هل يحاسب الإنسان عما يدور فينفسه من الخير والشرسؤال:
أحيانا يبتلى الإنسان بالتفكير في معصية من المعاصي ، ومثل ذلك أمور وسوسه الشيطان والنفس بالسوء ، فهل يجازى المرء على ما يدور في نفسه ، ويكتب عليه ، سواء كان خيرا أم شرا ؟
الجواب:
الحمد لله
روى البخارى فى صحيحه (6491) ومسلم (131) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّىاللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ) .
وروى البخاري (5269) ومسلم (127) ـ أيضا ـ منحديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ ) .
قال ابن رجب رحمه الله :
" فتضمنت هذهالنصوص أربعة أنواع : كتابة الحسنات ، والسيئات ، والهم بالحسنة والسيئة ، فهذهأربعة أنواع .. " ، ثم قال :
" النوع الثالث : الهمُّ بالحسنات ، فتكتب حسنةكاملة ، وإنْ لم يعملها ، كما في حديث ابن عباس وغيره ، ... وفي حديث خُرَيْمِ بْنِفَاتِكٍ : " .. وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً .. " [ رواه أحمد 18556، قال الأرناؤوط : إسناده حسن ، وذكره الألباني في الصحيحة ] ،وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالهمِّ هنا : هو العزمُ المصمّم الذي يُوجَدُ معهالحرصُ على العمل ، لا مجرَّدُ الخَطْرَةِ التي تخطر ، ثم تنفسِخُ من غير عزمٍ ولاتصميم .
قال أبو الدرداء : من أتى فراشه، وهو ينوي أن يُصلِّي مِن اللَّيل ، فغلبته عيناه حتّى يصبحَ ، كتب له ما نوى ...
وروي عن سعيد بن المسيب ، قال : من همَّ بصلاةٍ، أو صيام ، أو حجٍّ ، أو عمرة ، أو غزو ، فحِيلَ بينه وبينَ ذلك ، بلَّغه اللهتعالى ما نوى .
وقال أبو عِمران الجونيُّ : يُنادى المَلَكُ : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقولُ : يا ربِّ ، إنَّه لم يعملْهُ ، فيقول : إنَّه نواه .
وقال زيدُ بن أسلم : كان رجلٌ يطوفُ علىالعلماء ، يقول : من يدلُّني على عملٍ لا أزال منه لله عاملاً ، فإنِّي لا أُحبُّأنْ تأتيَ عليَّ ساعةٌ مِنَ الليلِ والنَّهارِ إلاَّ وأنا عاملٌ لله تعالى ، فقيلله : قد وجدت حاجتَكَ ، فاعمل الخيرَ ما استطعتَ ، فإذا فترْتَ ، أو تركته فهمَّبعمله ، فإنَّ الهامَّ بعمل الخير كفاعله .
ومتى اقترن بالنيَّة قولٌ أو سعيٌ ، تأكَّدَالجزاءُ ، والتحقَ صاحبُه بالعامل ،
كما روى أبو كبشة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ : عبدٍ
رَزَقَهُ الله مالاً وعلماً ، فهو يتَّقي فيه ربَّه ، ويَصِلُ به رَحِمَه ، ويعلمُ لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ،
وعبدٍ رزقه الله علماً ، ولم يرزقه مالاً ، فهو صادِقُ النِّيَّة ، يقول : لو أنَّ لي مالاً ، لعمِلْتُ بعملِ فلانٍ ، فهو بنيتِه ، فأجرُهُما سواءٌ ،
وعبدٍ رزقه الله مالاً ، ولم يرزُقه علماً يَخبِطُ في ماله بغير علمٍ ، لا يتَّقي فيه ربّه ، ولا يَصِلُ فيه رحِمهُ ، ولا يعلمُ لله فيه حقاً ، فهذا بأخبثِ المنازل ،
وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً ، فهو يقول : لو أنَّ لي مالاً ، لعَمِلتُ فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته فوِزْرُهما سواءٌ )
خرَّجه الإمام أحمد والترمذى وهذالفظُهُ ، وابن ماجه [ صححه الألباني لغيره ] .
