف, وإنّما يجب النّظر لموقف عائشة من خلال الفهم العام للفتنة, ولهذا لا يختلف موقف السيدة عائشة عن موقف سيدنا عليّ على وجه الخصوص من سيدنا عثمان قبل مقتله[11], وكذلك بقية أمّهات المؤمنين.
      ولأنها فتنة وجبَ تحقيق الروايات, وردّ المتشابه إلى المحكم, فالمحكم هو ما أكّدته النصوص الكثيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, والتي تشهد بعدالة الصحابة وورعهم وتقواهم, وأنّ الله رضي عنهم ورضوا عنه, وكذلك أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها, فهي من تلك الثلة المختارة المشهود لها بالورع والتقوى, بل ويُضاف لها ما ورد في القرآن والسنة بخصوصها من فضائل كما قدمتُ سابقاً.
      واستناداً لتلك الحقائق النهائية والمطلقة؛ فإنّ أي رواية تتناقض مع تلك الحقائق هي رواية مردودة, وحين النّظر ببعض تلك الروايات تعلم علم اليقين أنّها مكذوبة موضوعة, ومنها تلك الرواية التي تقول أنّ السيدة عائشة أمرت بقتل عثمان؛ وقالت: "اقتلوا[12] نعثلاً"[13] تعني به عثمان, وهي رواية كذبها المحققون[14].
      موقفها من القِصاص من قتلة عثمان
      ليس هنا مساحة متاحة للحديث عن التفاصيل التي وقعت, ولكنّني أُحاول تلخيص موقف أمّ المؤمنين السياسي في تلك الفترة, وهو أنّها رأت رأياً مخالفاً لموقف عليّ رضي الله عنه بخصوص القصاص من قتلة عثمان؛ مع إجماعهم رضوان الله عليهم على وجوب القصاص من قتلة عثمان, ولكنّهم اختلفوا في التوقيت والآليات الممكنة للوصول إلى تلك الغاية.
      يقول ابن حجر: "وَالْعُذْر فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا كَانَتْ مُتَأَوِّلَة – أي قوله تعالى: "وَقَرْن فِي بُيُوتكُنَّ" - هِيَ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر, وَكَانَ مُرَادهمْ إِيقَاع الْإِصْلَاح بَيْن النَّاس وَأَخْذ الْقِصَاص مِنْ قَتَلَة عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ, وَكَانَ رَأْي عَلِيّ الِاجْتِمَاع عَلَى الطَّاعَة وَطَلَب أَوْلِيَاء الْمَقْتُول الْقِصَاص مِمَّنْ يَثْبُت عَلَيْهِ الْقَتْل بِشُرُوطِهِ"[15], وكان تأويلُها مقبولاً, لأنّ الآية لا تمنع الخروج مطلقاً, كخروجها للحج, وهي هنا – كخروجها للحج - خرجت من أجل الإصلاح بين الناس[16].
      وقد أخطأت رضي الله عنها في اجتهادها[17] كما أخطأ معها طلحة بن عبيد الله, والزبير بن العوام وهما من سادة الصحابة, ودلّ على خطأ اجتهادها ما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم, من ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: "أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَة الْجَمَل الْأَدْبَب تَخْرُج حَتَّى تَنْبَحهَا كِلَاب الْحَوْأَب, يُقْتَل عَنْ يَمِينهَا وَعَنْ شِمَالهَا قَتْلَى كَثِيرَة, وَتَنْجُو مِنْ بَعْدِمَا كَادَتْ"[18].
      وفي ويظهر لنا من كلام أمّ المؤمنين أنّها ندمت على موقفها السياسي في كيفية أخذ القصاص من قتلة عثمان, وما تبعه من أحداث مؤلمة, ومن ذلك قولُها: وددتُ أني لو كنت جلست كما جلس صواحبي, حينَ ذُكِّرَتْ بيوم الجمل[19], وكانت إذا قرأت: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ" بكت حتى تبلّ خمارها, وتقول: يا ليتني كنت نسيا منسيا, وما ذاك إلا لأنّ قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين[20], "ولا ريب أنّها رضي الله عنها ندمت على مسيرها إلى البصرة, وحضورهما يوم الجمل، وما ظنت أنّ الأمر يبلغ ما بلغ"[21].
      وفي موقفها السياسي هذا تظهر فضيلتان لهذه السيدة العملاقة, وهما:
      الأولى: الصدق, فهي التي روت أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهنَّ ذَاتَ يَوْم: "كَيْف بِإِحْدَاكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَاب الْحَوْأَب"[22], مع أنّ الحديث قدْ يُشكلُ لها حرجاً سياسياً, ولو شاءت لكتمته, وما علمَ به أحد.
      الثانية: إظهار النّدم, وهو دليلٌ على مراجعتها لما فعلت, وهي منقبة قليل فاعلها, فكم من مخطىء مصر على خطأه, يلهث وراء التبريرات والذرائع وخصوصاً في عالم السياسة؛ في لا تتردد في إطهار ما يجول في نفسها من الحق.
      موقفها من الخوارج
      التزمت أمّ المؤمنين بيتها, وكأنها اعتزلت أمر السياسة بعد معركة الجمل, وظنّي أنّها دُهشت لهول ما صارت إليه الأمور, ومع ذلك ظهرت لها بعض المواقف التي تخصُّ الوضع السياسي القائم في عهد عليّ رضي الله عنه, ومن ذلك موقفها من الخوارج؛ فهي على ما يبدو تكره هذه الفئة وتمقتها.
      روى مسلم عن عُرْوَة قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: "يَا ابْنَ أُخْتِي, أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبُّوهُمْ"[23], وَالظَّاهِر أَنَّهَا قَالَتْ هَذَا عِنْدَمَا سَمِعَتْ أَهْل مِصْر يَقُولُونَ فِي عُثْمَان مَا قَالُوا, وَأَهْل الشَّام فِي عَلِيّ مَا قَالُوا, وَالْحَرُورِيَّة[24] فِي الْجَمِيع مَا قَالُوا. وَأَمَّا الْأَمْر بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: "وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ"[25].
      وتظهر كراهتُها لمنهجهم من خلال جوابها لتلك المرأة التي جاءت تسألها عن قضاء الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِهَا؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَا تُؤْمَرُ بِقَضَاءٍ"[26], ومَعْنَى قَوْل عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّ طَائِفَة مِنْ الْخَوَارِج يُوجِبُونَ عَلَى الْحَائِض قَضَاء الصَّلَاة الْفَائِتَة فِي زَمَن الْحَيْض, وَهُوَ خِلَاف إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ, وَهَذَا الِاسْتِفْهَام الَّذِي اِسْتَفْهَمَتْهُ عَائِشَة هُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار, أَيْ هَذِهِ طَرِيقَة الْحَرُورِيَّة, وَبِئْسَ الطَّرِيقَة[27].
      موقفها من سياسة معاوية
      يُمكنني التّعرُّفُ على موقفها من معاوية من خلال وصيتها له, ذلك أنّ مُعَاوِيَةَ نصيحتها وقال: اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ, فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ, وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ", وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ[28].
      ولا يخفى عليك أنّ هذا كتاب موجهٌ إلى الخليفة, وهو رأس الهرم السياسي آنذاك, وهو كلام مقصود يُصوّر موقف عائشة من خلافة معاوية, ما كان يبتغيه من إرضاء الناس بالمال وغيره لكسب ودّهم, وضمان تأييدهم ورضاهم؛ فهي تُحذره من هذه السياسة الفاشلة, وفي مقالها بعد نظر وقدرة على تشخيص الحالة بكلمات جامعة موجزة[29].
      موقفها من قتل حِجْر[30]
      وكان لها موقف معلنٌ من قتل حجر في زمن معاوية, وعبّرتْ عن ذلك بقولها: "أما والله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ على أن يأخذ حجراً وأصحابه من بينهم حتى يقتلهم بالشام, ولكنّ ابنَ آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس"[31], تعني أنّ معاوية يعلم أنّ معارضيه ضعاف لا حول لهم ولا قوة.
      ولما قدم معاوية المدينة دخل على عائشة رضي الله عنها فكان أول ما قالت له في قتل حجر, قالت: يا معاوية قتلت حجرا وأصحابه, وفعلت الذي فعلت, أما خشيت أن اخبأ لك رجلا فيقتلك؟ قال: لا إني في بيت أمان, ثمّ قال: دعني وحجرا حتى نلتقي عند ربنا[32].
      موقفها من البيعة ليزيد
      وحين أراد مَرْوَان - وهو عامل معاوية عَلَى الْحِجَاز حينذاك – أخذ البيعة ليزيد بن معاوية جَمَعَ النَّاس فَخَطَبَهُمْ, وَقَالَ: إِنَّ اللَّه أَرَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي يَزِيد رَأْيًا حَسَنًا, وَإِنْ يَسْتَخْلِفهُ فَقَدْ اِسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْر وَعُمَر؛ فَقَالَ لَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر: سُنَّة هِرَقْل وَقَيْصَر, إِنَّ أَبَا بَكْر وَاَللَّه مَا جَعَلَهَا فِي أَحَد مِنْ وَلَده وَلَا فِي أَهْل بَيْته؛ فَقَالَ مروان: خُذُوهُ, فَدَخَلَ بَيْت عَائِشَة فَلَمْ يَقْدِرُوا عليه؛ فَقَالَ مَرْوَان: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ "وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا"؛ فَقَالَتْ عَائِشَة: كَذَبَ وَاَللَّهِ مَا نَزَلَتْ فِيهِ, وَاَللَّهِ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا فِي فُلَان اِبْن فُلَان, ولَوْ شِئْت أَنْ أُسَمِّيه لَسَمَّيْته, وَلَكِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ أَبَا مَرْوَان وَمَرْوَان فِي صُلْبه[33], وفي هذا بيانٌ لموقفها السياسي في تلك المرحلة الأموية التي عاشتها رضي الله عنها.


