مذكرات تجربة
الحلقة الخامسة عشر
رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه!!
بدأت التحقيقات المسعورة؛ لمعرفة المتورطين في هذه العملية مع الضرغام (خالد الإسلامبولي) بمبنى المخابرات العسكرية، بعدما استفاق من غيبوبته، غير أنه رغم هول الموقف وشدته؛ لم يسمح لأي من محققيهم بالتطاول عليه أو إهانته، حيث كان يرد الإهانة بمثلها؛ فمن المنطقي أن من ينتظر الإعدام في مثل قضيته المشرفة التي قطع فيها رأس الخيانة؛ لا يمكنه بحال قبول المهانة!!
فكانوا يضغطون على جراحه التي لا تزال تنزف دماً؛ بعدما أصيب بعدة رصاصات متفرقة في جسده؛ لكي يخبرهم على وجه السرعة بأسماء شركائه في تلك العملية، ولكنه آثر التحامل على نفسه، وصمد أمام هذا التعذيب الوحشي بضراوة بالغة لمدة ثلاثة أيام متوالية؛ لكي يمنح إخوانه الفرصة الزمنية الكافية لهروبهم!!
غير أن تناقل خبر مقتله عبر الصحف ووسائل الإعلام، جعل إخوانه يعتقدون يقيناً في مقتله؛ فلم يهرب منهم أحد، وظلوا يمارسون حياتهم بشكل طبيعي لمدة ثلاثة أيام متتالية في منازلهم، حتى داهمتهم أجهزة الأمن ليلاً، وقبضت عليهم جميعاً، ثم اتسعت الدائرة بعد ذلك لتشمل 24 متهماً آخر، من بينهم الشيخ الأزهري الضرير/ عمر عبد الرحمن، وعميد المخابرات/عبود الزمر، وكذا الأخ/ محمد عبد السلام، مؤلف كتاب (الفريضة الغائبة)!!
توالت التحقيقات معهم سريعاً، ومورست عليهم أبشع أنواع التعذيب والتنكيل بالسجون الحربية، حيث كانت عملية تقديمهم إلى محاكمة عسكرية، لإغلاق ملفهم بالإعدام تمثل مطلباً عاجلاً لدى الرئيس الجديد/ حسني مبارك؛ الذي تعجل في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة؛ لاستقرار أوضاعه على مقاليد الحكم، من أجل ذلك سرعان ما خرجوا على شاشات وسائل الإعلام، وهم في قفص الاتهام، وكانت وجوههم والله كأنها تشع نوراً، حيث أطلق الجميع لحاهم وارتدوا القمصان والغتر البيضاء، باستثناء العميد/ عبد الزمر الذي حافظ على ارتداء زيه العسكري، لجلسات طويلة!!
تفاصيل المحاكمة!!
كان المتابع لجلسات المحاكمة، يستشعر أن جميع إجراءاتها كانت تتم بطريقة شكلية إلى حد كبير، وهذا ما أجمع عليه محامو المتهمين الذين تابعوا تلك الجلسات، مما أوحى إلى الجميع بأن الأحكام كانت معدة سلفاً، وعلى الرغم من ذلك الظلم والجور؛ إلا أن هذا الأمر كان آخر ما يعني الإخوة في قفص الاتهام، حيث هيأ كل واحدٍ منهم نفسه للإعدام إما شنقاً أو رمياً بالرصاص، لذا كانت هممهم عالية، ومعنوياتهم مرتفعة، وأشواقهم نحو جنان الله سامية، فلم يعبأوا بشيء من تلك الإجراءات كلها!!
