محاضرة ( ابن القيم العالم الرباني ) للشيخ محمد المنجد
عناصر الموضوع :
1. نبذة مختصرة عن سيرة ابن القيم الشخصية
2. ابن القيم وشيخه ابن تيمية
3. طريقة ابن القيم في التفقه
4. مع مؤلفات ابن القيم
5. دقة استنباطات ابن القيم وأمثلة عليها
6. فقه الواقع عند ابن القيم
7. موقف ابن القيم من أهل البدع
8. مقتطفات متفرقة من حياة ابن القيم
9. وفاة ابن القيم رحمه الله
عناصر الموضوع :
1. نبذة مختصرة عن سيرة ابن القيم الشخصية
2. ابن القيم وشيخه ابن تيمية
3. طريقة ابن القيم في التفقه
4. مع مؤلفات ابن القيم
5. دقة استنباطات ابن القيم وأمثلة عليها
6. فقه الواقع عند ابن القيم
7. موقف ابن القيم من أهل البدع
8. مقتطفات متفرقة من حياة ابن القيم
9. وفاة ابن القيم رحمه الله
ابن القيم العالم الرباني:
علماء الأمة هم وجهها الذي به تقابل الأجنبي، وهم المنارة التي تعتز بها على الخارجي، وقد هيأ الله لهذه الأمة علماء حفظ بهم الدين، وأحيا بهم سنة سيد المرسلين، فكان الحديث عنهم جزءاً من العلم، والعلم بأحوالهم حافزاً إلى الطلب، ومن هؤلاء العلماء العلامة ابن القيم، فتمتع بالحديث عنه وعن علمه وسيرته، كما تتمتع بالقراءة في كتبه العذبة ..
علماء الأمة هم وجهها الذي به تقابل الأجنبي، وهم المنارة التي تعتز بها على الخارجي، وقد هيأ الله لهذه الأمة علماء حفظ بهم الدين، وأحيا بهم سنة سيد المرسلين، فكان الحديث عنهم جزءاً من العلم، والعلم بأحوالهم حافزاً إلى الطلب، ومن هؤلاء العلماء العلامة ابن القيم، فتمتع بالحديث عنه وعن علمه وسيرته، كما تتمتع بالقراءة في كتبه العذبة ..
نبذة مختصرة عن سيرة ابن القيم الشخصية:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
في هذه الليلة سنتكلم عن ابن القيم -رحمه الله تعالى- علمٌ من أعلام المسلمين الذي كان له فضلٌ عظيمٌ في نصرة هذا الدين، وفي نشر سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم،
وهو الذي تكلم وناظر وألف في تبيانه للإسلام، حتى غدت مؤلفاته منابع خير يتلقى منها من بعده، فأصبح الناس عالةً على كتبه، وهذا الرجل مغموط الحق عند الكثيرين، مجهول الحال عند أغلب المسلمين، ولعلنا في هذه النبذة التي نقدمها عن حياته ومنهجه وأسلوبه نكون قد قمنا بشيء بسيط من الواجب نحو هذا العلم الضخم من أعلام المسلمين. أما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فكنيته أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزرعي الدمشقي المشتهر بـابن قيم الجوزية رحمه الله. ولد في السابع من شهر صفر من سنة 691هـ، وذكر بعضهم أن ولادته كانت بـدمشق ، وكان والده -رحمه الله- ناظراً ومشرفاً على مدرسة الجوزية التي أنشأها وأوقفها -رحمه الله تعالى- ولأن أباه كان مشرفاً على هذه المدرسة، فكان المشرف يسمى قيماً، فاشتهر ابنه بـابن القيم -رحمه الله-؛
ولذلك يقال على سبيل الاختصار: ابن القيم ، وإلا فإن اسمه، محمد ، وكنيته أبو عبد الله ، ولقبه شمس الدين ، ويخطئ من يقول: ابن القيم الجوزية، وإنما الصحيح ابن قيم الجوزية، أو اختصاراً ابن القيم ،
وخلط كثيرون بينه وبين ابن الجوزي، وترتب على هذا الخلط إشكالات، منها: أن نسبت كتبٌ لـابن القيم هو منها بريء، مثل: كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه وهو كتابٌ منحرفٌ في العقيدة، وكذلك كتاب أخبار النساء لـابن الجوزي ، وكان أبوه -رحمه الله- وأخوه وابن أخيه من المشتهرين بالعلم والفضل. نشأ -رحمه الله- في جوٍ علمي، وله من الأولاد عبد الله الذي ولد سنة 723هـ، وكانت وفاته سنة 756هـ، وكان ولداً مفرطاً في الذكاء، فقد حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة 731هـ، وأثنى عليه أهل العلم بأمورٍ كثيرة منها: غيرته في أمر الله، وذكر ابن كثير -رحمه الله- أن هذا الولد قد أبطل بدعة الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، حيث كانت توقد نيران في ليلة النصف من شعبان وهي بدعة، أبطلها ولد ابن القيم -رحمه الله- وله ولدٌ آخر اسمه إبراهيم كان علامةً نحوياً فقيهاً شرح الألفية .
حياة ابن القيم العلمية والعملية:
برع ابن القيم-رحمه الله- في علوم كثيرة لا تكاد تحصى، وهي سائر علوم الشريعة، مثل: التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والفرائض، واللغة، والنحو، وكان من المتفننين، وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكان عارفاً في التفسير لا يجارى، وسمع الحديث، واشتغل بالعلم، وقال عنه الذهبي -رحمه الله-: "عني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره". وقال ابن ناصر الدين -رحمه الله-: "كان ذا فنون في العلوم". وقال ابن حجر : كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف.
وقد رحل رحلات لكنها ليست بالكثيرة، فمثلاً رحل إلى مصر ، فقال في بعض كتبه: وقد جرت لي مناظرة بـمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، والسبب الذي لم يشتهر من أجله ابن القيم في الرحلة أنه قد نشأ بمدينة دمشق ، وكانت عامرةً بالعلماء، وبالمكتبات، وبالمدارس، وأتى إليها طلبة العلم والعلماء من كل حدب وصوب؛ فلم يعد هناك داعٍ كبيرٍ للرحلة، وخيركم من يأتيه رزقه عند عتبة بابه.
أسفار ابن القيم وتأليفه للكتب فيها:
وقد حج -رحمه الله- حجات كثيرة، وجاور في بيت الله الحرام، وقال عنه تلميذه ابن رجب : "حج مرات كثيرة، وجاور بـمكة ، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه.. وقد ذكر رحمه الله في بعض كتبه أشياء مما حصلت له في مكة ، فقال في قصة تأليف كتابه مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة قال في مقدمته: "وكان هذا من بعض النزل والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته،
وإلقاء نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته، وحوله بكرة وأصيلاً" فكان هذا الكتاب قد ألفه في مكة -رحمه الله تعالى. وقال عن استشفائه بماء زمزم: "لقد أصابني أيام مقامي بـمكة أسقامٌ مختلفة، ولا طبيب، ولا أدوية- كما في غيرها من المدن- فكنت أستشفي بالعسل، وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً".
وقال في مدارج السالكين عندما تكلم عن موضوع الرقى: لقد جربت في ذلك من نفسي وغيري أموراً عجيبةً، ولا سيما في المقام بـمكة ، فإنه كان يعرض لي آلاماً مزعجةً؛ بحيث تكاد تنقطع مني الحركة، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم،
فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدةً، وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم، فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه، فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب الإيمان وصحة اليقين، والله أعلم. وهذا السفر مع بعده عن الأولاد والوطن، لم يكن يشغله
عن طلب العلم والتأليف والنظر، فهو وإن سافر فإنه لا يحمل من الزاد إلا أمراً يسيراً، وكانت مكتبته في صدره رحمه الله، ومن العجيب أنه قد ألف كتباً حال سفره منها: مفتاح دار السعادة ، و روضة المحبين ، و زاد المعاد ، و بدائع الفوائد ، و تهذيب سنن أبي داود ألفها في حال السفر، وليس في حال الإقامة، وكان -رحمه الله- مغرماً بجمع الكتب، فإنك تجد -مثلاً- في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية قد رجع إلى أكثر من مائة كتاب، وفي أحكام أهل الذمة ذكر نحو ثلاثين كتاباً، وكذا في كتابه الروح ، وهذا يعني أنه كان عنده مراجع كثيرة،
وكان يهتم بكتبه، وقد حصل عنده من الغرام بتحصيل الكتب أمراً عظيماً؛ حتى أنه جمع منها ما لم يجمع غيره، وحصل منها ما لم يحصل لغيره؛ حتى كان بعض أولاده من الذين أتوا من بعده يبيعون منها
بعد موته دهراً طويلاً غير ما أبقوه لأنفسهم للإفادة منه، وكذلك كان ابن أخيه قد صار عنده شيئاً من مكتبته، وكان لا يبخل بإعارتها.
أعمال ابن القيم رحمه الله:
تولى ابن القيم -رحمه الله- أعمالاً عديدةً، منها:
الإمامة في المدرسة الجوزية، والتدريس في المدرسة الصدرية، والفتوى، والتأليف. وقد تعرض -رحمه الله- للسجن بسبب فتاوي رأى أن الحق فيها، مثل: مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد، ومثل: إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل؛ حيث يقول ابن رجب -رحمه الله-: وقد حبس مدة لإنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل؛
مع أن شد الرحال إلى قبر الخليل من البدع المحدثة، ولا يشرع شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وكل شد رحل لزيارة مكان عبادة، أو قبر من القبور، أو مسجد من المساجد، فإنه بدعةٌ من البدع، فما بالك بما يحدث اليوم من بعض الناس بزيارة أماكن المغضوب عليهم في رحلات سياحية،
مثل: مدائن صالح التي أهلك الله قومها ومن كان فيها،
والنبي عليه الصلاة والسلام لما مرَّ بها مرَّ مطأطئ الرأس، حزيناً، مسرعاً، خائفاً من عذاب الله،
واليوم يشدون الرحلات السياحية إلى تلك الأماكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أخلاق ابن القيم وتواضعه:
وأما عن أخلاق ابن القيم -رحمه الله- فقال ابن كثير :
كان حسن القراءة والخلق، كثير التوجه، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه، وأموره، وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة؛ ولهذا الطبع المتأصل في نفسه تجده يقول -مثلاً- في بعض كتبه: من أساء إليك، ثم جاء يعتذر عن إساءته،
فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله عز وجل- كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين. وأما عن تواضعه، فإنه كان أمراً عجيباً،
وقد ذكر العلامة الصفدي -رحمه الله تعالى- ميميته الرقيقة التي يتحدث فيها ابن القيم عن هضمه لنفسه،
ويفي بتواضعه من خلال أبيات تلك القصيدة، فيقول:
بُني أبي بكرٍ كثـيرٌ ذنوبـه فليس على من نال من عرضه إثمُ
بُني أبي بكرٍ جهولٌ بنفـسه جهولٌ بأمر الله أنَّـى لـه العـلمُ
بُني أبي بكرٍ غدا متصـدراً يعلم علماً وهو ليـس لـه عـلمُ
بُني أبي بكرٍ غـدا متمنـياً وصال المعالي والذنوب لـه هـمَّ
بُني أبي بكرٍ يروم مترقـياً إذا جنت المأوى وليس لـه عـزمُ
بُني أبي بكرٍ لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سـهمُ
عبادة ابن القيم وزهده:
وأما عن عبادته وزهده، فإن من يقرأ مؤلفاته -رحمه الله- يخرج بدلالة واضحة، وهو:
أنه كان عنده من عمارة القلب باليقين، والافتقار إلى الله عز وجل، والعبودية أمراً عظيماً، وتجد في ثنايا كلامه من إنابته إلى ربه، والحاجة إليه عز وجل ثروةً طائلةً،
فكان من العلماء العاملين الذين كانوا من أهل الله وخاصته. قال ابن رجب رحمه الله: وكان -رحمه الله- ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية الوسطى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك،
ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، ولقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة في القلعة منفرداً عنه،
لم يفرج عنه إلا بعد موت شيخه ابن تيمية -رحمه الله-، وكان في مدة حبسه منشغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكير، ففتح الله عليه من ذلك خيراً كثيراً. وحج مرات وجاور بـمكة ،
وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه. وقال تلميذه ابن كثير: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقةً في الصلاة يطيلها جداً،
ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع، ولا ينزع عن ذلك رحمه الله تعالى. وقال ابن حجر : كان إذا صلى الصبح، جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، وكان يقول:
هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي، وكان يقول:
بالصبر والفقه تنال الإمامة بالدين.
ابن القيم وشيخه ابن تيمية:
لقد حدثت حادثة في حياته -رحمه الله تعالى- كان لها أثراً عظيماً، وهي:
التقاؤه بشيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- لقيه في سنة 712هـ، وهي السنة التي عاد فيها الشيخ ابن تيمية من مصر إلى دمشق ،
ولازمه حتى مات ابن تيمية رحمه الله سنة 728هـ، وهذا يعني أنه لازمه ستة عشر عاماً.
ابن القيم قبل لقائه بابن تيمية:
ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه كان في مبدأ أمره مفتوناً بعقيدة الأشاعرة في الصفات،
وبكلام بعض النفاة، وكان له سقطات، فلما خالط شيخ الإسلام ، اهتدى على يديه،
ولذلك يقول ابن القيم في نونيته :
يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفقٍ وأخٍ لـكم معـوانِ
جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيـرانِ
حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولـساني
فتىً أتى من أرض حـران فيا أهلاً بمن قد جاء من حرانِ
من الذي جاء من حران ؟ ابن تيمية -رحمه الله- لأن ابن تيمية حراني.
فالله يجزيه الذي هو أهـله من جنة المأوى مـع الرضـوان
أخذت يداه يدي وسار فلـم يرم حتى أراني مطلـع الإيـمانِ
ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهـدى وعسـاكر القـرآنِ
ورأيت آثاراً عظيمـاً شأنها محجوبةً عـن زمـرة العمـيانِ
ووردت كأس الماء أبيـض صافياً حصباؤه كلآلـئ التيجـانِِ
ورأيت أكواباً هناك كثيـرةً مـثل النجـوم لـواردٍ ظــمآن
ورأيت حول الكوثر الصافي الذي لا زال يشخب فيه من زابانِ
نحن نعلم أن نهر الكوثر الذي في الجنة يصب في الحوض عبر ميزابين،
فيستشهد ابن القيم رحمه الله تعالى بهذا الحديث يأخذ منه تعبيراً لكي يقول للناس:
إن ابن تيمية أخذ بيدي حتى أوردني الحوض الصافي الذي يشخب فيها ميزابان الكتاب والسنة.
ميزان سنته وقول إلهه وهما مدى الأيام لا ينيانِ
والناس لا يردونه من الآلاف أفرادٌ ذوو إيمانِ
إلا من أنعم الله عليه، وإلا فإن كثيراً من الناس قد تخبطوا وضلوا، وأرادوا الحق فلم يصلوا إليه.
اعتناء ابن تيمية بتلميذه ابن القيم:
لقد اعتنى ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بتلميذه اعتناءً كثيراً، وكان يخصه بمزيد من التعليم والتنبه لأحواله والتربية العميقة. ويقول ابن القيم رحمه الله: قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه،
وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، آتي بشبهة، وأقول: أريد الجواب عليها، ثم آتي بشبهة، وأقول: أريد الجواب عليها، فقال له نصيحة: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة،
فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها،
فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليك، صار مقاماً للشبهات. قال ابن القيم : "فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بهذه".
وقال في مدارج السالكين : "قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مرةً:
العوارض والمحن هي كالعوارض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها -لا بد من الابتلاء، ولا بد من المحنة- لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن، وإنما يعلم أن هذا ابتلاء من الله يريد الله به أن يزيد له في حسناته، ويكفر به عنه من سيئاته، ويرفع له في درجاته، فيحمد الله على المحنة".
ويرشد ابن تيمية -رحمه الله- تلميذة إلى ترك التوسع في المباحات، يقول ابن القيم : قال لي يوماً شيخ الإسلام في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة -أي:
أن التوسع في المباحات جائز، لكن تركها أولى؛ لأنها تصرف العبد عن الانشغال بما هو أهم وأفضل-
وقد وفى ابن القيم -رحمه الله- لشيخه وفاءً عظيماً، فإنه قد ظل يشاركه في أعماله وأحواله حتى آخر لحظة من حياته؛ حتى أنه امتحن وأوذي بسبب شيخ الإسلام ، ودخل معه السجن، وجعل في زنزانة منفردة عن شيخ الإسلام ، أفرد ابن القيم حتى مات شيخه رحمه الله تعالى.
