الحمد لله، وصلى الله على نبيه ومصطفاه..وبعد..
لماذا سُمي شعبان بهذا الاسم؟ قال ابن حجر - رحمه الله -:
"وسمي شعبان؛ لتشعبهم في طلب المياه أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام،... وقيل فيه غير ذلك". فتح الباري (4/251).
ما هو هدي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- في صوم شعبان؟
ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم شعبان كله، فعنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلا أَنَّهُ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ".
[رواه أحمد (26022)، وأبو داود (2336) والنسائي (2175) وابن ماجه (1648)]. ولفظ أبي داود: " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ"
[صححه الألباني في صحيح أبي داود (2048)].
وثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "
لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّه". [البخارى(1969)]،
فظاهر هذان الحديثان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم شهر شعبان كله، وورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم شعبان إلا قليلاً، فعَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَت: " سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
، فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلا"
. [رواه مسلم (1156)].
وفي رواية عنها - رضي الله عنها -: " كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا".
قال الحافظ: إن حديث عائشة [يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي حَدِيث أُمّ سَلَمَة " أَنَّهُ كَانَ لا يَصُوم مِنْ السَّنَة شَهْرًا تَامًّا إِلا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَان"
أَيْ: كَانَ يَصُوم مُعْظَمَهُ. وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ اِبْن الْمُبَارَك أَنَّهُ قَالَ: جَائِزٌ فِي كَلام الْعَرَب إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يَقُولَ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ. [فتح البارى (4/252)].
وقال الطِّيبِيُّ: يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُوم شَعْبَان كُلّه تَارَة وَيَصُوم مُعْظَمَهُ أُخْرَى لِئَلا يُتَوَهَّم أَنَّهُ وَاجِب كُلّه كَرَمَضَانَ، ثم قال الحافظ: وَالأَوَّل هُوَ الصَّوَاب] اهـ يعني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصوم شعبان كاملاً، واستدل له بما رواه مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: وَلا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلا صَامَ شَهْرًا كَامِلا غَيْرَ رَمَضَانَ. [مسلم (746)]، وبما رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: مَا صَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَهْرًا كَامِلا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ [البخاري (1971) ومسلم (1157)]. وقال السندي في شرحه لحديث أم سلمة: " يَصِل شَعْبَان بِرَمَضَان" أَيْ: فَيَصُومهُمَا جَمِيعًا، ظَاهِره أَنَّهُ يَصُوم شَعْبَان كُلّه... لَكِنْ قَدْ جَاءَ مَا يَدُلّ عَلَى خِلافه، فَلِذَلِكَ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُوم غَالِبه فَكَأَنَّهُ يَصُوم كُلّه وَأَنَّهُ يَصِلهُ بِرَمَضَان اهـ قال ابن عبد البر: "واستحب ابن عباس و جماعة من السلف - رحمهم الله - أن يفصلوا بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو أيام، كما كانوا يستحبون أن يفصلوا بين صلاة الفريضة و النافلة بكلام، أو قيام أو مشي، أو تقدم أو تأخر من المكان. [الاستذكار (371/3)]. ما هو فضل الصوم في شعبان؟ عن أسامةُ بنُ زيد - رضي الله عنهما - أنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: (( ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)). رواه النسائي، وحسنه الألباني. هل صحت أحاديث في فضل ليلة النصف من شعبان؟.
صحَّت ثلاثة أحاديث في ليلة النصف من شعبان:
الحديث الأول: خرَّجه الطبراني في الكبير والأوسط، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة، قال فيه نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: (( يَطَّلِعُ الله - عز وجل - عَلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ)).
والحديث الثاني: فقد خرجه البيهقي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب وقال: صحيح لغيره، وهو قول نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (( يطلع الله إلى عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين، ويمهل الكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه))..
وأما الحديث الثالث: فخرجه ابن أبي عاصم في السنة، وقال الألباني في ظلال الجنة: صحيح لغيره، وهو قول نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (( ينزل ربنا- تبارك وتعالى- إلى سماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لأهل الأرض، إلا مشرك أو مشاحن)). [قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 3 / 135: حديث صحيح]. قال ابن حجر الهيتمي الشافعي في الفتاوى الفقهية الكبرى - رحمه الله - متحدثاً عن هذه الليلة: "وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ فَضْلًا، وَأَنَّهُ يَقَعُ فِيهَا مَغْفِرَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَاسْتِجَابَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رضي الله عنه -: إنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِيهَا" [الفتاوى الفقهية الكبرى، للهيتمي - رحمه الله -، دار الفكر (2/80)].
هل يجوز تخصيص ليلة النصف من شعبان بعبادة؟. من السلف كما ذكر ابن تيمية والهيتمي من كان يعظم ليلة النصف من شعبان، ويجتهد فيها، ومنهم من نهى عن ذلك. قال الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى: " وأما الصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ لَيْلَتهَا ليلة النصف - وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهَا بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ يُمْنَعُ مِنْهَا فَاعِلُهَا، وَإِنْ جَاءَ أَنَّ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ كَمَكْحُولٍ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَلُقْمَانَ وَغَيْرِهِمْ يُعَظِّمُونَهَا وَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا بِالْعِبَادَةِ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ النَّاسُ مَا ابْتَدَعُوهُ فِيهَا وَلَمْ يَسْتَنِدُوا فِي ذَلِكَ لِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ أَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَنَدُوا بِآثَارٍ إسْرَائِيلِيَّةٍ وَمِنْ ثَمَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ عُلَمَاء الْحِجَازِ كَعَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَفُقَهَاء الْمَدِينَة وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: وَذَلِكَ كُلُّهُ بِدْعَةٌ؛ إذْ لَمْ يَثْبُت فِيهَا شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ" [الفتاوى الفقهية الكبرى (2/80)].
هل يجوز الصيام بعد النصف من شعبان؟. قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا)) رواه أبو داود، وهذا حديث قد اختلف العلماء فيه بين مصحح له ومضعف. وتستثنى هذه الصور من الكراهة:
الأولى: من اعتاد أن يصوم صوماً صام ولو انتصف شعبان، والدليل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح مسلم، قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ)) رواه البخاري ومسلم.
الثانية: من أراد أن يصوم معظم شعبان كما كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثالثة: من كان عليه قضاء أو صوم واجب، فلا خلاف في وجوب صومه ولو انتصف شعبان.
ما حكم صيام يوم الشك؟ ويوم الشك هو الثلاثون من شعبان، وهو اليوم الذي يُشكُّ فيه هل هو من رمضان أم من شعبان، وقد ثبت نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الشك، وهو الثلاثين من شعبان، قال عمارٌ - رضي الله عنه -: "مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -" رواه البخاري.
هذا، والله تبارك وتعالي أعلى وأعلم، وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
ولعلنا نقف مع هذا الحديث وقفة تأمل في الإسناد والمتن ونذكر أقوال أهل العلم فيه إن يسر الله ذلك، نسأله السداد.
تعليق