بِسْمِ اللهِ الرحْمَن الرحِيم
مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ مِن فِقْهِ الواقِعِ.
سُئلَ شيخنا – مِراراً – عَما اصطْلَحَ قَومٌ مِن المُعاصِرِينَ عَلى تَسْمِيَتِهِ بِ(فِقْهِ الواقِعِ)، ما خُلاصَةُ القَولِ فِيهِ؟.
فَأجَاب:
الحَمْدُ للهِ؛ وبعد:
فَهَذهِ المسئلَةُ مِن المسائلِ التِي كَثُرَ الخَوْضُ فِيها؛ والكلامُ حَولَها، وقَدْ رَأَيْنا الناسَ فِيها – بَعْدَ التأَمُّلِ – طَرَفَينِ وَواسِطَةً، كما هُو الشأْنُ فِي كَثِيرٍ من المسائلِ التِي يَتَنازَعُ الناسُ حَولَها!.
وإِنَّنِي واللهِ لأَعْجَبُ من تَطْويلِ ذُيُولِ النزاعِ فِي مِثْلِ هَذا؛ مَعَ يُسْرِهِ وظُهُورِ أَمْرِهِ!، وأرَى أّنَّ ذلكَ منَ المكايدِ الخَفِيَّةِ بأُمَّةِ المُسْلِمِينَ، ومِنْ أَعْظَمِ البَلِيَّةِ أنْ يَنْزِعَ الخِلافُ بالمُسْلِمينَ إلَى حَيْرَةٍ لا يَهْتَدُونَ مَعَها إلَى الفَرْقِ بَينَ ما يُرِيدُونَ وما لا يُرِيدُونَ، وإلَى الذِي يَحْتاجُونَ إلَيْهِ؛ والذِي لا يَحْتاجُونَ إلَيْهِ، وللهِ عاقِبَةُ الأمور.
والواجِبُ عَلى من طَلَبَ الإنْصافَ فِي مِثْلِ هَذهِ المواطِنِ تَحْرِيرُ مَحَلِّ النزاعِ مِن بَيْنِ كَلامِ المُخْتَصِمينَ، دُونَ التَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ دُونَ فِئَةٍ، فإنَّ الخُصَومَةَ عَمْياءُ بَكْماءُ صَمَّاءُ!، وطَلَبُ الحَقِّ يَحْتاجُ إلَى أُذُنٍ واعِيَةٍ وعَينٍ تُبْصِرُ ولِسانٍ لا تأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِم.
والذِي أوْجَبَ تطوِيلَ ذُيُولِ المُنازَعَةِ فِي هَذا المَقامِ هُوَ التَسْمِيةُ الحادِثَةُ (فِقْهُ الواقِعِ)؛ مَعَ جَعْلِ مَذاهِبِ الناسِ ومَناهِجِهِمْ تَفْسيراً للمُرادِ مِن ذلكَ، وفِي هَذِهِ المَناهِجِ والمَذاهِبِ - ولا شَكَّ - ما يُقْبَلُ وما يُرَدُّ فِي مِيزانِ الوَحْيَيْنِ الشرِيفَيْنِ.
ولا حَاجَةَ للتَّطْويلِ أيْضاً بالنزاعِ فِي تَجْوِيزِ هَذا المُصْطلِحِ أو مَنْعِهِ، ولَيْسَ خُلُوُّ عِبارَةِ السلَفِ مِنْهُ دَلِيلاً عَلَى أنّهُ حادِثٌ فِي الدِينِ وبِدْعَةٌ ضَلالَةٌ!، ولَو كانَ اسْتِعْمالُهُمْ لِمُفْرَدِيِ (الفِقْهِ) و (الواقِعِ) معَ تَركِ اسْتِعْمالِ التركِيبِ (فِقْهِ الواقِعِ) دَلِيلاً عَلَى أنَّ اسْتِعْمالَ التركِيبِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الدين، لكانَ كُلُّ مُسْتَعْمَلٍ من التراكِيبِ التِي لا عَهْدَ لَهُمْ بِها؛ مِثْلِ (أُصُولِ الفِقْهِ) و (أُصُولِ النحْو) و (أصُولِ الحَدِيثِ) بِدْعَةً أيْضاً؛ لأَنَّ مُفْرداتِ هَذهِ التراكِيبِ كانَتْ مَعُروفَةً مُسْتَعْمَلَةً عِنْدَ الصدْرِ الأولِ خَيرِ هذهِ الأمَّةِ؛ دُونَ التراكِيبِ نَفْسِها.
نَعَمْ؛ الفِقْهُ فِي الدينِ بالمَعْنَى الأَعَمِّ، والسياسَةُ الشرْعِيَّةُ بالمَعْنَى الأعَمِّ كذلكَ كافِيانِ؛ كَفِيلانِ بِكُلِّ ما يُحْتاجُ إلَيهِ فِي هَذا المَقامِ، وينَدَرِجُ تَحْتَهُما المَعْنَى الصوابُ الحَقُّ مِن الاصْطلاحِ الحادِثِ (فِقْهِ الواقِعِ) عَلى ما نَبَيِّنُهُ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى، ويَسَعُ الناسَ - وللهِ الحَمْدُ - أنْ يَجْتَمِعُوا عَلى هَذا، فَإنَّهُ مِما وَقَعَ الاتِّفاقُ عَلى اسْمِهِ ومَعْناه.