طريقة ابن القيم في التفقه:
وأما مذهب ابن القيم -رحمه الله- فإن كثيراً من أهل العلم ينسبونه إلى المذهب الحنبلي، ولكنك إذا دققت في أقواله وفتاويه، وجدت أنه -رحمه الله- يسير على طريقة السلف في اتباع الأدلة، فيدور مع الدليل حيثما دار؛ سواءً كان الدليل في مذهب أحمد ، أو في مذهب الشافعي ، أو في غيرها، وكان عنده منهجٌ عظيمٌ- ينبغي لكل طلبة العلم أن يقتدوا به- حيث كان يبحث عن الدليل وينشده مع احترام الأئمة، فلا هو بالذي يقول: هم رجال ونحن رجال؛ بل كان يبحث عن الدليل وينشد الدليل مع احترام الأئمة، فأينما وجد الدليل ذهب إليه كان القائل به من كان، فكانت قاعدته مناشدة الدليل مع احترام الأئمة،
وكثيراً ما كان يفتي بخلاف المذهب. ومن اللطائف التي حكاها -رحمه الله- عن شيخه،
شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان يدرس في مدرسة لرواد الفقه الحنبلي، وكانت المدارس في ذلك الوقت توقف عليها أوقافاً حتى يصير منها صرف على المدرسة، وطلبة المدرسة، ورواتب للمدرسين، وثمن الكتب والمعيشة.. وهكذا، فقال بعضهم لـشيخ الإسلام ابن تيمية مرةً- وكان شيخ الإسلاممجتهداً يدور مع الدليل
ولا يتعصب لمذهب- قالوا له: أنت تأخذ من وقف هذه المدرسة وواقفها
شرط أنها للحنابلة، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي
بمذهب أحمد لا على تقليدي لهم، وأنا عالم بمذهب أحمد عارف به وبأصوله.
محاربة ابن القيم للتعصب والتقليد الأعمى:
لقد استخدم ابن القيم -رحمه الله- أسلوبه الجميل في محاربة التقليد الأعمى،
فيقول في فتنة التعصب والتقليد التي ذبحت كثيراً من المسلمين حتى صار بينهم اقتتال، وتفرقوا في المسجد الواحد، فصار لهم في بعض الأحوال والأوقات الماضية أربعة محاريب يصلي كل أصحاب مذهب في محرابه منفصلين،
وكان بعضهم لا يزوج أفراداً من المذهب الآخر،
وهذا كله نتيجة التعصب الذي ذمه الله ورسوله؛ ولذلك تجد المجددين من أهل العلم ينهون عن التعصب ويحذرون منه، يقول ابن القيم رحمه الله: تالله إنها فتنة عمت فأعمت،
ورمت القلوب فأصمت، ربا عليها الصغير، وهرم فيها الكبير، واتخذ لأجلها القرآن مهجوراً، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطوراً، ولما عمت البلية، وعظمت به الرزية، بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها- أكثر الناس لا يعرفون إلا التعصب، ولا يعدون العلم إلا التعصب- فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون،
ومؤثره على سواه عندهم مغبون، نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم: إنَّا نخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد.
ولذلك كان ابن القيم يدعو في كتبه دائماً إلى اتباع الدليل، وكان يقول للناس: إذا رأيتم عَلَمَ السنة فاذهبوا إليه. ويقول في جواب على سؤال نفاة القياس، وهو متحمس لإظهار السنة ومتابعة الدليل:
الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله،
وآن لحزب الله ألا تأخذهم في الله لومة لائم، وألا يتحيزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا الله ورسوله بكل قول حق قاله من قاله، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم- يقبلون قول الفريق الذي يتعصبون له-
وينبذون كتاب الله وسنة نبيه.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
في هذه الليلة سنتكلم عن ابن القيم -رحمه الله تعالى- علمٌ من أعلام المسلمين الذي كان له فضلٌ عظيمٌ في نصرة هذا الدين، وفي نشر سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم،
وهو الذي تكلم وناظر وألف في تبيانه للإسلام، حتى غدت مؤلفاته منابع خير يتلقى منها من بعده، فأصبح الناس عالةً على كتبه، وهذا الرجل مغموط الحق عند الكثيرين، مجهول الحال عند أغلب المسلمين، ولعلنا في هذه النبذة التي نقدمها عن حياته ومنهجه وأسلوبه نكون قد قمنا بشيء بسيط من الواجب نحو هذا العلم الضخم من أعلام المسلمين. أما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فكنيته أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزرعي الدمشقي المشتهر بـابن قيم الجوزية رحمه الله. ولد في السابع من شهر صفر من سنة 691هـ، وذكر بعضهم أن ولادته كانت بـدمشق ، وكان والده -رحمه الله- ناظراً ومشرفاً على مدرسة الجوزية التي أنشأها وأوقفها -رحمه الله تعالى- ولأن أباه كان مشرفاً على هذه المدرسة، فكان المشرف يسمى قيماً، فاشتهر ابنه بـابن القيم -رحمه الله-؛
ولذلك يقال على سبيل الاختصار: ابن القيم ، وإلا فإن اسمه، محمد ، وكنيته أبو عبد الله ، ولقبه شمس الدين ، ويخطئ من يقول: ابن القيم الجوزية، وإنما الصحيح ابن قيم الجوزية، أو اختصاراً ابن القيم ،
وخلط كثيرون بينه وبين ابن الجوزي، وترتب على هذا الخلط إشكالات، منها: أن نسبت كتبٌ لـابن القيم هو منها بريء، مثل: كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه وهو كتابٌ منحرفٌ في العقيدة، وكذلك كتاب أخبار النساء لـابن الجوزي ، وكان أبوه -رحمه الله- وأخوه وابن أخيه من المشتهرين بالعلم والفضل. نشأ -رحمه الله- في جوٍ علمي، وله من الأولاد عبد الله الذي ولد سنة 723هـ، وكانت وفاته سنة 756هـ، وكان ولداً مفرطاً في الذكاء، فقد حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة 731هـ، وأثنى عليه أهل العلم بأمورٍ كثيرة منها: غيرته في أمر الله، وذكر ابن كثير -رحمه الله- أن هذا الولد قد أبطل بدعة الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، حيث كانت توقد نيران في ليلة النصف من شعبان وهي بدعة، أبطلها ولد ابن القيم -رحمه الله- وله ولدٌ آخر اسمه إبراهيم كان علامةً نحوياً فقيهاً شرح الألفية .
حياة ابن القيم العلمية والعملية:
برع ابن القيم-رحمه الله- في علوم كثيرة لا تكاد تحصى، وهي سائر علوم الشريعة، مثل: التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والفرائض، واللغة، والنحو، وكان من المتفننين، وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكان عارفاً في التفسير لا يجارى، وسمع الحديث، واشتغل بالعلم، وقال عنه الذهبي -رحمه الله-: "عني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره". وقال ابن ناصر الدين -رحمه الله-: "كان ذا فنون في العلوم". وقال ابن حجر : كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف.
وقد رحل رحلات لكنها ليست بالكثيرة، فمثلاً رحل إلى مصر ، فقال في بعض كتبه: وقد جرت لي مناظرة بـمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، والسبب الذي لم يشتهر من أجله ابن القيم في الرحلة أنه قد نشأ بمدينة دمشق ، وكانت عامرةً بالعلماء، وبالمكتبات، وبالمدارس، وأتى إليها طلبة العلم والعلماء من كل حدب وصوب؛ فلم يعد هناك داعٍ كبيرٍ للرحلة، وخيركم من يأتيه رزقه عند عتبة بابه.
أسفار ابن القيم وتأليفه للكتب فيها:
وقد حج -رحمه الله- حجات كثيرة، وجاور في بيت الله الحرام، وقال عنه تلميذه ابن رجب : "حج مرات كثيرة، وجاور بـمكة ، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه.. وقد ذكر رحمه الله في بعض كتبه أشياء مما حصلت له في مكة ، فقال في قصة تأليف كتابه مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة قال في مقدمته: "وكان هذا من بعض النزل والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته،
وإلقاء نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته، وحوله بكرة وأصيلاً" فكان هذا الكتاب قد ألفه في مكة -رحمه الله تعالى. وقال عن استشفائه بماء زمزم: "لقد أصابني أيام مقامي بـمكة أسقامٌ مختلفة، ولا طبيب، ولا أدوية- كما في غيرها من المدن- فكنت أستشفي بالعسل، وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً".
وقال في مدارج السالكين عندما تكلم عن موضوع الرقى: لقد جربت في ذلك من نفسي وغيري أموراً عجيبةً، ولا سيما في المقام بـمكة ، فإنه كان يعرض لي آلاماً مزعجةً؛ بحيث تكاد تنقطع مني الحركة، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم،
فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدةً، وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم، فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه، فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب الإيمان وصحة اليقين، والله أعلم. وهذا السفر مع بعده عن الأولاد والوطن، لم يكن يشغله
عن طلب العلم والتأليف والنظر، فهو وإن سافر فإنه لا يحمل من الزاد إلا أمراً يسيراً، وكانت مكتبته في صدره رحمه الله، ومن العجيب أنه قد ألف كتباً حال سفره منها: مفتاح دار السعادة ، و روضة المحبين ، و زاد المعاد ، و بدائع الفوائد ، و تهذيب سنن أبي داود ألفها في حال السفر، وليس في حال الإقامة، وكان -رحمه الله- مغرماً بجمع الكتب، فإنك تجد -مثلاً- في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية قد رجع إلى أكثر من مائة كتاب، وفي أحكام أهل الذمة ذكر نحو ثلاثين كتاباً، وكذا في كتابه الروح ، وهذا يعني أنه كان عنده مراجع كثيرة،
وكان يهتم بكتبه، وقد حصل عنده من الغرام بتحصيل الكتب أمراً عظيماً؛ حتى أنه جمع منها ما لم يجمع غيره، وحصل منها ما لم يحصل لغيره؛ حتى كان بعض أولاده من الذين أتوا من بعده يبيعون منها
بعد موته دهراً طويلاً غير ما أبقوه لأنفسهم للإفادة منه، وكذلك كان ابن أخيه قد صار عنده شيئاً من مكتبته، وكان لا يبخل بإعارتها.
أعمال ابن القيم رحمه الله:
تولى ابن القيم -رحمه الله- أعمالاً عديدةً، منها:
الإمامة في المدرسة الجوزية، والتدريس في المدرسة الصدرية، والفتوى، والتأليف. وقد تعرض -رحمه الله- للسجن بسبب فتاوي رأى أن الحق فيها، مثل: مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد، ومثل: إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل؛ حيث يقول ابن رجب -رحمه الله-: وقد حبس مدة لإنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل؛
مع أن شد الرحال إلى قبر الخليل من البدع المحدثة، ولا يشرع شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وكل شد رحل لزيارة مكان عبادة، أو قبر من القبور، أو مسجد من المساجد، فإنه بدعةٌ من البدع، فما بالك بما يحدث اليوم من بعض الناس بزيارة أماكن المغضوب عليهم في رحلات سياحية،
مثل: مدائن صالح التي أهلك الله قومها ومن كان فيها،
والنبي عليه الصلاة والسلام لما مرَّ بها مرَّ مطأطئ الرأس، حزيناً، مسرعاً، خائفاً من عذاب الله،
واليوم يشدون الرحلات السياحية إلى تلك الأماكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أخلاق ابن القيم وتواضعه:
وأما عن أخلاق ابن القيم -رحمه الله- فقال ابن كثير :
كان حسن القراءة والخلق، كثير التوجه، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه، وأموره، وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة؛ ولهذا الطبع المتأصل في نفسه تجده يقول -مثلاً- في بعض كتبه: من أساء إليك، ثم جاء يعتذر عن إساءته،
فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله عز وجل- كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين. وأما عن تواضعه، فإنه كان أمراً عجيباً،
وقد ذكر العلامة الصفدي -رحمه الله تعالى- ميميته الرقيقة التي يتحدث فيها ابن القيم عن هضمه لنفسه،
ويفي بتواضعه من خلال أبيات تلك القصيدة، فيقول:
بُني أبي بكرٍ كثـيرٌ ذنوبـه فليس على من نال من عرضه إثمُ
بُني أبي بكرٍ جهولٌ بنفـسه جهولٌ بأمر الله أنَّـى لـه العـلمُ
بُني أبي بكرٍ غدا متصـدراً يعلم علماً وهو ليـس لـه عـلمُ
بُني أبي بكرٍ غـدا متمنـياً وصال المعالي والذنوب لـه هـمَّ
بُني أبي بكرٍ يروم مترقـياً إذا جنت المأوى وليس لـه عـزمُ
بُني أبي بكرٍ لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سـهمُ
عبادة ابن القيم وزهده:
وأما عن عبادته وزهده، فإن من يقرأ مؤلفاته -رحمه الله- يخرج بدلالة واضحة، وهو:
أنه كان عنده من عمارة القلب باليقين، والافتقار إلى الله عز وجل، والعبودية أمراً عظيماً، وتجد في ثنايا كلامه من إنابته إلى ربه، والحاجة إليه عز وجل ثروةً طائلةً،
فكان من العلماء العاملين الذين كانوا من أهل الله وخاصته. قال ابن رجب رحمه الله: وكان -رحمه الله- ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية الوسطى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك،
ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، ولقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة في القلعة منفرداً عنه،
لم يفرج عنه إلا بعد موت شيخه ابن تيمية -رحمه الله-، وكان في مدة حبسه منشغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكير، ففتح الله عليه من ذلك خيراً كثيراً. وحج مرات وجاور بـمكة ،
وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه. وقال تلميذه ابن كثير: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقةً في الصلاة يطيلها جداً،
ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع، ولا ينزع عن ذلك رحمه الله تعالى. وقال ابن حجر : كان إذا صلى الصبح، جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، وكان يقول:
هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي، وكان يقول:
بالصبر والفقه تنال الإمامة بالدين.
ابن القيم وشيخه ابن تيمية:
لقد حدثت حادثة في حياته -رحمه الله تعالى- كان لها أثراً عظيماً، وهي:
التقاؤه بشيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- لقيه في سنة 712هـ، وهي السنة التي عاد فيها الشيخ ابن تيمية من مصر إلى دمشق ،
ولازمه حتى مات ابن تيمية رحمه الله سنة 728هـ، وهذا يعني أنه لازمه ستة عشر عاماً.
ابن القيم قبل لقائه بابن تيمية:
ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه كان في مبدأ أمره مفتوناً بعقيدة الأشاعرة في الصفات،
وبكلام بعض النفاة، وكان له سقطات، فلما خالط شيخ الإسلام ، اهتدى على يديه،
ولذلك يقول ابن القيم في نونيته :
يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفقٍ وأخٍ لـكم معـوانِ
جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيـرانِ
حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولـساني
فتىً أتى من أرض حـران فيا أهلاً بمن قد جاء من حرانِ
من الذي جاء من حران ؟ ابن تيمية -رحمه الله- لأن ابن تيمية حراني.
فالله يجزيه الذي هو أهـله من جنة المأوى مـع الرضـوان
أخذت يداه يدي وسار فلـم يرم حتى أراني مطلـع الإيـمانِ
ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهـدى وعسـاكر القـرآنِ
ورأيت آثاراً عظيمـاً شأنها محجوبةً عـن زمـرة العمـيانِ
ووردت كأس الماء أبيـض صافياً حصباؤه كلآلـئ التيجـانِِ
ورأيت أكواباً هناك كثيـرةً مـثل النجـوم لـواردٍ ظــمآن
ورأيت حول الكوثر الصافي الذي لا زال يشخب فيه من زابانِ
نحن نعلم أن نهر الكوثر الذي في الجنة يصب في الحوض عبر ميزابين،
فيستشهد ابن القيم رحمه الله تعالى بهذا الحديث يأخذ منه تعبيراً لكي يقول للناس:
إن ابن تيمية أخذ بيدي حتى أوردني الحوض الصافي الذي يشخب فيها ميزابان الكتاب والسنة.