وقد حمل قوله : " فهما في الأجر سواءٌ " علىاستوائهما في أصلِ أجرِ العمل ، دون مضاعفته ، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَالعمل دونَ من نواه فلم يعمله ، فإنَّهما لو استويا مِنْ كلِّ وجه ، لكُتِبَ لمنهمَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشرُ حسناتٍ ، وهو خلافُ النُّصوصِ كلِّها ،
ويدلُّ على ذلك قوله تعالى : { فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ } ،
قال ابن عباس وغيره : القاعدون المفضَّلُ عليهمالمجاهدون درجة همُ القاعدون من أهلِ الأعذار ، والقاعدون المفضَّل عليهم المجاهدوندرجاتٍ هم القاعدون من غير أهل الأعذار " .
ثم قال رحمه الله :
" النوع الرابع : الهمُّ بالسَّيِّئات من غير عملٍ لها ، ففي حديث ابن عباس : أنَّها تُكتب حسنةًكاملةً ، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما أنَّها تُكتَبُ حسنةً ، وفي حديثأبي هريرة قال : ( إنَّما تركها مِن جرَّاي ) [ مسلم 129] ، يعني : من أجلي . وهذايدلُّ على أنَّ المرادَ مَنْ قَدَرَ على ما همَّ به مِنَ المعصية ، فتركه لله تعالى، وهذا لا رَيبَ في أنَّه يُكتَبُ له بذلك حسنة ؛ لأنَّ تركه للمعصية بهذا المقصدعملٌ صالحٌ .
فأمَّا إن همَّ بمعصية ، ثم تركعملها خوفاً من المخلوقين ، أو مراءاةً لهم ، فقد قيل : إنَّه يُعاقَبُ على تركهابهذه النيَّة ؛ لأنَّ تقديم خوفِ المخلوقين على خوف الله محرَّم . وكذلك قصدُالرِّياءِ للمخلوقين محرَّم ، فإذا اقترنَ به تركُ المعصية لأجله ، عُوقِبَ على هذاالترك ...
قال الفضيلُ بن عياض : كانوايقولون : تركُ العمل للناس رياءٌ ، والعمل لهم شرك .
وأمَّا إنْ سعى في حُصولها بما أمكنه ، ثم حالَبينه وبينها القدرُ ، فقد ذكر جماعةٌ أنَّه يُعاقَب عليها حينئذٍ لحديث : ( ما لمتكلَّمْ به أو تعمل ) ،
ومن سعى في حُصول المعصية جَهدَه ،ثمَّ عجز عنها ، فقد عَمِل بها ، وكذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتِلُ والمقتولُ في النَّار ) ، قالوا : يا رسولالله ، هذا القاتلُ ، فما بالُ المقتول ؟! قال : ( إنَّه كان حريصاً على قتل صاحبه ) [رواه البخاري 31 ومسلم 2888] .
وقوله : ( ما لم تكلَّم به ، أو تعمل ) يدلُّعلى أنَّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه إنَّه يُعاقَبُ علىالهمِّ حينئذٍ ؛ لأنَّه قد عَمِلَ بجوارحِه معصيةً ، وهو التَّكلُّمُ باللِّسان ،ويدلُّ على ذلك حديث [ أبي كبشة السابق ] الذي قال : ( لو أنَّ لي مالاً ، لعملتُفيه ما عَمِلَ فلان ) يعني : الذي يعصي الله في ماله ، قال : ( فهما في الوزر سواءٌ ) . "
ثم قال رحمه الله :
" وأمّا إن انفسختنِيَّتُه ، وفترَت عزيمتُه من غيرِ سببٍ منه ، فهل يُعاقبُ على ما همَّ به مِنَالمعصية ، أم لا ؟
هذا على قسمين :
أحدهما : أن يكون الهمُّ بالمعصية خاطراً خطرَ، ولم يُساكِنهُ صاحبه ، ولم يعقِدْ قلبَه عليه ، بل كرهه ، ونَفَر منه ، فهذامعفوٌّ عنه ، وهو كالوَساوس الرَّديئَةِ التي سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليهوسلم - عنها ، فقال : ( ذاك صريحُ الإيمان ) [ رواه مسلم 132 ] ...