ومما يذكر أن الأخ/ عبد الحميد عبد السلام كان دائم ارتداء العمامة السوداء في جميع الجلسات؛ تشبهاً بالصحابي الجليل أبي دجانة رضي الله عنه، وحينما قربت له زوجته طفله الوحيد أثناء الجلسات؛ لكي يقبله ويأخذه في حضنه، نظر إليه وأشار له على شقيقه الذي كان برفقة أمه وزوجته قائلاً : (انظر يا حبيبي هذا والدك من اليوم) فلما سألوه عن ذلك؛ قال: (لا أريد لقلب ولدي أن يتعلق بي، ولا أريد لقلبي أن يتعلق بولدي، فحريٌ بمثلي ممن سيقدم على الله غداً؛ أن يطلق الدنيا بكل ما فيها، ولا يتعلق قلبه إلا بالله وحده)!!
فلما حان وقت الجلسة الأخيرة للنطق بالحكم؛ ارتدى الجميع بدلاً حمراء (في إشارة للتحدي الصارخ بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله)!! وعلقوا لافتة كبيرة على قفص الاتهام، مكتوب عليها (فاقض ما أنت قاضٍ) وكانت الأنوار تتلألأ والله من وجوههم، وابتسامتهم العريضة لا تفارق محياهم، في مشهد لو اطلع عليه أحد الجاهلين بخلفية أوضاعهم، لظن أنهم قد حصلوا جميعاً على أحكام البراءة؛ من شدة ما ارتسم على وجوههم من الفرحة والبهجة، وإن كانت لا تزال خلف تلك القضبان!! وذلك لما يترقبونه من أحكامٍ جائرة، غير أنهم يرجون في رحمة الله تعالى أن تفضي بأرواحهم إلى جوف الطيور الخضر التي تسرح في الجنة حيثما شاءت!!
وبالفعل خرج القاضي العسكري لينطق بالحكم، ويقرر إعدام الأربعة الذين شاركوا في عملية الاغتيال، وهم خالد الإسلامبولي، وحسين عباس، وعطا طايل، وعبد الحميد عبد السلام، بالإضافة إلى الأخ/ محمد عبد السلام الذي اعتبروه محرضاً على قتل السادات، سواءً بتنسيقه المباشر معهم، أو بما سبق من تأليفه لكتاب (الفريضة الغائبة)!!
انطلقت الزغاريد فرحاً تهز أرجاء القاعة من قبل أهالي المتهمين، وفي مقدمتهم أم خالد الإسلامبولي وغيرها من الأخوات اللاتي احتسبن أبناءهن في سبيل الله، وكانت تغاريد الفرح التي انطلقت من حناجر الأخوة في قفص الاتهام أثناء ترديدهم الأناشيد الإسلامية؛ التي تؤكد كلماتها إصرارهم الأكيد، وعزيمتهم الراسخة على نصرة هذا الدين، مهما بلغ حجم التضحيات في سبيله بالنفس والمال والولد، تمثل مشهداً يسطر على جبين التأريخ بروعة كلماته معاني العزة والكرامة التي لا يمكن لذاكرة الأيام أن تمحوها بحال!!
فها هم أبناء محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد مرور أربعة عشر قرناً من دعوته، يعيدون كتابة التأريخ، ويسطرون نفس معاني التضحية السامية في سبيل هذا الدين!! وكأن معاناة بلال ابن رباح ما كانت إلا بالأمس القريب!! وفتوحات خالد ابن الوليد لا زلت مستمرة في القطر القريب، فما أعظمه من إله قادر مقتدر، وما أعظم هذا الدين لو كان له رجال!!
طار الخبر فوصل إلينا، وعلمنا أن الشيخ/ عمر عبد الرحمن الذي حكم عليه بالبراءة ومعه بعض المتهمين المدنيين الذين لم يحكم عليهم بالإعدام، سوف ينقلون بجوارنا إلى سجن طره، ليدخلوا في المحاكمات الخاصة بتنظيم الجهاد، بعد انتهاء محاكمتهم في قضية السادات، وخلال الفترة التي سبقت إعلان قرار الاتهام في قضية الجهاد، تم وضع الإخوة الخمس المحكوم عليهم بالإعدام بالسجن الحربي، ولم يتم إخبارهم مطلقاً بموعد تنفيذ الحكم، فقرروا بدء الصيام ومواصلته؛ حتى يلقوا الله عز وجل وهم صائمون!!
