الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن تعلمَ الأدبِ وحسنَ السمتِ مطلبٌ شرعيٌ قلّ في الناس الآن من يلتفت إليه، بل البلايا العظائم لم تتوالَ علينا إلا يوم هجر الناسَ السمتَ الحسنَ، وأقبلوا على العلم، ولم يزينوه بحليته الواجبة، فظهرت الأقوال الشاذة، وكثرت الصراعات والخلافات، فلم نجن للعلم ثمرة، وندُر في الناس أهل العلم والفضل.
قال ابن المبارك -رحمه الله-: "طلبت العلم فأصبت منه شيئاً، وطلبت الأدب فإذا أهله قد بادوا".
ولما تغافل الناس عن الاهتمام بالآداب الشرعية ظهر الالتزام الهش، وصار الإقبال على المفضول، وترك الفاضل.
قال الحجاوي: "مثل الإيمان كمثل بلدة لها خمسة حصون: الأول: من ذهب، والثاني: من فضة، والثالث: من حديد، والرابع: من آجر، والخامس: من لَبِن.
فمازال أهل الحصن متعاهدين حصن الَّلبِن لا يطمع العدو في الثاني، فإذا أهملوا ذلك طمعوا في الحصن الثاني، ثم الثالث، حتى تخرب الحصون كلها".
فكذلك الإيمان في خمسة حصون: اليقين، ثم الإخلاص، ثم أداء الفرائض، ثم السنن، ثم حفظ الآداب، فما دام يحفظ الآداب ويتعاهدها، فالشيطان لا يطمع فيه، فإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن، ثم في الفرائض، ثم في الإخلاص، ثم في اليقين.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الهدي الصالح والسمت والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزء من النبوة) رواه أبو داود، وصححه الألباني.
فيا عبد الله تأدَّب قبل أن تتعلم، فإنك لن تنال من العلم طرفاً إذا لم تنل من الأدب أطرافه. وإن تهذيب النفس وإصلاح خللِها ليس بالأمر اليسير، إلا من وفـَّقه الله -تعالى-. فأصلح ما بينك وبين الله يستقم حالك.
وهذه بعض الآداب:
أولاً: طهارة القلب من الأدناس؛ ليصلح لقبول العلم واستثماره، ففي الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل أن يأتيه فراث عليه حتى اشتد على رسول -صلى الله عليه وسلم- فخرج فلقيه جبريل فشكا إليه فقال: إِنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلاَ كَلْبٌ) متفق عليه.
فإذا كانت الملائكة لا تدخل بيتاً فيه ***، فكيف ينزلون قلباً مليئاً بالأنجاسِ والخبائثِ ومذمومِ الصفات مثل: الغضب، والشهوة، والحقد، والحسد، والكبر، والعجب، ونحوها؟!!
وهذه الصفات كالكلاب النابحات في الباطن، فكيف يمكن أن تتفق هذه الصفات مع ملائكة الرحمة؟؟!!
قال بعضهم:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخــبرنــي بـأن الــعلـم نــور ونــور الله لا يُهدى لـعاصـي
فعلى طالب العلم أن يطهر ظاهره بمجانبة البدعة، والتحلي بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحواله كلها، والمحافظة على الوضوء، ونظافة الجسم من غير تكلف وعلى قدر المستطاع.
وعليه أن يطهر قلبَه من كل غش ودنس، وغل وحسد، وسوء عقيدة وخُلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه، والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه.
ثانياً: الرضا باليسير من القوت، والصبر على ضيق العيش:
قال الإمام مالك -رحمه الله-: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح".
وقال أيضاً: "لا يُدرك العلم إلا بالصبر على الذل".
وقال -رحمه الله-: "لا يصلح طلب العلم إلا لمفلس، فقيل: ولا الغني المكفيُّ؟!! فقال: ولا الغني المكفيّ".
