سبق وقلنا أنّ الحروف العربية فى الحقيقة : واحدٌ وثلاثون حرفاً ، وقد انحصرت دلالاتُها الرمزيّة ( الكِتابيّة ) فى تسعةٍ وعشرين حرفاً هجائيّاً ، أمّا دلالاتها الصوتيّة ، فمخارج الحروف كفيلة بتمييز كل دلالة منها عن الأخرى ، ليخرج كل حرف منها بميزانه ومقداره الذي سَمَحَ له به مخرجُه ، فلو تغير مخرج الحرف لَتغيّر مدلوله فى بناء الكلمة الحرفيّ ، لِتغَيُّر دلالته الصوتيّة ، ومثال ذلك ما نبّهنا عليه فى شرح مخارج حروف رأس طرف السان ، وهو أنك لو أردت أن تقول : " يَلْبَثُونَ " ، وتركت مخرج الثاء ، واعتمدت بدلاً منه على مخرج السين ، لقُلتَ : " يَلْبَسُونَ " ، وبهذا تكون قد غيرت بناء الكلمة الحرفيّ الذي أصلُهُ : " لَبِثَ " بمعنى : بَقِيَ ، إلى : " لَبِسَ " بمعنى : ارتدى ، فيتغيّر المعنى المراد تماماً لتغير الدلالة الصوتية للرمز الكتابيّ ( الحرف ) .
أمّا لو أنك أردت أن تقول : " الرِّجْزَ " ، واعتمدت على مخرج حروف الصفير بدرجة اعتماد ضعيفة ، فخرجت الزاي : الرخوة والمجهورة والمستفلة والمنفتحة ؛ سيناً : رخوة ومهموسة ومستفلة ومنفتحة ، لقُلتَ : " الرِّجْسَ " ، وهذا لأنك على الرغم من اختيارك المخرج الصحيح ، إلاّ أنك لم تضبط قوة اعتمادك عليه ، وبالتالي : لم تضبط صفات الحرف المطلوب ، ومِن ثَمّ تكون قد أسأْتَ اختيار البُقعة الخاصّة بهذا الحرف التي تخرجه بدلالته الصوتية المميزة له ، فخرج حرف آخر اتّحد معه فى المخرج ، ولكنّه تميّز عنه بدلالته الصوتية التي سببُها صفاته الذاتيّة التي هيّأ لها الله عزّ وجل هذا الحرف فى هذه البقعة الخاصة به من هذا المخرج .
ولهذا قلنا من قبل : أنّ مخارج الحروف كفيلة بتمييز أصوات الحروف ، فإن اتّحدت الحروف فى المخرج ؛ فإنّ اختلاف صفاتها وتباينها فيما بينها كفيل بتمييز صوت الحرف عن صوت مُجانِسِه .
وأنقل لك ما نقله الشيخ محمود خليل الحصريّ – رحمه الله – فى كتابه الماتع ( أحكام قراءة القرآن الكريم ) ، عن صاحب نهاية القول المفيد ، نقلاً عن مُلاّ علي قاري ؛ فى شرح الجزرية وعن غيرِهِ :-
" اعْلَم أنّ المخرج للحرف كالميزان ؛ تَعْرِفُ به ماهيّتَهُ وكميّتَهُ ، والصّفة كالمَحَكِّ والنّاقد ؛ تَعْرِفُ بها هَيْـئَتَهُ وكمّيّـتَهُ ، فببيان مخرج الحرف يُعرف مقداره فلا يُزادُ فيه ولا يُنقَـصُ منه ، وإلاّ كان لحناً ، وببيان صفتِهِ تعرفُ كمّيّـتَه عند النطق به مِن سليم الطبع ، كجَرْيِ الصوتِ وعَدَمِهِ .
وتحقيق ذلك أنّ الهواء الخارج من الرّئة وهو موضع النَّفَس ، وللقلب غشاء ، إنْ خرجَ بدفع الطبع من غير أن يُسمَع ؛ يُسمّى : " نَفَساً" ، بفتح الفاء ، وإنْ خرج بالإرادة وعرضَ له تموُّج يُسمَع بسبب تموُّج جسمين يُسمّى : " صوتاً ".