وقبيل فجر أحد الليالي، تبادل الإخوة الخمس حديثهم من نوافذ الزنازين المقابلة على مسمع من العميد/ عبود الزمر الذي بقي محتجزاً معهم بالسجن الحربي؛ نظراً لكونه عسكري الرتبة، فقال أحدهم لأصحابه : (أبشروا إخوتي وتجهزوا للقاء، فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي الليلة يدعوني للإفطار معه اليوم في الجنة)!! فرد عليه الآخر معقباً : (وأنا والله رأيت أبا بكر الصديق يوجه لي نفس الدعوة)!! فقال الثالث : (وأنا والله رأيت عمر بن الخطاب يوجه لي نفس الدعوة)!! فقال الرابع : (وأنا والله رأيت عثمان بن عفان يوجه لي نفس الدعوة)!! فقال الخامس : (وأنا والله رأيت علي بن أبي طالب نفس الشيء)!! فعلموا أن اليوم موعد تنفيذ الحكم!!
ووالله الذي لا إله غيره ما هي إلا دقائق بعد فراغهم من تأدية صلاة الفجر، حتى امتلأ العنبر بضجيج صفوف العسكر المدججة بالسلاح، والذين ملأت بأعدادها الغفيرة ممرات العنبر؛ تمهيداً لأخذهم إلى ساحات الإعدام!!
صرخ العميد/عبود الزمر من زنزانته منادياً على الضابط المناوب، فلما جاءه الضابط وجد عبود الزمر منهاراً من شدة البكاء، فسأله عن حاجته فقال : (أرجوكم خذوني معهم) هدأ الضابط من انفعاله وقال له : (اطلب مني ما أستطيع فعله سعادة العميد، فليس بوسعي تلبية مثل هذا الأمر) فطلب منه عبود أن يعطيه ملابسه الخاصة؛ كي يرتديها الملازم/ خالدالإسلامبولي أثناء استشهاده، على أن يرجعها له مخضبة بدمائه؛ كي يحتفظ بها مدى حياته، فأجابه لذلك، وأخذ منه الملابس وأعطاها للمجاهد الصنديد/ خالد الإسلامبولي!!
تم نقلهم سريعاً الواحد تلو الآخر إلى سيارات الجيش المنتظرة خارج العنبر، وتم وضع العسكريين معاً؛ تمهيداً لأخذهم إلى ساحات الإعدام رمياً بالرصاص، وهم الإخوة خالد الإسلامبولي، وعبد الحميد عبد السلام، وعطا طايل حميدة رحيل، أما الأخوين/ محمد عبد السلام وحسين عباس، فقد تم نقلهما إلى مكان آخر تمهيداً لإعدامهما شنقاً!!
وهنا أترك الحديث للعميد/ محمد عبد العليم، ضابط مباحث سجن الاستقبال، ليروي لنا بالتفصيل كيفية إعدام الثلاثة العسكريين، حيث قال لأحد أصدقائه الضباط بالسجن وهو يحدثه على مسمع من أحد المعتقلين دون أن ينتبه لوجود ذلك الأخ : (ده العيال اليوم ما رمشتش رمشه بعينها وإحنا واخدينهم على الإعدام، دول كانوا داخلين على الموت بصدور مفتوحة وثبات أقدام، وكأنهم رايحيين يتفسحوا!! ده كان كل واحد بيشد أخوه لورا علشان يتقدم عليه هو ويتعدم قبله!! ده الواد عبد الحميد ده كان أسد بجد، يا خويا أنا حضرت مائة عملية إعدام، لكن ماشفتش زي كده أبداً في حياتي)!!
حضرت والدة الأخ/ خالد الإسلامبولي إلى السجن الحربي في نفس اليوم، حاملة معها بعض الطعام إليه، ولم تكن تعلم أنه قد تم إعدامه مع بقية رفاقه فجراً، فنظر إليها ضابط البوابة متاثراً وهو يقول لها : (البقاء لله يا حاجة، ابنك أعدموه اليوم)!!
