ورد في القرآن الكريم، وهو القلب، والذي ورد بمعانٍ وألفاظ؛ كالفؤاد واللبِّ، فكان في جميع الآيات التي بيَّنت طرق العلم وتحصيل المعرفة، بإثباتها أو نفيها، ذكر وسائل المعرفة وهي القلب أو الفؤاد ثم السمع والبصر؛ مثل: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
وفي الآية ما يفهم البليد فضلاً عن العاقل أن القلب أداة وظيفتها التعقل، والأذن أداة وظيفتها السمع، والعين (البصر) أداة وظيفتها الإبْصار، وجمع بين القلب أو الفؤاد وحاسَّتي السَّمع والبصر في حوالي "20" آية، كلّها تنبئ أن القلب أداة داخلية في الجسم، دورها متكامل مع الحواس الخارجية، بخاصة السَّمع والبصر.
بل لم يرد قطُّ ذكر أنَّ غير القلب والفؤاد هو من أدوات العلم، بل عُزِيت جميع الوظائف العقلية من تعقل، وتفكر، وتدبر، ونظر، وتأمل وغيرها إلى جهة واحدة، وهي القلب أو الفؤاد أو اللب.
رغْم أنَّ هذه الدراسة لا ترمي إلى المقارنة بين المذاهب، فإنا نطرح إشكالاً لا يُصادف في غالب الدراسات حول نظرية المعرفة باسم القرآن الكريم، وهو أنَّه رغم إقرار الجميع بأن الأدوات المعرفية في القرآن الكريم ثلاثة لا رابع لها، وهذا ما يكاد يجمع عليه المفسرون قاطبة في تفسير الآيات التي جمعت القلب أوالفؤاد مع السمع والبصر - خاصة آية النحل: 78[1] - فخصَّ السمع والبصر والفؤاد لشرفها عن باقي الأعضاء، ولأنها مفتاح لكل علم، فلا يُوصل إلى العلم دون هذه الأبواب الثلاثة، وهذا مما اتَّفق عليه العقلاء، وجميع علماء المسلمين، باختلاف طوائفهم ونِحلهم، وما يحزّ في النفس أنَّ بعض الباحثين - خاصَّة المعاصرين، رغْم الدلائل المتواترة تلك، بل وإقْرارهم الواضح بها - تجِدُهم بعد صفحات من تقْريرهم لها، ينتكِسون على رؤوسهم، فيجعلون العقل، وهو وظيفة بدلالة القرآن وكلام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - واستعمالات اللغة العربيَّة وأهل الأصول، والفقهاء، والمتكلمين؛ يجعلون العقل جوهرًا وجسمًا بالرَّأس؛ أي: يتعاملون معه اصطلاحًا ومفهومًا على أنَّه "أداة" للمعرفة، وأنَّه جسم، فيقسمون الفهارس، ويجعلون العقْل مقابلاً للحواسّ، والإدراك العقلي مقابلاً للإدراك الحسي، فيحدث خلط في الفهم لأي قارئ متخصّص، بل لا يقدر عن فهْم أوجه الخلاف، وأشدّ من ذلك أن يقولوا بعد استِدلالهم بالقرآن على أنَّ العقل في القلب: إنه في الدماغ، ودون ذكر أي دليل على ذلك، والذي يتضح من البحث - وهو ما نواصل عليه الدراسة -: أنَّ القلب وسيلة وأداة للمعرفة، من وظائِفه التعقُّل، والمعرفة الناتجة عن القلب: إدراك قلبي، يقابل الإدراك الحسي، والعقل يقابل الإحساس لا الحواسّ، وسنبين كل ذلك في ثنايا البحث بالتفصيل - إن شاء الله.
الفرع الأول: مفهوم القلب في القرآن الكريم:
قال أهل اللغة في معناه: هو الفؤاد، والعقل المحض، وخالص كل شيء، والتقلُّب: الحيلة[2].
والقُلَّب: الذي يقلب الأمور عن عِلْم بها.
فالقلب في أصل معناه: خالص كل شيء، وسميت المضغة الصنوبرية قلبًا؛ لكونها أشرف الأعضاء لما فيها من العقل - على رأي - وسرعة الخواطر والتلون في الأحوال، ولأنَّها مقلوبة الخلقة، والوضع كما يشهد به علم التشريح.
ومن تقاليبه القَبول والقابلية، وهو سيد البدن، المعوَّل عليه في الصلاح والفساد، وأعظم الأعضاء الموسومة بالسعة من جانب الحق، ومعدن الروح الحيواني للنفس الإنساني، ومنبع الشعب المنبثة في أقطار البدن، ومنه ترد الحياة إلى الأعضاء الجسمية؛ على قدر السوية بمقتضى العدل.
ويسمَّى عند بعض الفلاسفة: "بالنفس الناطقة، والروح الباطنة، والنفس الحيوانية المركبة، وهي النفس المدركة العالمة من الإنسان والمطالبة والمعاقبة"[3].
قال الجرجاني: "القلب مصطلح على اللطيفة الربَّانية بالقلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع من الصدر، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان"[4].
أمَّا القلب الصنوبري، فقيل إنه سبع طبقات هي[5]:
1- الصدر: وهو محلّ الإسلام ومحل الوسواس، والحفظ والذاكرة.
2- القلب: وهو محل الإيمان، والتعقّل، والسمع والبصيرة.
3- الشغاف: وهو محل محبة الخلق.
4- الفؤاد: وهو محل رؤية الحق.
5- السويداء: وهي محل العلوم الدينية.
6- مهجة القلب: وهي محل تجلي الصفات.
7- حبة القلب: وهو محل محبة الحق.
وأدلَّة كلّ طبقة:
{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125].
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].
{قَدْ شَغَفَهَا حُباًّ} [يوسف: 30].
{مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11].
{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
{وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
والقلب يطلق على أمرَين هما:
الأول: تلك المضغة الصنوبرية التي خلقها الله - تعالى - في جوف ابن آدم، وهي على هذا المعنى جزء من عالم الشهادة، كما هو معروف في علم الطب العضوي.
والثاني: تلك اللطيفة الروحانية التي لا يعلم أحدٌ بحقيقتها، وهي على هذا المعنى جزء من عالم الغيب[6].
بهذا تتجلى في هذا الإنسان مكوناته المادية والروحية، فهو قبضة من طين، ونفخة من روح.
وفي حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - جمع المعنيين: ((ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))[7].
قال ابن حجر[8]: "أي: قدر ما يُمضغ، وعبَّر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية"[9].
فالإنسان لحم ودوْرة دموية، وهو مخلوق خلَقه الله بيده، ونفخ فيه من رُوحِه، وجعل له هذا القلْب الصنوبري سببًا من أسباب الحياة، ومركزًا للفؤاد واللبّ[10] والتعقُّل متمركِز به، فالقلب هو رئيس الجسم بنصّ الحديث، وصلاحه بصلاح معتقده وإرادته وقصده، وكلها حكمها للتعقل؛ فلزم أن يكون متمركزًا به.
وحيثما ذكر القلب في القُرآن الكريم فإشارة إلى التعقُّل والتعلُّم، وحيثما ذكر الصَّدر فإشارة على ذلك وإلى سائر القوى من الشهوات والهوى والغضب ونحوها، فالقلب موضع الشعور والأهواء والعقيدة والوجدان[11]، والعقل والرأي[12]؛ قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، فهو محلّ العقْل والفقْه والبصيرة والإرادة والسكون، وهو رئيس البدن وخالص الروح الإنسانية؛ لذا قال أبو حامد الغزالي: "هو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاتب والمطالب"[13]، فالقوَّة المدركة بالقلب الصنوبري تسمَّى قلبًا.
ويرِد القلب في القرآن على معان ثلاثة[14]:
أوَّلها: العقْل، وذلك في مثل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]؛ أي: قلب زكيّ حي ذكيّ، يتذكَّر إذا سمع كلام الله، وإلا فوجوده من عدمه سواء؛ لأنه معطل عن جانبه المعرفي والإرادي، قائم بدوْرِه الجسماني فقط، وهذا شائع في استِعمالات العرب في حال من لا يتَّعظ[15].
الثاني: الرأي والتدبير، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، وذاك سبب شقاقِهم؛ لأنَّ نواياهم متضادَّة، وتوجهاتهم متناقضة.
الثالث: حقيقة القلب الذي هو في الصَّدر؛ {وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
وهذا كله يناقض النظرية القائلة بأنَّ العقل وظيفته الإرادة والتفكير وعملياته، والقلب وظيفته العاطفة والأحاسيس الوجدانية، فلا أساس علمي ترتكز عليه هذه النظرية يمكن الركون إليه، فضلاً عن أن يعتقد ويتبنَّى.
وخلاصة المسألة حول مفهوم القلب هي: القلب له دلالتان:
الأولى: هي الجارحة الصنوبريَّة الجسمية، وهذه لم ترِد في القرآن الكريم.