والمَعْنَى الذي لَمْ أرَ فِيهِ اخْتِلافاً بَينَ المُتَكَلِّمِينَ فِي (فِقْهِ الواقِعِ) – عَلى تَبايُنِ مذاهِبِهِم فِيهِ هُوَ الذِي يَهُمُّنا فِي هَذا المَقامِ أولاً، ثُمَّ إنْ ثَبَتَتْ صِحَّةُ هَذا شَرْعاً؛ أمكَنَ تَمْييزُ الصوابِ مِن الخَطَأِ؛ وعُرِفَتِ المواضِعُ التِي وُجِّهَتْ إلَيْها سِهامُ الناقِدِين.
فَأَقُولُ وباللهِ التوفِيق: (فِقْهُ الواقِعِ) عَلَى هَذا:عِلْمٌ يُعْنَى بِمَعْرِفَةِ أحْوالِ الناسِ والأُمَمِ مِنَ المُسْلِمينَ وغَيْرِالمُسْلِمينَ؛ والوُقُوفِ عَلَى حَقائقِ تِلْكَ الأحْوال، وما بَيْنَهَذهِ الأمَمِ من مَواضِعِ الالْتِقاءِ والافْتِراقِ؛ وما يَتَبايَنُ مِنمَصالِحِها ومَا يَلْتَقِي؛ وما يَطْرأُ عَلَى ذلكَ مِنَ التَّغْيِيرِوالتَّبْدِيلِ، وما يُؤَثِّرُ فِي ذلكَ مِنَ العَوامِلِ والقُوى؛والعَقائدِ والمَناهِجِ؛ والسياساتِ والأَفْكارِ، والأهْدافِ والغاياتِ،بُغْيَةَ التَّوَصُّلِ بِذلكَ إلَى سُبُلِ وِقايَةِ الأُمَّةِ وحِمايَتِها مِن كَيدِ عَدُوِّها، والوقُوفِ عَلى الأسْبابِ التِي يَتَعَيَّنُ الأخْذُ بِها؛ لِنُهُوضِها فِي حاضِرِها ورُقِيِّها فِي مُسْتَقْبَلِها؛ عَلَى الوَجْهِ الذِي يَقْتَضِيهِ كَوْنُها خَيْرَ أَمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللهُ عنه : قَد اجْتَهَدْتُ فِي صِياغَةِ هَذا التعْرِيفِ عَلَى وَجْهٍ جامِعٍ مانِعٍ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى؛ مُسْتَنِداً فِي ذلكَ إلَى ما وَقَفْتُ عَلَيهِ مِما يُحْتاجُ إلَيهِ فِي هَذا المَقامِ؛ وإلَى ما اتَّفَقَتْ عَلَيهِ عِبارَةُ المُتَكَلِّمِينَ فِيه؛ عَلى تَبايُنِ أنْظارِهِمْ واخْتِلافِ وِجْهاتِهم، أما الوقُوفُ عَلى مُفْرداتِ التعْرِيفِ وشَرْحُ ما تَضَمَّنَهُ من الفَوائدِ فَفِي مَوضِعٍ آخَرَ غَيرِ هَذهِ النوازِلِ التِي شَرِطْنا لها الاخْتصار.
وهذا العِلْمُ بِهَذا المَعْنَى لَيْسَ مِما يَجُوزُ النزاعُ فِيهِ ولا الخِلافُ حَوْلَهُ، بَلْ هُو مِن فُرُوضِ الكِفاياتِ التِي إذا قامَ بِها مَنيَحْصُلُ بِهمُ المَقْصُودُ سقْطَ عن الباقِين.
ويُعْلَمُ من التَّعْرِيفِ المَذكُورِ أَنَّ (فِقْهَ الواقِعِ) لَيْسَ قَسيماً لِفِقْهِ السنَّةِ والكِتابِ، بلْ هُو آلَةٌ من آلاتِ الفِقْهِ فِي الدَّينِ بالمَعْنَى الأَعَمِّ الجامِعِ لِمصالِحِ الدنْيا والآخَرَةِ، قَدْ دَلَّ عَلَيهِ نَحْوُ قَولِهِ تعالَى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}؛ ودَلَّ عَلَيهِ قَوْلُهُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}؛ وقَولُهُ: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}، وَغَيْرُها مِن الآياتِ، كما دَلَّ عَلَيْهِ هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ فِي السلْمِ والحَرْب؛ وعِلْمُهُ بأَحْوالِ الناسِ والقَبائلِ والأُمَمِ، ودَلَّتْ عَلَيهِ سُنَّةُ الخُلَفاءِ الراشدِينَ المَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِهِ.