ولمَّا نزل قولُه تعالى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } ، شقَّ ذلك على المسلمين ، وظنُّوا دُخولَ هذهالخواطر فيه ، فنَزلت الآية التي بعدها ، وفيها قوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [رواه مسلم 126] ، فبيَّنت أنَّ ما لاطاقةَ لهم به ، فهو غيرُ مؤاخذٍ به ، ولا مكلّف به .. ، وبيَّنت أنّ المرادَ بالآيةالأُولى العزائم المصمَّم عليها ...
القسم الثاني : العزائم المصممة التي تقع فيالنفوس ، وتدوم ، ويساكنُها صاحبُها ، فهذا أيضاً نوعان :
أحدهما : ما كان عملاً مستقلاً بنفسه من أعمالِالقلوب ، كالشَّكِّ في الوحدانية ، أو النبوَّة ، أو البعث ، أو غير ذلك مِنَ الكفروالنفاق ، أو اعتقاد تكذيب ذلك ، فهذا كلّه يُعاقَبُ عليه العبدُ ، ويصيرُ بذلككافراً ومنافقاً ...
ويلحق بهذا القسم سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلوب ،كمحبة ما يُبغضهُ الله ، وبغضِ ما يحبُّه الله ، والكبرِ ، والعُجبِ ...
والنوع الثاني : ما لم يكن مِنْ أعمال القلوب ،بل كان من أعمالِ الجوارحِ ، كالزِّنى ، والسَّرقة ، وشُرب الخمرِ ، والقتلِ ،والقذفِ ، ونحو ذلك ، إذا أصرَّ العبدُ على إرادة ذلك ، والعزم عليه ، ولم يَظهرْله أثرٌ في الخارج أصلاً . فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء :
أحدهما : يؤاخذ به ، " قال ابنُ المبارك : سألتُ سفيان الثوريَّ : أيؤاخذُ العبدُ بالهمَّةِ ؟ فقال : إذا كانت عزماً أُوخِذَ ". ورجَّح هذا القولَ كثيرٌ من الفُقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين من أصحابناوغيرهم ، واستدلوا له بنحو قوله - عز وجل - :
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } ، وقوله : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ،
وبنحو قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الإثمُ ما حاكَ في صدركَ ، وكرهتَ أنْ يطَّلع عليه النَّاسُ ) [ رواه مسلم 2553 ] ،
وحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تجاوزَ لأُمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفُسَها ، ما لم تكلَّم به أو تعمل ) علىالخَطَراتِ ، وقالوا : ما ساكنه العبدُ ، وعقد قلبه عليه ، فهو مِنْ كسبه وعملِه ،فلا يكونُ معفوّاً عنه ...
والقول الثاني : لا يُؤاخَذُ بمجرَّد النيةمطلقاً ، ونُسِبَ ذلك إلى نصِّ الشافعيِّ ، وهو قولُ ابن حامدٍ من أصحابنا عملاًبالعمومات . وروى العَوْفيُّ عن ابنِ عباس ما يدلُّ على مثل هذا القول ... " انتهى، من جامع العلوم والحكم : شرح الحديث السابع والثلاثين (2/343-353) باختصار، وتصرفيسير .
والخلاصة :
أن من هم بالحسنة والخير ، وعقد قلبه وعزمه علىذلك ، كتب له ما نواه ، ولو لم يعمله ، وإن كان أجر العامل أفضل منه وأعلى .
ومن هم بسيئة ، ثم تركها لله ، كتبت له حسنة كاملة .
ومن هم بسيئة ، وتركهالأجل الناس ، أو سعى إليها ، لكن حال القدر بينه وبينها ، كتبت عليه سيئة .
ومنهم بها ، ثم انفسخ عزمه ، بعد ما نواها ، فإن كانت مجرد خاطر بقلبه ، لم يؤاخذ به ،وإن كانت عملا من أعمال القلوب ، التي لا مدخل للجوارح بها ، فإنه يؤاخذ بها ، وإنكانت من أعمال الجوارح ، فأصر عليها ، وصمم نيته على مواقعتها ، فأكثر أهل العلمعلى أنه مؤاخذ بها .
