الثمن والزمن في معادلة التمكين
د. حسام الدين السامرائي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عَدِي بن حاتم قال:
{بَيْنَا أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجلٌ، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا قطع السبيل، فقال: (((يا عديُّ، هل رأيتَ الحِيرة؟))، قلت: لم أَرَها، وقد أُنبئتُ عنها، قال: ((فإن طالتْ بك الحياة لتريَنَّ الظَّعِينة ترتحلُ من الحِيرة حتى تطوفَ بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله - قلتُ فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّار طيِّئ الذين قد سَعَّروا في البلاد؟! - ولئن طالتْ بك حياةٌ لتُفتحن كنوزُ كسرى))، قلت: كسرى بنِ هُرمز؟ قال: ((كسرى بنِ هرمز، ولئن طالتْ بك حياة لترينَّ الرجلَ يُخرِج ملء كفِّه من ذهب أو فضة يطلب مَن يَقبَله، فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقينَّ اللهَ أحدُكم يومَ يلقاه وليس بينه وبينه تُرْجُمَان يترجم له، فيقولن: ألم أبعثْ إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطِك مالاً وولدًا، وأُفضِل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره، فلا يرى إلا جهنم))، قال عدي: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرة، فمَن لم يجدْ شقَّ تمرة، فبكلمة طيبة))، قال عدي: فرأيتُ الظَّعِينة ترتحلُ من الحِيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنتُ فيمَن افتتح كنوز كسرى بن هُرمُز، ولئن طالت بكم الحياة لترونَّ ما قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((يُخرِج ملء كفه))}.
يخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور ستحدثُ، لكنه لم يَرَها، ولم تقرَّ عينه بشهودها: زوال ملك كسرى، ونزول الأمن والأمان، وشيوع الغنى، والسؤال المهم: أليس بمقدور المولى - جل وعلا - أن يمنَّ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الانتصارات في حياته؟ أليس أمرُه - سبحانه - إذا قضاه، فإنما يقول له كن فيكون؟
وهنا محل الإجابة عن هذه التساؤلات، أن سنن الله لا تحابِي أحدًا، ولا تجامل مخلوقًا، حتى ولو كان أحب الخلق، فهو - سبحانه - القائل: ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [الزمر: 65]، فلا بدَّ للانتصار من ثمن وزمن، ولا بدَّ للتمكين من ثمن وزمن، ولا بدَّ لزوال الطُّغَاة والظلمة والمفسدين والمجرمين من ثمن وزمن.
وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! والأمة اليوم تتساءل وهي ترى فساد أهل الفساد، وإجرام أهل الإجرام، وطغيان أهل الطغيان، حتى استباحوا كل شيء من دماء، وأعراض، وديار، وقبل ذلك كله الدين بكل معانيه، وكأن لسان حال الشعوب المظلومة المقهورة يلهج بالدعاء: (متى نصر الله؟)، فتأتي الإجابة: النصر يحتاج إلى ثمن وزمن.
يقول أهل التفسير في دعاء موسى على فرعون:﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88]؛ فكان الردُّ الإلهي: ﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ﴾ [يونس: 89]؛
فقال المفسرون: بين دعاء موسى واستجابة الدعاء (40) عامًا، قَتَل فيها فرعون وأفسد، وطغى وتجبر، واستباح وانتهك، لكن موعد النصر لم يَحِنْ، فكان لا بدَّ من ثمن وزمن.
وهكذا كل بناء، فهو يستغرق ثمنًا وزمنًا، فالله - سبحانه وتعالى - على عظيم قدرته وشأنه، يخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام؛ ليحقِّق سنته في خلقه، وإذا أراد أحدُنا أن يبني بيتًا فلا بدَّ من ثمن وزمن، ومَن تعجَّل بناء بيته، فإنه تعجَّل تصدُّع بنيانه؛ لأنه لن يُجِيد إتقانه، وكذا لو أراد أحدُنا صناعة شيء، فلا بد أن يأخذ مَدَاه الزمني، وإلا فإن الاستعجال في تمام الأشياء مدعاةٌ إلى سرعة انهيارها.
