الجاسوس الأسير عبد الفتاح عوض ..
وسط رائحة الموت وصلصلة الجنازير في سراديب الأسْر .. لم أتخيل أنني قد أرى مصر ... أبداً.
وعندما عدت إليها... أحسست بالغربة لأسابيع طويلة ... وكان في قرارة نفسي يقبع ذنب جبار يزمجر في عنف ويتعاظم .. ويلتصق بجدران شراييني هاجس مؤلم يلسعني كل لحظة .. يذكرني بأنني مجرم .. آثم... لا أستحق الحياة.. !!
الحطام الهش
استغلت المخابرات الإسرائيلية حالات الضعف الإنساني لأسرى حرب 1967 وساومتهم بشتى الطرق لأجل التعاون معها بعدما تتم مبادلتهم.
لقد أغرتهم بالمال وبأجمل النساء .. وعرضتهم للتجويع والتنكيل والإرهاب والحصار النفسي حتى القتل .. وذلك للتحكم بأعصابهم وتوريطهم للانغماس في تيار الخيانة والجاسوسية..
وفي الملفات وجدنا حالات عديدة... تبين كيف لجأت مخابرات العدو لوسائل شيطانية للضغط على الأسرى... كيف ذلك...؟ وبأية طرق كانت تقود بعضهم إلى مستنقع الجاسوسية... ؟!!
بداية ...تقول بعض المصادرا لعسكرية إن أسرى مصر لدى إسرائيل في حرب 1967 يقارب عددهم الخمسة آلاف أسير... سقطوا في قبضة القوات الاسرائيلية عند اجتياح سيناء ... وانسحاب الجيش المصري مهزوماً بدون نظام أو قيادة أو غطاء.
لقد كان ضرب المعابر على القناة وتدميرها... خشية عبور العدو إلى الضفة الغربية للقناة ... أحد أهم أسباب اقتياد الآلاف من أفراد قواتنا إلى معسكرات الأسر... وتعرضهم للقتل الجماعي والإبادة في مذابح بشعة لن يغفلها التاريخ.
فعندما يدرك الأسير أن ما بين الحياة والموت ضغطة زناد من يهودي دموي .. يتوقف تفكيره عند تلك اللحظة ، وتتسمر عيناه على ارتعاشة إصبع مختل وصيحات آمرة، وكلما دوت رصاصات تحصد أرواح ضعفاء يرسفون في قيود الأسر... اشتهت النفس الحياة وطلبتها بإلحاح عنيد.
لقد نشط خبراء المخابرات الإسرائيلية في تعذيب الأسرى وإرهابهم، والتمثيل بجثث زملائهم على مرأى منهم لقتل أي آمال لديهم في الحياة. وعند اختيارهم لبعض الجنود والضباط من الأسرى الذين أبدوا ذعرهم الشديد، عملوا على منحهم فرصة النجاة من الموت الرخيص ليسهل إخضاعهم والسيطرة عليهم، وكان لابد للمرشح أن يمر بعدة اختبارات نفسية قاسية... مثل إطلاق النيران بشكل فجائي على مجموعات من الأسرى ودون سابق إنذار، والتنكيل بأحدهم بوسائل تعذيب وحشية لإرهاب الآخرين، وفتح النيران من خلف الأسرى بعد فترة سكون .. فيصابون بالرعب والذعر من طلقات رصاص غير متوقعة.
اتبع العدو الصهيوني أيضاً طرقاً أخرى عديدة، تحطم ما لدى الأسرى من مقاومة، وتدفعهم إلى التفكير في منجي لهم من الهلاك.
ولكثرة وسائل انتهاك آدمية الأسرى، كثيراً ما عادوا إلى بلادهم وبعضهم تشوشت أفكارهم وأصبحوا لا يضبطون، وفقد قلة منهم الثقة في القيادة العسكرية والسياسية، ورسموا صورة مغايرة للواقع الملموس، محتاطون لمحاولات اقتلاع ما آمنوا به فترة الأسر، إذ إن العدو أصبح لديهم هو الأقوى والأمهر، ومجرد التفكير في معاداته ضرب من جنون.
هكذا عاد بعض الأسرى من إسرائيل في صفقات متبادلة وغير متكافئة العدد أو المعنويات. فهناك فروق شاسعة ما بين الأسرى في الحالتين.