الثانية: قوَّة الجارحة، وهي اللطيفة الربانية الموجودة به، وهي عبارة عن التعقُّل وجميع آلياته من تفكّر وتدبّر ونظر وإدراك، وهذا هو الجانب المعرفي في القلْب.
وقد يطلق على القلب عقلاً، مثْلما أطلق على الأذن السمع، فسمِّيت الجارحة "الأداة" بوظيفتها، وقد تذكر الجارحة والمراد وظيفتها، خاصَّة في القرآن؛ لأنَّه لم يورد الأدوات من الناحية التشريحية بل من النَّاحية الوظيفية فقط، غير أن العقل هو أحد القوى الإدراكية لا كلها؛ فهناك الفكر والذاكرة والحافظة والفهم وغير ذلك.
كما أنَّ للَّطيفة الربَّانية الجانب الثاني وهو العاطفة والوجدان، من شهوات وهوى، فللقلب جانبان هما العقل وهو المانع، والهوى وهو المريد، وينتج عنهما الإرادة التي يتولَّد بعدها العزم، فيصدر القلب الأوامر للأعضاء بالجسم؛ كيما تنفذ تلك الإرادة بعد تداولها بين العقل والعاطفة، وهنا نريد بالعقل المعلومات الكامنة بالقلب والعمليات العقليَّة معًا[16]، فالقلب هو أداة وظيفتها المعرفية التعقل كما أن الأذن أداة وظيفتها المعرفية السمع، والعين أداة وظيفتها المعرفية البصر[17].
الفرع الثاني: المصطلحات المرادفة للقلب في القرآن الكريم:
إذا تتبعت الآيات بالقرآن باحثًا عن المفاهيم المعرفية وجدت قسمين: أدوات لها وظائف، كالحواسّ تذكر الأداة الجارحة ويتلوها وظيفتها، وقد تذكر الوظيفة دون أداتها؛ لأن الغاية والمراد الجانب العلمي والعملي لا الجانب المادّي الجسمي،كما قد تذكر الوظيفة بذكر الأداة فقط، دون التصريح بعملها، كناية عن الوظيفة، وهذا يجليه السياق؛ وذلك لتضمنه لها، وبيان الغاية من الأداة، وهذا من أساليب اللغة المعروفة ومما تداوله المفسّرون، مثال ذلك آية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، فمعلوم قطعًا أنَّ الذكرى لا تكون إلا للإنسان الحي، والميت لا يخاطب أصلاً، ولا يخلو إنسان - حيًّا أو ميتًا - من قلب، فالمفهوم الثابت عند أهل العربية أنَّه لمن كان له (قلب يتذكَّر)؛ ويستجيب للخطاب، فإن لم يستفد من الخطاب فعدمه ووجوده سواء، فكينونة القلب الوجودية بكينونة غايته المعرفية، وهذا الأسلوب كثير في القرآن ولغة العرب بل وفي أعراف الناس عامة، ورأيناه مع نفْي السَّمع والبصر في القرآن، ومثله نسبت أفعال العبد إلى يديه مع أنَّها قد تكون بجوارح أخرى، فكانت النسب للأغلب، وكقولنا للذي لا يرحم: إنَّ قلبه ميت، ولا يفهم الغبي فضلاً عن الذكي أنَّ قلبه لا ينبض.
فالقلب في (ق: 37) قال أهل التفسير: إنَّ المراد منه العقل؛ أي: أحد وظائفه، وهذا في اللغة يسمَّى إطلاق الكل وإرادة الجزء منه، ويفهم بالسياق واللحاق، فالمراد "العقل" من القلب بالسياق، وهو الذكرى وفهم الوحي، فهذه لا تكون إلاَّ بالقوة العلمية بالقلب؛ أي: قوة العقل وهي التعقل.
نحاول جمع الأدوات التي نسب لها بعض وظائف القلب الإدراكية، مما يفهم من ذلك أنها مرادفة له لا شيء خارج عنه؛ وذاك لأن القرآن حصر أدوات تحصيل المعرفة في ثلاثة لا رابع لها، وهي القلب والأذن والعين.
أ- الفؤاد عند أهل اللغة:
هو الحُمّى وشدة الحرارة[18]، والفؤاد القلب، سمِّي بذلك لحرارته[19] وتوقُّده، وقيل: هو غشاء القلب، وقيل: الفؤاد هو باطن القلب، والقلب حبَّته وسويداه، والفؤاد الرَّقيق تسرع إمالته، والفؤاد الغليظ كالقلب القاسي لا ينفعل لشيء[20]،[21].
وإطلاقه كان على المعنوي لا على الجارحة، وبهذه الدلالة الخاصة ورد في القرآن مفردًا وجمعًا في "16" آية، ليس فيها ما يمكن أن يفهم أو يُحمل على معنى العضو المعروف، بل على اللطيفة الربَّانية؛ قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
وقال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
قال ابن كثير - بعد أن ذكر مِنَّة الله تعالى على عباده بإيجادهم -: ثمَّ بعد هذا يرزقهم تعالى السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار التي بها يحسّون المرئيات، والأفئِدة وهي العقول التي مركزها القلب على الصَّحيح[22].
وقال ابن عاشور: الأفئدة: جمع الفؤاد، وأصله القلب، ويطلق كثيرًا على العقل وهو المراد هنا[23].
غير أنَّ "الفؤاد" ورد كمفهوم طاقة، أو ملكة، وبالأحرى وظيفة معرفية إدراكية، حيث نجده يقرن مع وظيفة السمع والبصر؛ أي: مع قوى الإدراك لا مع وسائلها.
فالقلب - مثلاً - حمل على أنَّه أداة للمعرفة؛ {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]؛ أي: آلة الفقه القلب وآلة البصر العين.
والفؤاد كلما ورد في سياق الامتنان بمنح الإنسان العلم وأدوات تحصيله وطرقه، كان على أنه ملكة أو وظيفة أو قوَّة إدراكية؛ كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
فقوى تحصيل المعرفة هي السمع والبصر والفؤاد، غير أنَّه لم ترد آية واحدة في سياق الامتنان جمعت فيها الحواس مع القلب، بل كان الجمع معه في مقام الذَّمّ دائمًا، إما بالإنكار أو التَّحقير أو إقْفال طرق العلم بالطبع أو الختم أو الغشاوة، فما علاقة الفؤاد بالقلب؟
عند أهل التفسير، حول آية (الإسراء: 36):
الفؤاد هو القلب، والسمع والبصر والفؤاد حواس لإدراك المعرفة[24].
يسأل الله السمع: هل كان ما سمعه معلومًا مقطوعًا به؟ والبصر هل كان ما رآه ظاهرًا بينًا؟
والفؤاد هل كان ما فكره وقضى به يقينًا لا شكَّ فيه، فالفؤاد هو الَّذي به الإنسان يشعر ويدرك[25].
المراد بالسمع آلته، وبالبصر آلته، وهذا معلوم في اللغة بل في استعمالات القرآن.
قال الراغب: السمع قوَّة في الأذن، ويعبر تارة بالسمع عن الأذن؛ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7][26]، والبصر يقال للجارحة الناظرة، وللقوة التي فيها[27].
نستنتج أنَّ المراد في آية (الإسراء: 36) آلات الإدراك؛ أي: الجوارح، لكن عبَّر بالقوى الموجودة في تلك الحواس؛ أي: بالإدراك الحسي بدلاً من الحاسَّة، وذاك نحسبه - والله أعلم - لقطع إشْكال أن تُخلق الأذُن والعين لكن دون قوَّة للإحساس، بأن يكون صاحبها أعمى أو أصمَّ؛ لذا ذكرت قوة الأذن وقوة العين الإدراكية، وهذا قطعًا يثبت الجارحة؛ لأن من سمع ضمنًا له أذن، لكن ليس كل صاحب أذن يسمع، ومثله في الأصم.
فالمراد في آية الإسراء: الحواس، غير أنه عُبِّر بقواها لنفي تعطُّلها خِلْقة عن أداء وظيفتها، فلزم من ذلك أن الفؤاد هو قوة القلب الإدراكية.
باستقراء آيات الفؤاد في القرآن ومقارنتها مع آيات القلب نلاحظ ما يأتي:
1- اختصاص الفؤاد بالرؤية؛ {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، وفي تفسيرها على قولين[28]:
أ- من شدَّد "كذَّب" قال: ما أنكر الفؤاد ما رأته العين.
ب- من خفَّف قال: أراد: ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير، بل صدَقه الفؤاد الرؤية، فالفؤاد محلّ لرؤية الحق، أمَّا القلب فخصَّ بالبصيرة؛ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]، {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، ولا يقال: أعمى إلا لمن كان ذا بصر وفقده، فدلَّ على أنَّ القلوب المخالفة لتلك - الموصوفة في الآية - مبصرة وذات بصيرة.
2- اختصاص الفؤاد بالكذب، بينما وصف القلْب بالزيغ والإنكار والظَّنّ والعمى والنفاق.