وهكذا فهم الصحابة، وبذلوا وهم على يقين أن النصر قادم، حتى ولو لم يَشْهَدوه، فحمزةُ - رضي الله عنه - يُقتَل ولم تقرَّ عينُه بهزيمةِ المشركين، وسُمَيَّة وزوجها ياسر يقتلانِ وما زال المسلمون قلَّة وأفرادًا، ويموت مُصَعب وخُبَيبٌ والمسلمون قلة مستضعفة، ومع أنهم قدَّموا الثمن في التضحيات إلا أنهم على يقين أن عنصر الزمن كفيلٌ بنضوج الثمر، فلا ينبغي أن نجني الثمار قبل أوانها، ولا يصح أن نجهض الجنين قبل موعد خروجه.
وقد رُوِي لنا أن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز لما تولَّى الخلافة، جاءه ولدُه عبدالملك حين رأى منه بطئًا في الإصلاح، قال: يا أبتِ، ما لي أراك تبطئ في الإصلاح، فقال: يا بني، إن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، ثم حرَّمه في الثالثة، وإني أخشى أن أحملَ الناس على الحق جملةً، فيتركوه جملةً.
هكذا هي سنة الله في خلقه، ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43]؛ فالزمان له دَورُه في نضوجِ الأفكار، واكتمال المشروع، وانكشاف الوجوه، وتمييز الصفوف، وبروز القيادة، فهذا نوح - عليه السلام - بَقِي قبل انتصار دعوتِه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ثم كُتِب له بعد ذلك النصر والتمكين، ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ﴾ [القمر: 11 - 14]، وفرعون ما هَلَك إلا بعد أربعين عامًا، لكن ما يجب أن يتيقَّن منه المؤمن هو أن نصر الله قادم لا محالة، فلا يستعجل الأمر قبل بلوغه، وكما قيل: "مَن تعجَّل الشيء قبل أوانِه، عُوقِب بحرمانِه".
ولنتأمَّل في استعجال أبينا آدم - عليه السلام - الخلودَ، فسقط في معصيته، واستعجل موسى - عليه السلام - في سؤال الخضر، فحَرَم المؤمنين من أخبارٍ كثيرة، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: ((رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر لرأى من صاحبه العجب)الحديث)
الراوي: أبي بن كعب المحدث: الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 3984
خلاصة حكم المحدث: صحيح
واستعجل بعض الصحابة في الوضوء، فقال - عليه الصلاة والسلام -:
((...ويلٌ للأعقاب من النار)) الحديث رواه البخاري عن عبدالله بن عمرو.
وتأمَّل فيما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون، فاقتتلوا، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها، يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأَ منا اليوم أحدٌ كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمَا إنه من أهل النار))، فقال رجل من القوم: أنا صاحبُه، قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرِح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامَلَ على سيفه فقتَل نفسَه، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشهدُ أنك رسول الله، قال: ((وما ذاك؟))، قال: الرجل الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار، فأعظَمَ الناسُ ذلك، فقلتُ: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ((إن الرجل لَيَعملُ عملَ أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)).
فهذا الرجل استعجل حاله وأمْرَه؛ فخسر، وتأمَّل كذلك فيما رواه مسلم عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ فصار مثل الفَرْخ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل كنتَ تدعو بشيء، أو تسأله إياه؟))، قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة، فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سبحان الله! لا تُطِيقه - أو لا تستطيعه - أفلا قلتَ: اللهم آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار))، قال: فدعا الله له، فشفاه.
فلا يتعجَّل المسلم نصرًا، أو فتحًا، أو تمكينًا قبل أوانه، ولا يتعجَّل كذلك هلاكًا لظالم أو جائر أو مُفسِد، فالأمور تَجْرِي وَفْق سنة الله وقدره في نصر الموحِّدين المستضعفين، وإهلاك المجرمين المفسدين، قال المشركون: يا محمد، ما نرى ما تَعِدُنا من نصرك، ومن العذاب الذي سينزل فينا، فنزل الوحي من الله - عز وجل - كما في صدر سورة النحل:
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 1].
والله الموفِّق لما فيه الخير والصلاح.
تعليق