انفرواخفافاً وثقالا
في سورة التوبة - وتسمى سورة القتال -
نقرأقوله تعالى انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)التوبة:41)
وفي السورة نفسها في أواخرها،
نقرأ أيضًا قوله تعالى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة:122)
وظاهرموضوع الآيتين قد يبدو مختلفًا؛
فالآية الأولى موضوعها الحث على الجهاد،
والدعوة إلى المسارعة إليه، في كل حال، وعلى أيةصفة؛
في حين أن موضوع الآية الثانية حث طائفة من المؤمنين على التفرغ لطلب العلم، وتعليم الآخرين.
ومن جانب آخر، فإن الخطاب في الآية الأولى يتجه خارج نطاق المجتمع المسلم، إذ هو متوجه لعموم المؤمنين لمواجهة المعارضين لدعوةهذا الدين؛
في حين أن الخطاب في الآية الثانية داخل نطاق المجتمع المسلم، إذ هو دعوة للعلم والتعلم والتعليم .
والشيءالمهم في الآيتين، والذي يستوقف القارئ، أن ظاهر الآية الأولى صريح في الدعوةالعامة للنفير والجهاد في سبيل الله،
بينما ظاهر الآية الثانية صريح في دعوة فريق من المؤمنين للتفرغ لطلب العلم، وتعليم غيرهم.
ويبدو للوهلة الأولى أن بين الآيتين تعارضًا،
فهل ثمة شيء من هذا القبيل ؟
وللإجابةعلى هذا السؤال، نخصص هذا المقال، والحديث فيه يدور حول جانبين؛
الأول: في معنى الآيتين الكريمتين على وجه الإجمال،
والجانب الثاني: حول وجه التوفيق بين الآيتين .
لقدتعددت أقوال أهل التفسير،
فيمعنى قوله تعالى": انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا "
وحاصل أقوالهم ثلاثة:
القول الأول: أن الآية عامة في خطابها، تدعو المسلمين جميعًاإلى النفير في سبيل الله، لا تستثني منهم أحدًا، وهذا القول هو اختيار شيخ المفسرين الإمام الطبري
. ومعنى الآية على هذا القول يكون: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافاًوثقالاً مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفة والثقل. وعلى هذا القول، يكون الخطاب في الآية عامًا للمؤمنين في كل زمان ومكان .
القول الثاني:أن عموم الخطاب في الآية مخصوص بأدلة أخرى،وهذا القول هو اختيارالقرطبي، والرازي، ورجحه ابن عاشور.
ودليل التخصيص على هذا القول، أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، وقد اتفقوا أنه عليه الصلاة والسلام خلَّف النساء، وخلَّف من الرجال أقوامًا، وذلك يدل دلالة واضحة على أن الخطاب في الآية ليس عامًا، لكنه مخصوص بمن كان صاحب عذر يسمح له بالتخلف عن الجهاد. فلا يقتضي الأمر في الآية - وفق هذا القول - وجوب النفير على كل مسلم،فالعاجز والمريض ونحوهما لا يشملهما الخطاب. وإنما يجري العمل في كل جهاد على حسبما يقتضيه الحال، وما يقتضيه المقام. والمعنى - وفق هذا القول - وجوب النفير لمن كان من أصحاب النفير، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا استنفرتم فانفروا) رواه البخاري ومسلم
.
القول الثالث:أن الآية منسوخة، وهو مروي عن ابن عباس وهو قول محمد بن كعب، وعطاء.
والناسخ عند من قال بهذا القول،قوله تعالى فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ
قال القرطبي معقبًا على هذا القول: " والصحيح أنهاليست بمنسوخة " .
أماالمعنى العام لقوله تعالى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
فالمفسرون في معنى الآية على قولين:
الأول: أن يقال: ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا،ويتركوا رسول الله وحده؛ فالله سبحانه ينهى بهذه الآية المؤمنين به، أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم، ويَدَعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيداً.
ولكن عليهم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لجهاد، أن ينفر معه طائفة من كل قبيلةمن قبائل العرب، كما قال الله جل ثناؤه تعالى: فَلَوْلَانَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ
وهذاالقول هو أحد الأقوال المروية عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية، وهو قول الضحاك وقتادة. واختاره الطبري.