3- وصف الفؤاد بالفراغ والهواء: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10]؛ وفي معنى الفراغ أقوال، غير أنَّ كلَّها تدل على أنَّ سبب الفراغ الخوف، قال الرازي: القلب الفارغ من كلّ همّ إلاَّ من موسى[29]؛ أي: فرغ من أمور الدنيا كلها لانشغالها بولدها، وقال الزَّمخشري: فارغًا من العقل؛ أي: طار من فرط الجزع والخوف[30].
وقال تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43].
يقال: هوى صدره يهوي إذا خلا، والهواء: الجبان لأنه لا قلب له[31]، فأفئدتهم فارغة من شدة الخوف.
قال السعدي: فارغة من قلوبهم، قد صعدت على حناجرهم، لكنَّها مملوءة من كلّ همّ وغمّ وحزن وقلق[32].
أمَّا القلب فقد وصف بالخوف والخشية والوجَل والوجف والرعب.
4- وصف الفؤاد بالهوى والصغْو، وكلاهما بمعنى الميل نحو أمرٍ ما؛ قال تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]؛ أي: تنزع إليهم، يقال: هوى نحوه إذا مال[33].
وفي الصغْو: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام: 113]، وهنا اشترك مع القلب في هذا، {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، فالصغْو: الميل، يقال: صغى إليه يصغي: إذا مال[34].
أمَّا القلب فاختصَّ بالحمية والإنابة والزيغ.
5- وصف الفؤاد بالتثبُّت: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
قال ابن عباس: نثبِّت: نسكن، وقال الضحَّاك[35]: نشدّ، وقال ابن جريج[36]: نقوّي[37].
أمَّا القلب فوصف بالاطمئنان والسكينة والإخبات والخشوع.
6- وصف الفؤاد والقلب معًا بالتقلُّب: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]؛ أي: نصرفها من رأي لآخر من شدَّة حيرتها، وذاك عقاب لهم بالحيلولة دونهم ودون الإيمان وبلوغ اليقين[38]، فالحيرة هنا نتيجة الشك.
أمَّا التقلب للقلوب: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37]، من شدة الهول والخوف المزعج للقلوب[39].
فرغم أنَّ كليهما وصف بالتقْلب غير أنَّ تقلّب الفؤاد كان تقلّبًا لقوى الإدراك، أما القلب فكان لقوى الإرادة؛ أي: إن الفؤاد تقلبه معرفي، أمَّا القلب فوجداني ومشاعري.
يظهر من كل ما طرحنا من خصائص للفؤاد جليًّا أنَّه الجزء الذي تتعلَّق به القوى الإدراكية من القلب، حيثما ذكرت القوى الإدراكية في مقام المِنَّة والتذكير بنعم الله كان الفؤاد والسمع والبصر.
وإذا ختم فالختْم على القلب، وهذا يشمل الفؤاد؛ أي: قوَّة الإدراك فيه، ويشمل القُوى الأخرى بالقلب المتعلِّقة بتحصيل الخير، كما أنَّ الكلَّ وهو القلب ذكر حال العقاب دون ذكر الجزء منْه وهو الفؤاد؛ لأنَّ الفؤاد ليس وحْده المكتسِب لتلك الخطايا الموجبة للختم والطبع، بل حتى لما عوقب الفؤاد بالتقلب كان لكفر القلب بما اتَّضح للفؤاد، وعقد القلب الإرادة على العصيان والنفاق والضلال، فالقلب هو الموصوف بالكسب والتعمد والقصد والإرادة، والعقاب يكون على الفعل وهو الإرادة، واليقين وهو معيار معرفي كان من خصائص الفؤاد، فالوحي ذكر الله تعالى أنه ينزل على القلب، أما ثباته والتيقن منه فكان من خصال الفؤاد.
وآكد حجّية من ذلك كلّه اقتران قوى الإدراك مع بعضها، وآلاتها مع بعضها، فاقترن القلب مع العين والأذن؛ {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
حتَّى إذا ذكر السَّمع والبصر بدلاً من الأذُن والعين، فكل المفسرين على أنَّ المراد الجارحة لا القوَّة.
أمَّا إذا ذكر الفؤاد فاقترانه مع قوَّة الأذن السمعية وقوَّة العين البصرية، وإن فسرها الكثير على أنَّ المراد الجارحة من السَّمع والبصر، غير أنَّ ذكر القوَّة المدركة بدلاً من آلتها في القرآن ليس عبثًا، وإنَّما المراد منها بيان الغاية من خلق الآلة وإبراز وظيفتها، وأنَّه دونها لا قيمة لها، بل هي في حكم العدم؛ لذا كلَّما ذمَّ الله المعطلين لقواهم الإدراكية عن بلوغ الهدى ذكر الجوارح، وكلَّما امتن على المؤمنين بما منحهم من الهداية وأسباب تحصيلها ذكَر القوى المدركة في الجوارح.
فالفؤاد هو الجانب المدرك في القلب، وهو محلّ الفهم والتفكّر والرَّأي؛ لأنه وصف بالتقلب؛ أي: الحيرة والشك وعدم اليقين، والانتقال من فكرة لأخرى، ومن رأي لمثله.
وهذا رأي بعض أهل التفسير: "ويسأل الفؤاد هل كان ما فكره وقضى به يقينًا لا شك فيه، فالفؤاد هو الذي به الإنسان يشعُر ويدرك"[40].
كما أنَّ المسؤولية لا تلقى على المكلف إلا وشرط قيام التكليف عليه قائم، مع تهيؤه لما كلف به؛ كيما تنتفي المشقَّة عنه؛ لئلا تكون له حجَّة على المُكَلِّف، وهو الله تعالى هنا، وأهمّ الشروط القدرة على إدْراك التكليف، وعلى فعله، أمَّا الفعل فهو من اختِصاص أعضاء الجسم المجنَّدة للقلب كافَّة، وأمَّا الإدراك فكان للسَّمع والبصر والفؤاد هنا، فإن علمنا قطعًا أنَّ السَّمع قوَّة محسَّة للأصوات، والبصر قوَّة محسَّة للمرئي، وهذه لها علاقة بما هو خارج النَّفس المدْركة؛ أي: عالم خارج ذهن الإنسان[41]، فالفؤاد لزومًا هو الجانب المقابل للجهة الخارجية، والسمع والبصر وسائله للاتصال بما هو خارج عنه.
ينتج من ذلك أن الفؤاد هو المدرك لما خرج عنه، وهو المفكر والمتفهم والمسيطر على الجانب المعرفي، وهو أحد طرفي القدرة التي سيسأل عنها، فشرط قيام حجة الخطاب فهمه، والعقاب على من لم يستجب بعدها لمن كانت له القدرة على الفعل، وبين الإدراك والفعل هنالك الإرادة ومحلها القلب، وهو مخير فيها محاسب عليها.
فالإدراك قواه ثلاثة: السمع والبصر والفؤاد، وكلّها من شأن النفس المدركة بالقلب، وهذا ما لم نجِد حوله خلافًا يقوم معه؛ لذا قال الغزالي: اعلم أنَّ محلَّ العلم هو القلب[42].
وقال ابن القيم: "رأى" لما يُعلم بالقلب ولا يُرى بالعين، ولكنَّهم خصُّوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمّل، وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيه الأدلة[43].
قال صاحب "دليل الميزان": "التعقل والسَّمع في الحقيقة من شأن القلْب؛ أي: النَّفس المدركة[44].
بل فسَّر الزمخشري فراغ فؤاد أم موسى بأنه فراغ من العقل؛ أي: إن العقل محلّه في الفؤاد من القلب.
والرازي نقل أنَّ أحد الأقوال: أنَّه فارغ ممَّا أوحي إليه، والفراغ هنا يقابله الثبات؛ لذا قال تعالى بعدها: {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10]؛ كيما تصبر وتسكن.
كما فسَّر ابن كثير[45] أنَّ الفراغ كان من كل شيء من أمور الدنيا إلاَّ من موسى، ونسب هذا القول لابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحَّاك والحسن البصري وقتادة.
فخلوّ الفؤاد هنا كان من كلّ المعلومات، والرَّبط على القلب كان لئلاَّ تبدي بموسى أنَّه ولدها لا لِمَلأ الفراغ؛ لأنَّ صبرها لا ينفي حزنها واستمرار قلقها، ما دامت لم تتحصل عليه، ويرجع لها معاينة.
نفهم من هذا أنَّ القوى المدركة بالفؤاد، وقوة السمع المدركة، وقوة البصر المدركة بالقلب، فالأذن (السمع) ناقلة للأصوات، والعين (البصر) للصور، والفؤاد هو المدرك لها والفاهم والمفكر.
وهنا نوضّح أنَّ السمع قوَّتان: قوة استقبال للأصوات؛ أي: القوة الحسية وهي من خصائص الأذن، وقوَّة إدراك المسموع، والإدراك هنا عبارة عن كمال يحصل به مزيد كشف على ما يحصل في النفس من الشيء المعلوم؛ أي: إنَّه كمال زائد على كل ما حصل من الحواس واحدة واحدة.
