ولكم في رسول الله أسوة حسنة
لمن كان يرجو الله واليوم الآخر
الإنسان مجبول على التقليد، ومفطور حبِّ المحاكاة، فالطفل يقلِّد والديه في أفعالهم وأقوالهم، وهما بالنسبة له المثل الأعلى، والعامَّةُ يقلدون ملوكَهم وحكَّامهم وأغنيائهم، "فالناس على دين ملوكها"، (كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ).
وفي عهد موسى عليه السلام -كما في باقي العهود-، تمنى الناس أن يكونوا مثل قارون، قال سبحانه وتعالى عنهم:
﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾(القصص: 79).
والبعض يقلد الأقوياء والطغاة والأشرار والفجَّار، فيعيث في الأرض فساداً.
وهناك من يحاكي ويقتدي بالأنبياء والصلحاء، والأولياء والأصفياء، من الصحابة والتابعين، ومن عاش في القرون المفضلة من السلف الصالح رضي الله عنهم، ليس في أمور العبادات والشرعيات فحسب؛ بل يحاكيهم ويقتدي بهم حتى في الدنيويات والمباحات، قاصداً حبَّهم وحبَّ سيرتهم والتأسي بهم.
وحديثي هنا فيمن يقتدي أو يحاكي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله المطلقة؛ التي هي ليست من قبيل الواجب ولا المستحب، وهي ما يطلق عليه البعض: (سنن العادات).
فهل من اقتدى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في العادات من أفعاله قاصداً الائتساء به محباً في محاكاته واتباعه، يؤجر على ذلك؟
يجيبك على ذلك ابن حزم رحمه الله تعالى قائلاً: [والمؤتسي به عليه السلام محسن مأجور] الإحكام (2/ 147).
ونقل ابن الحاج قول الغزالي في الأربعين له: [اعلم أن مفتاح دار السعادة في اتباع السنة، والاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه، ونومه وكلامه، لست أقول ذلك في آدابه فقط؛ لأنه لا وجه لإهمال السنن الواردة فيها! بل ذلك في جميع أمور العادات، فبه يحصل الاتباع المطلق]. المدخل لابن الحاج (1/ 143)
وقال الشيخ علي محفوظ:
[ومع أن ابن الحاجب والآمدي لا يعدان الأفعال التي لم تطهر فيها قصد القربة؛ قربة يثاب فاعلها؛ لا ينازعان في أن الآتي بها مثاب؛ إذا قصد التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكمال الرابطة، وإذا كان المباح كالأكل والنوم يثاب فاعله، بقصد التقوّي على العبادة؛ فثواب الفاعل لأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا القصد أولى وأجزل]. الإبداع في مضار الابتداع (ص: 34)
إذا ثبت ذلك؛ فإن شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تروَ لنا عبثاً، ولم تذكر للتسلي، خصوصاً وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا –حاشاهم- ليتركوا هديه واتباعه في سنن العادات رغبة عنه، بل إن منهم أو جلهم من تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في أمور العادات.
وإليك بعض الأمثلة:
1- ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحب الدباء (القرع)، فاقتدى به أنس رضي الله عنه وقال: «فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ». رواه البخاري صحيح البخاري (2092).
2- وثبت عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أشد تتبعاً لعادات النبي صلى الله عليه وسلم.
3- وشرب بعض الصحابة دمه الشريف أثناء الحجامة[1] السنن الكبرى للبيهقي رقم (13407، 13408).
4- وكانوا يتسابقون على قطرات الماء المتساقطة من وضوئه ليشربوها.
5- وكانوا يتسابقون على النخامة، تخرج من فمه الشريف، ليمسحوا بها جلودهم[2].
6- وكانت بعض النساء تأخذ عرقه الشريف، تدوف (تخلط) به طيبها.
7- وكان بعضهم يحتفظ بشعرات من شعره[3].
8- وكان بعضهم يحتال حتى تمس بطنه بطن النبي صلى الله عليه وسلم[4].
9- وكانت فاطمة رضي الله عنها لا تخطئ مشيتها مشية أبيها. صحيح مسلم (2450)
10- وكانوا يغسلون جبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرضى يستشفى بها. صحيح مسلم (2069)
وهناك أمور من عاداته - صلى الله عليه وسلم - اقتدى به في فعلها الصحابة كلهم رضي الله عنهم؛ فاقتدوا به في لباسه - صلى الله عليه وسلم - من إزاء ورداء، أو ثوب قميص، أو عمامة.
أما السراويلات؛ فقد قال ابن القيم رحمه الله: ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - اشتراها، ولم يثبت أنه لبسها.
ولم يثبت -فيما أعلم- أنه - صلى الله عليه وسلم - لبس الطيلسان، ولا أحد من أصحابه رضي الله عنهم.
والطيلسان هو:
كساء أخضر أو أسود على الرأس، يشبهه الغترة في هذا الزمان، كما قال الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله تعالى، بل ثبت أن الطيلسان من سيما يهود أصفهان، [5] أتباع الدجال في آخر الزمان، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه في كتاب اللباس والزينة (2944) عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ، سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ».
ولا يعني ذلك أن الألبسة التي لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبسها هي حرام كلها.
[1] سالم رجل من الصحابة، حجم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشرب دم المحجم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما علمت أن الدم كلّه حرام؟!". الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 569)، ومالك بن سنان قيل لمالك: (تشرب الدم) فقال: (نعم! أشرب دم رسول الله صلى الله عليه وسلم). تاريخ دمشق لابن عساكر (20/ 385).
[2] إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ... صحيح البخاري (2731)
[3] عَنْ أَنَسٍ: (أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -نِطَعًا، فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ) قَالَ: (فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ، فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ) قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الوَفَاةُ، أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ، قَالَ: فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ. صحيح البخاري (6281)
[4]الوارد في مسند أبي يعلى الموصلي (6/ 173، رقم 3456) بسنده عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرَتُهُ» . وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا. فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ لَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: (أَرْسِلْ، مَنْ هَذَا؟) فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو حَتَّى أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِبَطْنِ النَّبِيِّ حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَقُولُ: «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟». فَقَالَ الرَّجُلُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذًا تَجِدُنِي كَاسِدًا)، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنَّكَ عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ بِكَاسِدٍ -أَوْ قَالَ:- عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ».
[5] نَظَرَ أَنَسٌ رضي الله تعالى عنه إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَرَأَى طَيَالِسَةً، فَقَالَ: «كَأَنَّهُمُ السَّاعَةَ يَهُودُ خَيْبَرَ» صحيح البخاري (4208)
تعليق