قال النووي رحمه الله ـ بعد ما نقل القولبالمؤاخذه عن الباقلاني ـ :
" قال القاضي عياض رحمه الله عامة السلف وأهل العلممن الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر ، للأحاديث الدالة علىالمؤاخذة بأعمال القلوب .
لكنهم قالوا : إن هذا العزم يكتب سيئة ، وليستالسيئة التي هم بها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة ،لكن نفس الإصرار والعزم معصية ،
فتكتب معصية ؛ فإذا عملها كتبت معصية ثانية فانتركها خشية لله تعالى كتبت حسنة ، كما في الحديث إنما تركها من جراي فصار تركه لهالخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة،
فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطنالنفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم ) انتهى .
شرح مسلم (2/151) .
واختار ابن رجب رحمه الله أن المعصية " إنَّماتكتَبُ بمثلِها من غير مضاعفةٍ ، فتكونُ العقوبةُ على المعصيةِ ، ولا ينضمُّ إليهاالهمُّ بها ، إذ لو ضُمَّ إلى المعصية الهمُّ بها ، لعُوقبَ على عمل المعصيةعقوبتين ، ولا يقال : فهذا يلزم مثلُه في عمل الحسنة ، فإنه إذا عملها بعد الهمِّبها ، أُثيب على الحسنة دُونَ الهمِّ بها ، لأنَّا نقول : هذا ممنوع ، فإنَّ منعَمِلَ حسنة ، كُتِبَت له عشرَ أمثالِها ، فيجوزُ أن يكونَ بعضُ هذه الأمثال جزاءًللهمِّ بالحسنة ، والله أعلم " .
وأخيراً
إذاأعجبك الموضوعفلا تقل شكـراً
رحم الله من نقلها عني وجعلها بميزان حسناتكم
وقال اللهم اغفر لها ولوالديها ما تقدم من ذنبهم وما تأخر
وقِهم عذاب القبر وعذاب النار و أدخلهم الفردوس الأعلى
كما أرجو منكم ألا تنسونا من صالح دعائكم
أحيانا يبتلى الإنسان بالتفكير في معصية من المعاصي ، ومثل ذلك أمور وسوسه الشيطان والنفس بالسوء ، فهل يجازى المرء على ما يدور في نفسه ، ويكتب عليه ، سواء كان خيرا أم شرا ؟
الجواب:
الحمد لله
روى البخارى فى صحيحه (6491) ومسلم (131) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّىاللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ) .
وروى البخاري (5269) ومسلم (127) ـ أيضا ـ منحديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ ) .
قال ابن رجب رحمه الله :
" فتضمنت هذهالنصوص أربعة أنواع : كتابة الحسنات ، والسيئات ، والهم بالحسنة والسيئة ، فهذهأربعة أنواع .. " ، ثم قال :
" النوع الثالث : الهمُّ بالحسنات ، فتكتب حسنةكاملة ، وإنْ لم يعملها ، كما في حديث ابن عباس وغيره ، ... وفي حديث خُرَيْمِ بْنِفَاتِكٍ : " .. وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً .. " [ رواه أحمد 18556، قال الأرناؤوط : إسناده حسن ، وذكره الألباني في الصحيحة ] ،وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالهمِّ هنا : هو العزمُ المصمّم الذي يُوجَدُ معهالحرصُ على العمل ، لا مجرَّدُ الخَطْرَةِ التي تخطر ، ثم تنفسِخُ من غير عزمٍ ولاتصميم .
قال أبو الدرداء : من أتى فراشه، وهو ينوي أن يُصلِّي مِن اللَّيل ، فغلبته عيناه حتّى يصبحَ ، كتب له ما نوى ...
وروي عن سعيد بن المسيب ، قال : من همَّ بصلاةٍ، أو صيام ، أو حجٍّ ، أو عمرة ، أو غزو ، فحِيلَ بينه وبينَ ذلك ، بلَّغه اللهتعالى ما نوى .
وقال أبو عِمران الجونيُّ : يُنادى المَلَكُ : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقولُ : يا ربِّ ، إنَّه لم يعملْهُ ، فيقول : إنَّه نواه .