وقال ابن جماعة: "من أعظم الأسباب المعينة على الاشتغال والفهم وعدم الملال، أكل اليسير من الحلال، ذلك لأن كثرة الأكل جلبة لكثرة الشرب، وكثرته جالبة لكثرة النوم والبلادة وقصور الذهن وفتور الحواس وكل الجسم".
ثالثاً: التواضع للعلم والعلماء:
العلم حرب للفتى المتعالــــي كالسيل حرب للمكان العالي
1- فينبغي لطالب العلم أن ينقاد لمعلمه، ويشاوره في أموره كما ينقاد المريض لطبيب حاذق ناصح.
قال الشافعي -رحمه الله-:
أهين لهم نفسي فهم يكرمونها ولن تكرم النفس التي لا تهينها
2- وينبغي أن ينظر لمعلمه بعين الاحترام، ويعتقد كمال أهليته، وقد كان بعض السلف: إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء وقال: "اللهم استر عيب معلمي عني، ولا تذهب بركة علمه مني".
قال الشافعي: "كنت أصفح الورق بين يدي مالك -رحمه الله- صفحا رفيقاً، هيبة له لئلا يسمع وقعها".
وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله- لخلف الأحمر: "لا أقعد إلا بين يديك، أُمِرْنا أن نتواضع لمن نتعلم منه".
وقال الربيع: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبة له".
وفي وصية جامعة للإمام علي -رضي الله عنه- قال:
"من حق العالم عليك: أن تسلِّم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشير عنده بيدك، ولا تغتابن عنده أحد، ولا تسارَّ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء".
رابعاً: أداء حقوق معلمك عليك:
1- على طالب العلم أن يتحرى رضا المعلم وإن خالف رأي نفسه، فإنما هو يرضي ربه برضا معلمه.
2- وعليه ألا يفشي سر معلمه، وألا يغتاب عنده أحداً، وأن يرد غيبته إذا سمعها، فإن عجز فارق ذلك المجلس.
وآهٍ ممن ينقل السوء ويسعى بالنميمة بين أهل العلم، فيقطع رحمهم الموصولة، وقد ابتلينا في هذا الزمان بأمثال هؤلاء، فكم من خلافات نشبت بسبب هؤلاء النمامين؟! وليته صمت فنجا، وليته أمسك لسانه، ولكن ذهب الأدب!!
3- ومن الأدب كذلك ألا يدخل عليه بغير إذن، وإذا دخلوا عليه جماعة قدموا أفضلهم وأسنهم.
4- وينبغي أن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه من بعد، ولا يسميه في غيبة باسمه إلا مقروناً بما يشعر بتعظيمه.
5- وعليه أن يصبر، فلن ينال العلم إلا بذل النفس، فيصبر على شدة معلمه به، فإنما يريد به الخير من حيث لا يدري.
خامساً: التحلي بآداب مجلس العلم:
1- ينبغي لطالب العلم أن يدخل على معلمه وهو كامل الهيئة، فارغ القلب من الشواغل متطهراً متنظفاً.
2- ولا يتخطى رقاب الناس، بل يجلس حيث انتهى به المجلس، إلا أن يصرح له الشيخ بالتقدم والتخطي، أو يعلم من حالهم إيثار ذلك.
3- أن يسلم على الحاضرين كلهم بصوت يسمعهم إسماعاً محققاً، ويخص الشيخ بزيادة إكرام، وكذلك يسلم إذا انصرف.
4- لا يقيم أحداً من مجلسه، فإن آثره غيره بمجلسه لم يأخذه إلا أن يكون في ذلك مصلحة للحاضرين، بأن يقرب من الشيخ ويذاكره مذاكرة ينفع بها الحاضرون.
5- لا يجلس وسط الحلقة إلا لضرورة، ولا بين صاحبين إلا برضاهما، وإذا فسح له قعد وضم نفسه.
