الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
لقد فطر الله الإنسان على كثير من الأشياء، ومنها: الطعام والشراب، والحاجة إلى اللباس والمأوى، ولا تتوفر هذه الأشياء إلا بسعي الإنسان للحصول عليها، وهو ما يُسمَّى بطلب الرزق، ويتكامل الناس فيما بينهم؛ إذ يوفر كل منهم حاجةَ الآخر.
هذا بالنسبة للفرد، أما على مستوى المجتمع، فيُمثِّل سعي جميع الأفراد النشاطَ الاقتصادي، ولا بد لهذا النشاط من قواعد وأصول يُبنى عليها حتى يحقق المصلحة المرجُوَّة لجميع أفراد المجتمع من غير إضرار بأحد، وهذه القواعد تسمى: "النظام الاقتصادي".
ومِن خصائص الإسلام: "أنه دين شامل"؛ لذا فقد وضع نظامًا ينظِّم العلاقات المادية وجميع المعاملات بين أفراده، عن طريق سَنِّ قوانين وقواعد عامة وخاصة.
ومن البدهي أنْ يبني المجتمع الإسلامي نظامه الاقتصادي على العقيدة الإسلامية، فقد جعلها أساسه في بناء المجتمع بجميع أركانه، وقد راعى الإسلام في بناء النظام الاقتصادي أيضًا الفطرة والأخلاق الفاضلة.
ولما كانت العقيدة الإسلامية أساس النظام الاقتصادي للمجتمع، فقد أثَّر ذلك في تصورات أفراده؛ إذ من المقرر أن كل نظام يؤثِّر في أفراده سلبًا وإيجابًا، فالإسلام يقرر حقيقة: أن المُلك لله وليس لأحد ملك خارج عنه، إذ الأرض ومَن فيها لله وحده؛ قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (المائدة:18).
وأن المال أيضًا ملك لله -سبحانه وتعالى-: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور:33)، غير أن الله -تبارك وتعالى- قد جعل للإنسان ولايةً على ذلك المال وملكًا مجازيًّا له؛ قال -تعالى-: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن:15)، وجعله مستخلفًا فيه وقائمًا عليه، قال -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد:7)، غير أن هذه الملكية وهذا الاستخلاف من أجل أن يستعين العبد على طاعة الله والإنفاق فيها، فإن هذه الدنيا وسيلة وليست غاية في ذاتها، فهي تبلِّغه الآخرة.
إن هذه التصورات التي يُمليها النظام الاقتصادي الإسلامي على الأفراد، تُهيِّئه أولاً لتقبل قواعده وأصوله التي سوف يُبنى عليها، وهي أيضًا تجعل الإنسان يقف على حقيقة ما عليه في هذه الحياة، وما هو المطلوب منه، فينشأ المجتمع خاليًا مِن الطمع والجشع اللذين يقع فيهما بعض الناس متذرعًا بأنه يسعى لطلب الرزق.
فالعقيدة الإسلامية -كما قلنا- راعتْ في نظامها الاقتصادي "الفطرة"، فإن الإسلامَ جاء ليُقوِّم الفطرة، لا ليقضي عليها؛ فإن لها ضروريَّات، وقد أقر الإسلام بعض الفطر: كحب المال، قال -تعالى-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر:20)، ولكن كان يجب تهذيب هذا الحب، لا أن يدفع صاحبه للحصول عليه مما حرَّم الله.
كذلك راعَى الإسلام في نظامه الاقتصادي الأخلاق الفاضلة، فقد حرَّم كسب المال من السرقة والغصب، وحرم إنماءه من الغش والغَرَر بالناس، وحرم صرفَه في الفواحش والمنكرات، بل حث على كسبه مِن الحلال، وتنميته بالحلال، وإنفاقه فيما يُرضي الله -عز وجل-.
ومسألة الأخلاق منها ما تركه الإسلام للأفراد، مثل: مراعاة الأمانة والصدق، ومنها ما للدولة، فتدخل الدولة لتقويم نشاط الفرد الاقتصادي، كما إذا تاجر بالخمور.