فأوَّل مراتب العلم هو الشعور، وهو إدراك من غير إثبات، فكأنه إدراك متزلزل، قبله يكون الإحساس وهو إدراك الشيء مكتنفًا بالعوارض الغريبة واللواحق المادّيَّة، مع حضور المادَّة ونسبة خاصَّة بينهما وبين المدرك.
والإحساس للحواسّ الظَّاهرة، أمَّا الإدراك فللقلْب أو العقل أو اللَّطيفة الروحانية النفسيَّة، وقد صرَّح المحقِّقون بأنَّ القوى الجسمانيَّة آلات للإحساس، والمدرك هو النَّفس، ففعل القلب المعرفي الإدراكي يبتدئ من حيث ينتهي الحسّ؛ لذا قيل: "بداية العقول نهاية المحسوسات".
بهذا اتَّضح أنَّ نقل الصوت والصورة من الخارج إلى النفس المدركة لا يستلزم الإدراك، فليس كل مرئي أو مسموع مدرَكًا، وذلك لعوارض كثيرة، غير أنَّ كلَّ مدرك من الخارج لا بدَّ أن يكون محسوسًا، وسنبين ذلك أكثر في علاقة الحس بالعقل معرفيًّا.
نخلص إلى أن فهم المسموع أو المرئي بالقلب، والخطاب الإلهي موجه لفهمه، ومعجزاته المخلوقة جعلت مبصرة؛ ليفهم وجه الاستدلال منها؛ لذا كان كل إثبات أو مدح للسمع أو البصر إنَّما هو لإدراك الغاية من المسموع والمبصر، وإلا صارت هذه القوى لا تتجاوز درجة الإحساس والشعور وهذا نصيب البهائم، فهي ذات سمع وبصر وقلب، لكن لم تمنح الفؤاد، وهو من القلب.
فتأمل تشبيه الله تعالى للكفَّار بالأنعام بأنَّ لكل واحد منهم قلبًا وأذنًا وعينًا، غير أنَّها معطَّلة عن الفقه والسَّمع والبصر، ولن يقول أحد إنَّ البهائم كلَّها لا تسمع ولا تبصر ولا تشعُر بما حولها من غذائها، ومسار حركتها، وبمن حولها من جنسِها، بل وبمن هو خطر عليها ومَن لا يهدِّدها، بمعرفة أعدائها وما هو من جنسها، وأنَّها لا تشعر بالفزع والخوف، بل هي تملك حتَّى الذكاء والذاكرة، وأقل من ذاك تشعر بوجود ذاتها وجسمِها.
لكن المراد نفْي الإدراك الزَّائد عن درجة الإحساس والشعور، وهذا منتفٍ؛ لأنه لا فؤاد لها؛ أي: لا تملك قوى الإدراك والتفكير والتأمل والتحليل، وليست مهيَّأة للعلوم؛ لعدم وجود المحل الذي يستوعب ذلك كله وهو الفؤاد.
فالله أثبت للبهائم قلوبًا لكن لم يثبت لها فؤادًا في القرآن الكريم؛ لأنَّ الفؤاد مناط تكليف ومسؤوليَّة؛ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]، والتكليف مرفوع عن البهائم؛ فلا مسؤولية عليها، فلا حاجة لها بالفؤاد مناط التكليف.
ومعلوم بإجماع العلماء والعقلاء أنَّ مناط التكليف والمحاسبة هو العقل؛ أي: كمال الإدراك والفهم بعد البلوغ بإدراك الخير والشرّ والتمييز بينهما، فكان لزامًا أنَّ العقل مستقرُّه بالفؤاد في القلب، وإن كان التعقّل والتفقّه نسب للقلب دون الفؤاد في القرآن الكريم؛ حيث لم ينسب التعقل للفؤاد بصريح العبارة، لكن يفهم من آية تقليب الأفئدة، والمسؤولية الملقاة على الفؤاد، وتثبيت اليقين به، وفراغه وامتلائه بالمعلومات من وحي ومعارف.
وقد يكون تخصيص العقل بالقلب، والإدراك وآليات التفكير بالفؤاد دليلَ اشتمال العقل -كفعل قلبي - لقوى الإدراك من سمع وبصر وفؤاد - والله أعلم.
فالعقل هو الحاكم والقاضي والمتحكم وشاهد على القوى الإدراكية، فهو الفاصل بالفعل أو الترك، وهذا له علاقة بالإرادة وهي ليستْ بالفؤاد.
ننبِّه إلى مسألة العلاقة بين الفؤاد والقلب: قيل في العلاقة: إنَّ الفؤاد غشاء القلب؛ أي: حاوٍ له، وقيل: هو باطن القلْب؛ أي: محتواه، وقيل: هو حبَّة به؛ أي: من محتوياته[46].
فهل الفؤاد هو القلب؟ أم جزء منه؟ أم القلب جزء منه؟
من استِقْراء آي القرآن وكلام العلماء حولهما، يظهر أنَّ الفؤاد جزءٌ من القلب؛ لأسباب هي:
1- وصف الفؤاد بقوى إدراكية وفقط، بينما وصف القلب بذلك وبقوى إرادية من طباع وشهوات ومشاعر.
2- أن القلب أُثبت في القرآن للبهائم، وأجمع النَّاس على أنَّها لا تعقل؛ فدلَّ على أنَّها لا تملك قوى العقل ولا محلّه وهو الفؤاد.
3- اقتران لفظ القلْب دائمًا بآلات الإحساس الجارحة: الأذن والعين، بينما يقترن الفؤاد بقواها الحسية والإدراكية: السمع والبصر.
4- تقليب الفؤاد – أي: آرائه - كان جزاء عن عدم الإيمان، والإيمان نسب إلى القلب، وهو يشمل التَّصديق والإقرار والطَّاعة بعد الفهم ثمَّ العمل، وهذا كلّه ليس للفؤاد منْه إلاَّ الفهم وآلياته.
5- التَّمكين من العلم يكون بالسَّمع والبصر والفؤاد، لكن إذا اجتمع ذلك مع الجحود كان كمال القوة العلمية مع نقص القوة الإرادية الإيمانية، وكلاهما جزء من أعمال القلب.
6- الختم والطبع والقفل والوقر والأكنَّة، كلها لصور العقاب الذي وقع على قوى الأعضاء الجارحة، بدليل أن المعاقب أدوات المعرفة فيه سليمة، والمسؤولية لم تسقط عنه حتَّى بعد العقاب، لزم حتمًا أنَّ آليات الإدراك وقواها تعمل، فما الذي طبع وأقفل إذًا؟ ما طبع جزء من كلّ؛ أي: إنَّه هو والقوى الأصلية (الفؤاد، السمع، البصر) محتوى ضمن كلّ؛ هو القلب، ولما انتفت الغاية الأخروية وهي علَّة خلقه، نُفِيَت عنه الغاية البشرية وهي وسيلة خلافته، وصارت له غاية بهيميَّة وهي وسيلة بقائه.
7- البهائم ذات سمع وبصر وقلب، وذا نصيبها، لكن لم تمنح الفؤاد، وهو من القلب.
فتأمَّلْ تشبيه الله تعالى للكفَّار بالأنعام، بأنَّ لكل واحد منها قلبًا وأذنًا وعينًا، غير أنَّها معطَّلة عن الفقه والسَّمع والبصر، فقلب البهيمة ينقُصه فؤاد، وقلب الكافِر يلزمه إعماله ليكتمل، والنَّاقص جزء من كل.
ب- اللُّبّ:
العقل الخالص من الشَّوائب، وقيل: ما ذكا من العقل، فكلّ لبٍّ عقل ولا عكس؛ ولهذا علَّق الله الأحكام التي لا تُدركها إلاَّ العقول الذكيَّة بأولي الألباب[47].
واللب هو القلب الخالص، وخالص القلب، ويكنى به عن العقل لأنه خالص القلب والخطاب موجه له، واللبيب العاقل، وألبَّ به لبَّا، إذا أقام به، والملبوب: الموصوف بالعقل[48].
فأصل اللُبّ من أَلَبَّ، وهو كاللَّب - بالفتح - بمعنى الملازم، وبالضم بمعنى الخالص من كل شيء، وهو قلب كل شيء وعقله[49].
فخالص كل مادة قلبها، وخالص القلب في الإنسان عقله، لذا فُهم اللب في الإنسان على أنه عقله، فسمي العقل لُبًّا؛ وذلك لأن الخطاب يوجه لقوَّة واحدة من بين قوى القلب، وهي القوَّة العاقلة – أي: العقل - فاللبّ أصل يدور على معاني اللزوم والثبات وعلى خلوص وجَوْدَة[50].
ورد لفظ اللبّ في القرآن الكريم في صيغة الجمع المضاف لاسم الإشارة؛ دلالة على الاختصاص والاستحقاق، مثل ذاك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68]؛ أي: صاحب علم، وهذا أرفع من لفظ "عالم"؛ لاختصاصه بالعلم دون غيره.