وكان من بين الأسرى المصريين الذين عادوا .. الملازم أول الاحتياطي عبد الفتاح عبد العزيز عوض. أشهر جاسوس لإسرائيل تم تجنيده في أحد معسكرات أسرى 1967 في بئر سبع. عاد بعدما أجريت له عملية غسيل مخ، وتحول منضابط مصري يدافع عن أرضه وعرضه... إلى عين من عيون إسرائيل ترى وتتحرك بيننا في ثقة.
هذا التحول الخطير ليس بأمر هين، إذا ما أجرينا مقارنة عادلة بين أسير مكبل يرتجف رعباً وجوعاً... تحيطه مجموعة كبيرة من خبراء المخابرات تتفنن في تجنيده، وبين شاب آخر تتصارع لديه الرغبات والطموحات على موائد القمار في أوروبا، وقد يسعى هذا الأخير بنفسه إلى رجال الموساد عارضاً عليهم خدماته.
فرق كبير بين الأسير والحر. فالأسير مجبر مضطر، والحر مخير مدرك. الأسير يرى الموت ملاصقاً له ومعدته خاوية وأعصابه في انهيار، والحر تلسعه حرارة الرغبة حينما تلتصق به حسناء مثيرة تصطاده، ومعدته ممتلئة بأشهى أنواع الطعام والخمور.
كلها أمور لا تقارن مطلقاً... ويكفينا أن ننقل إحساسات أسير مسلوب الإرادة، في معسكر إسرائيلي، تصم أذنيه صرخات زملائه حينما تدور بهم عجلة التنكيل، ولا يدري متى يجيء دوره هو الآخر؟!
إنه في تلك الظروف أضعف من الضعف نفسه أمام حيوانية الآسر وشهوته في التعذيب والقتل.
ولست ممن عاشوا تلك التجربة المرة حتى أصفها بحق... لكن الخبراء العسكريين والعلماء أفاضوا في وصف كل تلك الأمور وصفاً دقيقاً، وإن كان هذا أمر نستنكره بالمرة.. ولا يدفعنا إلى العطف على الأسير الذي سقط في بؤرة الجاسوسية، بقدر ما يدفعنا إلى الإحساس بمعاناته الشديدة إزاء ما تعرض له، فاضطر مقهوراً إلى الاستسلام، طمعاً في رشفة ماء، أو كسرة خبز تُسكْن صراخ معدته وأمعائه.
وعبد الفتاح عوض بطل هذه القصة... ضابط صغير برتبة ملازم أول في القوات المسلحة المصرية، لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، أنهى دراسته الجامعية وحصل على مؤهله العلمي... يملؤه طموح قوي في أن يعيش ويعمل ويخدم وطنه... ويتزوج من حبيبته ياسمين ابنة عمه الجميلة التي ارتبط بها، وتأجل زفافهما حتى ينتهي من فترة تجنيده.
لقد حزنت ياسمين كثيراً وهو يسوق لها نبأ اختياره ضابطاً في الجيش ... فمعنى ذلك أن فترة خدمته العسكرية ستطول، وبالتالي سيتأخر زواجهما، لكن عبد الفتاح طمأنها عندما وعدها بسرعة الزفاف، حيث إن راتبه كبير كضابط بالجيش بالقياس براتب الوظيفة التي لم تجيء بعد.
انخرط في سلك الحياة العسكرية وتفوق كثيراً في تخصهه الدقيق ...وشهد له قادته بالانضباط والشجاعة.. لذلك فقد أُرسل مع القوات المسلحة إلى اليمن للقضاء على حكم الإقطاع هناك... المتمثل في الإمام البدر.. الذي قامت الثورة اليمنية عليه في 26 سبتمبر 1962.
لكن الدوائر الاستعمارية وبالرجعية كانت تخطط لعودة الإمام المخلوع بالقوة.. واستعادة عرشه المفقود. ورسمت خطة جهنمية متشعبة الأطراف، حشدت لها جيشاً ضارياً من المرتزقة.. مهمته القيام بهجمات جانبية على أجنحة مأرب جهة الشرق، وفي صعدة من الشمال، وفي المحابشة بداخل المنطقة الجبلية، بينما تندفع بقيادة البدر قوة هجومية ضخمة تشق قلب البلاد.
وعندما عدت إليها... أحسست بالغربة لأسابيع طويلة ... وكان في قرارة نفسي يقبع ذنب جبار يزمجر في عنف ويتعاظم .. ويلتصق بجدران شراييني هاجس مؤلم يلسعني كل لحظة .. يذكرني بأنني مجرم .. آثم... لا أستحق الحياة.. !!