ميزان سنته وقول إلهه وهما مدى الأيام لا ينيانِ
والناس لا يردونه من الآلاف أفرادٌ ذوو إيمانِ
إلا من أنعم الله عليه، وإلا فإن كثيراً من الناس قد تخبطوا وضلوا، وأرادوا الحق فلم يصلوا إليه.
اعتناء ابن تيمية بتلميذه ابن القيم:
لقد اعتنى ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بتلميذه اعتناءً كثيراً، وكان يخصه بمزيد من التعليم والتنبه لأحواله والتربية العميقة. ويقول ابن القيم رحمه الله: قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه،
وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، آتي بشبهة، وأقول: أريد الجواب عليها، ثم آتي بشبهة، وأقول: أريد الجواب عليها، فقال له نصيحة: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة،
فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها،
فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليك، صار مقاماً للشبهات. قال ابن القيم : "فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بهذه".
وقال في مدارج السالكين : "قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مرةً:
العوارض والمحن هي كالعوارض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها -لا بد من الابتلاء، ولا بد من المحنة- لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن، وإنما يعلم أن هذا ابتلاء من الله يريد الله به أن يزيد له في حسناته، ويكفر به عنه من سيئاته، ويرفع له في درجاته، فيحمد الله على المحنة".
ويرشد ابن تيمية -رحمه الله- تلميذة إلى ترك التوسع في المباحات، يقول ابن القيم : قال لي يوماً شيخ الإسلام في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة -أي:
أن التوسع في المباحات جائز، لكن تركها أولى؛ لأنها تصرف العبد عن الانشغال بما هو أهم وأفضل-
وقد وفى ابن القيم -رحمه الله- لشيخه وفاءً عظيماً، فإنه قد ظل يشاركه في أعماله وأحواله حتى آخر لحظة من حياته؛ حتى أنه امتحن وأوذي بسبب شيخ الإسلام ، ودخل معه السجن، وجعل في زنزانة منفردة عن شيخ الإسلام ، أفرد ابن القيم حتى مات شيخه رحمه الله تعالى.
طريقة ابن القيم في التفقه:
وأما مذهب ابن القيم -رحمه الله- فإن كثيراً من أهل العلم ينسبونه إلى المذهب الحنبلي، ولكنك إذا دققت في أقواله وفتاويه، وجدت أنه -رحمه الله- يسير على طريقة السلف في اتباع الأدلة، فيدور مع الدليل حيثما دار؛ سواءً كان الدليل في مذهب أحمد ، أو في مذهب الشافعي ، أو في غيرها، وكان عنده منهجٌ عظيمٌ- ينبغي لكل طلبة العلم أن يقتدوا به- حيث كان يبحث عن الدليل وينشده مع احترام الأئمة، فلا هو بالذي يقول: هم رجال ونحن رجال؛ بل كان يبحث عن الدليل وينشد الدليل مع احترام الأئمة، فأينما وجد الدليل ذهب إليه كان القائل به من كان، فكانت قاعدته مناشدة الدليل مع احترام الأئمة،
وكثيراً ما كان يفتي بخلاف المذهب. ومن اللطائف التي حكاها -رحمه الله- عن شيخه،
شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان يدرس في مدرسة لرواد الفقه الحنبلي، وكانت المدارس في ذلك الوقت توقف عليها أوقافاً حتى يصير منها صرف على المدرسة، وطلبة المدرسة، ورواتب للمدرسين، وثمن الكتب والمعيشة.. وهكذا، فقال بعضهم لـشيخ الإسلام ابن تيمية مرةً- وكان شيخ الإسلاممجتهداً يدور مع الدليل
ولا يتعصب لمذهب- قالوا له: أنت تأخذ من وقف هذه المدرسة وواقفها
شرط أنها للحنابلة، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي
بمذهب أحمد لا على تقليدي لهم، وأنا عالم بمذهب أحمد عارف به وبأصوله.
محاربة ابن القيم للتعصب والتقليد الأعمى:
لقد استخدم ابن القيم -رحمه الله- أسلوبه الجميل في محاربة التقليد الأعمى،
فيقول في فتنة التعصب والتقليد التي ذبحت كثيراً من المسلمين حتى صار بينهم اقتتال، وتفرقوا في المسجد الواحد، فصار لهم في بعض الأحوال والأوقات الماضية أربعة محاريب يصلي كل أصحاب مذهب في محرابه منفصلين،
وكان بعضهم لا يزوج أفراداً من المذهب الآخر،
وهذا كله نتيجة التعصب الذي ذمه الله ورسوله؛ ولذلك تجد المجددين من أهل العلم ينهون عن التعصب ويحذرون منه، يقول ابن القيم رحمه الله: تالله إنها فتنة عمت فأعمت،
ورمت القلوب فأصمت، ربا عليها الصغير، وهرم فيها الكبير، واتخذ لأجلها القرآن مهجوراً، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطوراً، ولما عمت البلية، وعظمت به الرزية، بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها- أكثر الناس لا يعرفون إلا التعصب، ولا يعدون العلم إلا التعصب- فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون،
ومؤثره على سواه عندهم مغبون، نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم: إنَّا نخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد.
ولذلك كان ابن القيم يدعو في كتبه دائماً إلى اتباع الدليل، وكان يقول للناس: إذا رأيتم عَلَمَ السنة فاذهبوا إليه. ويقول في جواب على سؤال نفاة القياس، وهو متحمس لإظهار السنة ومتابعة الدليل:
الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله،
وآن لحزب الله ألا تأخذهم في الله لومة لائم، وألا يتحيزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا الله ورسوله بكل قول حق قاله من قاله، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم- يقبلون قول الفريق الذي يتعصبون له-
وينبذون كتاب الله وسنة نبيه.
منهج ابن القيم في التأليف والفتوى:
كان له -رحمه الله- مؤلفات كثيرة؛ فكان منهجه في التأليف الاعتماد على الكتاب والسنة؛
ولذلك تجد كتبه طافحة بذكر الأدلة، وكان ينعى على من يرد الكتاب والسنة من أصحاب الطواغيت الأربعة القائلين بالمعقول ومقدمي القياس والذوق والسياسة، يقول: إن من الناس
الذين يقدمون آراءهم على الكتاب والسنة أربع طوائف، فمنهم: الطائفة الأولى:
المتكلمون الذين يقدمون العقل على النقل: يقدمون العقول وآراءهم على نصوص القرآن والسنة. الطائفة الثانية: المتكبرون، الذين إذا تعارض القياس والحديث، قدموا القياس على النص.
الطائفة الثالثة: المتكبرون المنتسبين إلى التصوف، الذين إذا تعارضت عندهم أذواقهم ومواجيدهم -وهي من الشيطان- قدموها على نصوص الكتاب والسنة. الطائفة الرابعة: الولاة والأمراء الجائرون،
الذين إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة. وكذلك كان -رحمه الله تعالى- يقدم أقوال الصحابة على من سواهم، وكانت مؤلفاته تتسم بالسعة والشمول،
وكان يسير على نهج الجود بالعلم، فإذا سئل عن مسألة، أجاب عنها وأكثر بما يشبع السائل، ويجيبه جواباً شافياً، ولذلك يقول: لا يكن جوابك للسائل بقدر ما تدفع به الضرورة، مثل: نعم، ولكن عليك أن تجود بالعلم، وأشبع رغبة السائل، وأجبه ولو بأكثر مما سأل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر هل هو طاهر أم لا؟ أجاب عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فالسائل سأل عن مسألة واحدة،
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألتين: الأولى: طهارة ماء البحر. الثانية: حل ميتة البحر، وهذا من الجود بالعلم، وكان يستطرد في مؤلفاته، فيذكر فوائد عظيمة، وكان يعرض كثيراً من محاسن الشريعة وحكمة التشريع، وهذا يدل على عمقه وذكائه -رحمه الله- وكان يعنى بالاستدلال والعلل،
وكانت كتاباته حيوية تفيض بالمشاعر الفياضة.
ثناء العلماء على حسن تأليف ابن القيم:
وكان أسلوبه جذاباً. يقول العلامة الشوكاني رحمه الله: وله من حسن التصرف مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين؛ بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب؛ حتى قال ابن حجر -رحمه الله-: إن مؤلفات ابن القيم مرغوبة عند جميع الطوائف، ولو كانوا ممن يعادون ابن القيم فكانوا يقبلون على كتبه -رحمه الله- وكان حسن الترتيب يسوق الأمور بسياقات حسنة،
حتى في مؤلفاته كان تضرعه وابتهاله إلى الله يظهر، فمثلاً يقول رحمه الله في كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين بعد أن شرح قول الله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً [إبراهيم:24]
قال ابن القيم بعد ذلك: فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله، لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق.
انظر! يقول هذا وهو من هو -رحمه الله- في سعة علمه وتواضعه؟ وقال في فاتحة كتابه روضة المحبين : والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه، فإنه ألفه في حال بعده عن وطنه، وغيبته عن كتبه، فما عسى أن يبلغ خاطره المكدود، وسعيه المجهود، مع بضاعته المزجاة- أي: القليلة- التي حقيقٌ بحاملها أن يقال فيه: تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، يقول: وهاهو المؤلف -أي: نفسه- قد نصب نفسه هدفاً لسهام الراشقين،
وغرضاً لأسنة الطاعنين، فلقارئه غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وهذه بضاعته
تعرض عليك، وموليته تهدى إليك، فإن صادفت كفئاً كريماً لها لم تعدم منه إمساكاً بمعروف، أو تسريحاً بإحسان، وإن صادفت غيره، فالله تعالى المستعان وعليه التكلان. وقال في فاتحة كتاب زاد المعاد، وكتاب زاد المعاد آخر طبعة طبع فيها الآن خمسة مجلدات ألفها ابن القيم -رحمه الله- في السفر بسبب أن رجلاً سأله عن مسألة في الحج، فتعجب ابن القيم أن رجلاً من المسلمين لا يدري عن حكم هذه المسألة، فكان ذلك دافعاً لتأليف كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد. يقول في مقدمة الكتاب: "وهذه كلماتٌ يسيرةٌ، لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نعمة
إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره- أي: اقتضاه خاطري على عيوب خاطري- مع البضاعة المزجاة مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل وادٍ منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر".ا هـ. قارن بين هذا الكلام وبين ما يكتبه الناس -اليوم- الذين ما رسخت أقدامهم في العلم، ولا نبتت لهم ريش العلم يطيرون به، يكتب الواحد على غلاف الكتاب: شرحه وحققه وهذبه ونقحه وبسطه... إلى آخره!! ويصف نفسه بألقاب المديح وهو لا يصل إلى مقدار أنملة ابن القيم -رحمه الله- في العلم، ومع ذلك صار عامة كثير من الناس الذين يتطفلون على العلم في هذا الزمان يمدحون أنفسهم في كتبهم، وعلى الغلاف تجد:
ألفه المدقق الفهامة البحاثة، وهو من هو لا يساوي شيئاً بجانب علمائنا، وهؤلاء يقولون: هذه كلمات يسيرة، وهي خمس مجلدات!! وكان في تأليفه -رحمه الله- يقع له أمور مثل ما وقع له في تأليف كتاب تحفة المودود بأحكام المولود وهو كتاب، عظيم لا يُعرف أنه قد جمع في أحكام المولود مثل هذا الكتاب. له في تأليفه قصة لطيفة جداً وهي: أن ولد ابن القيم وُلد له ولد -أي: صار لـابن القيم حفيد-
كان له -رحمه الله- مؤلفات كثيرة؛ فكان منهجه في التأليف الاعتماد على الكتاب والسنة؛
ولذلك تجد كتبه طافحة بذكر الأدلة، وكان ينعى على من يرد الكتاب والسنة من أصحاب الطواغيت الأربعة القائلين بالمعقول ومقدمي القياس والذوق والسياسة، يقول: إن من الناس
الذين يقدمون آراءهم على الكتاب والسنة أربع طوائف، فمنهم: الطائفة الأولى:
المتكلمون الذين يقدمون العقل على النقل: يقدمون العقول وآراءهم على نصوص القرآن والسنة. الطائفة الثانية: المتكبرون، الذين إذا تعارض القياس والحديث، قدموا القياس على النص.
الطائفة الثالثة: المتكبرون المنتسبين إلى التصوف، الذين إذا تعارضت عندهم أذواقهم ومواجيدهم -وهي من الشيطان- قدموها على نصوص الكتاب والسنة. الطائفة الرابعة: الولاة والأمراء الجائرون،
الذين إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة. وكذلك كان -رحمه الله تعالى- يقدم أقوال الصحابة على من سواهم، وكانت مؤلفاته تتسم بالسعة والشمول،
وكان يسير على نهج الجود بالعلم، فإذا سئل عن مسألة، أجاب عنها وأكثر بما يشبع السائل، ويجيبه جواباً شافياً، ولذلك يقول: لا يكن جوابك للسائل بقدر ما تدفع به الضرورة، مثل: نعم، ولكن عليك أن تجود بالعلم، وأشبع رغبة السائل، وأجبه ولو بأكثر مما سأل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر هل هو طاهر أم لا؟ أجاب عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فالسائل سأل عن مسألة واحدة،
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألتين: الأولى: طهارة ماء البحر. الثانية: حل ميتة البحر، وهذا من الجود بالعلم، وكان يستطرد في مؤلفاته، فيذكر فوائد عظيمة، وكان يعرض كثيراً من محاسن الشريعة وحكمة التشريع، وهذا يدل على عمقه وذكائه -رحمه الله- وكان يعنى بالاستدلال والعلل،
وكانت كتاباته حيوية تفيض بالمشاعر الفياضة.
ثناء العلماء على حسن تأليف ابن القيم:
وكان أسلوبه جذاباً. يقول العلامة الشوكاني رحمه الله: وله من حسن التصرف مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين؛ بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب؛ حتى قال ابن حجر -رحمه الله-: إن مؤلفات ابن القيم مرغوبة عند جميع الطوائف، ولو كانوا ممن يعادون ابن القيم فكانوا يقبلون على كتبه -رحمه الله- وكان حسن الترتيب يسوق الأمور بسياقات حسنة،
حتى في مؤلفاته كان تضرعه وابتهاله إلى الله يظهر، فمثلاً يقول رحمه الله في كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين بعد أن شرح قول الله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً [إبراهيم:24]
قال ابن القيم بعد ذلك: فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله، لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق.
انظر! يقول هذا وهو من هو -رحمه الله- في سعة علمه وتواضعه؟ وقال في فاتحة كتابه روضة المحبين : والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه، فإنه ألفه في حال بعده عن وطنه، وغيبته عن كتبه، فما عسى أن يبلغ خاطره المكدود، وسعيه المجهود، مع بضاعته المزجاة- أي: القليلة- التي حقيقٌ بحاملها أن يقال فيه: تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، يقول: وهاهو المؤلف -أي: نفسه- قد نصب نفسه هدفاً لسهام الراشقين،
وغرضاً لأسنة الطاعنين، فلقارئه غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وهذه بضاعته
تعرض عليك، وموليته تهدى إليك، فإن صادفت كفئاً كريماً لها لم تعدم منه إمساكاً بمعروف، أو تسريحاً بإحسان، وإن صادفت غيره، فالله تعالى المستعان وعليه التكلان. وقال في فاتحة كتاب زاد المعاد، وكتاب زاد المعاد آخر طبعة طبع فيها الآن خمسة مجلدات ألفها ابن القيم -رحمه الله- في السفر بسبب أن رجلاً سأله عن مسألة في الحج، فتعجب ابن القيم أن رجلاً من المسلمين لا يدري عن حكم هذه المسألة، فكان ذلك دافعاً لتأليف كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد. يقول في مقدمة الكتاب: "وهذه كلماتٌ يسيرةٌ، لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نعمة
إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره- أي: اقتضاه خاطري على عيوب خاطري- مع البضاعة المزجاة مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل وادٍ منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر".ا هـ. قارن بين هذا الكلام وبين ما يكتبه الناس -اليوم- الذين ما رسخت أقدامهم في العلم، ولا نبتت لهم ريش العلم يطيرون به، يكتب الواحد على غلاف الكتاب: شرحه وحققه وهذبه ونقحه وبسطه... إلى آخره!! ويصف نفسه بألقاب المديح وهو لا يصل إلى مقدار أنملة ابن القيم -رحمه الله- في العلم، ومع ذلك صار عامة كثير من الناس الذين يتطفلون على العلم في هذا الزمان يمدحون أنفسهم في كتبهم، وعلى الغلاف تجد:
ألفه المدقق الفهامة البحاثة، وهو من هو لا يساوي شيئاً بجانب علمائنا، وهؤلاء يقولون: هذه كلمات يسيرة، وهي خمس مجلدات!! وكان في تأليفه -رحمه الله- يقع له أمور مثل ما وقع له في تأليف كتاب تحفة المودود بأحكام المولود وهو كتاب، عظيم لا يُعرف أنه قد جمع في أحكام المولود مثل هذا الكتاب. له في تأليفه قصة لطيفة جداً وهي: أن ولد ابن القيم وُلد له ولد -أي: صار لـابن القيم حفيد-
بمعنى أنه صار جداً، فالعادة أن الجد يهدي لحفيده هدية، فـابن القيم -رحمه الله- لما جاءه هذا الحفيد، ما كان عنده شيء من متاع الدنيا يهديه لحفيده، حيث كان فقيراً، فصنف هذا الكتاب وأعطاه لابنه، وقال: أتحفك بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك، تكلم فيه عن العقيقة وأحكامها، وحلق شعر المولود،
وختانه، وتسميته، والأسماء القبيحة والأسماء الحسنة، وأمور كثيرة جداً حتى تعرض لدقائق المسائل، مثل: إنسان لم يعق عنه أبوه وقد كبر، فهل يعق عن نفسه، أو لا؟ في مباحث أخرى مبسوطة داخل هذا الكتاب.