وإن عَرَضَ للصوت كيفيّات مخصوصة بسبب اعتماده على مقطع _ أي مخرج مُحقّق _ وهو الذي ينقطع فيه الصوت ؛ كجُزءٍ من الحلق أو اللسان أو الشفتين
( الأترجة : حذفت عبارة : " أو الخيشوم " ، لأنّه ليس مخرجاً محقّقاً ، ولا تخرج منه حروف ، ولكن يخرج منه صوت الغنة ، والغنة ليست حرفاً يُكتَب وليس لها صورة ، لأنّ كل حرف له صورة يُصوَّرُ بها )، أو اعتماده على مخرج مُقدّر وهو الذي لم ينقطع فيه الصوت ، بل قدّروا له جوف الحلق والفم ، سُمّيَ ذلك الصوت : " حُروفاً " .
وإن عرضَ للحروف كيفيّات أُخر بسبب جري الصوت وعدمِه ، أو قوة الاعتماد على المخرج وعدمِها ، أو نحو ذلك ، سُمّيت تلك الكيفيّات : " صفات " ، ثُمّ إنّ النَّفَس الخارج إن تكيّفَ بكيفيّة الصوت ، وكان ذلك الصوت قويّاً ؛ كان الحرف مجهوراً ، وإن بقي بعضُه بلا صوت يجري مع الحرف ؛ كان الحرف مهموساً ، وإذا انحصر صوت الحرف فى مخرجه انحصاراً تامّاً حتّى لا يكون له جريان أصلاً ؛ سُمّيَ ذلك الحرف شديداً ، فإذا وقفت على : " حِـجَجٍ " ، مثلاً ؛ وجدت صوتك محصوراً ، حتى لو أردت مدّ صوتك لا تستطيع إلى ذلك سبيلاً .
( قلت الأترجة : والواقع أنّ ذلك يكون مع ضبط مخرج الجيم لتخرج جيماً فصيحة ؛ يحتبس صوتها من بداية الاعتماد على مخرجها ، أمّا فى غير ذلك فالكثيرون ينطقونها جيماً مُعطّشة يجري صوتها من بداية الاعتماد على مخرجها ، ولمعرفة المعنى العمليّ للشدة ؛ نضرب لها مثالاً بحرف آخر لا يقع فيه خطأ احتباس الصوت وهو القاف الموقوف عليها من كلمة : " الطَّارِقِ " ، فلا سبيل معها لجريان الصوت ) .
وأمّا إذا جرى جرياناً تامّاً بحيث لا يكون له انحصار أصلاً ، فإنّ ذلك الحرف يُسمّى رِخواً ، كما لو وقفت على : " الْـعَرْشَ " ، فإنّك تجد صوت الشين جارياً تستطيع أن تمُدَّه حيث شئت .
فإن لم يكن الانحصار تامّاً ولا الجريان كاملاً ، فإنّ هذا الحرف يكون مُتوسّطاً بين الشدة والرخاوة ، كما لو وقفت على : " الظِّـلَّ " ، فإنّك تجدُ أنّ صوتَك لا ينحصر انحصاره فى الوقف على "حِجَجٍ "( أو : " الطَّارِق ِ " ) ، ولا يجري جريانه فى الوقف على " الْـعَرْشَ " ، بل يكون مُعتدِلاً متوسّطاً ، وقِس على ذلك " .
ثُــمّ قـــال :
" اعلَم أنّ لهذه الصفات ثلاث فوائد :-
الأولـى :
تمييز الحروف المشترِكة فى المخرج ، قال الإمام ابن الجزريّ :
" كلُّ حرفٍ شارك غيره فى المخرج فإنّه لا يمتاز عنه إلاّ بالصفات ، وكلُّ حرفٍ شارك غيره فى الصفات فإنّه لا يمتاز عنه إلاّ بالمخرج، ولولا ذلك لاتّحدت أصوات الحروف فى السمع ، فكانت كأصوات البهائم لا تدُلُّ على معنى ، ولَما تميَزت ذواتُها " .