      الخُلاَصَـة
      أردتُ من خلال هذا العرض لمواقفها السياسية أنْ أُبرهن على عبقرية هذه السيدة, وعلى رسوخ وقوة شخصيتها؛ فهي لا تقبل لنفسها القعود عن الواجب, ولا تتهيّب من الاجتهاد والنّظر, فكم من امرأة رضيت لنفسها هامش الحياة, وعاشت على فتاتها.
      لمْ تدخر – رضي الله عنها - وسعاً في مناصرة الحق, والاهتمام بقضايا أمّتها, فكانت تأتيها الوفود, فتجيب وتحاورُ, وتتحركُ على بصيرة وعلم ودراية, فمواقفها السياسية تشهد لها بتفوق واضح, وفهم عميق يُساعدها علم جمّ, وعقلية فقهيّة لم يسبق لها مثيل, وفصاحة لا تعجز عن التعبير.
      إنّها شخصية إسلامية سياسية من الوزن الثقيل؛ استطاعت أنْ تُحرك قطاعاً واسعاً من الأمّة, وأن تقود حركة سياسية ضخمة في ظروف هي غاية في التعقيد والدقّة, ثمّ تَبقى على نفس المُستوى من التأثير والتفاعل مع القضايا السياسية ذات الحجم الكبير حتى وفاتها رضي الله عنها وأرضاها.



