وكذا مما اهتم به النظام الاقتصادي في الإسلام سد حاجات الأفراد، فالأصل أن كل فرد مسؤول عن سد حاجاته، ولكن قد لا يتمكن الفرد من ذلك لظروف معينة، مثل: العجز، والمرض، أو الشيخوخة، فقد فرض الإسلام على أسرته وأقاربه سدَّ حاجاته، فإن لم يستطيعوا كانت الزكاة التي هي من حقه في هذه الحالة، فإن لم تكفِ الزَّكاة لسد حاجات المحتاجين يتدخل بيت مال المسلمين، وله موارد أوسع من موارد الزكاة، فإن لم يكفِ بيت المال حثَّ الإمام الأغنياء على الصدقة كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تكفي الفقراء، فإن لم يفِ ذلك؛ فرضت الدولة على الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء كما همَّ عمر -رضي الله عنه- أن يفعل ذلك، وغالبًا لا تصل الحالة إلى هذه المرحلة، بل لم يقع ذلك قط في دولة عادلة قائمة بالشرع، وإنما تكفي الخطوات السابقة.
قال ابن حزم -رحمه الله-: "وفرض على الأغنياء مِن أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقُمِ الزكاة بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومِن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنُّهم مِن المطر والصيف والشمس، وعيون المارة" (المحلى بالآثار:4/ 281 مسألة: 725).
وقد وضع النظام الإسلامي مبادئ عامة مبنية -كما ذكرنا- على العقيدة الإسلامية، ومنها: حرية الأفراد في اختيار العمل.
لقد حثَّ الإسلام على العمل، وجعله من القربات مع استحضار نية الكسب الحلال للتقوي على العبادة والنفقات الواجبة؛ قال -تعالى-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)(الجمعة:10)، وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك:15).
غير أنه لم يحدد لأحد عملاً معينًا، وترك حرية اختيار العمل لكل فرد، فقدرات الأفراد تختلف، ومواهبهم أيضًا، وتحديد عمل معين مِن قِبَل الدولة أو النظام يقتل المواهب، ويظلم البعض إذا تحملوا فوق قدرتهم أحيانًا.
كما أنه لا يوجد عمل يحتقره الإسلام ما دام مشروعًا، فالعقيدة الإسلامية تحكم على الأفراد بالتقوى والصلاح لا بالوظيفة، والعمل وسيلة لتحصيل المال للتقرب به إلى الله -سبحانه وتعالى-.
والتنافُس بيْن المسلمين مشروع، وفيه مصلحة المجتمع ككل، قال -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (رواه مسلم)، بيد أن هذا التنافس لا يكون بالغش والإضرار بالآخرين، ولكن بمضاعفة الجهد والجودة.
وكان العدل ومراعاة الفطرة -كما قررنا- هو السِّمة العامة للنظام الاقتصادي في الإسلام، فقد جعل للأفراد حق وحريةَ الملكية الخاصة وأقر بذلك؛ قال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يس:71)، وقال -تعالى-: (فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة:279)، هذا هو مبدأ الإسلام: لا ظلم، فمن تعب في تحصيل المال فمن حقه أن يتملكه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) (رواه أحمد والدارقطني، وصححه الألباني).
فكل المال فيه حق الملكية للأفراد، ولكن أيضًا لم تجعل الشريعة هذا الحق مطلقًا بحيث يُحدِث ضررًا في المجتمع المسلم، فلا يجوز تملك المحرمات، مثل: الخمر، وأدوات المعازف. أما غير ذلك مما أباح الله، فلم تكتفِ الشريعة فقط بالاعتراف بحق الملكية فيه، بل قامت بحمايتها، فلا يجوز التعدي على ملك الآخرين؛ قال -تعالى-: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)(النساء:2).
ولكن مع إقرار الإسلام للملكية الخاصة للمال وحمايته، فقد وضعه تحت قواعد عامة وتنظيمات وقيود، فيجب أن يكون منشؤه مشروعًا، مثل: الاتِّجار المباح، أو الإرث، أو الهبة، وإلا أمر بنزعه ومعاقبة صاحبه، ولم ينظر إلى قدر المال، بل المعتبر حل مصدره، على العكس من الماركسية التي أخذتْ أموال الناس بغير حق، بدعوى أن المال الزائد عن حاجة الفرد لا يَحق له، ولم تراعِ أنه هو مَن تعب فيه؛ مما ولَّد الأحقاد بيْن طبقات المجتمع، وساوتْ بين المجتهد والمتواكل؛ مما يجعل البعض يسأل: لماذا أتعب وأعمل؟ فينشأ مجتمع متواكل، لا توجد به روح المنافسة ولا الإبداع.
