الدرس الثالث: القواعد الكلية الكبرى
تحدثنا في الدرس الأول من هذه السلسلة عن القواعد الفقهية من حيث نشأتها ومصادرها وأقسامها، وفي الدرس الثاني تناولنا القاعدة الكبرى الأولى (قاعدة الأمور بمقاصدها). والآن جاء دور الدرس الثالث ، وفيه نتحدث عن القاعدة الكبرى الثانية وهي:
2 - القاعدة الكبرى الثانية: اليقين لا يزول بالشك
هذه القاعدة الثانية من القواعد الكبرى، واتفق العلماء على اعتبار هذه القاعدة التي عمت فروعها جميع مسائل الفقه، حتى قال السيوطي رحمه الله: «إن المسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه أو أكثر».
1- شرح ألفاظ القاعدة:
معنى اليقين: لغة: العلم الذي لاشك معه، وقالوا: يقال للعلم الحاصل عن نظر واستدلال يقيناً، قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} ، أي: علمت علماً يقينياً أنها آيات من عند الله تعالى.
اصطلاحاً [عند المناطقة والأصوليين]:«اعتقاد الشيء الجازم المطابق للواقع، غير ممكن الزوال».
وبنحوه قيل: اعتقاد الشيء بأنه كذا، مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا، مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال.
محترزات التعريف:
قوله: «اعتقاد الشيء»: خرج به الشك لأن الشك لا اعتقاد فيه، لاستواء طرفيه.
قوله: «الجازم» خرج به الظن.
قوله: «المطابق» خرج به الجهل المركب، والذي هو اعتقاد جازم غير مطابق للواقع.
قوله: «غير ممكن الزوال» خرج به علم المقلد؛ لأن المقلد يغير اعتقاده بتغيير من قلده.
والفقهاء أدخلوا في معنى اليقين في هذه القاعدة الظنَّ الغالب فاعتبروه يقيناً وأوجبوا العمل به، لذا قال النووي رحمه الله : « واعلم أنهم يطلقون العلم واليقين ويريدون بهما الظن الظاهر لا حقيقة العلم واليقين، فان اليقين هو الاعتقاد الجازم وليس ذلك بشرط»
2- تعريف الشك:
الشك نقيض اليقين، إذا لا يجتمع في أمر واحد شك ويقين.
ومعناه في اللغة، الضم و التداخل، لذا يقال: شككته بالدبوس أي: أدخلته في جسمه. وشك عليه الأمر، إذا التبس عليه.
واصطلاحاً: قيل «ما استوى طرفاه»، وقيل: «تجويز شيئين لا مزية لأحدهما على الآخر»، وقيل: «هو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما». فإن ترجح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو الظن، وإن طرحه فهو غالب الظن، وهو بمنزلة اليقين، وإن لم يترجح فهو وهم.
وهذه التعاريف عند الأصوليين، وأما عند الفقهاء فهو: «مطلق التردد»، أي سواء كان الطرفان متساويين عند الشاك أو أحدهما راجحاً.
المدركات العقلية:
وقد رتب بعض الأصوليين المدركات العقلية كالآتي:
1- اليقين: وهو جزم القلب مع الاستناد إلى الدليل العقلي.
2- الاعتقاد: جزم القلب من غير استناد إلى الدليل العقلي، ومثلوا له باعتقاد العامي.
3- الظن: وهو تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر.
4- الشكك وهو تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، أي متساويين.
5- الوهم: تجويز أمرين أحدهما أضعف من الآخر مع إدراك الجانب المرجوح.