وفي ورود اللبّ بصيغة الجمع نكتة بلاغية - ذكرت في الفصل الأوَّل - فائدتها انتفاء الثقل في النطق.
باستقراء آيات اللبّ في القرآن نلاحظ تخصيصه بأمور منها:
1- منح أولي الألباب صفات خاصَّة بهم دون غيرهم، وأخرى شرط في انتسابهم لهذه الخاصية، منها الإيمان والهداية، والتقوى والعلم، والتفكر في خلق الله تعالى، والتدبر في وحيه.
{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، {هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [غافر: 54]، {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]، {لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
2- التذكر والعبرة صفة خاصَّة خالصة لأولي الألباب؛ {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، وفي [آل عمران: 7]، وقوله: {وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص: 43]، و [غافر: 54].
أمَّا الاعتبار: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، وإن لم تكن خاصًّا بهم وحدهم فهي كذلك لأولي الأبصار.
والتذكُّر كان في جميع الآيات أعلى من درجة التفكر، وهذه عملية تكون في الآيات الكونية، يليه التدبر في الآيات المتلوَّة، كما أنَّ التذكّر من أعلى مراتب العلم، وهو من أعلى مراتب الإيمان؛ لقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، بعدها: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52].
فليس كلّ مَن علِم يتذكَّر، غير أنَّ كلَّ متذكِّر ضمنًا هو عالم بما تذكَّر.
وقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]؛ فليس كل مَن آمن يتذكَّر؛ لأنَّ التذكّر مرتبة لاحقة تدلّ على زيادة الإيمان عن درجته الأولى.
فالقلْب خصَّ بالفقه والعقل، واللّبّ خصَّ بالتذكّر، والفؤاد بالرؤية.
فاللّبّ يمثّل خالص القلْب، بل خالص العقل، والتذكّر أعْلى من الفقه والتعقّل والرؤية، ومن التفكّر؛ لذا نجد في آية القصاص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ} [البقرة: 178]، فكان هنا لا بدَّ من طرح سؤال، وهو: كيف يليق بكمال رحمتِه إيلام العبد الضعيف؟
لأجل دفع هذا السؤال؛ ذكَرَ عقب بيان أحكام القصاص حكمةَ تشريعه، وهي ضمان بقاء الحياة للذين يقيمون حدود الله، وهذه ما يعقِلُها إلاَّ أولو الألباب؛ لإبصارهم العواقب من تَجاربهم في الدنيا، وفهمِهِم لسلوك النَّاس وعادات مجتمعاتِهم، ويعلمون أثر الخوف من العقاب، والرَّدع الناتج من ذاك، فإذا أراد أحدٌ الإقدام على قتل آخر عدوٍّ له، وعلم أنَّ القصاص سيقع عليه، صار ذاك رادعًا؛ لأنَّ العاقل لا يريد إتْلاف نفسه بإتلاف غيره، فإنْ خاف ذلك كان خوفه سببًا للكف ودوام الحياة له ولغيره، وقطعًا للثأر، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا لا يخاف ولا يدرك سرَّ الأحكام؛ لذا خصَّ الله تعالى أولي الألباب بإدْراك الحكمة من تشريعِه.
فالتذكّر والتفكّر منزلان يثمِران أنواع المعارف، وحقائق الإيمان والإحسان، والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكُّره والعكس؛ حتَّى يفتح عليه.
فالتفكر التماس الغاية من مبادئها، وهو تلمّس البصيرة لاستدراك البغية، أمَّا التذكّر فوجود، فهو تفعل من الذكْر ضد النسيان؛ أي: حضور المذكور من الصور العلميَّة في القلب، واختير بناء التفعّل لحصوله بعد مهلة وتدرّج كالتصبر والتفهّم والتعلّم[51].
فيكون بذلك أولو الألباب هم خلاصة ذوي العقول، فهم من يستحضرون العلوم بعد التفكر والتبصّر فيها وحفظها، فيتجلى لهم ما لا يطلع عليه غيرهم.
3- أولو الألباب هم خاصَّة عباد الرحمن الذين أقبلوا على طاعته، وتزوَّدوا بالتقْوى، وآمنوا وعلموا، ثمَّ تفكَّروا وتدبَّروا، فخصَّهم الرحمن بإدراك أسرار التَّشريع، وحِكم الأحكام دون غيرهم؛ {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، وقال {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[52] [البقرة: 197]، {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
فهُم ذوُو الحكمة والرسوخ في العلم؛ لذا ناط بهم خاصيَّة التذكّر؛ لأنَّهم اختصُّوا دون غيرهم باللّبّ، وإذا قيل: إنَّ اللُّبَّ هو العقل، فهنا إشكال وهو: إذا كان لا يصح خطاب إلا العقلاء، فما الفائدة في قوله "أولي الألباب"؟ هنا يعلم أنَّ اللب هو العقل الخالِص من الشوائب، وليس كل صاحب عقل صاحب لب، كما أنَّ الخطاب في الآية كان المراد منه التَّنبيه على أولي الألباب بأنَّهم تلحقهم لمكانتهم العلميَّة تبعة المحاسبة والرّقابة، فهم أعْلم النَّاس بمراد الله تعالى، فكان لا بدَّ لهم أن يكونوا أسبق النَّاس عملاً بذاك العلْم، وإعراضهم أقْبح من إعراضِ غيرِهم؛ لعظم الحجَّة القائمة عليْهِم مقارنة بغيرهم.
ج- الأبصار: وهي البصيرة، وقد وردت بصيغة الجمع في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]، قال الراغب: يقال لقوَّة القلب المدركة: بصيرة، ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، وقلَّما يقال: بَصُرت في الحاسَّة، إذا لم تضامّه رؤية القلب[53].
ولأنَّ البصيرة كانت بمعنى قوى الإدراك نجد تفسيرها لا يتجاوز ذلك، قال الطبري في معنى "لأولي الأبصار": ممَّن له فهم وعقل[54].
والبصيرة فعلها ووظيفتها التبصر، وهذه درجة قبل التذكر؛ فهي نور في القلب يبصر به، فيقوم في قلبه شواهد الحق، ويرى حقيقة ما يبلغه ويخبر به عن طريق الرسل، فالبصيرة ما خلصك من الحيرة، إما بإيمان أو عيان.
قال ابن القيم عن صاحب "المنازل": "البصيرة ما يخلصك من الحيرة، وهي على ثلاث درجات:
الأولى: أن تعلم أنَّ الخبر القائم بتمْهيد الشَّريعة يصدر عن عين لا يخاف عواقبها، فترى من حقِّه أن تؤديه يقينًا، وتغضب له غيرة.
والدَّرجة الثانية: أن تشهد في هداية الحقّ وإضلاله إصابة العدل.
والدَّرجة الثَّالثة: تفجر المعرِفة، وتثبت الإشارة وتنبت الفراسة[55].
والله جعل العمى للعَين عدم إدراك المرئيات واستقبال الصور، والجهْل عمى القلب؛ أي: فقدان لبصيرته؛ {وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]؛ أي: الإدراك التام إنَّما يكون بالقلب وتعطّله بعمى القلب، والعمى لا يطلق إلا على البصر، فكانت الأبصار في "أولي الأبصار"، فهي إحدى قوى القلب لرؤية الحق وفهم الحجة؛ فالعمى هنا أصاب بصيرة القلب.
وفي آية النور كان السياق يدل على طلب النَّظر في الآيات المشاهَدَة؛ لإدراك الحقيقة واتباع الحق، تأمل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور: 43، 44]؛ أي: ألم تر وتنظر متأمِّلاً إلى ما حولك من المشاهد، التي منها سَوْق السحاب المتفرق وجمعه ثم إنزال المطر الغيث منه، فينزل خيره على من يشاء الله، ويمتنع عمن شاء، على مقتضى حكمته - جل وعلا؟!
ثم قال "يقلب الليل والنهار"، وهذه حركة الزَّمن المشاهَدة بالعين الباصرة، فكان فيها عبرة لذوي البصائِر؛ وهي: القلوب النافذة للأمور المطلوبة منها، كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهدة قبلاً، فكانت القلوب مبصرة بتفكرها وتدبرها، فالبصر لا يعمى عن مشاهدة الآيات المخلوقة من سحاب ومطر، ونبات ينمو، وأرض تُسْقَى، وأخرى يُحبَس عنها القطر، وتداول الأيام، وتتابع اللَّيل والنَّهار.
لكنَّ القلوب بصائرُها تعمى عن إدْراك المغزى من المبصرات، وفهْم الرسالة الموجَّهة من الخالق، عبر عظمة مخلوقاته؛ لذا نجِد قوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 45، 46].