وأنت إذا أمعنت النظر في هذا القول، تبين لك أنه حصر للآية ضمن نطاق معين، هو نطاق عهدالرسالة؛ وضمن زمان معين، هو زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وموجَّه لأشخاص معينين، هم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وإذا استحضرنا في هذا السياق القاعدةالتفسيرية القائلة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،
تبين لنا مدى قرب هذاالقول من الصواب أو بعده عنه
القول الثاني: أن الخطاب في الآية ليس على عمومه، وإنما خاص بأهل العلم، الذي فرَّغوا أنفسهم لطلب العلم وتعليم الآخرين، وتكون مهمة هؤلاءتعليم المجاهدين بعد عودتهم
ما فاتهم من تحصيل للعلم، أثناء فترة نفرهم وجهادهم.وهذا القول مال إليه القرطبي، ونصره ابن عاشور بقوة،
ووهَّن قول من قال بخلافه.
ووجَّه أصحاب هذا القول معنى الآية، فقالوا: إن الجهاد ليس فرض عين على كل مكلف، وإنما هو فرض على الكفاية؛
إذ لو نفر كل المكلفين للجهاد، لضاع مَن وراءهم من الأهل والأولاد، وإذا كان الأمر كذلك،
فالمطلوب أن يخرج فريق من المؤمنين للجهاد والدعوة في سبيل الله،
ويقيم فريق آخر يتفقهون في دين الله،
ويحفظون من ورائهم الأنفس والأعراض والأموال،
حتى إذا عاد المجاهدون من جهادهم، علَّمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع .
هذاحاصل معنى الآيتين الكريمتين؛
أما التوفيق بينهما، فيقال:
إن العودة إلى قراءة الآيتين الكريمتين، ضمن السياق الذي وردتا فيه، يساعدنا على فهم الآيتين فهمًا مستقيمًا وسليمًا، ويكشف لنا مزيدًا من الوضوح لمعنى الآيتين، ويدفع بالتالي القول بوجود تعارض بينهما .
فقوله تعالى انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
ورد بعدما تقدمه من آيات، تذم وتتوعد من تخلف أو تقاعس عن الجهاد في سبيل الله،
وهي الحال التي كان عليها المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
يقول تعالى مخاطبًا وذامًا ومتوعدًا من سلك هذا المسلك
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِفَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَاتَضُرُّوهُ شَيْئًاوَاللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَاوَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { )التوبة:38)
ثم جاء بعد هذه الآيات مباشرة،قوله تعالى انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
فالآيةهنا تحثُّ كل المؤمنين، وكل من كان من أهل الجهاد، أن ينفر لنصر دين الله وتأييده،
ولا يَسَعُ أحد أن يتخلف عن إجابة هذا النداء، إلا من كان صاحب عذر؛
ثم لا بد هنامن اعتبار الظرف الذي نزلت فيه الآية الكريمة،
إذ دعوة الإسلام كانت حينئذ قد دخلت مرحلة بناء دولتها عمليًا،
وتثبيت أركانها واقعيًا،
وذلك بعد أن تم بناء الدعوةعقديًا وفكريًا،
ثم ما تلا ذلك من مرحلة المواجهة والمدافعة لأعداء هذا الدين.
فكان المقام يستدعي أن يكون الخطاب بهذه القوة،
وبهذا العموم،
فجاء الخطاب على ماترى،
خطابًا عامًا،
وخطابًا مباشرًا لجماعة المؤمنين .
فإذاانتقلنا إلى الآية الأخرى،
وهي قوله تعالى: وَمَاكَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواقَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
وجدناأن الآية الكريمة وردت بعدقوله تعالى مَاكَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّـهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِه)التوبة:120)
وإذ كانت هذه الآية قد حرَّضت فريقًا من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد لنشر دعوةالإسلام،
كان من المناسب أن يذكر عقبها ضرورة نفر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام.
إذ قد كان من مقاصد الإسلام بث علومه وآدابه بين الأمة،
وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين،
وساعية لبثه ونشره في جماعة المسلمين؛
كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها.
من أجل ذلك عقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تفرغ المسلمين كلهم للجهاد،
بل لا بد من وجود طائفة ترابط على الجبهةالعلمية،
مقابلة للطائفة المرابطة على الجبهة العملية .