وهذا معنى قولُ المازنيّ : " إذا همستَ وجهرتَ وأطبقتَ وفتحتَ ، اختلفت أصوات الحروف التي من مخرج واحد " .
وقال الرُّمّانيُّ وغيرُه : " لولا الإطباق لصارت الطاءُ دالاً ، ولصارت الظاءُ ذالاً ، ولصارت الصادُ سيناً " . ( قلت الأترجة : لاحظ أنّ الرُّمّانيَّ ذكر الإطباق فقط ولم يذكر الاستعلاء ، لأنّ الإطباق يلزمُه استعلاء أقصى اللسان بالإرادة ، فلا إطباق من غير استعلاء ، أمّا الاستعلاء فلا يلزمُه إطباق ) .
الفـائدةُ الثّانيـة : معرفة القويَّ من الضعيف ،
ليُعلَم ما يجوز إدغامه وما لايجوز ، فإنّ ماله قوّة ومَزِيَّة على غيره لا يجوز إدغامه فى ذلك الغير ، لئلاّ تذهب هذه المَزِيَّة . ( قلت الأترجة : وهذا ليس بقاعدة عامّة ، فالإدغام ونوعه يتحدّد بحسب الرواية ، وليس بحسب ما فى الحرف من قوّةٍ أو ضعف ، فمن الروايات المتواترة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – ما ورد بإدغام الباء الساكنة ( الشديدة المجهورة ) فى الميم المتحرّكة ( وهي متوسّطة ومجهورة ) ، كما فى رواية حفص عن عاصم ، فى موضع واحد لا ثاني له فى كتاب الله ، من كلام نوحٍ – عليه السلام – لابنه : " يَا بُـنَيَّ ارْكَـب مَّعَنَا... " ، ومن هذه الروايات المتواترة عنه - صلى الله عليه وسلّم – ما ورد بإظهار الباء الساكنة عند الميم المتحركة فى نفس الموضع ، ومنها رواية ورشٍ عن نافع ، والروايات الواردة بالإدغام كان الإدغام فيها إدغاماً تامّاً ، والنطق يكون بميم مُشدّدة مع الغنة أكمل ما يكون ، والسبب العلميّ للإدغام هو التجانس بين الميم والباء ، أمّا فى رواية الأظهار ، فلم يُعتد فيها بالتجانس الذي بين الميم والباء ، لأنّ التجانس بين الحروف المتجاورة ليس شرطاً للإدغام ولكنّه مُسَوِّغٌ له ، وهذه فائدة من فوائد معرفة المخارج .
وكذلك نوع الإدغام من حيث تمامِه أو نقصانه ، كما فى إدغام القاف فى الكاف فى كلمة " نَخْـلُقـكُّمْ " ، فجاءت الرواية بإدغامها إدغاماً تامّاً لم يُعتدّ فيه باستعلاء القاف ، كما جاءت الرواية أيضاً بإدغامها إدغاماً ناقصاً يبقى معه استعلاء القاف وشدّتها وجهرها ، ولا قلقلة مع الإدغام وهنا تظهر فائدة من فوائد معرفة الصفات .
ولهذا نقول أنّ الرواية الصحيحة والمتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم – هي المُعوّل عليه فى إظهار الحروف أو إدغامها أو حتى خفائها عند تجاورها ، وبعد العمل بالرواية يمكننا سرد الأسباب العلميّة كما أوضحنا الآن وكما سبق وبيّنا فى الكلام على إدغام الطاء فى التاء ) .
الفـائدةُ الثالثـة : تحسين لفظ الحروف المختلفة المخارج .
فقد اتضح لك بهذا أنّ ثمرات معرفة الصفات : التمييز ، والتّحسين ، ومعرفة القوّة والضعف .
فسُبحان من دقّت فى كلّ شيءٍ حكمتُه . انتهى .
فسُبحان من دقّت فى كلّ شيءٍ حكمتُه . انتهى .
(المذكرات الجلية في مخارج الحروف وصفاتها الذاتية) .
تعليق