فمجرَّد سماع القصص، ورؤْية الآثار، والعلم بالأُمم الخالية التي عوقبت لإعراضها، لا خير يرجى من ذاك ما لَم يكن معه عبرة توصل إلى التوبة والتقوى؛ لذا بيّن تعالى أنَّ العمى الضَّارَّ هو عمى البصيرة؛ لأنَّها قوة فقه العبر، والنفاذ إلى المغزى، والتيقُّن من الحق، والطمأنينة بالمعاينة القلبيَّة؛ لذا بعدها يكون التذكر؛ لقوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8]، فالتبصُّر آلة البصر، والتذكرة آلة الذكر، وهما للعبد المنيب التائب، فيبصر مواقع الآيات، ومحال العبر؛ فيزول عنه العمى والغفلة فيتذكر؛ لأنَّ التبصُّر يوجب حصول صورة المدلول بعد الغفلة عنها، فيتذكَّر فيكون من أولي الألباب، وهم أعلى من أولي الأبصار؛ لذا قيل: إن الله يحب ذا البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.
نخلص إلى أنَّ البصيرة خصَّت بالعبرة، واللّبّ خصَّ بالتذكّر، فالبصيرة نورٌ في القلْب؛ لقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، فأمر بالسياحة في الأرض، وتأمّل آثار الأمم الغابرة، وما حل بها بعد أن عمرت في الأرض قرونًا، فذكر ما يتكامل به الاعتبار؛ لأنَّ الرؤية لها حظٌّ عظيم في الاعتبار، مع الاستِماع لقصص مَن مضى، ولكن لا يكمل الأمر إلاَّ بالتدبُّر بالقلب، "وعقل ذلك؛ بأن يعقل التَّوحيد بما حصل له من الاستِبْصار والاعتبار"[56].
فيكون له قلب يعقل به وأذن يسمع بها؛ لأنَّه إن لم يسعه داعي الاستقلال بالتفكير، وسعه داعي الاستماع والاستجابة للواعظ.
ثم لما كان التعقل والسمع في الحقيقة من شأن القلب؛ أي: النفس المدركة، وهو الذي يبعث الإنسان إلى متابعة ما يعقله أو يسمعه من ناصحه، عدَّ الله تعالى إدراك القلب رؤية له ومشاهدة، ومن لا يعقل ولا يسمع أعمى القلب[57]، كأنه قال تعالى: لا عمى في أبصارِهم فإنَّهم يروْن بها، لكن العمى في قلوبهم[58].
د- الصدر:
وهو أعلى ومقدَّم كل شيء وأوله، حتَّى إنَّهم يقولون: صدر النَّهار والليل، وصدر الشتاء والصيف[59].
والصدر من الإنسان والحيوان: ما دون العنُق إلى فضاء الجوف، وعند الأطبَّاء: قفص عظمي غضروفي يتضمَّن الآلات الرئيسة للتنفُّس والدَّورة[60].
ورد الصَّدر في القرآن الكريم "44" مرَّة، نسبت له فيها أفعال وصفات يكتسبها، دلَّت على أنَّ له دورًا في الجانب المعرفي، وأنَّه ذو علاقة مع القلب مركز الإدراك، بل بعض الصِّفات التي نسبت للصدْر هي من صفات القلب؛ لذا قال بعض الحكماء: حيثما ذكر الله تعالى القلب فإشارة إلى العقل والعلم، وحيثما ذكر الصَّدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القُوى من الشَّهوة والهوى والغضب[61].
فالصَّدر حاوٍ للقلب، والقلب حاوٍ للفؤاد، والفؤاد حاوٍ للُّب، "فالصدر بالنسبة للقلب بمنزلة بياض العين في العين، ومثل صحن الدار في الدار، ومثل الذي يحوط بمكة.. فهذا الصدر موضع دخول الوسواس والآفات كما يعيب بياض العين آفة البثور وسائر علل الرمد"[62].
وهو موضع الشهوات، والحاجات، والأماني، وولاية النفس الأمارة بالسوء، والوساوس، وهو موضع الإسلام، وحفظ العلم المسموع من أحكام وأخبار.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا ينزع الله العلم من صدور الرجال، ولكن ينزع العلم بموت العلماء، فإذا لم يُبق عالمًا اتَّخذ الناس رؤساء جهالاً، فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا))[63].
فلا انفِكاك بين الصَّدْرِ والقلب، غير أنَّ لكلّ واحد صفات مغايرة مع الاشتراك في أخرى، فهو مقدّمة القلب، ومنْه يصدر الوسواس والخواطر نحو القلب.
من صفات الصدر في القرآن ما يأتي:
1- الانشراح: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106]، والانشراح هو التوسعة والفتح والفهْم والكشف[64]، وفي القرآن سورة باسم الانشراح، أو الشَّرح: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1]؛ أي: ببسطِه لقبول ما سيوحى إليه من العلوم، وقد ورد في القُرآن خمسُ آيات، كلها حوْل شرْح الصدْر بالهداية والنور الإلهي، ومعرِفة الحقّ، وجعْل الصدْر وعاء للحكمة أو وعاء للكفر.
ولم يقرن الشَّرْح بالقلب قطّ؛ وذلك "لأنَّ محلَّ الوسوسة هو الصدر، على ما قال في [الناس: 5]: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}؛ فالصدور بحاجة إلى القوَّة والتوسعة لتكون حصنًا للقلب من أهواء الشياطين"[65].
أمَّا القلب فوصف بالهداية، والإنابة، والكتابة عليه، والتطهير، والتزيين وغيرها مما يقارب الشرح.
2- الإسلام: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125]، قال ابن كثير: بأن ييسِّره وينشطه ويسهله عليه[66]، وقال السَّعدي: من انشرح صدره للإسلام اتسع وانفسح، فاستنار بنور الإيمان؛ فاطمأنَّت نفسه بذلك وأحبَّ الخير، وطوّعت له نفسه فعله متلذذًا غير مستثقل[67].
فالإسلام محلّه الصدر، أمَّا الإيمان فمحلّه القلب؛ {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، وهناك آيةٌ فاصلة بيْنهما وهي: {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، فأُثْبِت لهم الإسلام ومحله الصدر، ونُفي عنهم الإيمان في القلب، فالإسلام والإيمان نور الصدر والقلب، وبداية النور علامات الخير والفلاح؛ لذا نجد الرَّازي يقول: فشرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهيَّة في القلب[68].
كما أن الآية: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} ماذا يكون؟ في بداية الأمر: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}، بعدها الهداية، ولكن لأي شيء؟ {وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]؛ فالهداية للقلب، والشَّرح كان للصدر، فدلَّ على أنَّ شرْح الصدر بدايته بالإسلام، وهداية القلب يكون بالإيمان، وهو خلاصة الهداية، وبداية الترقِّي في سبُل السَّلام ودرجات النَّجاة.
3- الكفر: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ} [النحل: 106]؛ أي: أتى الكفر عن اختيار واستحباب منه[69] واتِّساع للصدر له؛ فالكفر يقابله الإسلام وكلاهما بالصَّدْر، أمَّا القلب فوصف بالنّفاق والمرض والإثم.
4- الضيق: وهو يصاحب الضَّلال: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125]، قبلها ذكر تعالى أنَّ من يُرِد له الهداية يشرح صدره للإسلام، فكان المقابل: من يرد له الضلال يضيِّق عليه صدره، والضيق ضد الاتساع؛ فهو ضدّ الانشراح، كما أنَّ من معانيه الشَّكّ والبخل والحسرة[70].
قال ابن كثير في معنى الضيق للصدر: هو الذي لا يتَّسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليْه شيء ممَّا ينفعه من الإيمان، ولا ينفذ فيه[71].
وهذا للكافر، أمَّا للمؤمن فهو انقِباض الصدْر وغم ممَّا يشهد من المنكرات، {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، والإضلال إنَّما يكون للقلب؛ لأنَّه محلّ الهداية؛ لذا وصف الله تعالى عقابه للقلْب بالطَّبع والختْم والإقفال والزَّيغ والصَّرْف.
5- الحرج: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 2]، قال القرطبي: أي: لا يضيق صدرك بالإبلاغ[72]، والحرج هو المكان الضيِّق الكثير الشجر، فهو بمعنى شدة الضيق، أو سبب للضّيق نفسه.
وقال الزجَّاج: الحرج في اللغة: أضيق الضيق[73]، وهو وليد الشك والخوف، وينتج الهم والغم.
أمَّا القلب فنجده وُصِف بالإثم والقسوة والغلف والقفل، وهذه كلّها تمنع وصول الهدى له.
ووصف الصَّدر بالحصر، وهو من معاني الضّيق: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90]، والحصر حبس مع تضْييق[74].
6- وصف الصدر بأنَّه حاوٍ للقلب ولكلّ ما عُلم وللآيات والأخبار؛ قال تعالى: {وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، دلَّت الآية على أنَّ الصدر حاوٍ للقلب، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} [العنكبوت: 49]، {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ} [العنكبوت: 10]، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43]، [هود: 5]، [فاطر: 38]، [الزمر: 7]، [الشورى: 24]، [الملك: 13].
نلاحظ تكْرار لفظ "ذات" مع الصدور، وهي بمعنى الملكيَّة، وتدل هنا على الاشتمال والاحتواء، بدليل قوله تعالى في آية أخرى: {بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ} [العنكبوت: 10] فاسم الصلة دال على الملكية، وحرف الجر على الظرفية.