مع مؤلفات ابن القيم:
ومؤلفات ابن القيم -رحمه الله- أحصاها بعض من ترجم له ستة وتسعين كتاباً تقريباً، أما المؤلفات المطبوع منها الآن فلا تصل إلى الثلث.
تعرض مؤلفات ابن القيم للحرق:
ومن الأسباب العجيبة ولله عز وجل في خلقه شئون وحكم، حصل أن بعض الأمراء الذين استوطنوا دمشق في القرن الماضي -التاسع عشر- منذ مدة قريبة، كان ذا سلطان ومال، جعل يجمع مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويحرقها؛ لأنه كان فيه عداوة لـابن تيمية و ابن القيم ، فكان يجمع مؤلفات ابن تيمية و ابن القيم ويحرقها، و ابن تيمية و ابن القيم في دمشق ، فحصل من هذا الرجل أن بلغ به من العداوة والبغض لأولياء الله أن يأتي بالكتب ويحرقها ويشتريها بنقوده من مالكها، إذا رآها مخطوطة، اشتراها ليحرقها، فإذا لم يتمكن من إقناع المالك بحرقها اشتراها منه، وربما التمس وسائل أخرى لإتلافها بدافع الانتصار لمذهبه؛ لأن هذا الشخص كان من غلاة الصوفية ، فاستخدم هذا الأمير سلطانه وماله في حرق كتب الذين تصدوا للصوفية ، ومن أهمهم: ابن تيمية و ابن القيم ، ومع ذلك فإن الله قيض لهذا الإمام العظيم من ينشر كتبه في هذا الزمان، ومن قدر الله أن أعداء الإسلام لما غزو بلدان المسلمين اصطحبوا معهم بعد رجوعهم إلى بلدانهم كثيراً من المخطوطات؛ ولذلك تجد الآن مخطوطات لكتب ابن تيمية في لاهاي في هولندا ، وتجد مخطوطات ابن القيم في ألمانيا و باريس وفي جامعة في أمريكا... وهكذا، ولعلها حكمةٌ من الله أن يحفظها أولئك الكفرة حتى يأتي من يطبعها من أبناء المسلمين، وقضية أن يعدو أهل الباطل على كتب أهل الحق فيحرقوها، هذه قضية طويلة؛ ولذلك تجد بعض الطوائف الضالة التي حكمت بعض بلدان المسلمين في بعض الأزمان والأوقات، كانوا يأتون إلى المكتبات العامة، فيخرجون المخطوطات التي تتكلم عن طوائفهم، وتبين باطل هذه الطوائف، فيحرقون هذه الكتب، ولكن الله ناصر دينه.
كلام الكوثري على ابن القيم وبيان خطئه في ذلك:
ومع الأسف! لقد ظهرت عداوة لـابن القيم -رحمه الله- ليس في حياته فقط والتي سجن وأوذي في مواضع عديدة، ولكن بعدما مات، ففي هذا القرن ظهر في مطلعه شخصٌ غريبٌ، كان متخصصاً في شتم ابن القيم وشيخه ابن تيمية -رحمهما الله- وهو الكوثري، حيث يقول: ولقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين الذي ضاعت مواهبه في البدع!! يقصد ابن القيم. وقال: ابن قيم الجوزيه لم يكن غير شيخه في المعنى، بل هما قماش واحد، ذاك ظهارته وهذا بطانته، ذاك يسود وهذا يبيض، عمله جله تسويق بضائع شيخه بحيث تروج؛ حتى أن ابن القيم يقلده في كل شيء، وليس له رأيٌ خاصٌ قطعاً على سعة علمه. ويقول: هذا ابن القيم نسخة كربونية عن ابن تيمية!! ولذلك تصدى بعض أهل العلم لهذه الفرية، وبينوا أن ابن القيم شخصية مستقلة وليس تابعاً ابن تيمية.. ابن القيم ذكي عميق محقق مدقق ليس بالسهل أن يقلد أي أحد؛ ولذلك إذا نظرت -مثلاً- إلى كتبه وإلى من نقل عنه، تجد أنه نقل عن طائفة كثيرة من أهل العلم غير ابن تيمية ، وفي كتب ابن القيم مباحث مثل: تأليفه لبعض الكتب ما جمع مثل ابن تيمية مثل: كتابه القيم مفتاح دار السعادة ، و زاد المعاد ، و حادي الأرواح ، و بدائع الفوائد لا يعرف أن لـابن تيمية مثل هذه المؤلفات. وكذلك من الأمور الدالة على أن ابن القيم ليس نسخة كربونية عن ابن تيمية : أنه قد خالف شيخه في أمور، مثل: بعض أحكام الرضاعة، إذا قطع الرضيع الرضاعة بتنفس هل تعتبر واحدة، أو اثنتين؟ وفي عدة الآيسه، وفي اشتباه الأواني، وفي مسألة فسخ الحج إلى عمرة نقل قول ابن عباس، ثم قال: وأنا إلى قوله- أي: إلى قول ابن عباس- أميل مني إلى قول شيخ الإسلام . فإذاً لم يكن مقلداً لـابن تيمية ، ولا نسخة عنه، ولكن من الطبيعي أن يستفيد التلميذ من الشيخ، ويأخذ عنه علماً غزيراً كما حصل، والحقيقة أن ظهور ابن تيمية -رحمه الله- في ذلك الوقت الذي فشت فيه البدع سواءً بدع في العقائد؛ كبدع الجهمية و الأشاعرة و المرجئة ، وبدع الصوفية، وبدع التعصب المذهبي.. بدع كثيرة جداً ظهرت قيض الله لها شيخ الإسلام ، فكشف زيغ تلك البدع، وأظهر الحق، وقيض له تلاميذ، مثل: ابن القيم رحمه الله ساروا على نهجه في كشف الباطل، وإظهار الحق للناس؛ ولذلك لا شك أن لكل منهما جانبٌ عظيمٌ من جوانب التجديد لهذا الدين، ومع ذلك- سبحان الله!- كأن الله يريد أن يرفع منزلة هذا الرجل، ويعظم أجره بعد موته، فظهر له أعداء تكلموا عنه؛ حتى قال المسكين - الكوثري- في كتابه السيف الصقيم في الرد على ابن الزكيم ، قال: يعيره بجده لأمه، ولا ندري من أين اخترع هذه التسمية، يقول: كافر.. ضال.. مضل. زائغ.. مبتدع.. وقح.. كذاب.. حشوي.. جاهلي.. مهاتر.. خارجي.. غبي.. من إخوان اليهود والنصارى.. من محاربين الدين والخلق!! هذا يقوله الضال الكوثري في ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهذه عبارة عن صرير باب وطنين ذباب.. حيلة عاجز، وحجة عجائز، و ابن القيم -رحمه الله- لا يضيره شيء،
قال الشاعر:
ما يضر البحر أمسى زاخراً أن رمى فيه غلامٌ بحـجر
أسلوب ابن القيم رحمه الله ونُبذ من قدرته على التعبير
نتعرض الآن- أيها الإخوة- لبعض الأمور في أسلوب ابن القيم رحمه الله تعالى، وهذا أمرٌ مهمٌ جداً، فمثلاً: تجد هذه الحلاوة في الأسلوب، والقدرة على التعبير، والجمال والجلال في أسلوب ابن القيم رحمه الله يستخدمه في عرض حقائق التوحيد على الناس، فمثلاً: اسمع إليه يقول في وصف الله عز وجل، وبيان وحدانيته وقدرته سبحانه وتعالى: "قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمةً وحكمةً، ووسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه، ولا تشتبه عليه؛ بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها، على تفنن حاجاتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلقه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات". الآن الناس يدعون الله، منهم من يدعو الله باللغة العربية، ومنهم من يدعو بالإنجليزية، ومنهم من يدعو بالأردية، ومنهم من يدعو بلغات كثيرة جداً، ومنهم من يطلب شفاء مريض، ومنهم من يطلب رحمة ميت، ومنهم من يطلب رزقاً، ومنهم من يطلب ولداً، ومنهم من يطلب نجاحاً، ومنهم من يطلب أشياء كثيرة، وهم يطلبون في وقت واحد ويلحون إلحاحاً، والله عز وجل لا تغلطه، انظروا الواحد إذا أمسك بسماعتي هاتف لا يستطيع أن يتابع في نفس الوقت، والله عز وجل يسمع أصوات البشر كلهم بلغات مختلفة، وحاجاتهم مختلفة، ويعلم ماذا يقولون، ولا يتبرم بإلحاح الملحين:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حي يسأل يغضبُ
والإنسان يتبرم بالإلحاح؛ والله عز وجل يريد من عباده أن يلحوا عليه بالدعاء، فعندما يأتي لنا رجل مثل: ابن القيم -رحمه الله- يبين لنا هذه المسألة، يزداد الذين آمنوا إيماناً. وكذلك يقول عند قوله تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع له عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. إذاً- أيها الإخوة- نحن نحتاج -حقيقة- إلى علماء نشعر عندما نقرأ لهم بأن إيماننا بالله يزداد.. نحتاج إلى أهل علم عندهم بلاغة في التعبير والأسلوب؛ حتى نقبل على قراءة هذا الكلام النابع من ذلك القلب الحي.. انظر إلى ابن القيم رحمه الله مثلاً يقول: تبارك وتعالى، أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم.. حكمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له ولا صاحبة له، وكل ملك زائل إلا ملكه، وكل ظل قالص إلا ظله، وكل فضلٍ منقطع إلا فضله، لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمةٍ منه عدل، وكل نعمةٍ منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]. هذا إبداع- أيها الإخوة- شيء يزيد الذين آمنوا إيماناً.. هذه كلمات سطرها ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم الفوائد.
وختانه، وتسميته، والأسماء القبيحة والأسماء الحسنة، وأمور كثيرة جداً حتى تعرض لدقائق المسائل، مثل: إنسان لم يعق عنه أبوه وقد كبر، فهل يعق عن نفسه، أو لا؟ في مباحث أخرى مبسوطة داخل هذا الكتاب.
مع مؤلفات ابن القيم:
ومؤلفات ابن القيم -رحمه الله- أحصاها بعض من ترجم له ستة وتسعين كتاباً تقريباً، أما المؤلفات المطبوع منها الآن فلا تصل إلى الثلث.
تعرض مؤلفات ابن القيم للحرق:
ومن الأسباب العجيبة ولله عز وجل في خلقه شئون وحكم، حصل أن بعض الأمراء الذين استوطنوا دمشق في القرن الماضي -التاسع عشر- منذ مدة قريبة، كان ذا سلطان ومال، جعل يجمع مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويحرقها؛ لأنه كان فيه عداوة لـابن تيمية و ابن القيم ، فكان يجمع مؤلفات ابن تيمية و ابن القيم ويحرقها، و ابن تيمية و ابن القيم في دمشق ، فحصل من هذا الرجل أن بلغ به من العداوة والبغض لأولياء الله أن يأتي بالكتب ويحرقها ويشتريها بنقوده من مالكها، إذا رآها مخطوطة، اشتراها ليحرقها، فإذا لم يتمكن من إقناع المالك بحرقها اشتراها منه، وربما التمس وسائل أخرى لإتلافها بدافع الانتصار لمذهبه؛ لأن هذا الشخص كان من غلاة الصوفية ، فاستخدم هذا الأمير سلطانه وماله في حرق كتب الذين تصدوا للصوفية ، ومن أهمهم: ابن تيمية و ابن القيم ، ومع ذلك فإن الله قيض لهذا الإمام العظيم من ينشر كتبه في هذا الزمان، ومن قدر الله أن أعداء الإسلام لما غزو بلدان المسلمين اصطحبوا معهم بعد رجوعهم إلى بلدانهم كثيراً من المخطوطات؛ ولذلك تجد الآن مخطوطات لكتب ابن تيمية في لاهاي في هولندا ، وتجد مخطوطات ابن القيم في ألمانيا و باريس وفي جامعة في أمريكا... وهكذا، ولعلها حكمةٌ من الله أن يحفظها أولئك الكفرة حتى يأتي من يطبعها من أبناء المسلمين، وقضية أن يعدو أهل الباطل على كتب أهل الحق فيحرقوها، هذه قضية طويلة؛ ولذلك تجد بعض الطوائف الضالة التي حكمت بعض بلدان المسلمين في بعض الأزمان والأوقات، كانوا يأتون إلى المكتبات العامة، فيخرجون المخطوطات التي تتكلم عن طوائفهم، وتبين باطل هذه الطوائف، فيحرقون هذه الكتب، ولكن الله ناصر دينه.
