أنت الجماعة ولو كنت وحدك
خطبة الجمعة 1 محرم 1431 لفضيلة العلامة المحدث أبي إسحاق الحويني شفاه الله وعافاه في مسجده في كفر الشيخ
الخطبة الأولى
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" آل عمران:102 , " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" النساء:1 , " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " الأحزاب: 71،70 , أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار , إن المرء ليندهش حقا ويسيطر عليه العجب إذا نظر إلى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من أول غزوة بدر مرورا بالسرايا والغزوات الكبيرة، لا تجد تكافؤا أبدا بين المسلمين وبين المشركين لا في العدة ولا في العدد ومع ذلك ينتصر المسلمون دائما ما هو السبب؟ ذاك السبب الذي سأشير إليه في هذا الحديث البديع هو الذي رجح كفة المسلمين دائما. , روى الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهم من حديث جابر رضي الله عنه قال: "ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين يتبع الحاج في المواسم ويذهب إلى مجنة وعكاظ وإلى رحال الناس في منى يقول: "من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة" فلا يجد من يؤويه ولا من ينصره وكان يمشي بين رحالهم يشيرون إليه بالأصابع (أي احتقارا له) وكان الرجل يرحل من مضر أو من اليمن إلى ذوي رحمه فيأتيه قومه فيقولوا له احذر غلام قريش لا يفتنك حتى بعثنا الله تبارك وتعالى له من يثرب فيأتيه الرجل والرجلان فيقرئه القرآن فينقلب به إلى أهله حتى لم تبق دار من دور يثرب إلا وفيها رهط يظهرون الإسلام. ثم بعثنا الله إليه من يثرب فاجتمعنا سبعون رجلا فقلنا إلى متى يطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبال مكة ويُخاف فواعدناه الموسم (أي في الحج) وواعدناه شعب العقبة فلما جئنا نظر العباس رضي الله عنه وقال: يا ابن أخي أنا ذو معرفة بأهل يثرب وهؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث. قال: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا له يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافون فيه لومة لائم وأن تمنعوني إذا ظهرت مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة". قال جابر فقال أسعد بن زرارة -وهو أصغر السبعين-: يا قوم والله لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وإن إخراجه مفارقة العرب جميعا وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف فإما أنكم قوم تصبرون على السيوف إذا مستكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله وإما تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا له: أمط عنا يدك يا أسعد بن زرارة فوالله هذه بيعة لا نقيلها ولا نستقيلها. فقمنا إليه رجلا رجلا يأخذ علينا بشرطة العباس ويعطينا على ذلك الجنة" , هذا هو الفرق الذي يفرق بين المسلمين وبين أعدائهم: فرق الإيمان والولاء. , بعث النبي صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء ما يرون عبادة خيرا من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق فيه بين الوالد وولده وبين المرأة وزوجها. كما قال ذلك المقداد بن الأسود رضي الله عنه , هؤلاء سبعون وصفهم العباس رضي الله عنه بأنهم أحداث. ماذا يعني أحداث؟ , يعني قوما حديثةً أسنانهم؛ ليسوا من أهل السيادة وليسوا من أهل القرار، هم أبناء قوم كبار لكنهم لا يملكون من أمر نفسهم شيئا. كما قال تعالى -واصفا أتباع موسى عليه السلام-: " فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ" يونس:83 , لفظة الذرية لا تطلق إلا على الأطفال الصغار. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في غزوة من الغزوات امرأة مقتولة فقال: "من قتل هذه؟" قالوا يا رسول الله إنها كانت معهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله ما كانت هذه تقاتل" ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والذرية" الذرية هم الأطفال الصغار وقال تعالى: "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ"البقرة: 266 , وصف الذرية هنا بأنها ضعيفة وهناك مشاكلة بين "أصابه الكبر" و"له ذرية" مما يدل على أنها صغيرة. , لكن في الآية التي وصف الله عز وجل فيها أتباع موسى عليه السلام "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ" فهؤلاء -بداهة- ليسوا أطفالا، إنما هم رجال كبار، لكن الجامع بين الرجال الكبار وبين الذرية الصغار هو الضعف؛ كبار نعم.. لكنهم ضعفاء. , آباؤهم أهل الجاه وأهل المال وأهل السطوة وأهل القرار فهؤلاء قوم أحداث -كما وصفهم العباس- أي شباب لكن ليس لهم قيمة. لذلك، خاف على النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الأمة تُعرف بشبابها ولا يطّـلِع بالدين إلا الشباب , بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحالفه الشباب وخالفه الشيوخ. نظر هؤلاء الفتية فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم مطاردا فرأوا أنه من الواجب عليهم أن ينصروه ولذلك قالوا: "بعثنا الله إليه من يثرب فاجتمعنا سبعون رجلا وقلنا إلى متى يطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبال مكة ويُخاف" فواعدوه شعب العقبة ليأخذوا عليه البيعة., الشباب مرتبط دائما بالفتوة، وقد ذكرت الفتوة في كتاب الله عز وجل في مواطن وهذه المواطن كلها تشبه هذا الحديث الذي أذكره. لعلكم تذكرون أهل الكهف، وصفهم الله عز وجل فقال: " إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" الكهف:13 , وفي قصة إبراهيم عليه السلام " قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ" الأنبياء:60،59 , والفتوة لها منزلة عظيمة ولها أيضا أركان لعلي إن وُفقت فيما يأتي من الزمان أن أقف معكم على منزلة الفتوة وأركانها فإن هذا يعين شباب الأمة على القيام بما يجب عليهم أن يقوموا به في هذا الوقت.
