قال تعالى : ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )) [1] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، في أقواله وأفعاله وأحواله . ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل صلوات الله وسلامه عليه ـ دائما إلى يوم الدين ، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب : ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )) أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله ؟ ولهذا قال : (( لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ ))[2] .
ونقل عنه صلى الله عليه وسلم نماذج كثيرة من سيرته الحسنة في باب الحسبة وكيف كان من أجل الناس وأحسنهم تعليما وإرشادا ،
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها { أن يهودا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم ، فقالت عائشة رضي الله عنها عليكم السام ولعنة الله وغضب الله عليكم . قال مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش } . وفي الصحيحين عنها { استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم ، فقالت عائشة رضي الله عنها وعليكم السام [ ص: 126 ] واللعنة . فقال يا عائشة إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر . قالت ألم تسمع ما قالوا ؟ قال قد قلت وعليكم "
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : (( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فاحشا ، ولا لعانا ، كان يقول لأحدنا عن المعتبة ماله ترب جبينه )) أخرجه البخاري
وكان عليه الصلاة والسلام حليما في تغييره للمنكر وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ينظر دائما إلى عواقب الأمور فإذا رأى في ذلك مفسدة صبر حتى يجد الفرصة المناسبة ويبين لصاحبها ، وإذا لم تكن هناك مفسدة باشر تغيير المنكر بيده .
ومن أوضح الأمثلة عن ذلك حادثة تبول الأعرابي في المسجد وتسابق الصحابة رضي الله عنهم على توبيخه على هذه الفعلة وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأمر كله بالحل والأناة ونهيه لأصحابه عن زجره وتوبيخه فقال : (( لا تزجروه وصبوا على بوله ذنوبا من ماء )) رواه البخاري [4] .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني تعليقا على هذا الحديث : (( وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزم من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا ولا سيما إن كان ممن يحتاج إلى استئلافه ، وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه [5] .
وما فعله كبير المنافقين من سب للنبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بعرضه ، وترك النبي صلى الله عليه وسلم له ولأصحابه عن قتالهم أو إيذائهم تحقيقا للمصلحة وبعدا عن المفسدة التي كان يتوقعها عليه الصلاة والسلام من ذلك ، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ))[6] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (( ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن أبيّ وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان فإزالة منكر بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمد يقتل أصحابه ))[7] .
ومن حلمه وحكمته في تعليم الجاهل ، وسعة صدره صلى الله عليه وسلم ما رواه معاوية بن الحكم رضي الله عنه بينما أنا أصلي مع رسوله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصالهم ، فقلت : واثكل أمّاه ، ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني ، لكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأي وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كرهني ولا ضربني ولا شتمني قال : (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، وإنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ))[8] .
فهذه طريقته صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يعنف أحدا ولا يشتم أحدا في تعليمه ، بل كان حكيما حليما في تعليمه ، متواضعا عليما بأحوال الناس وكان أحيانا يقول :
(( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا )) .
فهو بذلك قدوة مطلقة لكل أحد في الدين وتعامله مع الدنيا
[1] - الأحزاب [ 21 ] .
[2] - تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( ج 6 / 392 ) .
[3] - أخرجه البخاري في صحيحه ( كتاب الأدب ، ج 10 / 452 ، 6030 ) فتح الباري .
[4] - البخاري في صحيحه كتاب الأدب ( 10 / 452 ) والبغوي في شرح السنة ، ( ج 13 / 237 ـ 238 ) ، 3669 .
[5] - فتح الباري (1 / 324 ـ 325 ) .
[6] _ المصدر السابق ( 1 / 325 ) .
[7] - الحسبة في الإسلام لشيخ الإسلام ابن تيمية .
[8] _ أخرجه مسلم .
تعليق