وفي الوقت نفسه فرضت الشريعة على صاحب المال أخذَ جزء يسير من هذا المال؛ مواساة للفقراء والعاجزين عن العمل، من باب التكافل والأخوة الإيمانية التي يقوم عليها المجتمع، وجعلت على ذلك الأجر الكبير في الآخرة، يتمثل هذا الجزء في الزكاة.
هذا بالنسبة للقيود على نشأة المال، أما عن تنميته: فلا يجوز أن يُنمَّى من الحرام مثل: الاتجار بالمحرمات، والغش، والربا، والاحتكار، وهذا على العكس من النظام الرأسمالي، الذي رأى حق الملكية مطلقًا، فلا مواساةَ، ويحق تنمية المال بأي طريقة حتى ولو كانت عن طريق استغلال حاجة الناس بالاحتكار والربا؛ مما ولَّد الأحقاد بين أفراد المجتمع، فينشأ مجتمع تسوده الأثرة والغش.
وهناك قيود أيضًا على إنفاق هذا المال، فلا يجوز إنفاقه في المحرمات وما يغضب الله.
وقد ينزع الإسلام الملكية الخاصة بالكلية، ولكن عند ظروف معينة، مثل تعلق حق الآخرين بها، كحال المَدِين الذي حل دينه، وطلب الدائنون حقوقَهم من القاضي، أو عند احتياج الدولة الضروري لهذا الملك، مثل: قطعة أرض لتوسعة طريق، فيعوض صاحب الملك التعويضَ المُرْضِي من غير ضرر ولا إضرار.
وبعد هذا العرض السريع لخصائص النظام الاقتصادي الإسلامي المبني على العقيدة الإسلامية، يتبين لكل منصف ذي فطرة سليمة أنه النظام الوحيد القادر على تحقيق الاستقرار والرخاء، والعدالة والتنمية للمجتمعات، وأنه يصلح لكل عصر ومِصر، وأنه يظل شامخًا؛ فإنه من لدن حكيم خبير، في ظل سقوط الأنظمة الأخرى المبنية على مصالح بعض الأفراد، وأساسها زبالات أفهام البشر.
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لقد فطر الله الإنسان على كثير من الأشياء، ومنها: الطعام والشراب، والحاجة إلى اللباس والمأوى، ولا تتوفر هذه الأشياء إلا بسعي الإنسان للحصول عليها، وهو ما يُسمَّى بطلب الرزق، ويتكامل الناس فيما بينهم؛ إذ يوفر كل منهم حاجةَ الآخر.
هذا بالنسبة للفرد، أما على مستوى المجتمع، فيُمثِّل سعي جميع الأفراد النشاطَ الاقتصادي، ولا بد لهذا النشاط من قواعد وأصول يُبنى عليها حتى يحقق المصلحة المرجُوَّة لجميع أفراد المجتمع من غير إضرار بأحد، وهذه القواعد تسمى: "النظام الاقتصادي".
ومِن خصائص الإسلام: "أنه دين شامل"؛ لذا فقد وضع نظامًا ينظِّم العلاقات المادية وجميع المعاملات بين أفراده، عن طريق سَنِّ قوانين وقواعد عامة وخاصة.
ومن البدهي أنْ يبني المجتمع الإسلامي نظامه الاقتصادي على العقيدة الإسلامية، فقد جعلها أساسه في بناء المجتمع بجميع أركانه، وقد راعى الإسلام في بناء النظام الاقتصادي أيضًا الفطرة والأخلاق الفاضلة.
ولما كانت العقيدة الإسلامية أساس النظام الاقتصادي للمجتمع، فقد أثَّر ذلك في تصورات أفراده؛ إذ من المقرر أن كل نظام يؤثِّر في أفراده سلبًا وإيجابًا، فالإسلام يقرر حقيقة: أن المُلك لله وليس لأحد ملك خارج عنه، إذ الأرض ومَن فيها لله وحده؛ قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (المائدة:18).
وأن المال أيضًا ملك لله -سبحانه وتعالى-: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور:33)، غير أن الله -تبارك وتعالى- قد جعل للإنسان ولايةً على ذلك المال وملكًا مجازيًّا له؛ قال -تعالى-: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن:15)، وجعله مستخلفًا فيه وقائمًا عليه، قال -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد:7)، غير أن هذه الملكية وهذا الاستخلاف من أجل أن يستعين العبد على طاعة الله والإنفاق فيها، فإن هذه الدنيا وسيلة وليست غاية في ذاتها، فهي تبلِّغه الآخرة.