وأيضًاأرشد السياق إلى أن حظ القائم بواجب العلم والتعليم ليس أقل من حظ الغازي في سبيل الله،
من حيث إن كليهما يقوم بعمل يقصد به تأييد هذا الدين ونصره،
فهذا يؤيده بنشرسلطانه،
وتكثير أتباعه؛
وذاك ينصره بتثبيت دعائمه، وتشيد بنيانه،
وإعداد أتباعه،عقديًا وفكريًا؛
إذ إن ما تقوم به جهات العلم والتعليم في الأمة،
تسهم إسهامًابارزًا في انتظام أمر هذا الدين،
وضمان بقائه،
ودوام ظهوره على الدين كله .
يرشدلهذه المعاني، ما ورد في سبب نزول هذه الآية، فيما روي عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية
إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)
"مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ "
قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد صلى الله عليه وسلم،
ولم ينفروامعه، وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،
خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم،
فأنزل الله عز وجل"وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً " .
وعليه،فإذا كان الخروج للجهاد في سبيل إعلاء كلمة هذا الدين واجبًا؛
لأن في تركه إضاعةمصلحة الأمة، كان تركه من طائفة من المسلمين،
تفرغًا للعلم والتعليم واجبًابالمقابل؛ لأن في توجه جميع المسلمين للجهاد إضاعة مصلحة للأمة .
وإذاكان الأمر على ما ذكرنا، تحصَّل في الجمع والتوفيق بين الآيتين،
أن يقال: إن النفروالجهاد - في الحالة الطبيعية للمجتمع المسلم - واجب على الكفاية،
لا على التعيين،
أي: واجب ومتعين على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي من مشروعية الجهاد؛
وبالمقابل فإن تركه متعين على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي،
بما أمروابالاشتغال به من العلم والتثقيف للأمة في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالجهاد ونشرالدعوة.
وبهذا يستقيم - إن شاء الله - فهم الآيتين الكريمتين،
ويتضح معناهماومقصودهما، ويلتئم الجمع والتوفيق بينهما.
المصدر:
http://articles.islamweb.net/media/i...ng=A&id=106657
الأول: أن يقال: ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا،ويتركوا رسول الله وحده؛ فالله سبحانه ينهى بهذه الآية المؤمنين به، أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم، ويَدَعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيداً.
ولكن عليهم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لجهاد، أن ينفر معه طائفة من كل قبيلةمن قبائل العرب، كما قال الله جل ثناؤه تعالى: فَلَوْلَانَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ
وهذاالقول هو أحد الأقوال المروية عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية، وهو قول الضحاك وقتادة. واختاره الطبري.
وأنت إذا أمعنت النظر في هذا القول، تبين لك أنه حصر للآية ضمن نطاق معين، هو نطاق عهدالرسالة؛ وضمن زمان معين، هو زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وموجَّه لأشخاص معينين، هم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وإذا استحضرنا في هذا السياق القاعدةالتفسيرية القائلة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،
تبين لنا مدى قرب هذاالقول من الصواب أو بعده عنه
القول الثاني: أن الخطاب في الآية ليس على عمومه، وإنما خاص بأهل العلم، الذي فرَّغوا أنفسهم لطلب العلم وتعليم الآخرين، وتكون مهمة هؤلاءتعليم المجاهدين بعد عودتهم
ما فاتهم من تحصيل للعلم، أثناء فترة نفرهم وجهادهم.وهذا القول مال إليه القرطبي، ونصره ابن عاشور بقوة،
ووهَّن قول من قال بخلافه.
ووجَّه أصحاب هذا القول معنى الآية، فقالوا: إن الجهاد ليس فرض عين على كل مكلف، وإنما هو فرض على الكفاية؛
إذ لو نفر كل المكلفين للجهاد، لضاع مَن وراءهم من الأهل والأولاد، وإذا كان الأمر كذلك،
فالمطلوب أن يخرج فريق من المؤمنين للجهاد والدعوة في سبيل الله،
ويقيم فريق آخر يتفقهون في دين الله،
ويحفظون من ورائهم الأنفس والأعراض والأموال،
حتى إذا عاد المجاهدون من جهادهم، علَّمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع .
هذاحاصل معنى الآيتين الكريمتين؛
أما التوفيق بينهما، فيقال:
إن العودة إلى قراءة الآيتين الكريمتين، ضمن السياق الذي وردتا فيه، يساعدنا على فهم الآيتين فهمًا مستقيمًا وسليمًا، ويكشف لنا مزيدًا من الوضوح لمعنى الآيتين، ويدفع بالتالي القول بوجود تعارض بينهما .
