أسرار ترتيب سورة المائدة
المصدر: الموسوعة القرآنية خصائص السور
وقد تقدم وجه في مناسبتها وأقول: هذه السورة أيضاً شارحة لبقية مجملات سورة البقرة فإِن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة وكذا ما أخرجه الكفار تبعاً لآبائهم في البقرة موجز وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} المائدة:103
وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى وهنا ذكر أول من سن القتل والسبب الذي لأجله وقع وقال: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } المائدة:32 وذلك أبسط من قوله في البقرة: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } البقرة:197 وفي البقرة: { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ}
وذكر في قصتها هنا: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وفي البقرة قال في الخمر والميسر: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }البقرة:219
وزاد هنا في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها .
وفي سورة المائدة من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [الآية 60] . وقوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ} (77) .
وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جدا.
وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحة وضمنية.
فالصريحة: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ} [النساء/ 33] . وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} [النساء/ 90] . وقوله تعالى: {وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ} [النساء/ 92] .
فكأنه قيل (في المائدة) :{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [الآية 1] التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت. فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط.
ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة، وهو: أن تلك أولها: يا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء/ 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المكي، وتقديم العام وشبه المكي أنسب.
ثم إن هاتين السورتين (النساء والمائدة) ، في التقديم والاتحاد، نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول، من الوحدانية، والكتاب، والنبوة، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.
وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك .
وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء فكأنهما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى.
ولما وقع في سورة النساء: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء/ 105] . فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعا ، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين.
ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب للحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله
تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} [الآيات 44- 45 و 47] .
فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها.
وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي «1» .
فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها.
وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي «1» .
تعليق