كلام الكوثري على ابن القيم وبيان خطئه في ذلك:
ومع الأسف! لقد ظهرت عداوة لـابن القيم -رحمه الله- ليس في حياته فقط والتي سجن وأوذي في مواضع عديدة، ولكن بعدما مات، ففي هذا القرن ظهر في مطلعه شخصٌ غريبٌ، كان متخصصاً في شتم ابن القيم وشيخه ابن تيمية -رحمهما الله- وهو الكوثري، حيث يقول: ولقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين الذي ضاعت مواهبه في البدع!! يقصد ابن القيم. وقال: ابن قيم الجوزيه لم يكن غير شيخه في المعنى، بل هما قماش واحد، ذاك ظهارته وهذا بطانته، ذاك يسود وهذا يبيض، عمله جله تسويق بضائع شيخه بحيث تروج؛ حتى أن ابن القيم يقلده في كل شيء، وليس له رأيٌ خاصٌ قطعاً على سعة علمه. ويقول: هذا ابن القيم نسخة كربونية عن ابن تيمية!! ولذلك تصدى بعض أهل العلم لهذه الفرية، وبينوا أن ابن القيم شخصية مستقلة وليس تابعاً ابن تيمية.. ابن القيم ذكي عميق محقق مدقق ليس بالسهل أن يقلد أي أحد؛ ولذلك إذا نظرت -مثلاً- إلى كتبه وإلى من نقل عنه، تجد أنه نقل عن طائفة كثيرة من أهل العلم غير ابن تيمية ، وفي كتب ابن القيم مباحث مثل: تأليفه لبعض الكتب ما جمع مثل ابن تيمية مثل: كتابه القيم مفتاح دار السعادة ، و زاد المعاد ، و حادي الأرواح ، و بدائع الفوائد لا يعرف أن لـابن تيمية مثل هذه المؤلفات. وكذلك من الأمور الدالة على أن ابن القيم ليس نسخة كربونية عن ابن تيمية : أنه قد خالف شيخه في أمور، مثل: بعض أحكام الرضاعة، إذا قطع الرضيع الرضاعة بتنفس هل تعتبر واحدة، أو اثنتين؟ وفي عدة الآيسه، وفي اشتباه الأواني، وفي مسألة فسخ الحج إلى عمرة نقل قول ابن عباس، ثم قال: وأنا إلى قوله- أي: إلى قول ابن عباس- أميل مني إلى قول شيخ الإسلام . فإذاً لم يكن مقلداً لـابن تيمية ، ولا نسخة عنه، ولكن من الطبيعي أن يستفيد التلميذ من الشيخ، ويأخذ عنه علماً غزيراً كما حصل، والحقيقة أن ظهور ابن تيمية -رحمه الله- في ذلك الوقت الذي فشت فيه البدع سواءً بدع في العقائد؛ كبدع الجهمية و الأشاعرة و المرجئة ، وبدع الصوفية، وبدع التعصب المذهبي.. بدع كثيرة جداً ظهرت قيض الله لها شيخ الإسلام ، فكشف زيغ تلك البدع، وأظهر الحق، وقيض له تلاميذ، مثل: ابن القيم رحمه الله ساروا على نهجه في كشف الباطل، وإظهار الحق للناس؛ ولذلك لا شك أن لكل منهما جانبٌ عظيمٌ من جوانب التجديد لهذا الدين، ومع ذلك- سبحان الله!- كأن الله يريد أن يرفع منزلة هذا الرجل، ويعظم أجره بعد موته، فظهر له أعداء تكلموا عنه؛ حتى قال المسكين - الكوثري- في كتابه السيف الصقيم في الرد على ابن الزكيم ، قال: يعيره بجده لأمه، ولا ندري من أين اخترع هذه التسمية، يقول: كافر.. ضال.. مضل. زائغ.. مبتدع.. وقح.. كذاب.. حشوي.. جاهلي.. مهاتر.. خارجي.. غبي.. من إخوان اليهود والنصارى.. من محاربين الدين والخلق!! هذا يقوله الضال الكوثري في ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهذه عبارة عن صرير باب وطنين ذباب.. حيلة عاجز، وحجة عجائز، و ابن القيم -رحمه الله- لا يضيره شيء،
قال الشاعر:
ما يضر البحر أمسى زاخراً أن رمى فيه غلامٌ بحـجر
أسلوب ابن القيم رحمه الله ونُبذ من قدرته على التعبير
نتعرض الآن- أيها الإخوة- لبعض الأمور في أسلوب ابن القيم رحمه الله تعالى، وهذا أمرٌ مهمٌ جداً، فمثلاً: تجد هذه الحلاوة في الأسلوب، والقدرة على التعبير، والجمال والجلال في أسلوب ابن القيم رحمه الله يستخدمه في عرض حقائق التوحيد على الناس، فمثلاً: اسمع إليه يقول في وصف الله عز وجل، وبيان وحدانيته وقدرته سبحانه وتعالى: "قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمةً وحكمةً، ووسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه، ولا تشتبه عليه؛ بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها، على تفنن حاجاتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلقه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات". الآن الناس يدعون الله، منهم من يدعو الله باللغة العربية، ومنهم من يدعو بالإنجليزية، ومنهم من يدعو بالأردية، ومنهم من يدعو بلغات كثيرة جداً، ومنهم من يطلب شفاء مريض، ومنهم من يطلب رحمة ميت، ومنهم من يطلب رزقاً، ومنهم من يطلب ولداً، ومنهم من يطلب نجاحاً، ومنهم من يطلب أشياء كثيرة، وهم يطلبون في وقت واحد ويلحون إلحاحاً، والله عز وجل لا تغلطه، انظروا الواحد إذا أمسك بسماعتي هاتف لا يستطيع أن يتابع في نفس الوقت، والله عز وجل يسمع أصوات البشر كلهم بلغات مختلفة، وحاجاتهم مختلفة، ويعلم ماذا يقولون، ولا يتبرم بإلحاح الملحين:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حي يسأل يغضبُ
والإنسان يتبرم بالإلحاح؛ والله عز وجل يريد من عباده أن يلحوا عليه بالدعاء، فعندما يأتي لنا رجل مثل: ابن القيم -رحمه الله- يبين لنا هذه المسألة، يزداد الذين آمنوا إيماناً. وكذلك يقول عند قوله تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع له عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. إذاً- أيها الإخوة- نحن نحتاج -حقيقة- إلى علماء نشعر عندما نقرأ لهم بأن إيماننا بالله يزداد.. نحتاج إلى أهل علم عندهم بلاغة في التعبير والأسلوب؛ حتى نقبل على قراءة هذا الكلام النابع من ذلك القلب الحي.. انظر إلى ابن القيم رحمه الله مثلاً يقول: تبارك وتعالى، أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم.. حكمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له ولا صاحبة له، وكل ملك زائل إلا ملكه، وكل ظل قالص إلا ظله، وكل فضلٍ منقطع إلا فضله، لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمةٍ منه عدل، وكل نعمةٍ منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]. هذا إبداع- أيها الإخوة- شيء يزيد الذين آمنوا إيماناً.. هذه كلمات سطرها ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم الفوائد.
دقة استنباطات ابن القيم وأمثلة عليها:
كلام ابن القيم عن قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا..)
وإذا جئت إلى دقة استنباطه من كتاب الله، لوجدت أمراً عجيباً، خذ مثلاً كلام ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين عن قول الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [لأعراف:175-176] يقول ابن القيم رحمه الله: "تأمل قوله تعالى: آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175] فأخبر أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له لا بتحصيله هو- أي: أن الله عندما يؤتي أحدنا علماً، أو بصيرة، فليعرف أن الله هو الذي أعطاه، وليس العبد هو الذي أخذ بنفسه وبقدرته وبذكائه آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175]، ثم قال: فَانْسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] ولم يقل: فسلخناه؛ بل أضاف الانسلاخ إليه أي: إلى هذا العبد المذموم، وعبر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ، أي: أنه انسلخ، يصور ابن القيم الدقة في التعبير فهذا العبد انسلخ من الآيات بالكلية، وهذا شأن الكافر، أما المؤمن ولو عصى الله؛ فإنه لا ينسلخ من الدين، ثم قال ابن القيم : فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175] ولم يقل: فتبعه، والفرق أن أتبعه تعني: تبعه وأدركه ولحقه؛ ولذلك قال الله عن فرعون: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:60-61]، ولذلك يقول ابن القيم : فأتبعه الشيطان، أي: وصل إليه الشيطان واستحوذ عليه، وكذلك قال: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف: 176] أي: سكن إليها ونزل بطبعه إليها، فكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية.. إلى آخر كلامه رحمه الله.
كلام ابن القيم عن قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا..)
وإذا جئت إلى دقة استنباطه من كتاب الله، لوجدت أمراً عجيباً، خذ مثلاً كلام ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين عن قول الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [لأعراف:175-176] يقول ابن القيم رحمه الله: "تأمل قوله تعالى: آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175] فأخبر أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له لا بتحصيله هو- أي: أن الله عندما يؤتي أحدنا علماً، أو بصيرة، فليعرف أن الله هو الذي أعطاه، وليس العبد هو الذي أخذ بنفسه وبقدرته وبذكائه آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175]، ثم قال: فَانْسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] ولم يقل: فسلخناه؛ بل أضاف الانسلاخ إليه أي: إلى هذا العبد المذموم، وعبر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ، أي: أنه انسلخ، يصور ابن القيم الدقة في التعبير فهذا العبد انسلخ من الآيات بالكلية، وهذا شأن الكافر، أما المؤمن ولو عصى الله؛ فإنه لا ينسلخ من الدين، ثم قال ابن القيم : فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175] ولم يقل: فتبعه، والفرق أن أتبعه تعني: تبعه وأدركه ولحقه؛ ولذلك قال الله عن فرعون: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:60-61]، ولذلك يقول ابن القيم : فأتبعه الشيطان، أي: وصل إليه الشيطان واستحوذ عليه، وكذلك قال: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف: 176] أي: سكن إليها ونزل بطبعه إليها، فكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية.. إلى آخر كلامه رحمه الله.
استنباطات ابن القيم من قوله تعالى: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل...
ولما أتى رحمه الله مثلاً إلى قول الله عز وجل: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:266] هذا المثل ضربه الله للمرائين يوم القيامة، قال تعالى: جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة:266] هذا المثل لأناس لهم أعمال جاءوا يوم القيامة محتاجين إليها جداً، فوجدوها "هباءً منثوراً فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266] فيقول ابن القيم رحمه الله: جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ "[البقرة:266] ذكر الله في هذه الآية أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعاً، فإن منهما القوت والغذاء، والدواء والشراب، والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطباً ويابساً. ثم يقول: وهذه الجنة- أي: البستان- فيها أنهار تجري، وهذا أكمل وأعظم، وهل فقط فيها نخيل وأعناب؟ لا، بل فيها من كل الثمرات. ثم يقول: -وهذا الرجل أصاب جنته إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت، وقبل أن تحترق قد كبر سنه- يقول ابن القيم رحمه الله: انظر مدى تعلق قلب الرجل بهذا البستان، لو كان عنده جنة، أو بستان ليس فيه نبات ولا زرع فإنه لا يحزن عليه؛ فإذاً قلبه متعلق -أولاً- بالبستان؛ لنفاسة ما في البستان من النخيل والأعناب وأنواع الثمرات، وفيه أنهار تجري، وهذا الرجل قد أصابه الكبر. يقول ابن القيم رحمه الله: إذا كبر ابن آدم، اشتد حرصه، لأن ابن آدم يشيب ويشب معه اثنتان: الحرص وطول الأمل. يقول: أصابه الكبر، فالآية تعبر عن معانٍ قد لا نفقهها إذا قرأناها لأول مرة، لكن عندما يأتي مثل: ابن القيم رحمه الله يبين لنا، يقول: تعلق أول شيء قلبه بسبب نفاسة البستان، وبسبب أنه كبر سنه، فعجز عن الكسب والتجارة، واشتد حرصه بطبيعة كبر السن، وثالثاً: له ذرية ضعفاء، فهو حريص أن يبقى هذا البستان للذرية، وهؤلاء الذرية ليسوا أقوياء، لكنهم ضعفاء يحتاجون إلى من يكد عليهم، ورابعاً: أن نفقته عليهم- أي: هو أبوهم- فإذا تصورت هذه الحادثة من تعلقه بالبستان أشد ما يكون، وهو في هذا التعلق أصابه إعصار فيه نار فاحترقت، كيف يكون وضع الرجل؟ هذا مثل المرائين يوم القيامة.. يأتون بأعمال أمام النار، الواحد يحتاج لكل عمل، وعندهم أعمال، ولكن شبَّه حال احتياجهم للأعمال يوم القيامة بحال هذا الشيخ الكبير في السن، وأصاب أعمالهم إعصار الرياء فأحرقها، وأفلسوا وهم في أشد الحاجة، وفي وقت عصيب أشد ما تكون الحاجة إلى هذه الأعمال.
ولما أتى رحمه الله مثلاً إلى قول الله عز وجل: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:266] هذا المثل ضربه الله للمرائين يوم القيامة، قال تعالى: جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة:266] هذا المثل لأناس لهم أعمال جاءوا يوم القيامة محتاجين إليها جداً، فوجدوها "هباءً منثوراً فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266] فيقول ابن القيم رحمه الله: جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ "[البقرة:266] ذكر الله في هذه الآية أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعاً، فإن منهما القوت والغذاء، والدواء والشراب، والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطباً ويابساً. ثم يقول: وهذه الجنة- أي: البستان- فيها أنهار تجري، وهذا أكمل وأعظم، وهل فقط فيها نخيل وأعناب؟ لا، بل فيها من كل الثمرات. ثم يقول: -وهذا الرجل أصاب جنته إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت، وقبل أن تحترق قد كبر سنه- يقول ابن القيم رحمه الله: انظر مدى تعلق قلب الرجل بهذا البستان، لو كان عنده جنة، أو بستان ليس فيه نبات ولا زرع فإنه لا يحزن عليه؛ فإذاً قلبه متعلق -أولاً- بالبستان؛ لنفاسة ما في البستان من النخيل والأعناب وأنواع الثمرات، وفيه أنهار تجري، وهذا الرجل قد أصابه الكبر. يقول ابن القيم رحمه الله: إذا كبر ابن آدم، اشتد حرصه، لأن ابن آدم يشيب ويشب معه اثنتان: الحرص وطول الأمل. يقول: أصابه الكبر، فالآية تعبر عن معانٍ قد لا نفقهها إذا قرأناها لأول مرة، لكن عندما يأتي مثل: ابن القيم رحمه الله يبين لنا، يقول: تعلق أول شيء قلبه بسبب نفاسة البستان، وبسبب أنه كبر سنه، فعجز عن الكسب والتجارة، واشتد حرصه بطبيعة كبر السن، وثالثاً: له ذرية ضعفاء، فهو حريص أن يبقى هذا البستان للذرية، وهؤلاء الذرية ليسوا أقوياء، لكنهم ضعفاء يحتاجون إلى من يكد عليهم، ورابعاً: أن نفقته عليهم- أي: هو أبوهم- فإذا تصورت هذه الحادثة من تعلقه بالبستان أشد ما يكون، وهو في هذا التعلق أصابه إعصار فيه نار فاحترقت، كيف يكون وضع الرجل؟ هذا مثل المرائين يوم القيامة.. يأتون بأعمال أمام النار، الواحد يحتاج لكل عمل، وعندهم أعمال، ولكن شبَّه حال احتياجهم للأعمال يوم القيامة بحال هذا الشيخ الكبير في السن، وأصاب أعمالهم إعصار الرياء فأحرقها، وأفلسوا وهم في أشد الحاجة، وفي وقت عصيب أشد ما تكون الحاجة إلى هذه الأعمال.
آية ضيافة إبراهيم وفقه ابن القيم فيها:
خذ مثلاً قول الله عز وجل: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:24-27] هذه الآيات استنبط ابن القيم رحمه الله منها خمسة عشر أدباً من آداب الضيافة. أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون. ثانياً:
قال: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الذاريات:25] فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان قد عرف بإكرام الضيفان، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورده لا يحتاج إلى الاستئذان. ثالثاً: قوله سلامٌ بالرفع، وهم قالوا: سلاماً وهذه جملة فعلية دالة على التجدد والحدوث والتغير، لكنه قال: سلامٌ، وهذه جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبات فليست متغيرة، فكان رد سلامه أفضل من سلامهم. رابعاً: أنه حذف المبتدأ من قوله: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:25] فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم، احتشم من مواجهتهم بلفظ الضيف، أي: ما قال: سلامٌ.. أنا لا أعرفكم أنتم غريبون عليَّ، وإنما قال سلامٌ وربطها بقوله: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:25] أي: سلام على قوم لأول مرة أراهم. خامساً: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: مُنْكَرُونَ [الذاريات:25] ولم يقل: أنا أنكرتكم، فهناك فرق بين أن تقول: سلام قوم غير معروفين، وهذه ألطف من أن تقول: سلامٌ عليكم قوم أنا لا أعرفكم.
سادساً:
أنه راغ إلى أهله لكي يأتي بالطعام، والروغان هو الذهاب في اختفاء. سابعاً: أنهم ما شعروا به إلا وقد جاءهم بالطعام مع أنه عجل مشوي، وهذا يدل على أنه كان مشغولاً بإكرام الضيف، ما ذهب واشترى وذبح واشتوى فانظر السرعة! فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] ولم يقل: ثم جاء، معناها أشياء مجهزة، يأتي إليه الضيف فيجد الطعام جاهز فيقول ابن القيم رحمه الله: يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه، ويقول له: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فيقول له: لا. ليس هناك داعي أن تأتي بالطعام، وبعد ذلك يحلف عليهم. ثامناً: أنه ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً. تاسعاً: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر لهم بعجل سمين، مثل أن يكون عند أحدهم خدم، فمن آداب الضيافة أن يأتي لك بالأكل بنفسه، ولا يقل للخادم: هات الطعام؟ بل يأتي بالطعام بنفسه؛ لأن في هذا زيادة في الإكرام. عاشراً: أنه جاء بعجل كامل ولم يأت ببعضه. الحادي عشر: أنه سمين لا هزيل، ومعروف أن ذلك من أفخر أموالهم. الثاني عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه. الثالث عشر: أنه قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] وهذا في غاية التلطف في العرض. الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل، لأنه رآهم لا يأكلون. الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من الأكل، خاف منهم ولم يظهر لهم، لأن الإنسان إذا لم يمد يده على الطعام فمعنى ذلك أن في نفسه شيئاً، فإبراهيم لم يقل: لماذا لم تأكلوا؟ إذن أنتم تريدون الشر؛ بل سكت، فالله أمرهم أن يقولوا له: لا تخف، نحن ملائكة لا نأكل؛ جئنا لغرض كذا وكذا. ومسألة استنباط ابن القيم من الآيات مسألة عجيبة؛ حتى أنه قال في كتاب الجواب الكافي : وفي هذه القصة- التي هي قصة يوسف- من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفق الله أن نفردها في مصنف مستقل.
