" اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " (الزمر:62)
هذه الآية الكريمة جاءت في مطلع الخمس الأخير من سورة الزمر , وهي سورة مكية , وآياتها خمس وسبعون بعد البسملة ,
وقد سميت بهذا الاسم للإشارة فيها إلى سوق المجرمين من الكفار والمشركين في يوم القيامة إلى جهنم زمرا , وإلى سوق المتقين من المؤمنين الموحدين إلى الجنة زمرا . ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة وإن جاءت بها بعض اللمحات عن طبيعة النفس الإنسانية , وعن مصائر المؤمنين والكافرين في الآخرة , وعما أصاب المكذبين من الأمم السابقة , وضربت السورة الكريمة عددا من الأمثال واحتوت على العديد من الآيات الكونية الدالة على طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق وفي تحقيق البعث .
أولا: ركائز العقيدة :
من ركائز العقيدة التي أوردتها سورة الزمر مايمكن تلخيصه في النقاط التالية :
(1) أن القرآن الكريم هو تنزيل من الله العزيز الحكيم على خاتم الأنبياء والمرسلين (صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) , أنزله ربنا (تبارك وتعالى) بالحق ـ قرآنا عربيا غير ذي عوج ـ يطالبه (صلي الله عليه وسلم) كما يطالب الناس جميعا بالإيمان به , وبعبادة الله (تعالى) وحده بإخلاص وتجرد تامين , بغير شريك , ولا شبيه ولا منازع , ولا زوجة , ولا ولد لأن الله (تعالى) منزه عن ذلك كله ومنزه عن كل وصف آخر لايليق بجلاله , ولذلك فهو (سبحانه وتعالى) لا يقبل من عباده إلا التوحيد الخالص لذاته العلية .
(2) إن الذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم من دون الله , بدعوي أنهم يقربونهم إلى الله زلفى , هم كاذبون في ادعائهم , وافترائهم على الله , وسوف يحكم الله (تعالى) فيهم يوم القيامة , وهو (سبحانه) لا يهدي من هو كاذب كفار , لأنه لا يوجد من هو أظلم لنفسه ممن كذب على الله , وكذب بالحق إذ جاءه .
(3) على الذين ادعوا لله ولدا بغير علم ولا هدي ولا سلطان مبين أن يعلموا أن الله (تعالى) غني عن الصاحبة والولد , وأنه (تعالى) لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفي مما يخلق مايشاء لأنه (سبحانه) هو الله الواحد القهار .
(4) إن الله (تعالى) لا يرضي لعباده الكفر , ولكنهم إن كفروا فالله غني عنهم , وإن آمنوا وشكروا فالله يرضي عن ذلك منهم , ولاتزر وازرة وزر أخرى , والخلق جميعهم راجعون إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون , وهو عليم بذات الصدور .
(5) إن الذين يشركون بالله قد يتمتعون قليلا في الدنيا , ثم هم في الآخرة من أصحاب النار .
(6) من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه , وأما الكفار والمشركون من أصحاب القلوب القاسية فهم في ضلال مبين , والذي يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه يقف في عبادة الله قانتا آناء الليل ساجدا وقائما , وغيره لاه في الدنيا حتى يفاجئه الموت ,
"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ " (الزمر:9) .
(7) إن للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة , وإن تعرضوا لشيء من الابتلاء والإيذاء فعليهم أن يهاجروا فأرض الله واسعة , وعليهم أن يصبروا لأن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب .
(8) من اهتدي فإنما يهتدي لنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها , ومن يهد الله فما له من مضل , ومن يضلل فما له من هاد , والرسول الكريم ما علىه إلا البلاغ , فهو (صلي الله عليه وسلم) ليس على الناس بوكيل , والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون .
(9) أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ـ ومن بعده كل المسلمين , بل كل الناس ـ مأمورون بعبادة الله (تعالى) مخلصين له الدين وأن يكونوا لله (تعالى) من الشاكرين .
(10) الموت حق على العباد , وكذلك البعث والنشور .
(11) أن الرزق من الله , وهو (سبحانه وتعالى) الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .
(12) أن الله (تعالى) هو الغفور الرحيم الذي يغفر الذنوب جميعا .
(13) أن كل بني آدم خطاءون , وخير الخطاءين التوابون , ومن هنا كانت المسارعة في التوبة إلى الله والإنابة إليه من أصول الدين .