6- ينبغي أن يبكر للمجلس، ويحرص على القرب من الشيخ -المعلم- ليفهم كلامه فهماً كاملاً بلا مشقة، وهذا بشرط أن لا يرتفع في المجلس على أفضل منه.
7- يتأدب مع رفقته وحاضري المجلس، فإن تأدبه معهم تأدب مع المعلم واحترام لمجلسه.
8- لا يرفع صوته رفعاً بليغاً من غير حاجة، ولا يضحك ولا يكثر الكلام بلا حاجة، ولا يعبث بيده ولا بغيرها، ولا يلتفت بلا حاجة، بل يقبل على المعلم مصغياً إليه.
9- إذا سمع المعلم يقول مسألة أو يحكي حكاية وهو يحفظها فعليه أن يصغي لها إصغاء من لم يحفظها.
10- إذا جاء مجلس المعلم فلم يجده انتظره، ولا يفوت درسه.
سادساً: أدب سؤال العالم:
1- ينبغي لطالب العلم أن يغتنم سؤال معلمه عند طيب نفسه وفراغه.
2- عليه أن يتلطف في سؤاله ويحسن خطابه.
3- لا يستحي من السؤال عما أشكل عليه، بل يستوضحه أكمل استيضاح، فمن رق وجهه رق علمه، ومن رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال.
سابعاً: عدم التسويف واغتنام الأوقات:
فلا يسوف في اشتغاله ولا يؤخر تحصيل فائدة، فللتأخير آفات، فإنه يضيع عليه من الفوائد ما كان يمكنه الإلمام بها لولا تقصيره وكسله.
قال الربيع: "لم أر الشافعي آكلاً بنهار، ولا نائماً بليل"، لاهتمامه بالتصنيف، فينبغي أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والنشاط وحال الشباب وقوة البدن ونباهة الخاطر وقلة الشواغل.
وقال عمر -رضي الله عنه-: "تفقهوا قبل أن تسودوا".
ولعل الباعث على توقير معلمك واحترامه وأداء حقه ينبع من معرفة شأن العلماء ومنزلتهم في شريعة الإسلام، فأنت حين توقر معلمك فإنما تطيع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتلتزم بشريعة الإسلام التي أوجبت عليك ذلك، فطاعتهم ليست مقصودة لذاتها، بل هي تبع لطاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)(النساء:59).
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعني أهل الفقه والدين"، وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم، ويأمروهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فأوجب الله -سبحانه وتعالى- طاعتهم على عباده.
فطاعة العلماء تبع لطاعة الله -تعالى- فالعلماء بمثابة الأدلاء، بهم نعرف حكم الله ويستعان بهم لفهم مراد الله -تعالى- ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا أن طاعتهم مقصودة لذاتها.
قال -تعالى-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(آل عمران:18).
فإذا تقرر هذا الأمر ينبغي أن نعلم:
أولاً: أن الناس في شأن توقير العلم والعلماء بين طرفين ووسط:
- فقوم غلاة قد جعلوا للعلماء قداسة بحيث لا يُسألون عما يفعلون، فمثل هؤلاء كاليهود الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، أو كالرافضة الذين جعلوا لأئمتهم منزلة لا يصلها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
- وقوم أهدروا مكانة العلماء، فاستخفوا بأقدارهم.
- وأهل الحق بين هذين الطرفين، فحفظوا لأهل العلم أقدارهم، وعرفوا أنهم أدلاء على حكم الله.
ثانياً: أن الأخذ عن العلماء لا يقتصر على مجرد العلم ومسائله:
بل يؤخذ عنهم الهديُ الظاهر والسمت، وهذا لا يتأتى دون ملازمتهم والجلوس إليهم.
قال ابن سيرين -رحمه الله-: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم".
ثالثاً: أن هذا القدر الواجب من التوقير والتقدير والاحترام والطاعة للعالم:
لا يكون، إلا بالشرع، فمتى ما خالف العالم الشريعة، فإنه لا طاعة له.
تعليق