خذ مثلاً قول الله عز وجل: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:24-27] هذه الآيات استنبط ابن القيم رحمه الله منها خمسة عشر أدباً من آداب الضيافة. أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون. ثانياً:
قال: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الذاريات:25] فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان قد عرف بإكرام الضيفان، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورده لا يحتاج إلى الاستئذان. ثالثاً: قوله سلامٌ بالرفع، وهم قالوا: سلاماً وهذه جملة فعلية دالة على التجدد والحدوث والتغير، لكنه قال: سلامٌ، وهذه جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبات فليست متغيرة، فكان رد سلامه أفضل من سلامهم. رابعاً: أنه حذف المبتدأ من قوله: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:25] فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم، احتشم من مواجهتهم بلفظ الضيف، أي: ما قال: سلامٌ.. أنا لا أعرفكم أنتم غريبون عليَّ، وإنما قال سلامٌ وربطها بقوله: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:25] أي: سلام على قوم لأول مرة أراهم. خامساً: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: مُنْكَرُونَ [الذاريات:25] ولم يقل: أنا أنكرتكم، فهناك فرق بين أن تقول: سلام قوم غير معروفين، وهذه ألطف من أن تقول: سلامٌ عليكم قوم أنا لا أعرفكم.
سادساً:
أنه راغ إلى أهله لكي يأتي بالطعام، والروغان هو الذهاب في اختفاء. سابعاً: أنهم ما شعروا به إلا وقد جاءهم بالطعام مع أنه عجل مشوي، وهذا يدل على أنه كان مشغولاً بإكرام الضيف، ما ذهب واشترى وذبح واشتوى فانظر السرعة! فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] ولم يقل: ثم جاء، معناها أشياء مجهزة، يأتي إليه الضيف فيجد الطعام جاهز فيقول ابن القيم رحمه الله: يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه، ويقول له: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فيقول له: لا. ليس هناك داعي أن تأتي بالطعام، وبعد ذلك يحلف عليهم. ثامناً: أنه ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً. تاسعاً: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر لهم بعجل سمين، مثل أن يكون عند أحدهم خدم، فمن آداب الضيافة أن يأتي لك بالأكل بنفسه، ولا يقل للخادم: هات الطعام؟ بل يأتي بالطعام بنفسه؛ لأن في هذا زيادة في الإكرام. عاشراً: أنه جاء بعجل كامل ولم يأت ببعضه. الحادي عشر: أنه سمين لا هزيل، ومعروف أن ذلك من أفخر أموالهم. الثاني عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه. الثالث عشر: أنه قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] وهذا في غاية التلطف في العرض. الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل، لأنه رآهم لا يأكلون. الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من الأكل، خاف منهم ولم يظهر لهم، لأن الإنسان إذا لم يمد يده على الطعام فمعنى ذلك أن في نفسه شيئاً، فإبراهيم لم يقل: لماذا لم تأكلوا؟ إذن أنتم تريدون الشر؛ بل سكت، فالله أمرهم أن يقولوا له: لا تخف، نحن ملائكة لا نأكل؛ جئنا لغرض كذا وكذا. ومسألة استنباط ابن القيم من الآيات مسألة عجيبة؛ حتى أنه قال في كتاب الجواب الكافي : وفي هذه القصة- التي هي قصة يوسف- من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفق الله أن نفردها في مصنف مستقل.
فقه الواقع عند ابن القيم:
كان ابن القيم -رحمه الله- لديه إلمام تام بواقعه وعصره، ما كان يعيش بين الكتب منزوياً لا يدري عن شيء؛ بل كان لديه اطلاع جيد، وكان يعرف البدع وأهل الأهواء في عصره، وكان في عصره هجوم للنصارى على بلاد المسلمين، وهجوم للتتر، وكان رحمه الله يعرف مخططات النصارى في بلاد المسلمين، انظر إليه وهو ييقول في كتابه الجواب الكافي -هذه مسألة مهمة جداً وهي أن نعلم كيف كان العلماء من قبل عندهم تكامل، لم يكونوا مغمضي الأعين عما يحدث في الواقع؛ بل كان لديهم حس ومعرفة، وإلمام واطلاع- يقول: "وإذا أراد النصارى أن يُنصِّروا الأسير المسلم، أروه امرأة جميلة منهم، وأمروها أن تطمعه في نفسها -وصارت هي التي تدخل عليه السجن- حتى إذا تمكن حبها من قلبه، بذلت له نفسها إن دخل في دينها، يقول ابن القيم رحمه الله تعليقاً: فهناك يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]" هذا ابن القيم رحمه الله كان يعرف عن مخططات النصارى، وهذه سمة يفتقدها ويفتقر إليها كثير من أصحاب النيات الطيبة في هذا الزمان، فإنهم قد يقرءون في كتب العلم الشرعي، والأصول الشرعية، لكنهم لا يدرون شيئاً عن مخططات العلمانية، و الماسونية، و الشيوعية، والمذاهب الإلحادية الهدامة، لا يدرون عنها شيئاً، فقط علمهم بالقديم أما الجديد فلا. وأيضاً هناك طائفة أخرى على الضد من ذلك يتوسعون في معرفة الطوائف، ومعرفة المذاهب الفكرية الجديدة، ومعرفة المخططات والاستعمار وغير ذلك، لكنهم لا يعرفون أبداً ما هو مسطر في كتب السلف ، لكن عندما يأتي واحد مثل: ابن القيم ويقول هذا الكلام، وعنده علم شرعي زائد، وإلمام بالواقع، وشيخه ابن تيمية رحمه الله الذي درس على يديه، وكان يعرف مخططات التتر، ويكتب عنهم، ويحذر منهم، ويجعل الأمة تنهض نهضة عامة لتنتصر على التتر، ويقسم أيماناً أن المسلمين سينتصرون على التتر، وكان ابن تيمية يوزع حلوى النصر قبل أن تقوم المعركة، ويقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، ويعرف المخططات، ويعرف خطر النصيرية في الجبال، فيذهب إليهم ابن تيمية رحمه الله ومعه جيش الإسلام فيؤدبهم.. علماء أجلاء عرفوا الواقع، وكان عندهم علم بالشريعة، فحصل الخير العظيم بوجودهم.
كان ابن القيم -رحمه الله- لديه إلمام تام بواقعه وعصره، ما كان يعيش بين الكتب منزوياً لا يدري عن شيء؛ بل كان لديه اطلاع جيد، وكان يعرف البدع وأهل الأهواء في عصره، وكان في عصره هجوم للنصارى على بلاد المسلمين، وهجوم للتتر، وكان رحمه الله يعرف مخططات النصارى في بلاد المسلمين، انظر إليه وهو ييقول في كتابه الجواب الكافي -هذه مسألة مهمة جداً وهي أن نعلم كيف كان العلماء من قبل عندهم تكامل، لم يكونوا مغمضي الأعين عما يحدث في الواقع؛ بل كان لديهم حس ومعرفة، وإلمام واطلاع- يقول: "وإذا أراد النصارى أن يُنصِّروا الأسير المسلم، أروه امرأة جميلة منهم، وأمروها أن تطمعه في نفسها -وصارت هي التي تدخل عليه السجن- حتى إذا تمكن حبها من قلبه، بذلت له نفسها إن دخل في دينها، يقول ابن القيم رحمه الله تعليقاً: فهناك يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]" هذا ابن القيم رحمه الله كان يعرف عن مخططات النصارى، وهذه سمة يفتقدها ويفتقر إليها كثير من أصحاب النيات الطيبة في هذا الزمان، فإنهم قد يقرءون في كتب العلم الشرعي، والأصول الشرعية، لكنهم لا يدرون شيئاً عن مخططات العلمانية، و الماسونية، و الشيوعية، والمذاهب الإلحادية الهدامة، لا يدرون عنها شيئاً، فقط علمهم بالقديم أما الجديد فلا. وأيضاً هناك طائفة أخرى على الضد من ذلك يتوسعون في معرفة الطوائف، ومعرفة المذاهب الفكرية الجديدة، ومعرفة المخططات والاستعمار وغير ذلك، لكنهم لا يعرفون أبداً ما هو مسطر في كتب السلف ، لكن عندما يأتي واحد مثل: ابن القيم ويقول هذا الكلام، وعنده علم شرعي زائد، وإلمام بالواقع، وشيخه ابن تيمية رحمه الله الذي درس على يديه، وكان يعرف مخططات التتر، ويكتب عنهم، ويحذر منهم، ويجعل الأمة تنهض نهضة عامة لتنتصر على التتر، ويقسم أيماناً أن المسلمين سينتصرون على التتر، وكان ابن تيمية يوزع حلوى النصر قبل أن تقوم المعركة، ويقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، ويعرف المخططات، ويعرف خطر النصيرية في الجبال، فيذهب إليهم ابن تيمية رحمه الله ومعه جيش الإسلام فيؤدبهم.. علماء أجلاء عرفوا الواقع، وكان عندهم علم بالشريعة، فحصل الخير العظيم بوجودهم.
موقف ابن القيم من أهل البدع:
وكان أيضاً مما فعله ابن القيم -رحمه الله- تصديه لتيارات الصوفية المنحرفة من أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد الذين يقولون: الله في كل مكان.. في الشارع.. في الخلاء، وأن المخلوقين جزء من الله. كما قال قائلهم:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهبٌ في كنيسته
كان ابن القيم -رحمه الله- ممن تصدوا للتيارات المنحرفة، ويقول -مثلاً- فاضحاً لهم: سئل الشبلي من المتصوفة متى تستريح؟ قال: إذا ما رأيت له ذاكراً -أي: إذا ما رأيت أحداً يذكر الله، أستريح- لماذا؟ قال: لأني أغار، فلذلك لا أريد أحد يذكر الله -فهذا من الضلال والعياذ بالله- ثم قال: مات ابن له، فقطعت أمه شعرها، فدخل هو الحمام ونور لحيته -يعني: أزال اللحية حتى ذهب شعر هذا الضال- فقيل له: لماذا فعلت هذا؟ قال: إنهم يعزونني على الغفلة، ويقولون: آجرك الله، ففديت ذكرهم لله على الغفلة بلحيتي. و ابن القيم رحمه الله يذكر هذا ويسطره، ويقول: هذه ضلالاتهم فانظروا كيف عملوا! وقال: ونظير هذا ما يحكى عن فلان أنه سمع رجلاً يؤذن، فقال: طعنة وسم الموت، لأنه لا يريد أن يسمع لفظ الجلالة، وسمع كلباً ينبح، فقال: لبيك وسعديك، وسمع الشبلي مرة رجلاً يقول: جل الله، فقال: أحب أن تجله عن هذه.. ويا عجباً ممن يعد هذا في مناقب رجل! يقول ابن القيم : عجيب أن هذا يعد في مناقب فلان وفلان، ويزين به كتابه.. وهكذا، وكذلك تكلم على سمنون -وهو من المتصوفة - وكان من غروره أن قال:
وليس لي من هواك بدٌ فكيف ما شئت فامتحني
يقول: يا ألله! مثلما تريد أن تعمل فيَّ أنا مستعد، وأنت فقط اعمل الذي تريد، ويقول: اللهم اجعلني سقف البلاء على خلقك، إذا أردت أن تنزل بلية على الخلق أنزلها عليَّ فأنا مستعد أن أتحمل، فابتلاه الله بحصوة في الكلية، أو بعسر البول، فكان يقفز مثل القرد من الألم، ويطوف على صبيان المكاتب، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.
وكان أيضاً مما فعله ابن القيم -رحمه الله- تصديه لتيارات الصوفية المنحرفة من أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد الذين يقولون: الله في كل مكان.. في الشارع.. في الخلاء، وأن المخلوقين جزء من الله. كما قال قائلهم:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهبٌ في كنيسته
كان ابن القيم -رحمه الله- ممن تصدوا للتيارات المنحرفة، ويقول -مثلاً- فاضحاً لهم: سئل الشبلي من المتصوفة متى تستريح؟ قال: إذا ما رأيت له ذاكراً -أي: إذا ما رأيت أحداً يذكر الله، أستريح- لماذا؟ قال: لأني أغار، فلذلك لا أريد أحد يذكر الله -فهذا من الضلال والعياذ بالله- ثم قال: مات ابن له، فقطعت أمه شعرها، فدخل هو الحمام ونور لحيته -يعني: أزال اللحية حتى ذهب شعر هذا الضال- فقيل له: لماذا فعلت هذا؟ قال: إنهم يعزونني على الغفلة، ويقولون: آجرك الله، ففديت ذكرهم لله على الغفلة بلحيتي. و ابن القيم رحمه الله يذكر هذا ويسطره، ويقول: هذه ضلالاتهم فانظروا كيف عملوا! وقال: ونظير هذا ما يحكى عن فلان أنه سمع رجلاً يؤذن، فقال: طعنة وسم الموت، لأنه لا يريد أن يسمع لفظ الجلالة، وسمع كلباً ينبح، فقال: لبيك وسعديك، وسمع الشبلي مرة رجلاً يقول: جل الله، فقال: أحب أن تجله عن هذه.. ويا عجباً ممن يعد هذا في مناقب رجل! يقول ابن القيم : عجيب أن هذا يعد في مناقب فلان وفلان، ويزين به كتابه.. وهكذا، وكذلك تكلم على سمنون -وهو من المتصوفة - وكان من غروره أن قال:
وليس لي من هواك بدٌ فكيف ما شئت فامتحني
يقول: يا ألله! مثلما تريد أن تعمل فيَّ أنا مستعد، وأنت فقط اعمل الذي تريد، ويقول: اللهم اجعلني سقف البلاء على خلقك، إذا أردت أن تنزل بلية على الخلق أنزلها عليَّ فأنا مستعد أن أتحمل، فابتلاه الله بحصوة في الكلية، أو بعسر البول، فكان يقفز مثل القرد من الألم، ويطوف على صبيان المكاتب، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.
نبذة عن إغاثة اللهفان تبين تصدي ابن القيم للتصوف المنحرف:
كتاب ابن القيم رحمه الله إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان فيه ذكر كثير، ورد كبير على الصوفية وعلى طرقهم المنحله، فقال في إحدى القصائد التي نقلها عن مبلغ علم الصوفي بالشريعة:
إن قلت قال الله قال رسولـه همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت قد قال الصحابة والألى تبعوهمُ في القول والأعمـالِ
أو قلت قال الآل آل المصطفى صلى عليـه الله أفضـل آل
أو قلت قال الشافعي و أحمـد و أبو حنيفة والإمام العـالي
أو قلت قال صحابهم من بعـد هم فالكل عندهم كشبه خيالِ
كل هؤلاء لا يعجبون الصوفية ، ولا يأخذون بهم لا بالكتاب ولا بالسنة، ولا بأقوال الأئمة، وإنما يأخذون كما قال:
ويقول: قلبي قال لي عن سره عن سـر سري عـن صـفا أحـوالـي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صفو وقتي عـن حقيقـة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فـعالي
هذا هو كلام الصوفية.
دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقـاب زور لفقــت بمحـالِ
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا بظواهر الجهال والظلال
نبذة من النونية في ذم التأويل
وكذلك تجد ابن القيم -رحمه الله- عندما يرد على الأشاعرة المنحرفين في مسائل الصفات، يهزأ بهم بما يشعر السامع بضلالهم فعلاً، ليس بالسب والشتم، وإنما انظر إليه وهو يقول في النونية المسماة بـالكافية الشافية في الانتصار للفرقة ا لناجية ، هذه القصيدة بلغت ستة آلاف بيت، نظمها من البحر الطويل، كلها منافحة عن الكتاب والسنة، ودعوة للكتاب والسنة، ورد على المبتدعة، تقرأ وأنت تشعر أن الرجل يتكلم من قلبه، وليس شاعراً يؤلف من خياله، فانظر مثلاً وهو يرد على الجهمية في الاستواء؛ لأن الجهمية قالوا: استوى بمعني: استولى، قال:
أمر اليهود بأن يقولوا حطة فأبوا وقالوا: حنطةً لهوان
اليهود قال الله لهم: قولوا: حطة، بمعنى: اللهم حط عنا ذنوبنا، فأضافوا النون، وقالوا: حنطة! استهزاءً وسخرية.