      أنّ للسيدة عائشة من الفضائل والمناقب والخصائص ما جعلها تتبوأ مكانة سامقة, رسمَتْ من خلالها نموذجاً إنسانياً باهراً؛ فهي الأقرب إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأحب نسائه بعد خديجة إليه, وهذا يعني أنّ لعائشة من الخصائص والصفات ما جعلها تتبوأ تلك المكانة المرموقة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      وأنّ عائشة فقيهة الأمة بلا منازع؛ وكانت تفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين[34], وذلك لما حازته من مؤهلات ومواهب وقدرات, يُضاف إلى كلّ هذا البيئة والظروف التي عاشت فيها رضي الله عنها؛ فمن بيت صدّيق الأمة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم, فهي – إذن – تعيش العلم والحكمة بصورتها الأكمل والأتم.
      ثمّ هي شخصية سياسية من طراز فريد, تساندها صفات وميّزات قلّ أنْ تتوفر في شخصية مثلها؛ فهي الحاذقة الماهرة اللبيبة الذكية, والعالمة الجليلة والفقيهة العميقة, والبليغة الأريبة, وهي صفات تؤلف في مجموعها شخصية إنسانية نادرة الوجود.
      وتركتْ رضي الله عنها إرثاً علمياً هائلاً, في التفسير والفقه والحديث دراية ورواية, وإرثاً لا يُبارى في الفتوى واستنباط الأحكام, فهي من المساهمين الأساسيين في نقل العلم الشرعي للأمة, يُساعدها ذكاء خارق وحافظة لا تخذلُها أبداً.
      فالسيدة عائشة رضي الله عنها نموذجاً نسوياً متكاملاً في الفكر والعواطف والسلوك, وشخصية تتمتع ببعدٍ إنساني رفيع المُستوى, مرهفة الإحساس, جميلة الذوق حتى في فصاحتها وبلاغتها وأناقتها في كل حيثية من حيثيّات حياتها, تبرهنُ للأجيال أنّ المرأة قادرة على النّهوض بالوظيفة الكبرى, والمهمات العليا في هذه الحياة الدنيا؛ فهي تُصيغ المتون, ولا تقبل لنفسها أن تعيش على هامش الحياة.
      إنّها شخصية تحتل ببراعة تامّة النموذجَ الأعلى للمرأة, تكره الفراغ والانزواء والانطواء, ولا تقبل لنفسها أن تكون ردة فعل عفوية غير واعية, بل هي التي تصنع الحدث, وتقود الحركة, ولا تُعفي نفسها من المسؤولية, ولا تُلقي بالتقصير على الأوهام لتجد لنفسها مبرراً للقعود والسكون والإلغاء. تلك هي المرأة النموذج التي تمتلئُ بالمعاني والقيم والأهداف الواضحة؛ فتعيش في القمم لا على السفوح والقيعان.
      تلك هي أمّنا رضي الله عنها وأرضاها. أسأل الله أن يجمعنا بها
      [1] عرفها بعضهم أنّها " الْقَانُونُ الْمَوْضُوعُ لِرِعَايَةِ الْآدَابِ ، وَالْمَصَالِحِ وَانْتِظَامِ الْأَمْوَالِ", وانظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (13/273).