وقال زيدُ بن أسلم : كان رجلٌ يطوفُ علىالعلماء ، يقول : من يدلُّني على عملٍ لا أزال منه لله عاملاً ، فإنِّي لا أُحبُّأنْ تأتيَ عليَّ ساعةٌ مِنَ الليلِ والنَّهارِ إلاَّ وأنا عاملٌ لله تعالى ، فقيلله : قد وجدت حاجتَكَ ، فاعمل الخيرَ ما استطعتَ ، فإذا فترْتَ ، أو تركته فهمَّبعمله ، فإنَّ الهامَّ بعمل الخير كفاعله .
ومتى اقترن بالنيَّة قولٌ أو سعيٌ ، تأكَّدَالجزاءُ ، والتحقَ صاحبُه بالعامل ،
كما روى أبو كبشة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ : عبدٍ
رَزَقَهُ الله مالاً وعلماً ، فهو يتَّقي فيه ربَّه ، ويَصِلُ به رَحِمَه ، ويعلمُ لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ،
وعبدٍ رزقه الله علماً ، ولم يرزقه مالاً ، فهو صادِقُ النِّيَّة ، يقول : لو أنَّ لي مالاً ، لعمِلْتُ بعملِ فلانٍ ، فهو بنيتِه ، فأجرُهُما سواءٌ ،
وعبدٍ رزقه الله مالاً ، ولم يرزُقه علماً يَخبِطُ في ماله بغير علمٍ ، لا يتَّقي فيه ربّه ، ولا يَصِلُ فيه رحِمهُ ، ولا يعلمُ لله فيه حقاً ، فهذا بأخبثِ المنازل ،
وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً ، فهو يقول : لو أنَّ لي مالاً ، لعَمِلتُ فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته فوِزْرُهما سواءٌ )
خرَّجه الإمام أحمد والترمذى وهذالفظُهُ ، وابن ماجه [ صححه الألباني لغيره ] .
وقد حمل قوله : " فهما في الأجر سواءٌ " علىاستوائهما في أصلِ أجرِ العمل ، دون مضاعفته ، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَالعمل دونَ من نواه فلم يعمله ، فإنَّهما لو استويا مِنْ كلِّ وجه ، لكُتِبَ لمنهمَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشرُ حسناتٍ ، وهو خلافُ النُّصوصِ كلِّها ،
ويدلُّ على ذلك قوله تعالى : { فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ } ،
قال ابن عباس وغيره : القاعدون المفضَّلُ عليهمالمجاهدون درجة همُ القاعدون من أهلِ الأعذار ، والقاعدون المفضَّل عليهم المجاهدوندرجاتٍ هم القاعدون من غير أهل الأعذار " .
ثم قال رحمه الله :
" النوع الرابع : الهمُّ بالسَّيِّئات من غير عملٍ لها ، ففي حديث ابن عباس : أنَّها تُكتب حسنةًكاملةً ، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما أنَّها تُكتَبُ حسنةً ، وفي حديثأبي هريرة قال : ( إنَّما تركها مِن جرَّاي ) [ مسلم 129] ، يعني : من أجلي . وهذايدلُّ على أنَّ المرادَ مَنْ قَدَرَ على ما همَّ به مِنَ المعصية ، فتركه لله تعالى، وهذا لا رَيبَ في أنَّه يُكتَبُ له بذلك حسنة ؛ لأنَّ تركه للمعصية بهذا المقصدعملٌ صالحٌ .
فأمَّا إن همَّ بمعصية ، ثم تركعملها خوفاً من المخلوقين ، أو مراءاةً لهم ، فقد قيل : إنَّه يُعاقَبُ على تركهابهذه النيَّة ؛ لأنَّ تقديم خوفِ المخلوقين على خوف الله محرَّم . وكذلك قصدُالرِّياءِ للمخلوقين محرَّم ، فإذا اقترنَ به تركُ المعصية لأجله ، عُوقِبَ على هذاالترك ...
قال الفضيلُ بن عياض : كانوايقولون : تركُ العمل للناس رياءٌ ، والعمل لهم شرك .