إن هذه التصورات التي يُمليها النظام الاقتصادي الإسلامي على الأفراد، تُهيِّئه أولاً لتقبل قواعده وأصوله التي سوف يُبنى عليها، وهي أيضًا تجعل الإنسان يقف على حقيقة ما عليه في هذه الحياة، وما هو المطلوب منه، فينشأ المجتمع خاليًا مِن الطمع والجشع اللذين يقع فيهما بعض الناس متذرعًا بأنه يسعى لطلب الرزق.
فالعقيدة الإسلامية -كما قلنا- راعتْ في نظامها الاقتصادي "الفطرة"، فإن الإسلامَ جاء ليُقوِّم الفطرة، لا ليقضي عليها؛ فإن لها ضروريَّات، وقد أقر الإسلام بعض الفطر: كحب المال، قال -تعالى-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر:20)، ولكن كان يجب تهذيب هذا الحب، لا أن يدفع صاحبه للحصول عليه مما حرَّم الله.
كذلك راعَى الإسلام في نظامه الاقتصادي الأخلاق الفاضلة، فقد حرَّم كسب المال من السرقة والغصب، وحرم إنماءه من الغش والغَرَر بالناس، وحرم صرفَه في الفواحش والمنكرات، بل حث على كسبه مِن الحلال، وتنميته بالحلال، وإنفاقه فيما يُرضي الله -عز وجل-.
ومسألة الأخلاق منها ما تركه الإسلام للأفراد، مثل: مراعاة الأمانة والصدق، ومنها ما للدولة، فتدخل الدولة لتقويم نشاط الفرد الاقتصادي، كما إذا تاجر بالخمور.
وكذا مما اهتم به النظام الاقتصادي في الإسلام سد حاجات الأفراد، فالأصل أن كل فرد مسؤول عن سد حاجاته، ولكن قد لا يتمكن الفرد من ذلك لظروف معينة، مثل: العجز، والمرض، أو الشيخوخة، فقد فرض الإسلام على أسرته وأقاربه سدَّ حاجاته، فإن لم يستطيعوا كانت الزكاة التي هي من حقه في هذه الحالة، فإن لم تكفِ الزَّكاة لسد حاجات المحتاجين يتدخل بيت مال المسلمين، وله موارد أوسع من موارد الزكاة، فإن لم يكفِ بيت المال حثَّ الإمام الأغنياء على الصدقة كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تكفي الفقراء، فإن لم يفِ ذلك؛ فرضت الدولة على الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء كما همَّ عمر -رضي الله عنه- أن يفعل ذلك، وغالبًا لا تصل الحالة إلى هذه المرحلة، بل لم يقع ذلك قط في دولة عادلة قائمة بالشرع، وإنما تكفي الخطوات السابقة.
قال ابن حزم -رحمه الله-: "وفرض على الأغنياء مِن أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقُمِ الزكاة بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومِن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنُّهم مِن المطر والصيف والشمس، وعيون المارة" (المحلى بالآثار:4/ 281 مسألة: 725).
وقد وضع النظام الإسلامي مبادئ عامة مبنية -كما ذكرنا- على العقيدة الإسلامية، ومنها: حرية الأفراد في اختيار العمل.
لقد حثَّ الإسلام على العمل، وجعله من القربات مع استحضار نية الكسب الحلال للتقوي على العبادة والنفقات الواجبة؛ قال -تعالى-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)(الجمعة:10)، وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك:15).
غير أنه لم يحدد لأحد عملاً معينًا، وترك حرية اختيار العمل لكل فرد، فقدرات الأفراد تختلف، ومواهبهم أيضًا، وتحديد عمل معين مِن قِبَل الدولة أو النظام يقتل المواهب، ويظلم البعض إذا تحملوا فوق قدرتهم أحيانًا.
كما أنه لا يوجد عمل يحتقره الإسلام ما دام مشروعًا، فالعقيدة الإسلامية تحكم على الأفراد بالتقوى والصلاح لا بالوظيفة، والعمل وسيلة لتحصيل المال للتقرب به إلى الله -سبحانه وتعالى-.