      [2] بيعة النساء متعددة الوجوه والأشكال, دلّ على مشروعيتها قوله تعالى: . "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"[الممتحنة:12], وفي بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة من النبوة كانت النساء حاضرات نُسَيْبَة بنت كعب أم عُمَارة, وأسماء بنت عمرو أم منيع, وبعد الهجرة كنّ حاضرات, روى مسلم أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَتْ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْتَحَنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ, وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ[صحيح مسلم, كِتَاب الْإِمَارَةِ, بَاب كَيْفِيَّةِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ, حديث رقم (3470)], وهكذا كنّ يبايعنَ الخلفاء.

      [3] صحيح مسلم, كِتَاب الْإِيمَانِ, باب بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ, حديث رقم (82).

      [4] انظر: شرح النووي (1/144).

      [5] صحيح البخاري, كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ, بَاب جِهَادِ النِّسَاءِ, حديث رقم (2663).

      [6] انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل, (6/141) حديث رقم (25140).

      [7] انظر: زاد المعاد في هَدْي خير العباد(1/102), وعقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام (1/426).

      [8] انظر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (28/124).

      [9] انظر: الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة (1/341), وسمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (1/467).

      [10] انظر: أنساب الأشراف (2/264), والإمامة والسياسة (1/35), والثقات (2/257), وتاريخ دمشق (39/416).

      [11]انظر: أنساب الأشراف (2/264), والرياض النضرة في مناقب العشرة (1/224), وتاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (3/458), وتاريخ الخلفاء (1/140).

      [12] النعثل الرجل الأحمق, وانظر: تاج العروس من جواهر القاموس (31/14), ولسان العرب (11/669).

      [13] أخرجه الطبري في تاريخه 3/12 من طريق سيف بن عمر الضبي، وهو متفق على تضعيفه وقد تفرد به، وعليه فلا يثبت عن عائشة - رضي الله عنها- كيف وهي التي روت بعض الأحاديث في فضل عثمان بن عفان - رضي الله عنه- وخرجت في وقعة الجمل للمطالبة بدمه, وانظر: فتاوى واستشارات موقع الإسلام اليوم (1/389), ومنهاج السنة النبوية (4/178), "وهذا من الكذب الصريح والإفك المبين كان حريا بإمام من أئمة الإسلام أن يضرب القول عنه صفحا", وانظر: سنوات الحنابلة (1/84).

      [14] قال الألوسي: "كذب لا أصل له", وانظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (16/109).

      [15] فتح الباري بشرح صحيح البخاري (11/75).

      [16] انظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (4/191), وتفسير القرآن العظيم (6/409).

      [17] ودلّ على هذا ما رويَ أنّها "لَمَّا أَقْبَلَتْ نَزَلَتْ بَعْض مِيَاه بَنِي عَامِر نَبَحَتْ عَلَيْهَا الْكِلَاب فَقَالَتْ: أَيْ مَاء هَذَا؟ قَالُوا: الْحَوْأَب. قَالَتْ: مَا أَظُنّنِي إِلَّا رَاجِعَة, فَقَالَ: لَهَا بَعْض مَنْ كَانَ مَعَهَا: بَلْ تَقْدَمِينَ فَيَرَاك الْمُسْلِمُونَ فَيُصْلِح اللَّهُ ذَاتَ بَيْنِهِمْ, فَقَالَتْ: إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْم: كَيْف بِإِحْدَاكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَاب الْحَوْأَب. وانظر: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان, كتاب التاريخ, باب إخباره صلى الله عليه و سلم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث, حديث رقم (6732), وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
      وقال ابن حجر: "وَأَخْرَجَ هَذَا أَحْمَد وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّار وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان وَالْحَاكِم وَسَنَده عَلَى شَرْط الصَّحِيح, وانظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (20/107).