وكذلك الجهمي قيل له: استوى فأبى وزاد اللام للنكران
أي: قال: استولى. ثم يقول ابن القيم :
نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان
كتاب ابن القيم رحمه الله إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان فيه ذكر كثير، ورد كبير على الصوفية وعلى طرقهم المنحله، فقال في إحدى القصائد التي نقلها عن مبلغ علم الصوفي بالشريعة:
إن قلت قال الله قال رسولـه همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت قد قال الصحابة والألى تبعوهمُ في القول والأعمـالِ
أو قلت قال الآل آل المصطفى صلى عليـه الله أفضـل آل
أو قلت قال الشافعي و أحمـد و أبو حنيفة والإمام العـالي
أو قلت قال صحابهم من بعـد هم فالكل عندهم كشبه خيالِ
كل هؤلاء لا يعجبون الصوفية ، ولا يأخذون بهم لا بالكتاب ولا بالسنة، ولا بأقوال الأئمة، وإنما يأخذون كما قال:
ويقول: قلبي قال لي عن سره عن سـر سري عـن صـفا أحـوالـي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صفو وقتي عـن حقيقـة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فـعالي
هذا هو كلام الصوفية.
دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقـاب زور لفقــت بمحـالِ
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا بظواهر الجهال والظلال
نبذة من النونية في ذم التأويل
وكذلك تجد ابن القيم -رحمه الله- عندما يرد على الأشاعرة المنحرفين في مسائل الصفات، يهزأ بهم بما يشعر السامع بضلالهم فعلاً، ليس بالسب والشتم، وإنما انظر إليه وهو يقول في النونية المسماة بـالكافية الشافية في الانتصار للفرقة ا لناجية ، هذه القصيدة بلغت ستة آلاف بيت، نظمها من البحر الطويل، كلها منافحة عن الكتاب والسنة، ودعوة للكتاب والسنة، ورد على المبتدعة، تقرأ وأنت تشعر أن الرجل يتكلم من قلبه، وليس شاعراً يؤلف من خياله، فانظر مثلاً وهو يرد على الجهمية في الاستواء؛ لأن الجهمية قالوا: استوى بمعني: استولى، قال:
أمر اليهود بأن يقولوا حطة فأبوا وقالوا: حنطةً لهوان
اليهود قال الله لهم: قولوا: حطة، بمعنى: اللهم حط عنا ذنوبنا، فأضافوا النون، وقالوا: حنطة! استهزاءً وسخرية.
وكذلك الجهمي قيل له: استوى فأبى وزاد اللام للنكران
أي: قال: استولى. ثم يقول ابن القيم :
نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان
كلام ابن القيم عن المرجئة من النونية:
وقال في المرجئة الذين يقولون: من قال: لا إله إلا الله إيمانه صحيح، ومهما فعل فهو مسلم، وإذا ارتكب كبائر فهي معاصي لكنه لا يكفر مهما فعل، لأنه قال: لا إله إلا الله، وهذه العقيدة خطيرة، لأنه يمكن أن يقول أحدهم: لا إله إلا الله ورجله فوق المصحف، وتقول: هذا مسلم، وهو ينقض لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله لها شروط، وليست كلمة تقال هكذا.. يقول ابن القيم رحمه الله:
وكذلك الإرجاء حين تقر بالـ ـمعبود تصبح كامل الإيمانِ
على زعم المرجئة .
فارم المصاحف في الحشوش و خرب البيت العتيق وجد في العصيانِ
واشتم جميع المرسلين ومن أتوا من عنده جهراً بلا كتمانِ
وإذا رأيت حجـارةً فاسجد لها بل خِرّ للأصنام والأوثـانِ
وأقـرَّ أن الله جـل جلالـه ووحده البـاري لذي الأكـوانِ
وأقرَّ أن رسوله حقـاً أتـى من عنـده بالوحـي والقـرآن
فتكون حقاً مؤمـناً وجمـيع ذا وزرٌ علـيك وليس بالكفرانِ
ثم يقول:
هذا هو الإرجاء عند غلا تهم من كل جهمي أخي الشيطانِ
يقول: هذه عقيدة المرجئة تكفر وتفعل ما تريد، لكن المهم أن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فتصبح مسلماً.
وقال في المرجئة الذين يقولون: من قال: لا إله إلا الله إيمانه صحيح، ومهما فعل فهو مسلم، وإذا ارتكب كبائر فهي معاصي لكنه لا يكفر مهما فعل، لأنه قال: لا إله إلا الله، وهذه العقيدة خطيرة، لأنه يمكن أن يقول أحدهم: لا إله إلا الله ورجله فوق المصحف، وتقول: هذا مسلم، وهو ينقض لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله لها شروط، وليست كلمة تقال هكذا.. يقول ابن القيم رحمه الله:
وكذلك الإرجاء حين تقر بالـ ـمعبود تصبح كامل الإيمانِ
على زعم المرجئة .
فارم المصاحف في الحشوش و خرب البيت العتيق وجد في العصيانِ
واشتم جميع المرسلين ومن أتوا من عنده جهراً بلا كتمانِ
وإذا رأيت حجـارةً فاسجد لها بل خِرّ للأصنام والأوثـانِ
وأقـرَّ أن الله جـل جلالـه ووحده البـاري لذي الأكـوانِ
وأقرَّ أن رسوله حقـاً أتـى من عنـده بالوحـي والقـرآن
فتكون حقاً مؤمـناً وجمـيع ذا وزرٌ علـيك وليس بالكفرانِ
ثم يقول:
هذا هو الإرجاء عند غلا تهم من كل جهمي أخي الشيطانِ
يقول: هذه عقيدة المرجئة تكفر وتفعل ما تريد، لكن المهم أن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فتصبح مسلماً.
مقتطفات متفرقة من حياة ابن القيم:
مميزات مؤلفات ابن القيم:
تتميز مؤلفات ابن القيم رحمه الله بأنه يأتي بالوجوه العظيمة سواءً كان في البيان، أو في الرد، بل إنه أحياناً يأتي في مسألة يقول: استدل المخالفون بكذا، ويأتي بعشرين وجه، إذا قرأتها تقول: الآن اقتنعت، وتقول: مستحيل أن أحداً يرد عليها، ثم يقول ابن القيم : أما الجواب عن الوجه الأول، كذا وكذا، والجواب عن الوجه الثاني كذا وكذا، والجواب على الوجه الثالث كذا وكذا، فينسفها كلها بعد أن تكون قد اقتنعت بها.
مميزات مؤلفات ابن القيم:
تتميز مؤلفات ابن القيم رحمه الله بأنه يأتي بالوجوه العظيمة سواءً كان في البيان، أو في الرد، بل إنه أحياناً يأتي في مسألة يقول: استدل المخالفون بكذا، ويأتي بعشرين وجه، إذا قرأتها تقول: الآن اقتنعت، وتقول: مستحيل أن أحداً يرد عليها، ثم يقول ابن القيم : أما الجواب عن الوجه الأول، كذا وكذا، والجواب عن الوجه الثاني كذا وكذا، والجواب على الوجه الثالث كذا وكذا، فينسفها كلها بعد أن تكون قد اقتنعت بها.
حث ابن القيم على طلب العلم:
كذلك مثلاً: كان يبين فضل العلم، ويريد أن يقول للناس: يأ يها الناس! اهتموا بالعلم، ولا تهتموا بجمع الأموال، ولا تشغلكم الدنيا عن العلم، فمثلاً يقول: العلم أفضل من المال لعدة وجوه: أولاً: أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء. ثانياً: أن العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله، فالذي عنده مال يسهر على حراسة المال، لكن العلم هو الذي يحرس صاحبه من الوقوع في الضلال، والزيغ والبدع.. وهكذا. ثالثاً: أن المال تذهبه النفقات، والعلم يزكو مع الإنفاق، ويزداد ويرسخ. رابعاً: أن صاحب المال إذا مات يفارقه ماله، والعالم يدخل معه علمه في قبره. خامساً: أن العلم حاكم على المال، والمال لا يحكم على العلم، فالعلم يحكم في المال.. الزكاة تحكم في العلم..
المواريث تحكم في العلم.. النذور تحكم في العلم.. وهكذا، لكن المال لا يحكم في العلم. سادساً: أن المال يحصل للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن. سابعاً: أن العالم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم والفاقة.. العالم الحقيقي لا يقف على أبواب السلاطين،
جاء سليمان بن عبد الملك إلى مكة ليحج، فسأل هو وولداه على مسألة في الحج، ودخل على عطاء بن أبي رباح الرجل الأسود الأعمى الأفطس الأعرج المشلول -دخل عليه سليمان بن عبد الملك ،
فوجد عطاء يصلي، وأطال في الصلاة ولم يعبر سليمان الخليفة، وانتظر سليمان حتى فرغ عطاء من الصلاة، فسأله، فما التفت إليه عطاء وإنما أجابه على السؤال ووجهه إلى القبلة،
فلما خرج سليمان قال لأبنائه: يا بني! اطلبوا العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود، هذا عطاء بن أبي رباح العبد الأسود لما كان صغيراً وجد مشوهاً، وكان فيه هذه العيوب الخلقية، فقالت له أمه- والأم تحب الولد-: يا بني! اطلب العلم، فإن شكلك ومنظرك لا يمكن أن ينظر إليك الناس؛ لكن اطلب العلم، فطلب العلم من صغره، فصار قاضي مكة ، وكان يأتي إليه الأجلاء يطلبون عنده العلم، وكان من خلقته أنه مرة كان يدعو الله، ويقول: اللهم اعتق رقبتي من النار، فمرت به عجوز، فقالت: وأي رقبة لك يا بني، بمعنى أن رأسه داخل في جسده،
هذا الرجل أصبح قاضي مكة ، إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين. ثامناً: المال يدعو إلى الطغيان والفخر، والعلم يدعو إلى التواضع والعبودية. تاسعاً: غنى العلم أجل من غنى المال..
غنى المال أمر خارجي عن الإنسان لو ذهب في ليلة لأصبح الإنسان فقيراً، لكن لم نر أن عالماً نام ثم استيقظ في الصباح ووجد نفسه ليس عنده علم، لكن يمكن أن تجد شخصاً مليونيراً نام في الليل،
ورأى في البورصة تحققت أحلامه فيقوم اليوم الثاني وعليه ديون الدنيا. إذن عندما يأتي أحد الناس ويقول: هذه أوجه التفاضل بين العلم والمال، فالعاقل يقتنع حقيقةً.
كذلك مثلاً: كان يبين فضل العلم، ويريد أن يقول للناس: يأ يها الناس! اهتموا بالعلم، ولا تهتموا بجمع الأموال، ولا تشغلكم الدنيا عن العلم، فمثلاً يقول: العلم أفضل من المال لعدة وجوه: أولاً: أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء. ثانياً: أن العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله، فالذي عنده مال يسهر على حراسة المال، لكن العلم هو الذي يحرس صاحبه من الوقوع في الضلال، والزيغ والبدع.. وهكذا. ثالثاً: أن المال تذهبه النفقات، والعلم يزكو مع الإنفاق، ويزداد ويرسخ. رابعاً: أن صاحب المال إذا مات يفارقه ماله، والعالم يدخل معه علمه في قبره. خامساً: أن العلم حاكم على المال، والمال لا يحكم على العلم، فالعلم يحكم في المال.. الزكاة تحكم في العلم..
المواريث تحكم في العلم.. النذور تحكم في العلم.. وهكذا، لكن المال لا يحكم في العلم. سادساً: أن المال يحصل للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن. سابعاً: أن العالم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم والفاقة.. العالم الحقيقي لا يقف على أبواب السلاطين،
جاء سليمان بن عبد الملك إلى مكة ليحج، فسأل هو وولداه على مسألة في الحج، ودخل على عطاء بن أبي رباح الرجل الأسود الأعمى الأفطس الأعرج المشلول -دخل عليه سليمان بن عبد الملك ،
فوجد عطاء يصلي، وأطال في الصلاة ولم يعبر سليمان الخليفة، وانتظر سليمان حتى فرغ عطاء من الصلاة، فسأله، فما التفت إليه عطاء وإنما أجابه على السؤال ووجهه إلى القبلة،
فلما خرج سليمان قال لأبنائه: يا بني! اطلبوا العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود، هذا عطاء بن أبي رباح العبد الأسود لما كان صغيراً وجد مشوهاً، وكان فيه هذه العيوب الخلقية، فقالت له أمه- والأم تحب الولد-: يا بني! اطلب العلم، فإن شكلك ومنظرك لا يمكن أن ينظر إليك الناس؛ لكن اطلب العلم، فطلب العلم من صغره، فصار قاضي مكة ، وكان يأتي إليه الأجلاء يطلبون عنده العلم، وكان من خلقته أنه مرة كان يدعو الله، ويقول: اللهم اعتق رقبتي من النار، فمرت به عجوز، فقالت: وأي رقبة لك يا بني، بمعنى أن رأسه داخل في جسده،
هذا الرجل أصبح قاضي مكة ، إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين. ثامناً: المال يدعو إلى الطغيان والفخر، والعلم يدعو إلى التواضع والعبودية. تاسعاً: غنى العلم أجل من غنى المال..
غنى المال أمر خارجي عن الإنسان لو ذهب في ليلة لأصبح الإنسان فقيراً، لكن لم نر أن عالماً نام ثم استيقظ في الصباح ووجد نفسه ليس عنده علم، لكن يمكن أن تجد شخصاً مليونيراً نام في الليل،
ورأى في البورصة تحققت أحلامه فيقوم اليوم الثاني وعليه ديون الدنيا. إذن عندما يأتي أحد الناس ويقول: هذه أوجه التفاضل بين العلم والمال، فالعاقل يقتنع حقيقةً.
حث ابن القيم على ذكر الله:
عندما يتكلم ابن القيم -رحمه الله- عن الأذكار مثلاً.. يقول: إن العبد مطالب أن يذكر الله ولو ذكره في أربع مواطن لدل على صدق العبد: 1- عند النوم. 2- أول ما يستيقظ من النوم. 3- في الصلاة. 4- عند الأهوال والشدائد، لأن الإنسان عند الشدائد يذكر أقرب شيء لنفسه، فلو كان يذكر الله أول ما تحصل له الشدة، فهذا يدل على أنه مرتبط بالله عز وجل.
عندما يتكلم ابن القيم -رحمه الله- عن الأذكار مثلاً.. يقول: إن العبد مطالب أن يذكر الله ولو ذكره في أربع مواطن لدل على صدق العبد: 1- عند النوم. 2- أول ما يستيقظ من النوم. 3- في الصلاة. 4- عند الأهوال والشدائد، لأن الإنسان عند الشدائد يذكر أقرب شيء لنفسه، فلو كان يذكر الله أول ما تحصل له الشدة، فهذا يدل على أنه مرتبط بالله عز وجل.
تفاؤل ابن القيم:
وهذا الرجل مما يمتاز به أنه من العلماء العاملين، فمثال ذلك: أنه يدعو الناس إلى التفاؤل -كما وردت به السنة- ونبذ التشاؤم، وهذه قصة وقعت له، يقول في آخر كتاب مفتاح دار السعادة: وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك، وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بـمكة وكان طفلاً، فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الركب إلى وقت يوم الثامن، فلم أقدر له على خبر، فأيست منه، فقال لي إنسان: إن هذا عجزٌ، اركب وادخل الآن إلى مكة فتطلبه، فركبت فرساً، فما هو إلا أن استقبلت جماعةً يتحدثون في سواد الليل في الطريق، وأحدهم يقول: ضاع لي شيء فلقيته، والتفاؤل هو أنك تسمع قولاً، أو ترى شيئاً حسناً فتتفاءل منه، فقد يجري الله بقدره بهذا التفاؤل أن يحدث لك ما تريده أنت، فـابن القيم يبحث عن الولد، فيقول: فسمعت إنساناً يقول: ضاع لي شيء فوجدته، ثم قال: فلا أدري انقضاء كلمته أسرع أم وجد الطفل مع بعض أهل مكة في محملة عرفته بصوته.