قال الكفوي: بذات الصدور؛ أي: بواطنها، والذَّات هو ما يصلح أن يعلم ويخبر عنه، وقد يطلق ويراد به الحقيقة، وما قام بالشيء[75].
أما صيغة "عليم" فهي للمبالغة، وأعلى درجة من قولنا "عالم" أو "ذو علم"؛ لقوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
فاقترن ما في الصدور بلفظين: "ذات" للدلالة على البواطن والخفايا، و"عليم" وهو دالّ على علم الأسرار، وما خفِي عن الظَّاهر، فنجد قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5]، فالعلن والجهر معلوم للكلّ بالسَّمع، لكن الله استوى عنده السر والجهر، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} هذا سواء عند الله؛ لأنه {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} [الملك: 13]، فالتحدّي قائم حول ما أُسِرَّ لا ما جهر به؛ لأنه متمكن منه للكل.
نخلص إلى أنَّ "عليم" خصّ بالبواطن والخفايا، ولأنَّ الله تعالى صدَّر تلك الآيات بـ "عليم" و"يعلم" و"أعلم"، فدل قطعًا على وجود معلوم، هو "ذات"، وهذا المعلوم ذكر محله وهو "الصدر"، فالصدر بئر الأسرار والمكتوم، ومحلّ آيات الله تعالى المحفوظة، ومورد الأخبار والعلم، فهو محلّ الذَّاكرة والحافظة، فهو محلّ ما يستَحْفظ ويكتم وهو مقرّ الأسرار، وطبيعة السّرّ أن يحصن ولا يُفْشَى، فكان مَن يصل إليه أكثر من عالم وذي علم، بل هو عليم، حيث علم الظَّاهر والمعلن والمسموع، ثمَّ نفذ إلى ما هو باطن محفوظ ومحصن.
وحصر معنى العليم بما خفي؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران: 29]، ووصفت الصدور بالإكنان وهو الإخفاء؛ {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69].
7- وصف الصدر بأنه محل الوساوس: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5]، والوسوسة حديث النَّفس والشَّيطان بما لا ينفع، أو هو الخواطر الرَّديئة، وأصلُها من الوسواس وهو الصوت الخفي والهمس[76]، ووصف القلب بإنزال الوحي والإلقاء والتَّزْيين.
8- الصدر محل الحوائج: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر: 80]، {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9]، أمَّا القلب فوصف بالميل والصغْو والتعمُّد والحبّ والكسْب.
9- وصف الصَّدر بالكبر والغلّ: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]، والكِبْر الإثم الكبير، والتجبُّر، وردّ الحقّ، والاستعلاء؛ لمرض القلب وقسوته.
والكبر يصدُر عنه الغلّ؛ لذا كان الغلُّ بالقلب والصدْر؛ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف: 42]، فالنَّزع كان لما في القلب وهو داخل الصدر، أمَّا الكبر فاختصَّ بالصَّدر دون القلب، فلا نجِد داعي الكبر، وهو الغل في صفات الصدر، بل في القلب وحده؛ لأنَّ الكبر صفة مرَضيَّة، والقلْب هو الموصوف بالمرَض في القرآن، والغلُّ من صفات مرَض القلب لا الصَّدْر - والله أعلم.
10- وصف الصَّدر بالابتلاء: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]، فجعل الابتِلاء وهو الامتِحان والاختبار بالسرَّاء والضَّرَّاء للصُّدور، أمَّا التَّمحيص فهو التَّطهير والتَّصفية، "يقال في إبراز شيء عمَّا هو متَّصل به"[77].
وقال بعض أهل التفسير في معناه في الآية: إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله ولرسوله وللمؤمنين[78]، وما في القلوب معرفي؛ فكان لا بدَّ أن يظهر علنًا بالأعمال الظاهرة، فلا يكتمل التَّمحيص إلا بالابتلاء؛ أي: باختبار الأعمال الصَّادرة عن علم سابق.
فالابتِلاء يكون سببًا في تمحيص ما في القلوب؛ وذاك أنَّ الابتلاء لا يكون إلاَّ للظَّاهر، أمَّا التَّمحيص فلِلباطن، فهو كالتَّزكية والتَّطْهير، "تقول: محَّصتُه إذا أزلتَ عنْه ما يشوبه من خبث"[79].
وهذا مناسب لما أوردْنا سلفًا؛ فالصَّدْر محلّ الإسلام، والفرْق بيْنه وبين الإيمان أنَّه يمثل الأعمال الظَّاهرة باستِسلام الجوارح للطَّاعة، فهو علانية، والإيمان يمثل المعتقدات ومحلّه القلب - كما سبق - والعقيدة من البواطن، فكان الابتِلاء للصَّدْر محلّ الإسلام وهو علانية، والتَّمحيص للقلْب محلّ الإيمان وهو خفيّ باطن.
ووصف بمثل ذلك الصدْر بالتَّحصيل: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 10]؛ أي: أُظْهِر ما فيها كإظهار اللّبّ من القشْر وجمعه[80]، واللّبّ هنا هو القلْب، والقشر الصدْر، فالتَّحصيل إخراج المحتوى من بين الحاوي، فالحساب كان على ما حوَتِ الصُّدور.
11- وصف الصَّدر بالرهبة: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} [الحشر: 13]؛ والرهبة أشدُّ من الخوف، فهي طول واستِمْرار الخوف، ومن ثَمَّ قيل للرَّاهب: راهب؛ لأنَّه يُديم خوفه[81].
أمَّا القلب فوصف بالخوف والخشية والرُّعب، فدل على أنَّ الخوف انتشر من الجزء وهو القلب؛ ليشمل ما يحيط به، وهو الصدر، فينفذ لجميع الجسْم ويستمرُّ معه.
12- وصف الصدْر بالشِّفاء: {قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]، وهو القرآن يشْفي من أمراض الشهوات الصادّة عن الانقياد للشرع، ومن أمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني[82].
فالقلب وصف بالمرَض وأعراضه، أمَّا الصدر فوُصِف بالشفاء، لكن السياق كان "لما في الصدور" وما في الصدور هي القلوب، أو العلوم وخفايا الاعتِقادات والنوايا.
لعلَّ ذلك أنَّ المرض من بواطن المشاعر، وكنِّي به عن النفاق وهو خفي، أمَّا الشفاء فيظهر في صلاح الأعمال والاستِسلام بالطاعة، وهذه من الظَّاهر وهو الإسلام، فالأحْوال المعاينة إن كانت صالحة بانَ عليها الخير فعلاً وإرادته، أمَّا الأمراض فمبدأ الشعور بها داخلي ثمَّ يتجلَّى على الجوارح والأفعال - والله أعلم.
وفي آيةٍ أُخْرى: {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]، فقلوب المؤمنين لا علَّة بها من نفاق أو أمراض، بل بها غيْظ وحنَق على الأعداء، أصابها بالهَمّ والغمّ، فقتْل الأعداء وانتصار المؤمنين المجاهدين شفاءٌ لإخوانِهم من الهمّ والغمّ، فالشِّفاء هنا كذلك كان لمقدّمة القلب الصدر، والقلب كانت علَّته الغيظ، وهي من خصائصه دون الصدر.
وخلاصة ذلك: أنَّ الصَّدر يحوط بالقلب، والذي يدخل فيه قلَّما يشعر به في حينه، وهو موضع نور الإسلام، وموضع حفظ العلم المسموع، من أحكام وأخبار، وموضع دخول الغل، والشهوات والمُنى، والحاجات، وهو يضيق حرجًا أحيانًا، وينتشر أحيانًا أُخرى، وهو موضع ولاية النَّفس الأمَّارة بالسوء، ودخول الوساوس وآفات الخواطر، وسمِّي الصدْر صدرًا لأنَّه صدر القلْب وأوَّله ومقدمته، ولأنَّ منه تصْدر الحوائج والوساوس والخواطر نحو القلْب، وهو مستقرُّها والمتدبِّر لها والمتفكر فيها، فلا انفِكاك بين الصدر والقلب، ولكل واحد رابط مع الآخر، وإن كان لكلٍّ خصائص مغايرة لكنَّها متكاملة، مثل انشِراح الصدر يؤدِّي إلى هداية القلب، ويترتَّب على ذلك السكينة والطمأنينة وسلامة القلب، كما أنَّ ضيق الصدر يؤدي إلى مرض القلب وقسوته فيعمَى عن الهداية.
ـــــــــــــــــــــ
[1] تيسير الكريم الرحمن، السعدي: ص 420.
- زبدة التفسير، سليمان الأشقر: ص 356.
[2] القاموس، الفيروزآبادي: ص 127.
[3] الكليات، الكفوي: ص 754.
[4] التعريفات، الجرجاني: ص 203.
[5] الكليات، الكفوي: ص 754.
[6] منهجية التفكير العلمي في القرآن الكريم، خليل الحدري: ص 54.