      [18] انظر: فتحر الباري (20/107), وقال ابن حجر: رَوَاهُ الْبَزَّار وَرِجَاله ثِقَات.

      [19] انظر: أسد الغابة (2/189).

      [20] انظر: تفسير البحر المحيط (9/160), روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (22/11), والطبقات الكبرى (8/80), وتاريخ بغداد (9/185).

      [21] سير أعلام النبلاء (2/177), وفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (6/45).

      [22] انظر: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان, كتاب التاريخ, باب إخباره صلى الله عليه و سلم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث, حديث رقم (6732), وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
      وقال ابن حجر: "وَأَخْرَجَ هَذَا أَحْمَد وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّار وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان وَالْحَاكِم وَسَنَده عَلَى شَرْط الصَّحِيح, وانظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (20/107).

      [23] صحيح مسلم, كِتَاب التَّفْسِيرِ, حديث رقم (5344).

      [24] منسوبة إلى حروراء بلدة على ميلين من الكوفة, ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حروري, لأنّ أول فرقة منهم خرجوا على علي بالبلدة المذكورة فاشتهروا بالنسبة إليها, وانظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (1/345).

      [25] انظر: شرح النووي (9/399).

      [26] صحيح مسلم, كِتَاب الْحَيْضِ, بَاب وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ دُونَ الصَّلَاةِ, حديث رقم (506).

      [27] انظر: شرح النووي (2/46).

      [28] سنن الترمذي, كِتَاب الزُّهْدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب مَا جَاءَ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ, حديث رقم (2338), وقال الألباني: صحيح, وانظر: السلسلة الصحيحة (5/392).

      [29] انظر: إحياء علوم الدين (4/55).

      [30] هو حجر بن عدي بن معاوية الكندي, وهو المعروف بحجر الخير, وفد على النبي صلى الله عليه وسلم هو وأخوه هانئ وشهد القادسية, وكان من فضلاء الصحابة, وكان على كندة بصفين, وعلى المسيرة يوم النهروان, وشهد الجمل أيضا مع علي, وكان من أعيان أصحابه, وانظر: أسد الغابة (1/245).

      [31] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/98), وأنساب الأشراف (2/169).

      [32] انظر: تاريخ دمشق (12/229), وأسد الغابة (1/245), والاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/97), والبداية والنهاية (8/60), وبغية الطلب في تاريخ حلب (2/311).

      [33] انظر: فتح الباري (13/393), والفجر الساطع على الصحيح الجامع (6/75), والسلسلة الصحيحة المجلدات الكاملة (13/43), وفتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير (6/460).

      [34] انظر: البداية والنهاية (2/73).


      تعليق


      • #4
        رد: مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة السياسية تلك هي أمّنا رضي الله ع

        اسأل الله تعالى أن يبارك فيكم وأن ينفع بكم
        فكما عودتمونا جزاكم الله خيرا على التميز في الطرح وأختيار ماينتفع به القارئ في حياته الدنويه كانت او مايستعد به لآخرته فأسأل الله تعالى أن ينفع بما تكتبون أو تنقلون لخدمة دينه وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
        "إذا وجدت الأيام تمر عليك ، و ليس لكتاب الله حظ من أيامك و ساعات ليلك و نهارك ، فابك على نفسك ، و اسأل الله العافية، و انطرح بين يدي الله منيبا مستغفرا ، فما ذلك إلا لذنب بينك و بين الله ، فوالله ما حرم عبد الطاعة إلا دل ذلك على بعده من الله عز وجل"

        تعليق


        • #5
          رد: مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة السياسية تلك هي أمّنا رضي الله ع

          المشاركة الأصلية بواسطة عبدالعزيز المالكي مشاهدة المشاركة
          اسأل الله تعالى أن يبارك فيكم وأن ينفع بكم
          فكما عودتمونا جزاكم الله خيرا على التميز في الطرح وأختيار ماينتفع به القارئ في حياته الدنويه كانت او مايستعد به لآخرته فأسأل الله تعالى أن ينفع بما تكتبون أو تنقلون لخدمة دينه وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
          جزاكم الله خيرا ونفع بكم


          تعليق


          • #6
            رد: مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة الإسلامية

            المشاركة الأصلية بواسطة عبدالعزيز المالكي مشاهدة المشاركة
            اسال الله تعالى ان يبارك فيكم ان ينفع بكم
            جزاكم الله خيرا ونفع بكم


            تعليق

            يعمل...
            X