وأمَّا إنْ سعى في حُصولها بما أمكنه ، ثم حالَبينه وبينها القدرُ ، فقد ذكر جماعةٌ أنَّه يُعاقَب عليها حينئذٍ لحديث : ( ما لمتكلَّمْ به أو تعمل ) ،
ومن سعى في حُصول المعصية جَهدَه ،ثمَّ عجز عنها ، فقد عَمِل بها ، وكذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتِلُ والمقتولُ في النَّار ) ، قالوا : يا رسولالله ، هذا القاتلُ ، فما بالُ المقتول ؟! قال : ( إنَّه كان حريصاً على قتل صاحبه ) [رواه البخاري 31 ومسلم 2888] .
وقوله : ( ما لم تكلَّم به ، أو تعمل ) يدلُّعلى أنَّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه إنَّه يُعاقَبُ علىالهمِّ حينئذٍ ؛ لأنَّه قد عَمِلَ بجوارحِه معصيةً ، وهو التَّكلُّمُ باللِّسان ،ويدلُّ على ذلك حديث [ أبي كبشة السابق ] الذي قال : ( لو أنَّ لي مالاً ، لعملتُفيه ما عَمِلَ فلان ) يعني : الذي يعصي الله في ماله ، قال : ( فهما في الوزر سواءٌ ) . "
ثم قال رحمه الله :
" وأمّا إن انفسختنِيَّتُه ، وفترَت عزيمتُه من غيرِ سببٍ منه ، فهل يُعاقبُ على ما همَّ به مِنَالمعصية ، أم لا ؟
هذا على قسمين :
أحدهما : أن يكون الهمُّ بالمعصية خاطراً خطرَ، ولم يُساكِنهُ صاحبه ، ولم يعقِدْ قلبَه عليه ، بل كرهه ، ونَفَر منه ، فهذامعفوٌّ عنه ، وهو كالوَساوس الرَّديئَةِ التي سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليهوسلم - عنها ، فقال : ( ذاك صريحُ الإيمان ) [ رواه مسلم 132 ] ...
ولمَّا نزل قولُه تعالى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } ، شقَّ ذلك على المسلمين ، وظنُّوا دُخولَ هذهالخواطر فيه ، فنَزلت الآية التي بعدها ، وفيها قوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [رواه مسلم 126] ، فبيَّنت أنَّ ما لاطاقةَ لهم به ، فهو غيرُ مؤاخذٍ به ، ولا مكلّف به .. ، وبيَّنت أنّ المرادَ بالآيةالأُولى العزائم المصمَّم عليها ...
القسم الثاني : العزائم المصممة التي تقع فيالنفوس ، وتدوم ، ويساكنُها صاحبُها ، فهذا أيضاً نوعان :
أحدهما : ما كان عملاً مستقلاً بنفسه من أعمالِالقلوب ، كالشَّكِّ في الوحدانية ، أو النبوَّة ، أو البعث ، أو غير ذلك مِنَ الكفروالنفاق ، أو اعتقاد تكذيب ذلك ، فهذا كلّه يُعاقَبُ عليه العبدُ ، ويصيرُ بذلككافراً ومنافقاً ...
ويلحق بهذا القسم سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلوب ،كمحبة ما يُبغضهُ الله ، وبغضِ ما يحبُّه الله ، والكبرِ ، والعُجبِ ...
والنوع الثاني : ما لم يكن مِنْ أعمال القلوب ،بل كان من أعمالِ الجوارحِ ، كالزِّنى ، والسَّرقة ، وشُرب الخمرِ ، والقتلِ ،والقذفِ ، ونحو ذلك ، إذا أصرَّ العبدُ على إرادة ذلك ، والعزم عليه ، ولم يَظهرْله أثرٌ في الخارج أصلاً . فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء :
أحدهما : يؤاخذ به ، " قال ابنُ المبارك : سألتُ سفيان الثوريَّ : أيؤاخذُ العبدُ بالهمَّةِ ؟ فقال : إذا كانت عزماً أُوخِذَ ". ورجَّح هذا القولَ كثيرٌ من الفُقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين من أصحابناوغيرهم ، واستدلوا له بنحو قوله - عز وجل - :
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } ، وقوله : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ،
وبنحو قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الإثمُ ما حاكَ في صدركَ ، وكرهتَ أنْ يطَّلع عليه النَّاسُ ) [ رواه مسلم 2553 ] ،
وحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تجاوزَ لأُمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفُسَها ، ما لم تكلَّم به أو تعمل ) علىالخَطَراتِ ، وقالوا : ما ساكنه العبدُ ، وعقد قلبه عليه ، فهو مِنْ كسبه وعملِه ،فلا يكونُ معفوّاً عنه ...