فقوله تعالى انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
ورد بعدما تقدمه من آيات، تذم وتتوعد من تخلف أو تقاعس عن الجهاد في سبيل الله،
وهي الحال التي كان عليها المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
يقول تعالى مخاطبًا وذامًا ومتوعدًا من سلك هذا المسلك
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِفَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَاتَضُرُّوهُ شَيْئًاوَاللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَاوَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { )التوبة:38)
ثم جاء بعد هذه الآيات مباشرة،قوله تعالى انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
فالآيةهنا تحثُّ كل المؤمنين، وكل من كان من أهل الجهاد، أن ينفر لنصر دين الله وتأييده،
ولا يَسَعُ أحد أن يتخلف عن إجابة هذا النداء، إلا من كان صاحب عذر؛
ثم لا بد هنامن اعتبار الظرف الذي نزلت فيه الآية الكريمة،
إذ دعوة الإسلام كانت حينئذ قد دخلت مرحلة بناء دولتها عمليًا،
وتثبيت أركانها واقعيًا،
وذلك بعد أن تم بناء الدعوةعقديًا وفكريًا،
ثم ما تلا ذلك من مرحلة المواجهة والمدافعة لأعداء هذا الدين.
فكان المقام يستدعي أن يكون الخطاب بهذه القوة،
وبهذا العموم،
فجاء الخطاب على ماترى،
خطابًا عامًا،
وخطابًا مباشرًا لجماعة المؤمنين .
فإذاانتقلنا إلى الآية الأخرى،
وهي قوله تعالى: وَمَاكَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواقَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
وجدناأن الآية الكريمة وردت بعدقوله تعالى مَاكَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّـهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِه)التوبة:120)
وإذ كانت هذه الآية قد حرَّضت فريقًا من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد لنشر دعوةالإسلام،
كان من المناسب أن يذكر عقبها ضرورة نفر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام.
إذ قد كان من مقاصد الإسلام بث علومه وآدابه بين الأمة،
وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين،
وساعية لبثه ونشره في جماعة المسلمين؛
كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها.
من أجل ذلك عقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تفرغ المسلمين كلهم للجهاد،
بل لا بد من وجود طائفة ترابط على الجبهةالعلمية،
مقابلة للطائفة المرابطة على الجبهة العملية .
وأيضًاأرشد السياق إلى أن حظ القائم بواجب العلم والتعليم ليس أقل من حظ الغازي في سبيل الله،
من حيث إن كليهما يقوم بعمل يقصد به تأييد هذا الدين ونصره،
فهذا يؤيده بنشرسلطانه،
وتكثير أتباعه؛
وذاك ينصره بتثبيت دعائمه، وتشيد بنيانه،
وإعداد أتباعه،عقديًا وفكريًا؛
إذ إن ما تقوم به جهات العلم والتعليم في الأمة،
تسهم إسهامًابارزًا في انتظام أمر هذا الدين،
وضمان بقائه،
ودوام ظهوره على الدين كله .
يرشدلهذه المعاني، ما ورد في سبب نزول هذه الآية، فيما روي عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية
إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)
"مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ "
قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد صلى الله عليه وسلم،
ولم ينفروامعه، وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،
خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم،
فأنزل الله عز وجل"وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً " .
وعليه،فإذا كان الخروج للجهاد في سبيل إعلاء كلمة هذا الدين واجبًا؛
لأن في تركه إضاعةمصلحة الأمة، كان تركه من طائفة من المسلمين،
تفرغًا للعلم والتعليم واجبًابالمقابل؛ لأن في توجه جميع المسلمين للجهاد إضاعة مصلحة للأمة .
وإذاكان الأمر على ما ذكرنا، تحصَّل في الجمع والتوفيق بين الآيتين،
أن يقال: إن النفروالجهاد - في الحالة الطبيعية للمجتمع المسلم - واجب على الكفاية،
لا على التعيين،
أي: واجب ومتعين على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي من مشروعية الجهاد؛
وبالمقابل فإن تركه متعين على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي،
بما أمروابالاشتغال به من العلم والتثقيف للأمة في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالجهاد ونشرالدعوة.
وبهذا يستقيم - إن شاء الله - فهم الآيتين الكريمتين،
ويتضح معناهماومقصودهما، ويلتئم الجمع والتوفيق بينهما.
المصدر:
http://articles.islamweb.net/media/i...ng=A&id=106657
تعليق