الحطام الهش
استغلت المخابرات الإسرائيلية حالات الضعف الإنساني لأسرى حرب 1967 وساومتهم بشتى الطرق لأجل التعاون معها بعدما تتم مبادلتهم.
لقد أغرتهم بالمال وبأجمل النساء .. وعرضتهم للتجويع والتنكيل والإرهاب والحصار النفسي حتى القتل .. وذلك للتحكم بأعصابهم وتوريطهم للانغماس في تيار الخيانة والجاسوسية..
وفي الملفات وجدنا حالات عديدة... تبين كيف لجأت مخابرات العدو لوسائل شيطانية للضغط على الأسرى... كيف ذلك...؟ وبأية طرق كانت تقود بعضهم إلى مستنقع الجاسوسية... ؟!!
بداية ...تقول بعض المصادرا لعسكرية إن أسرى مصر لدى إسرائيل في حرب 1967 يقارب عددهم الخمسة آلاف أسير... سقطوا في قبضة القوات الاسرائيلية عند اجتياح سيناء ... وانسحاب الجيش المصري مهزوماً بدون نظام أو قيادة أو غطاء.
لقد كان ضرب المعابر على القناة وتدميرها... خشية عبور العدو إلى الضفة الغربية للقناة ... أحد أهم أسباب اقتياد الآلاف من أفراد قواتنا إلى معسكرات الأسر... وتعرضهم للقتل الجماعي والإبادة في مذابح بشعة لن يغفلها التاريخ.
فعندما يدرك الأسير أن ما بين الحياة والموت ضغطة زناد من يهودي دموي .. يتوقف تفكيره عند تلك اللحظة ، وتتسمر عيناه على ارتعاشة إصبع مختل وصيحات آمرة، وكلما دوت رصاصات تحصد أرواح ضعفاء يرسفون في قيود الأسر... اشتهت النفس الحياة وطلبتها بإلحاح عنيد.
لقد نشط خبراء المخابرات الإسرائيلية في تعذيب الأسرى وإرهابهم، والتمثيل بجثث زملائهم على مرأى منهم لقتل أي آمال لديهم في الحياة. وعند اختيارهم لبعض الجنود والضباط من الأسرى الذين أبدوا ذعرهم الشديد، عملوا على منحهم فرصة النجاة من الموت الرخيص ليسهل إخضاعهم والسيطرة عليهم، وكان لابد للمرشح أن يمر بعدة اختبارات نفسية قاسية... مثل إطلاق النيران بشكل فجائي على مجموعات من الأسرى ودون سابق إنذار، والتنكيل بأحدهم بوسائل تعذيب وحشية لإرهاب الآخرين، وفتح النيران من خلف الأسرى بعد فترة سكون .. فيصابون بالرعب والذعر من طلقات رصاص غير متوقعة.
اتبع العدو الصهيوني أيضاً طرقاً أخرى عديدة، تحطم ما لدى الأسرى من مقاومة، وتدفعهم إلى التفكير في منجي لهم من الهلاك.
ولكثرة وسائل انتهاك آدمية الأسرى، كثيراً ما عادوا إلى بلادهم وبعضهم تشوشت أفكارهم وأصبحوا لا يضبطون، وفقد قلة منهم الثقة في القيادة العسكرية والسياسية، ورسموا صورة مغايرة للواقع الملموس، محتاطون لمحاولات اقتلاع ما آمنوا به فترة الأسر، إذ إن العدو أصبح لديهم هو الأقوى والأمهر، ومجرد التفكير في معاداته ضرب من جنون.
هكذا عاد بعض الأسرى من إسرائيل في صفقات متبادلة وغير متكافئة العدد أو المعنويات. فهناك فروق شاسعة ما بين الأسرى في الحالتين.
وكان من بين الأسرى المصريين الذين عادوا .. الملازم أول الاحتياطي عبد الفتاح عبد العزيز عوض. أشهر جاسوس لإسرائيل تم تجنيده في أحد معسكرات أسرى 1967 في بئر سبع. عاد بعدما أجريت له عملية غسيل مخ، وتحول منضابط مصري يدافع عن أرضه وعرضه... إلى عين من عيون إسرائيل ترى وتتحرك بيننا في ثقة.