تمالكت خنساء العصر نفسها، وحبست دموعها، وتعالت فوق جراحها وآلامها، وما زادت عن قولها : (الحمد لله . . الحمد لله . . إنا لله وإنا إليه راجعون . . احتسبته عندك يارب فتقبله شهيداً في سبيلك)!!
تجمع بقية الأهالي حولها، على أمل أن يأخذوا بيدها، ويشدوا من أزرها، إلا أنها فاجأتهم بقوة ثباتها ورسوخ إيمانها؛ حيث ظهرت فرحتها بادية على محياها بنيل ولدها الشهادة في سبيل الله، وقد أخذت تردد كلمات صادقة من صميم قلبها، أبكت جميع من حولها؛ تأثراً بوجود مثل تلك المرأة الشامخة في مثل ذلك العصر الذي استمرأ فيه الكثير من الناس معاني الذلة والمهانة، من أجل ذلك أطلقوا عليها بحق مسمى : (خنساء العصر)!!
وجدير بالذكر أنها سارعت في نفس اليوم بذبح كبشين أملحين، وقامت بتوزيعهما علينا في سجن الاستقبال قائلة : (إنني لم أعمل عقيقة لخالد منذ صغره، واليوم أعمل له تلك العقيقة مع وليمة عرسه، حيث أحتسب على الله أن أزفه بها إلى الحور العين)!!
كانت تلك المرأة التي أخفوا عليها مكان دفن ولدها مع بقية الإخوة الذين تم إعدامهم، رمزاً يستوحي منه الرجال معاني العزة والثبات على الحق، فقد كانت تحرص على حضور معظم جلسات محاكمة الشباب الإسلامي، إذ كانت تعتبرهم جميعاً أبناءً لها، من أجل ذلك كانت تحرص على ذلك الحضور؛ لكي تشد من أزرهم، وتثري عزائمهم!!
فألفوا في شأنها تلك القصيدة الرائعة من شدة انبهارهم بثباتها، وحبهم لها :
رويدك أم خالد علمينا إباء المجد ثم وخبرينا
وهزي في موات الذل إنَّا كرهنا الذل كأس الخاضعينا
رويدك أم خالد لا تراعي فخالد لا يزال يصول فينا
ويصرخ في سبات النائمينا ألا إن الجهاد الحق دينا
تعالي أم خالد وانظرينا فما بلغت سياطهم مراداً
وما هزت سجونهم ثباتاً، ولم تقتل مشانقهم يقيناً
رويدك أم خالد ما دونينا وإن ملأوا السجون معذبينا
فما رمنا بغير القهر هوناً وما رمنا الدنية صاغرينا
صبرا أم خالد سوف تمضي مسيرة ألف خالد زاحفينا
ويقتحمون حصن الكفر جنداً ألا ما أقرب الفتح المبينا
كانوا ينشدون لها تلك الكلمات من داخل أقفاص الاتهام، وكانت تشير لهم بعلامات النصر والثبات، وتدعوا الله لهم بأرق الدعوات، فما أعظمها من أمة يها أمثالك تلك الأمهات، وما أعظمه من شباب، ذلك الذي قدم روحه فداءً لهذا الدين، ولم يعبأ بهول الممات، وإلى لقاء قريب في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى. وأترككم في عناية الله وأمنه.
خلاصة ما جاء في هذه الحلقة من فوائد وعبر :
· تتلاشي حسابات أهل الدنيا المادية تماماً لدى البائعين نفوسهم لمليكهم، والباذلين أرواحهم في سبيل نصرة هذا الدين!!
· المحن تفرز المعادن، وثبات الأهل من أعظم عوامل ثبات المجاهدين في سبيل الله!!
· تحال الأحزان أفراحاً؛ فقط إذا ما استبدلت هموم الدنيا بأشواق الآخرة!!
وإلى لقاء قريب في الحلقة السادسة عشر بإذن الله تعالى، وجزاكم الله خيراً على المتابعة
تعليق