من عبارات الناس المتداولة:
لا يهزم صاحب اعتقاد
من أدمن طرق الباب ولج
لا يضيع حق وراءه مطالب
هذه جمل تشتمل على معنى واحد ثابت ألا وهو الثبات وأن الذي يلح على الشيء يدركه، ولا يستطيع الإلحاح على شيء إلا رجل يمتلك شيئين أساسيين , الشيء الأول هو الإيمان به , والشيء الثاني هو إرادة تدفعها محبة , أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين له الحمد الحسن والثناء الجميل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. , فاليوم هو الجمعة الثاني من شهر الله المحرم لسنة ألف وأربع مائة وواحد و ثلاثين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا لم أصعد هذا المنبر منذ الخطبة الثانية من شهر شعبان في السنة الماضية ولم أكن مؤهلا اليوم أن أخطب الجمعة. لكنني أردت أن أصافح وجوهكم مرة أخرى ولو تكلمت بكلام يسير. , فإنني أتمنى أن أموت واقفا وأن أناضل عن ديني لآخر لحظة. , شعرت في هذه المدة التي مضت أنني بدون الدعوة لا أساوي شيئا، فأردت أن أستمتع بالحياة مرة أخرى فجئت إلى هذا المكان لكي أقول كلاما أثبت به نفسي أولا ثم أبث الثقة فيكم مرة أخرى وأقول إننا منصورون وأننا لن نغلب حتى وإن كانت إمكاناتنا ضعيفة مادام معنا إيمان راسخ, نحن ضعاف نعم.. وليس في أيدينا ما في أيدي أعدائنا أو خصومنا، لكننا إذا رجعنا إلى الشرب الأول؛ زمن النبي صلى الله عليه وسلم أولا وزمن الصحابة واستمسكنا بما كانوا عليه، أحلف بالله إننا لمنصورون , أشرف الأعمال قاطبة أن تموت خادما لهذا الدين وهذا هو مكمن العز كله , صدقوني إذا قلت لكم إنني كنت أشعر أن الرجل الذي يمسك مكنسة في الشارع أفضل مني؛ إنه يقوم بواجبه وأنا عاجز مكبل , فأردت أن آتي -حتى لو تكلمت عشر دقائق- لأصافح هذه الوجوه مرة أخرى وأسأل الله عز وجل أن لا يحرمني وإياكم شرف الدعوة إليه والدلالة عليه , إنني نظرت إلى المناصب كلها، لم أجد أشرف من هذا المنصب؛ أن تكون خادما لدين الله عز وجل لا سيما في زمان الغربة الثانية التي بدأت تهتز فيها بعض الأصول التي لم تكن في يوم من الأيام محورا من محاور الجدل عليها وصار كل شيء حولنا غريبا وعجيبا ومزريا , أيها الشباب،،، إن عليكم مسؤولية كبيرة ولن ينتصر هذا الدين إلا إذا رجعتم مرة أخرى إلى حقيقته , هذا دين يمتلك أسباب الحياة في ذاته لكنه يحتاج إلى محام جيد , إن الناس يسلمون في الغرب بلا دعوة، ولكم كنت أتمنى أن أكون قادرا على أن أذكر لكم أشياء كثيرة قرأتها في حال خلوتي في الأشهر الماضية تبث الثقة فيكم لتعلموا بعدها أن من استمسك بحبل الله فهو منصور وإن كان وحده , إن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أنت الجماعة ولو كنت وحدك" مع أن الجماعة في العادة تقتضي شخوصا كثيرين، لكن ما دمت على الحق وتقف في هذا الغرز فأنت الجماعة وإن كنت وحدك , فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يستعملنا وإياكم في مراضيه وأن يغفر لي ولكم. , أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اجعل ما قاله شيخنا أبي إسحاق زادا لحسن المسير إليك وعتادا ليمن القدوم عليك إنك بكل جميل كفيل وأنت حسبنا ونعم الوكيل , نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفي شيخنا أبي إسحاق , أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما , اللهم اشفه وعافه واعف عنه وأعل درجته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا , آمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تعليق