هذا التحول الخطير ليس بأمر هين، إذا ما أجرينا مقارنة عادلة بين أسير مكبل يرتجف رعباً وجوعاً... تحيطه مجموعة كبيرة من خبراء المخابرات تتفنن في تجنيده، وبين شاب آخر تتصارع لديه الرغبات والطموحات على موائد القمار في أوروبا، وقد يسعى هذا الأخير بنفسه إلى رجال الموساد عارضاً عليهم خدماته.
فرق كبير بين الأسير والحر. فالأسير مجبر مضطر، والحر مخير مدرك. الأسير يرى الموت ملاصقاً له ومعدته خاوية وأعصابه في انهيار، والحر تلسعه حرارة الرغبة حينما تلتصق به حسناء مثيرة تصطاده، ومعدته ممتلئة بأشهى أنواع الطعام والخمور.
كلها أمور لا تقارن مطلقاً... ويكفينا أن ننقل إحساسات أسير مسلوب الإرادة، في معسكر إسرائيلي، تصم أذنيه صرخات زملائه حينما تدور بهم عجلة التنكيل، ولا يدري متى يجيء دوره هو الآخر؟!
إنه في تلك الظروف أضعف من الضعف نفسه أمام حيوانية الآسر وشهوته في التعذيب والقتل.
ولست ممن عاشوا تلك التجربة المرة حتى أصفها بحق... لكن الخبراء العسكريين والعلماء أفاضوا في وصف كل تلك الأمور وصفاً دقيقاً، وإن كان هذا أمر نستنكره بالمرة.. ولا يدفعنا إلى العطف على الأسير الذي سقط في بؤرة الجاسوسية، بقدر ما يدفعنا إلى الإحساس بمعاناته الشديدة إزاء ما تعرض له، فاضطر مقهوراً إلى الاستسلام، طمعاً في رشفة ماء، أو كسرة خبز تُسكْن صراخ معدته وأمعائه.
وعبد الفتاح عوض بطل هذه القصة... ضابط صغير برتبة ملازم أول في القوات المسلحة المصرية، لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، أنهى دراسته الجامعية وحصل على مؤهله العلمي... يملؤه طموح قوي في أن يعيش ويعمل ويخدم وطنه... ويتزوج من حبيبته ياسمين ابنة عمه الجميلة التي ارتبط بها، وتأجل زفافهما حتى ينتهي من فترة تجنيده.
لقد حزنت ياسمين كثيراً وهو يسوق لها نبأ اختياره ضابطاً في الجيش ... فمعنى ذلك أن فترة خدمته العسكرية ستطول، وبالتالي سيتأخر زواجهما، لكن عبد الفتاح طمأنها عندما وعدها بسرعة الزفاف، حيث إن راتبه كبير كضابط بالجيش بالقياس براتب الوظيفة التي لم تجيء بعد.
انخرط في سلك الحياة العسكرية وتفوق كثيراً في تخصهه الدقيق ...وشهد له قادته بالانضباط والشجاعة.. لذلك فقد أُرسل مع القوات المسلحة إلى اليمن للقضاء على حكم الإقطاع هناك... المتمثل في الإمام البدر.. الذي قامت الثورة اليمنية عليه في 26 سبتمبر 1962.
لكن الدوائر الاستعمارية وبالرجعية كانت تخطط لعودة الإمام المخلوع بالقوة.. واستعادة عرشه المفقود. ورسمت خطة جهنمية متشعبة الأطراف، حشدت لها جيشاً ضارياً من المرتزقة.. مهمته القيام بهجمات جانبية على أجنحة مأرب جهة الشرق، وفي صعدة من الشمال، وفي المحابشة بداخل المنطقة الجبلية، بينما تندفع بقيادة البدر قوة هجومية ضخمة تشق قلب البلاد.
غير أن هذه الخطة لم تكن محكمة، إذ حوصرت مواقع الحشود الملكية ودمرت تماماً في معركة "حرض" التي أبدع فيها عبد الفتاح قتالاً وتخطيطاً، واستحق شهادات التقدير عن جدارة، فقد كان يعلم بحق أن معركة اليمن في أساسها لم يكن المقصود منها إسقاط عرض وانتهاء نظام، إنما إنهاء حطام هش من الأنظمة البالية التي خلفتها القرون الوسطى دام لأكثر من عشرة قرون في هذه المنطقة.