[7] صحيح البخاري، البخاري: ج1، ص 34.
[8] هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين بن حجر، من أئمَّة العلم، أصله من عسقلان بفلسطين، ومولده سنة 773هـ بالقاهرة وتوفِّي عام 852هـ بالقاهرة، أصبح حافظ الإسلام في عصره، انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتْها الملوك.
- الأعلام، الزركلي: ج9، ص 178.
[9] فتح الباري، ابن حجر العسقلاني: ج1، ص 128.
[10] القلب ووظائفه في الكتاب والسنَّة، سلمان زيد سلمان اليماني، دار ابن القيم، الرياض: ط (1)، 1994، ص 146.
[11] غرائب القرآن ورغائب الفرقان، نظام الدين النيسابوري، تح: إبراهيم عوض، دار الحلبي، دمشق، ط( )، دت: ج1، ص 158.
[12] إصلاح الوجوه والنظائر، الدامغاني: ص 388.
[13] إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي: ج3، ص4.
[14] بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ج4: ص 289.
[15] قال القرطبي في معنى "قلب" في الآية: أي: عقل يتدبر به، فكنَّى بالقلب عن العقل لأنَّه موضعه.
جامع الأحكام، القرطبي: ج17، ص23.
وقال صديق خان: وقيل: القلب نفسه؛ لأنه إذا كان سليمًا أدرك الحقائق وتفكَّر كما ينبغي.
فتح البيان، صديق خان: ج9، ص110.
[16] يوضح ذلك في مفهوم العقل.
[17] نلمح إلى التأمل في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63]، فحرف المعنى "في" يوحي بأن القلب جِرْم حاوٍ، وما يعلمه الله هو الاعتقادات والرغبات الكامنة فيه، فالعلم يقتضي معلومًا، فدل على أنَّ القلب حاوٍ لمعلوم، منه ما هو مكنون فيه لا يُخرجه، ومنه ما يخرج باللَّفظ أو الفعل، فدلَّ على أنَّ موضع المعلومات القلب.
[18] جمهرة اللغة، ابن دريد: ج3، ص 243.
[19] مجمل اللغة، ابن فارس: ج3، ص 711.
[20] الكليات، الكفوي: ص 696.
[21] وفيه قول أن أصل الفأد الحركة والتحريك، ومنه اشتق الفؤاد؛ لأنه ينبض ويتحرك دائمًا، ورجحه الزبيدي عن الفيروزآبادي.
- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تح: علي شيري، دار الفكر، بيروت، ط (1)، 1994: ج2، ص448.
[22] تفسير القرآن الكريم، ابن كثير: ج2، ص 715.
[23] تفسير التحرير والتنوير، ابن عاشور: ج7، ص232.
[24] فتح البيان، صديق خان: ج7، ص97.
[25] دليل الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد بن حسين الطباطبائي، تح: إلياس كلانتري، تر: عباس ترجمان، المؤسسة الإعلامية، بيروت، ط (1) 1983: ج13، ص 93.
[26] المفردات، الراغب: ص 248.
[27] المرجع نفسه: ص59.
[28] زاد المسير، ابن الجوزي: ص 1362.
[29] التفسير الكبير، الرازي: ج24، ص 229.
[30] الكشاف، الزمخشري: ج3، ص 158.
[31] لسان العرب، ابن منظور: ج15، ص 370.
[32] تيسير الكريم الرحمن، السعدي: ص 402.
[33] جامع الأحكام، القرطبي: ج9، ص 373.
[34] بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي: ج2، ص 416.
[35] الضحاك هو ابن مزاحم البلخي الخراساني، من كبار أهل التفسير، توفي 105هـ.
- الأعلام، الزركلي: ج3، ص 215.
[36] ابن جريح هو: عبدالملك بن عبدالعزيز، فقيه الحرم المكي، توفي 150هـ.
المرجع نفسه: ج4، ص 160.
[37] تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الفكر، القاهرة، ط (2)، 1983: ج5، ص 374.
[38] تيسير الكريم الرحمن، السعدي: ص 246.
[39] المرجع السابق: ص 246.
[40] دليل الميزان، الطباطبائي: ج13، ص 93.
[41] باتفاق العلماء أن السمع والبصر كقوَّة إدراكية هي بالنفس – أي: القلب - أمَّا الجوارح فنواقل مكيّفة لذلك.
[42] إحياء علوم الدين، أبي حامد الغزالي: ج3، ص (16 - 17).
[43] إعلام الموقعين، ابن القيم: ج2، ص 124.
[44] دليل الميزان، الطباطبائي: ج14، ص 390.
[45] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير: ج3، ص 381.
[46] قال سليمان اليماني: "الفؤاد وإن كان مغايرًا للقلب؛ إلا أنه جزء منه".
ونقل عن الحكيم الترمذي في كتابه "بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب": "مثل الفؤاد في القلب كمثل الحدقة في سواد العين... وهذا الفؤاد موضع المعرفة وموضع الخواطر وموضع الرؤية، وكلَّما يستفيد الرجل يستفيد فؤاده أوَّلا ثم القلب، والفؤاد في وسط القلب، كما أنَّ القلب وسط الصدر".
- القلب ووظائفه، سلمان اليماني: ص58.
[47] الكليات، الكفوي: ص 898.
[48] جمهرة اللغة، ابن دريد: ج1، ص 38.
[49] القاموس، الفيروزآبادي: ص 133.
[50] مقاييس اللغة، ابن فارس: ج2، ص 454.
[51] مدارج السالكين، ابن القيم: ص 442.
[52] قال الرازي في معنى اللب: "فاعلم أن لباب الشيء ولبَّه هو الخالص منه، ثم اختلفوا بعد ذلك، فقال بعضهم: إنَّه اسم للعقل؛ لأنه أشرف ما في الإنسان، والذي تميز به الإنسان عن البهائم، واستعد به للتمييز بين خير الخيرين، وشر الشرين.
وقال آخرون: إنَّه في الأصل اسم للقلْب الذي هو محلّ العقل، والقلب قد يجعل كناية عن العقل؛ {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، فكان اللب هنا كناية عن العقل؛ أي: يا أولي العقول، وإطلاق اسم المحلّ على الحالّ مجاز مشهور، فإنَّه يقال لمن له غيرة وحمية: فلان له نفس"؛ "التفسير الكبير"، الرازي: ج5، ص 184.
[53] المفردات، الراغب: ص 59.
- نلاحظ في تعاملنا مع القلب أننا نستعمل مصطلح "الأداة"، وهو القلب بجانبه الجسمي والروحاني، و"القوى" وهي الوظائف الموجودة بالقلب، وتمثل الجانب الروحاني المدرك للعلوم فيه، وهذه القوى لكل واحدة "وظيفة" خاص بها، فهناك القوى الإدراكية والقوى الإرادية، كما بينما من قبل.
[54] جامع البيان، الطبري: ج18، ص 119.
[55] مدارج السالكين، ابن القيم: ص 129.
[56] حاشية الشهاب؛ المسماة: "عناية القاضي وكفاية الراضي" على تفسير البيضاوي، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي، تخريج: عبدالرزاق المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1997م، ج1، ص 526.
[57] دليل الميزان، الطباطبائي: ج14، ص390.
[58] التفسير الكبير، الرازي: ج12، ص 46.
[59] لسان العرب، ابن منظور: ج4، ص 445.
[60] القلب ووظائفه، سلمان اليماني: ص 69.
[61] المفردات، الراغب: ص280.
[62] القلب ووظائفه، سلمان اليماني: ص 76.
- نقلاً عن: بيان الفرق بين القلب والصدر، الحكيم الترمذي: ص 35.
[63] أخرجه البخاري: 100، ومسلم: 2673، قال الذهبي: هذا حديث ثابت متصل الإسناد.
- سير أعلام النبلاء، الذهبي: ج6، ص36.
[64] لسان العرب، ابن منظور: ج2، ص 498.
[65] التفسير الكبير، الرازي: ج16، ص3.
[66] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير: ج2، ص 174.
[67] تيسير الكريم الرحمن، السعدي: ص 250.
[68] التفسير الكبير، الرازي: ج13، ص 38.
[69] المرجع السابق: ج7، ص 182.
[70] القاموس، الفيروزآبادي: ص 1165.
[71] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير: ج2، ص 175.
[72] جامع الأحكام، القرطبي: ج7، ص160.
[73] زاد المسير، ابن الجوزي: ص 467.
[74] الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري: ص 93.
[75] الكليات، الكفوي: ص 454.
[76] القاموس المحيط، الفيروزآبادي: ص 848.
[77] الكليات، الكفوي: ص 697.
[78] زاد المسير، ابن الجوزي: ص 232.
[79] المفردات، الراغب: ص 466.
[80] المرجع نفسه: ص 129.
[81] الفروق اللغوية، أبي هلال العسكري: ص 200.
[82] تيسير الكريم الرحمن، السعدي: ص 344.
تعليق