3- أقسام الشك:
يقسم بعضهم الشك على عدة اعتبارات نذكر منها:
أ- أقسام الشك باعتبار موضوعه، وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- الشك الطارئ على ما أصله حرام: مثاله شك في حل ذبيحة حيث إنه في بلد فيه مسلمون ووثنيون، أو رمى صيداً فوقع في الماء ووجده ميتاً، فشك هل مات بسبب رميته أم بغرقه، فيحرم؛ لأنه شك طرأ على أصل حرام، وهو أن الأصل في الذبائح الحرمة فتحرم، وكذلك لو خالط كلبُه كلاباً أخرى ولم يدر أصاده كلبه أو غيره لم يأكله لأنه لم يتيقن شروط الحل في غير كلبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنك إنما سميت على كلبك ولم تسم علي غيره) رواه البخاري ومسلم.
2- الشك الطارئ على ما أصله مباح، كما لو وجد ماء متغيراً، فشك هل تغيره بنجاسة أو بمكث، أم بشيء طاهر، فنقول الأصل في المياه الطهارة.
3- الشك الطارئ على ما لا يعرف أصله، كمعاملة من أكثر ماله حرام، وشك هل ما أخذه من ماله من الحلال أم من الحرام، فلا تحرم معاملته، لعدم اليقين.
ب- أقسام الشك باعتبار وقته: ينقسم إلى قسمين:
1- الشك في أثناء العبادة: فإذا شك هل أتى في الصلاة بركن كذا أو لم يأت به، فالأصل أنه لم يأت به، ولذا قالوا من شك في ترك ركن فكتركه، ولذا جاء النص على هذا في الحديث الصحيح: من قوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ).
2- الشك بعد الفراغ من العبادة: وهذا لا يلتفت إليه، لأن سببه في الغالب الوساوس الشيطانية، وإلا لما تأخر هذا إلى الانتهاء من العبادة، وأيضاً فإن العبادة قد انقضت بيقين، حيث لم يحصل الشك إلا بعدها، فلا يزول هذا اليقين بهذا الشك الطارئ، ولذا وضعوا قاعدة نصوا بها على هذا فقالوا: «لا اثر للشك بعد الفراغ من العبادة».
4- أركان القاعدة:
ذكر بعضهم أن لهذه القاعدة ركنان، هما: اليقين السابق والشك اللاحق، فلا بد أن يكون لدى المكلف يقين مستقر، ثم يطرأ عليه بعده شك، عندها نقول تحققت القاعدة، فيكون الحكم: «اليقين لا يزول بالشك».
5- المعنى الإجمالي للقاعدة:
أنه إذا ثبت أمر من الأمور إما بدليل، أو أمارة قوية، أو أي طريق من طرق الإثبات، فإنه لا يرفع هذا الثابت ما يطرأ عليه من شك، وليس من شرط القاعدة، أن يكون الطارئ في قوة الثابت، بمعنى أن الثابت لو كان يقيناً، ثم طرأ عليه ظن غالب فإنه يزيله، لذا جوز أكثر العلماء نسخ السنة للقرآن.
6- أدلة القاعدة:
أ- من الكتاب العزيز:
قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا)، قال المفسرون: يعني أن الشك لا يغني عن اليقين شيئاً ولا يقوم مقامه.
ب- من السنة النبوية:
/1- في الحديث الذي رواه الشيخان، أنه (شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ قَالَ: لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا)
2- قوله صلى الله عليه وسلم: [color="red"](إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَح الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ).
ج- دليل عقلي:
وهو أن اليقين أقوى من الشك، لأن في اليقين حكماً قطعياً جازماً فلا ينهدم بالشك.
7- أمثلة على القاعدة وبعض الفروع المخرجة عليها:
1- المتقين للطهارة إذا شك في الحدث فهو متطهر.
2- إذا ثبت دين على شخص وشككنا في وفائه، فالدين باقٍ.
3- إذا وقع نكاح بعقد صحيح بين رجل وامرأة وشككنا في الطلاق، فالنكاح باقٍ لأنه شك طرأ على يقين فوجب اطراحه.
وسوف نذكر تحت فروع القاعدة القواعد المندرجة تحتها وهي كثيرة اخترنا بعضاً منها، وذكرنا فروعه.
تعليق