(14) أن للآخرة نفختان : نفخة الصعق والتي تنفخ في الصور فيصعق بها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله , ونفخة البعث التي إذا نفخت في الصور فإذا هم قيام ينظرون .
ثانيا : وصف مصائر كل من المؤمنين والكافرين :
في المقابلة بين ذل الأشقياء المعذبين من أهل النار الذين كفروا بالله أو أشركوا به , وبين تكريم السعداء المكرمين من أهل الجنة الذين آمنوا بالله واتقوه حق تقاته يقول ربنا (تبارك وتعالى) : "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شيءتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ . لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ . وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ . أَفَمَنْ حَقَّ علىهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ . لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ " (الزمر:14-20).
ويقول (عز من قائل) : "أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ " (الزمر:24) .
وقوله (سبحانه وتعالى) : "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ . وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ . لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ . لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ " (الزمر:32-35) .
ثالثا : استعراض جانب من مصائر الأمم السابقة :
يقول ربنا (تبارك وتعالى) : "كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ؛ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ؛ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " (الزمر:25-27) .
رابعاًً : ضرب الأمثال :
في سورة الزمر ضرب الله (سبحانه وتعالى) المثل على الشرك بالله والتوحيد لذاته العلىا - ولله المثل الأعلى - بعبد مملوك لعدد من الشركاء المتشاجرين المتنازعين , وعبد مملوك لرجل واحد لا يشاركه فيه أحد , ولا ينازعه علىه أحد هل يستويان مثلا أي حالا وصفة فيقول (عز من قائل) : "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ" (الزمر:29) .
خامساًً : الآيات الكونية :
جاء في سورة الزمر عدد غير قليل من الآيات الكونية الشاهدة لله (تعالى) بطلاقة القدرة في خلق الكون , وبالقدرة على إفنائه , وبالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه (بغير شريك , ولا شبيه , ولا منازع , ولا زوجة , ولا ولد) , ومن هذه الآيات ما يلي :
(1) "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ" (الزمر:5) .
(2) "خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" (الزمر:6) .
(3) "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ" (الزمر:21) .
(4) " إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ" (الزمر:30) .
(5) "اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عليهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الزمر:42) .
(6) " قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ"(الزمر46) .
(7) "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" (الزمر:62) .
(8) "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" (الزمر:67) .
(9) "وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" (الزمر:69) .
وكل آية من هذه الآيات تحتاج إلى معالجة خاصة في عرض جوانب الإعجاز العلمي التي جاءت بها , ولما كان المقام لا يتسع لعرض هذه الآيات التسع كلها دفعة واحدة فسوف أقصر حديثي هنا على الآية السابعة فقط في القائمة السابقة . وقبل الدخول إلى ذلك أري لزاما على أن أعرض لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة .
من أقوال المفسرين :
على الرغم من ضخامة دلالتها , فإن المفسرين قد أوجزوا في شرح هذه الآية الكريمة إيجازاً كبيرا . ففي شرح قوله (تعالى) : "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " (الزمر:62) .
ذكر ابن كثير (رحمه الله) ما نصه: أنه خالق الأشياء كلها , وربها , ومليكها , والمتصرف فيها , وكل تحت تدبيره , وقهره , وكلاءته ...
وجاء في تفسير الجلالين (رحم الله كاتبيه) ما نصه : (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) أي يتصرف فيه كيف يشاء .
وذكر صاحب الظلال (رحمه الله رحمة واسعة) مانصه: هذا القطاع الأخير في السورة يعرض حقيقة التوحيد من جانب وحدانية الخالق الذي خلق كل شيء , المالك المتصرف في كل شيء , فتبدد دعوة المشركين للنبي (صلي الله عليه وسلم) إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل ان يشاركوه عبادة إلهه!! تبدو هذه الدعوة مستغربة , والله هو خالق كل شيء , وهو المتصرف في ملكوت السماوات والأرض بلا شريك , فأني يعبد معه غيره , وله وحده مقاليد السماوات والأرض؟! .
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم (جزى الله كاتبيه خيرا) ما نصه : الله خالق كل شيء ـ وهو وحده ـ على كل شيء وكيل , يتولى أمره بمقتضى حكمته .
وجاء في صفوة التفاسير (جزى الله كاتبها خيرا) ما نصه : (الله خالق كل شيء) أي الله جل وعلا خالق جميع الأشياء وموجد جميع المخلوقات , والمتصرف فيها كيف يشاء , لا إله غيره , ولا رب سواه (وهو على كل شيء وكيل) أي : هو القائم على تدبير كل شيء .
تعليق