وهذا الرجل مما يمتاز به أنه من العلماء العاملين، فمثال ذلك: أنه يدعو الناس إلى التفاؤل -كما وردت به السنة- ونبذ التشاؤم، وهذه قصة وقعت له، يقول في آخر كتاب مفتاح دار السعادة: وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك، وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بـمكة وكان طفلاً، فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الركب إلى وقت يوم الثامن، فلم أقدر له على خبر، فأيست منه، فقال لي إنسان: إن هذا عجزٌ، اركب وادخل الآن إلى مكة فتطلبه، فركبت فرساً، فما هو إلا أن استقبلت جماعةً يتحدثون في سواد الليل في الطريق، وأحدهم يقول: ضاع لي شيء فلقيته، والتفاؤل هو أنك تسمع قولاً، أو ترى شيئاً حسناً فتتفاءل منه، فقد يجري الله بقدره بهذا التفاؤل أن يحدث لك ما تريده أنت، فـابن القيم يبحث عن الولد، فيقول: فسمعت إنساناً يقول: ضاع لي شيء فوجدته، ثم قال: فلا أدري انقضاء كلمته أسرع أم وجد الطفل مع بعض أهل مكة في محملة عرفته بصوته.
مساهمة ابن القيم في حلول المشاكل الاجتماعية والأمراض النفسية:
ولـابن القيم -رحمه الله- إسهام كبير في حلول المشاكل الاجتماعية والأمراض النفسية، فمثلاً: كلامه في الوسوسة موجود في إغاثة اللهفان وغيره، وهو كلام عظيم جداً، والوسوسة مرض خطير، وأيضاً: مرض الهوى والعشق وهو مرض قاتل وخطير جداً؛ ولذلك ألف ابن القيم رحمه الله كتاب الجواب الكافي لعلاج هذا المرض، وهذا الكتاب عبارة عن سؤال وهو: ماذا تقول سادة العلماء أئمة الدين برجل ابتلي ببلية، وعلم أنه إذا استمرت عليه، أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما يزداد إلا توقداً وشدةً، فما الحيلة إلى دفعها؟
وما الطريق إلى كشفها؟ رحم الله من أعان مبتلى، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه أفتونا مأجورين؟ فيذهب ويصنف كتاباً في علاج هذا المرض؛ من أجل سؤال، ثم ينصحه فيقول: أولاً: ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواء، وشفاء العي السؤال، ثم يتكلم عن الرقية، ثم يتكلم عن الدعاء وأهمية الدعاء في علاج مرض العشق والهوى، وكيف يكون الدعاء صادقاً، ودعاء الله بأسمائه الحسنى، وموانع الدعاء، وشروط الدعاء، وآداب الدعاء، وحسن الظن بالله، وإيثار الآخرة على الدنيا، ويتكلم عن عذاب القبر، وأن على المسلم أن يرجو الله، ويتكلم عن أضرار الذنوب؛ لأن العشق والهوى يملأ الإنسان بالذنوب، ويقول: الذنوب مثل السم في الجسم وينتج عنها حرمان العلم والوحشة والقلق والمهانة عند الله وعند الخلق، والذل، وإفساد العقل والقلب، والدخول تحت اللعنة، ويتكلم عن عقوبة العصاة في الآخرة، وحدود الله في العصاة في الدنيا.. الزنا واللواط، ويتكلم عن الحدود، وعن عاقبة قوم لوط، وكيف فعل الله بقوم لوط، ويتكلم عن خطورة عشق الصور، وماذا تودي بالإنسان؟ وأنها تقذف به إلى الشرك، فكان هذا منهجه في علاج مشكلة الهوى والعشق.
ولـابن القيم -رحمه الله- إسهام كبير في حلول المشاكل الاجتماعية والأمراض النفسية، فمثلاً: كلامه في الوسوسة موجود في إغاثة اللهفان وغيره، وهو كلام عظيم جداً، والوسوسة مرض خطير، وأيضاً: مرض الهوى والعشق وهو مرض قاتل وخطير جداً؛ ولذلك ألف ابن القيم رحمه الله كتاب الجواب الكافي لعلاج هذا المرض، وهذا الكتاب عبارة عن سؤال وهو: ماذا تقول سادة العلماء أئمة الدين برجل ابتلي ببلية، وعلم أنه إذا استمرت عليه، أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما يزداد إلا توقداً وشدةً، فما الحيلة إلى دفعها؟
وما الطريق إلى كشفها؟ رحم الله من أعان مبتلى، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه أفتونا مأجورين؟ فيذهب ويصنف كتاباً في علاج هذا المرض؛ من أجل سؤال، ثم ينصحه فيقول: أولاً: ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواء، وشفاء العي السؤال، ثم يتكلم عن الرقية، ثم يتكلم عن الدعاء وأهمية الدعاء في علاج مرض العشق والهوى، وكيف يكون الدعاء صادقاً، ودعاء الله بأسمائه الحسنى، وموانع الدعاء، وشروط الدعاء، وآداب الدعاء، وحسن الظن بالله، وإيثار الآخرة على الدنيا، ويتكلم عن عذاب القبر، وأن على المسلم أن يرجو الله، ويتكلم عن أضرار الذنوب؛ لأن العشق والهوى يملأ الإنسان بالذنوب، ويقول: الذنوب مثل السم في الجسم وينتج عنها حرمان العلم والوحشة والقلق والمهانة عند الله وعند الخلق، والذل، وإفساد العقل والقلب، والدخول تحت اللعنة، ويتكلم عن عقوبة العصاة في الآخرة، وحدود الله في العصاة في الدنيا.. الزنا واللواط، ويتكلم عن الحدود، وعن عاقبة قوم لوط، وكيف فعل الله بقوم لوط، ويتكلم عن خطورة عشق الصور، وماذا تودي بالإنسان؟ وأنها تقذف به إلى الشرك، فكان هذا منهجه في علاج مشكلة الهوى والعشق.
شهرة ابن القيم بضرب الأمثال:
كان -رحمه الله- مشهوراً بضرب الأمثال، فمثلاً يقول في قضية التوكل: ينبغي أن يوكل المرء أمره إلى الله، ويشعر أنه إذا وكل أمره إلى الله كأنه دخل حصناً حصيناً، والأعداء لا يستطيعون أن يصلوا إليه، وكذلك حال الإنسان في الإنفاق وهو يتوكل على الله وينفق، يقول: مثل ملك قال لأحد رعيته:
إذا أنفقت، أعطيك بدل الذي أنفقته من خزائني أضعافه، فإذا علم صدق الملك، ووثق به، واطمئن إليه، وعلم أن خزينة الملك لا تنفذ، فما الذي يمنعه من الإنفاق، ثم يمثل المتوكل بحال الطفل الرضيع، الذي لا يعرف من الدنيا إلا ثدي الأم، فلا يهتدي إلا إليه ولا يقبل على غيره، وكذلك ينبغي أن يكون المتوكل على الله مثل الطفل الذي يقبل على ثدي أمه. ومن أمثاله أيضاً: يقول: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمراتها، فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية، فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاد يوم المعاد، ثم يقول:
إن هذه الشجرة ينبغي أن تسقى بماء الإخلاص والمتابعة لتكون الثمار طيبة في الآخرة. وعندما يتكلم ابن القيم في مدارج السالكين عن منازل من أعمال القلوب، تنذهل وتندهش حقيقةً من القدرة التي أوتيها هذا الرجل -رحمه الله تعالى- فمثلاً عندما يتكلم عن المحبة يقول: الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيله، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليله،
وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيله، والمحبة هي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها.. إلى آخره.
كان -رحمه الله- مشهوراً بضرب الأمثال، فمثلاً يقول في قضية التوكل: ينبغي أن يوكل المرء أمره إلى الله، ويشعر أنه إذا وكل أمره إلى الله كأنه دخل حصناً حصيناً، والأعداء لا يستطيعون أن يصلوا إليه، وكذلك حال الإنسان في الإنفاق وهو يتوكل على الله وينفق، يقول: مثل ملك قال لأحد رعيته:
إذا أنفقت، أعطيك بدل الذي أنفقته من خزائني أضعافه، فإذا علم صدق الملك، ووثق به، واطمئن إليه، وعلم أن خزينة الملك لا تنفذ، فما الذي يمنعه من الإنفاق، ثم يمثل المتوكل بحال الطفل الرضيع، الذي لا يعرف من الدنيا إلا ثدي الأم، فلا يهتدي إلا إليه ولا يقبل على غيره، وكذلك ينبغي أن يكون المتوكل على الله مثل الطفل الذي يقبل على ثدي أمه. ومن أمثاله أيضاً: يقول: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمراتها، فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية، فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاد يوم المعاد، ثم يقول:
إن هذه الشجرة ينبغي أن تسقى بماء الإخلاص والمتابعة لتكون الثمار طيبة في الآخرة. وعندما يتكلم ابن القيم في مدارج السالكين عن منازل من أعمال القلوب، تنذهل وتندهش حقيقةً من القدرة التي أوتيها هذا الرجل -رحمه الله تعالى- فمثلاً عندما يتكلم عن المحبة يقول: الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيله، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليله،
وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيله، والمحبة هي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها.. إلى آخره.
قدرة ابن القيم على التحليلات النفسية:
ابن القيم -رحمه الله- صاحب فكر مدقق، وكان يفكر في الواقع حتى يربط بين الحيوانات وبين البشر، وله تحليلات نفسية جميلة جداً لا ترقى إليها إلا كبار العقول في هذه المسألة.
يقول:
من الناس نفوسهم حيوانية لا هم لهم إلا في الأكل والشرب، وليس عندهم اهتمام بالشريعة. ومن الناس نفوسهم كلبية لو صادف جيفة تشبع ألفاً،
وقع عليها، وكلما أتى واحد نبح، لا يريد أن يأتي إليها. ومن الناس طبعه طبع الخنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، لكن إذا وقع على قيء جاء عليه، يقول: هذا مثله مثل إنسان يرى في الناس أشياء طيبة وخصال طيبة، ثم يرى بعض العيوب فينسى كل الأشياء الطيبة ويأتي على العيوب. ومنهم على طبيعة الطاووس ليس له إلا التزين والتطيب والتريش، وليس له وراء ذلك من شيء. ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوانات وأغلظها كبداً. ومنهم مثل: العقرب والحية لا يستريح إلا إذا نفث سمه في غيره؛ ولذلك إذا ما آذى أحداً من الخلق، يظل متوتراً طيلة اليوم، حتى يؤذي واحداً من الخلق فيستريح، مثل: العقرب الذي يفرغ سمه في الناس. وكذلك يقول: انظر إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:
(السكينة والوقار في أهل الغنم، والخيلاء والفخر في أهل الإبل) يحلل تحليلات؛ فمثلاً: الغنم والبقر وغيرها ترى رأسها إلى أسفل، والجمل رأسه إلى فوق ورقبته طويلة.. لا تجد البعير رأسه في الأرض، ولذلك البادية الأعراب.. أصحاب الإبل عندهم كبر وخيلاء وفخر، وأهل الغنم -أحياناً- تجد عندهم نوعاً من السكينة والتواضع. وكذلك يقول: من الناس من نفوسهم حمارية، لم تخلق إلا للكد والعلف، وليس عندهم بصيرة، صمٌ بكمٌ عميٌ؛ لذلك ضرب الله الذي لا ينتفع بالعلم مثل الحمار يحمل أسفاراً. وقال: من الناس من طبيعته فأرية فاسدٌ بطبعه، مفسدٌ لما جاوره، مثل: الفأر. ولما تكلم عن النمل، قال -رحمه الله-: ومن عجيب أمرها أن تقتل الملوك الظلمة المفسدة، ولا تدين بطاعتها، وتأتي بمجموعات وتتعاون، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة غير مختزنه شيئاً من الحب لنفسها. ثم يتكلم عن الحمام، فيقول: القيمون على الحمام يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيماً، فيفرقون بين ذكورها وإناثها حتى لا يحصل اختلاط في النسب، والقيمون على الحمام لا يحفظون أرحام نسائهم، ويحتاطون كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون، ويتكلم عن الحمام وعن مشابهة طباع الحمام لطباع النساء منها: من لا ترد يد لامس، وأخرى لا تنام إلا بعد طلب حثيث، وأخرى لا تمكن منها ذكراً إلا زوجها، وأخرى إذا غاب زوجها رضيت بأي أحد، وأخرى لا تمتنع على أحد، ومنها من إذا طارت البيضة أفسدتها، وذكر أموراً كثيرة جداً تدل على فقهه بالواقع رحمه الله.
ابن القيم -رحمه الله- صاحب فكر مدقق، وكان يفكر في الواقع حتى يربط بين الحيوانات وبين البشر، وله تحليلات نفسية جميلة جداً لا ترقى إليها إلا كبار العقول في هذه المسألة.
يقول:
من الناس نفوسهم حيوانية لا هم لهم إلا في الأكل والشرب، وليس عندهم اهتمام بالشريعة. ومن الناس نفوسهم كلبية لو صادف جيفة تشبع ألفاً،
وقع عليها، وكلما أتى واحد نبح، لا يريد أن يأتي إليها. ومن الناس طبعه طبع الخنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، لكن إذا وقع على قيء جاء عليه، يقول: هذا مثله مثل إنسان يرى في الناس أشياء طيبة وخصال طيبة، ثم يرى بعض العيوب فينسى كل الأشياء الطيبة ويأتي على العيوب. ومنهم على طبيعة الطاووس ليس له إلا التزين والتطيب والتريش، وليس له وراء ذلك من شيء. ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوانات وأغلظها كبداً. ومنهم مثل: العقرب والحية لا يستريح إلا إذا نفث سمه في غيره؛ ولذلك إذا ما آذى أحداً من الخلق، يظل متوتراً طيلة اليوم، حتى يؤذي واحداً من الخلق فيستريح، مثل: العقرب الذي يفرغ سمه في الناس. وكذلك يقول: انظر إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:
(السكينة والوقار في أهل الغنم، والخيلاء والفخر في أهل الإبل) يحلل تحليلات؛ فمثلاً: الغنم والبقر وغيرها ترى رأسها إلى أسفل، والجمل رأسه إلى فوق ورقبته طويلة.. لا تجد البعير رأسه في الأرض، ولذلك البادية الأعراب.. أصحاب الإبل عندهم كبر وخيلاء وفخر، وأهل الغنم -أحياناً- تجد عندهم نوعاً من السكينة والتواضع. وكذلك يقول: من الناس من نفوسهم حمارية، لم تخلق إلا للكد والعلف، وليس عندهم بصيرة، صمٌ بكمٌ عميٌ؛ لذلك ضرب الله الذي لا ينتفع بالعلم مثل الحمار يحمل أسفاراً. وقال: من الناس من طبيعته فأرية فاسدٌ بطبعه، مفسدٌ لما جاوره، مثل: الفأر. ولما تكلم عن النمل، قال -رحمه الله-: ومن عجيب أمرها أن تقتل الملوك الظلمة المفسدة، ولا تدين بطاعتها، وتأتي بمجموعات وتتعاون، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة غير مختزنه شيئاً من الحب لنفسها. ثم يتكلم عن الحمام، فيقول: القيمون على الحمام يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيماً، فيفرقون بين ذكورها وإناثها حتى لا يحصل اختلاط في النسب، والقيمون على الحمام لا يحفظون أرحام نسائهم، ويحتاطون كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون، ويتكلم عن الحمام وعن مشابهة طباع الحمام لطباع النساء منها: من لا ترد يد لامس، وأخرى لا تنام إلا بعد طلب حثيث، وأخرى لا تمكن منها ذكراً إلا زوجها، وأخرى إذا غاب زوجها رضيت بأي أحد، وأخرى لا تمتنع على أحد، ومنها من إذا طارت البيضة أفسدتها، وذكر أموراً كثيرة جداً تدل على فقهه بالواقع رحمه الله.
وفاة ابن القيم رحمه الله:
كانت وفاة ابن القيم رحمه الله تعالى ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر رجب، وقت أذان العشاء سنة 751هـ بعد أن أكمل ستين سنة رحمه الله تعالى. اللهم اغفر لهذا العلم من أعلام المسلمين، اللهم وسع له في قبره ونوره له، واجعله له روضةً من رياض الجنة آمين.
__________________
تعليق