والقول الثاني : لا يُؤاخَذُ بمجرَّد النيةمطلقاً ، ونُسِبَ ذلك إلى نصِّ الشافعيِّ ، وهو قولُ ابن حامدٍ من أصحابنا عملاًبالعمومات . وروى العَوْفيُّ عن ابنِ عباس ما يدلُّ على مثل هذا القول ... " انتهى، من جامع العلوم والحكم : شرح الحديث السابع والثلاثين (2/343-353) باختصار، وتصرفيسير .
والخلاصة :
أن من هم بالحسنة والخير ، وعقد قلبه وعزمه علىذلك ، كتب له ما نواه ، ولو لم يعمله ، وإن كان أجر العامل أفضل منه وأعلى .
ومن هم بسيئة ، ثم تركها لله ، كتبت له حسنة كاملة .
ومن هم بسيئة ، وتركهالأجل الناس ، أو سعى إليها ، لكن حال القدر بينه وبينها ، كتبت عليه سيئة .
ومنهم بها ، ثم انفسخ عزمه ، بعد ما نواها ، فإن كانت مجرد خاطر بقلبه ، لم يؤاخذ به ،وإن كانت عملا من أعمال القلوب ، التي لا مدخل للجوارح بها ، فإنه يؤاخذ بها ، وإنكانت من أعمال الجوارح ، فأصر عليها ، وصمم نيته على مواقعتها ، فأكثر أهل العلمعلى أنه مؤاخذ بها .
قال النووي رحمه الله ـ بعد ما نقل القولبالمؤاخذه عن الباقلاني ـ :
" قال القاضي عياض رحمه الله عامة السلف وأهل العلممن الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر ، للأحاديث الدالة علىالمؤاخذة بأعمال القلوب .
لكنهم قالوا : إن هذا العزم يكتب سيئة ، وليستالسيئة التي هم بها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة ،لكن نفس الإصرار والعزم معصية ،
فتكتب معصية ؛ فإذا عملها كتبت معصية ثانية فانتركها خشية لله تعالى كتبت حسنة ، كما في الحديث إنما تركها من جراي فصار تركه لهالخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة،
فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطنالنفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم ) انتهى .
شرح مسلم (2/151) .
واختار ابن رجب رحمه الله أن المعصية " إنَّماتكتَبُ بمثلِها من غير مضاعفةٍ ، فتكونُ العقوبةُ على المعصيةِ ، ولا ينضمُّ إليهاالهمُّ بها ، إذ لو ضُمَّ إلى المعصية الهمُّ بها ، لعُوقبَ على عمل المعصيةعقوبتين ، ولا يقال : فهذا يلزم مثلُه في عمل الحسنة ، فإنه إذا عملها بعد الهمِّبها ، أُثيب على الحسنة دُونَ الهمِّ بها ، لأنَّا نقول : هذا ممنوع ، فإنَّ منعَمِلَ حسنة ، كُتِبَت له عشرَ أمثالِها ، فيجوزُ أن يكونَ بعضُ هذه الأمثال جزاءًللهمِّ بالحسنة ، والله أعلم " .
وأخيراً
إذاأعجبك الموضوعفلا تقل شكـراً
رحم الله من نقلها عني وجعلها بميزان حسناتكم
وقال اللهم اغفر لها ولوالديها ما تقدم من ذنبهم وما تأخر
وقِهم عذاب القبر وعذاب النار و أدخلهم الفردوس الأعلى
كما أرجو منكم ألا تنسونا من صالح دعائكم
تعليق