والتنافُس بيْن المسلمين مشروع، وفيه مصلحة المجتمع ككل، قال -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (رواه مسلم)، بيد أن هذا التنافس لا يكون بالغش والإضرار بالآخرين، ولكن بمضاعفة الجهد والجودة.
وكان العدل ومراعاة الفطرة -كما قررنا- هو السِّمة العامة للنظام الاقتصادي في الإسلام، فقد جعل للأفراد حق وحريةَ الملكية الخاصة وأقر بذلك؛ قال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يس:71)، وقال -تعالى-: (فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة:279)، هذا هو مبدأ الإسلام: لا ظلم، فمن تعب في تحصيل المال فمن حقه أن يتملكه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) (رواه أحمد والدارقطني، وصححه الألباني).
فكل المال فيه حق الملكية للأفراد، ولكن أيضًا لم تجعل الشريعة هذا الحق مطلقًا بحيث يُحدِث ضررًا في المجتمع المسلم، فلا يجوز تملك المحرمات، مثل: الخمر، وأدوات المعازف. أما غير ذلك مما أباح الله، فلم تكتفِ الشريعة فقط بالاعتراف بحق الملكية فيه، بل قامت بحمايتها، فلا يجوز التعدي على ملك الآخرين؛ قال -تعالى-: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)(النساء:2).
ولكن مع إقرار الإسلام للملكية الخاصة للمال وحمايته، فقد وضعه تحت قواعد عامة وتنظيمات وقيود، فيجب أن يكون منشؤه مشروعًا، مثل: الاتِّجار المباح، أو الإرث، أو الهبة، وإلا أمر بنزعه ومعاقبة صاحبه، ولم ينظر إلى قدر المال، بل المعتبر حل مصدره، على العكس من الماركسية التي أخذتْ أموال الناس بغير حق، بدعوى أن المال الزائد عن حاجة الفرد لا يَحق له، ولم تراعِ أنه هو مَن تعب فيه؛ مما ولَّد الأحقاد بيْن طبقات المجتمع، وساوتْ بين المجتهد والمتواكل؛ مما يجعل البعض يسأل: لماذا أتعب وأعمل؟ فينشأ مجتمع متواكل، لا توجد به روح المنافسة ولا الإبداع.
وفي الوقت نفسه فرضت الشريعة على صاحب المال أخذَ جزء يسير من هذا المال؛ مواساة للفقراء والعاجزين عن العمل، من باب التكافل والأخوة الإيمانية التي يقوم عليها المجتمع، وجعلت على ذلك الأجر الكبير في الآخرة، يتمثل هذا الجزء في الزكاة.
هذا بالنسبة للقيود على نشأة المال، أما عن تنميته: فلا يجوز أن يُنمَّى من الحرام مثل: الاتجار بالمحرمات، والغش، والربا، والاحتكار، وهذا على العكس من النظام الرأسمالي، الذي رأى حق الملكية مطلقًا، فلا مواساةَ، ويحق تنمية المال بأي طريقة حتى ولو كانت عن طريق استغلال حاجة الناس بالاحتكار والربا؛ مما ولَّد الأحقاد بين أفراد المجتمع، فينشأ مجتمع تسوده الأثرة والغش.
وهناك قيود أيضًا على إنفاق هذا المال، فلا يجوز إنفاقه في المحرمات وما يغضب الله.
وقد ينزع الإسلام الملكية الخاصة بالكلية، ولكن عند ظروف معينة، مثل تعلق حق الآخرين بها، كحال المَدِين الذي حل دينه، وطلب الدائنون حقوقَهم من القاضي، أو عند احتياج الدولة الضروري لهذا الملك، مثل: قطعة أرض لتوسعة طريق، فيعوض صاحب الملك التعويضَ المُرْضِي من غير ضرر ولا إضرار.
وبعد هذا العرض السريع لخصائص النظام الاقتصادي الإسلامي المبني على العقيدة الإسلامية، يتبين لكل منصف ذي فطرة سليمة أنه النظام الوحيد القادر على تحقيق الاستقرار والرخاء، والعدالة والتنمية للمجتمعات، وأنه يصلح لكل عصر ومِصر، وأنه يظل شامخًا؛ فإنه من لدن حكيم خبير، في ظل سقوط الأنظمة الأخرى المبنية على مصالح بعض الأفراد، وأساسها زبالات أفهام البشر.
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تعليق