ثُمَّ هُوعِلْمٌ يَرْجِعُ إلَى أُصُولٍ وقَواعِدَ؛ شأنُهُ فِي ذلكَ شأنُ غَيْرِهِ من العُلُومِ، ويَحْتاجُ المُشْتَغِلُ بِهِ إلَى جُمْلَةٍ من العُلُومِ التِي تُقَوِّمِهُ وتُكَمِّلُهُ؛ وبِدُونِها يَبْقَى النظَرُ فِيهِ قاصِراً عَنْ إِدراكِ الحَوادِثِ والحُكْمِ عَلى الوَقائعِ، فَلا بُدَّ لَهُ من العِلْمِ بالسنَنِ الكونِيَّةِ القَدَرِيَّةِ التِي تَسيرُ عَلى وَفْقِها حَركَةُ الكَونِ والحَياةِ، ويَحْتاجُ إلَى التارِيخِ وفِقْهِ حَرَكَتِهِ، وإلَى عِلْمِ الاجْتماعِ وسُنّتهِ، وإلَى مَعْرِفَةِ طَبائعِ الأُمَمِ والشعُوبِ وإدْراكِ مَفاتِيحِها وأسرارِها، وإلَى عُلُومِ السياسَةِ ومَدارِسِها، وإلَى عِلْمِ الاقْتِصادِ وفُرُوعِهِ؛ وإلَى الإعْلامِ وفُنُونِهِ، وإلَى عِلْمِ الحَرْبِ وضُرُوبِها وَمكايِدِها،وغَيْرِ ذلكَ مِما لا يَخْفَى خَطَرُهُ وأثَرَهُ.
ومِن نافِلَةِ القَوْلِ أنْ نَذكِّرَ هُنا أنَّ الفِقْهِ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ فِي ذلكَ كُلِّهِ، ولِذا قُلْنا مِن قَبْلُ: إنَّ (فِقْهَ الواقِعِ) بِهَذاالمَعْنَى راجعٌ إلى السياسَةِ الشرْعِيةِ التِي تَنْتَظِمُ مَصالِحَ الدارَيْنِ، فَلا تَعارُضُ بَينَ هَذا إِذَنْ وبَيْنَ الدَّعْوَةِ إلَى اللهِ تعالَى وإِقامَةِ التوْحِيدِ والشرْعِ؛ وإحْياءِ السنَّة المُطَهَّرَةِ؛ وإماتَتَةِ ما عَلِقِ بأهْلِ الإسلامِ من شوائبِ الخرافاتِ والبِدَعِ؛ وتَرْبِيَةِ المُسْلِمينَ عَلى ذلكَ، فالواجِباتُ الشرْعِيَّةُ يُكَمِّلُ بَعْضُها بَعْضاً، والواجِبُ عَلى المُسْلمِينَ الأخْذُ بِجَمِيعِها؛ وامْتِثالُ الأمْرِ بالقِيامِ بِها كُلِّها.
وجُمْلَةُ ما ذكَرْناهُ عَن (فِقْهِ الواقِعِ) يَدُلُّ عَلى أنَّ المُخاطَبَ بِذلكَ هُمْ أهْلُ الحَلِّ والعَقْدِ منْ عُلَماءِ المُسْلِمينَ وأُمَرائِهِم، فَبِقِيامِهمْ بِهَذا الواجِبِ تَتَحَقَّقُ الكِفايَةُ لأهْلِ الإسلامِ، وهَؤلاءِ مَتَى فَقِهُوا فَقِهَ أتْباعُهُمْ ولا بُدَّ؛ وسَرَتْ فِي الأمَّةِ الخِبْرَةُُ والدرايَةُ بِأحْوالِ الأَمَّةِ وما يُحِيطُ بِها، وكانَ فَهْمُ الأكابِرِ لذلكَ وفِقْههم فِيهِ من أعْظَمِ أسبابِ جَمْعِ الكَلِمَةِ والتعاوُنِ عَلى الإصلاح.
ويَلُوحُ لكَ من هَذا التَّقْرِيرِ أنَّ كُلَّ سِياسَةٍ خارِجَةٍ عن قَواعِدِ الشرْعِ وأصُولِهِ فَهِي مَرْدُودَةٌ عَلى أصْحابِها؛ مَمْنُوعٌ من جِهَةِ الشرْعِ مِنْها، وإنْ زَعَمَ المُشْتَغِلُ بِها أنَّ (فِقْهَ الواقِعِ) يَقْتَضِي ذلكَ، ولِذا فالأحْسَنُ أنْ يُقالَ: (الفِقْهُ الشَّرْعِيُّ للواقِعِ)؛ لِيَخْرُجَ بِذلكَ كُلُّ ما خالَفَ الدِينَ والشرْعَ مِن العَقائدِ والمَنهاهِجِ والمَفاهِيم؛ كَمَنْ يَدْعُو إلَى تَعْطِيلِ شَرْعِ اللهِ وأحْكامِهِ؛ وكَمَنْ يَسْلكُ فِي السياسَةِ مَسالكَ مَن لا يَرْفَعُونَ بِدِينِ الإسلامِ رَأساً ولا يُعَظِّمُونَ للهِ جَلَّ وعَلا حُرْمَةً؛ وكَمَنْ يُهْمِلُ دَعْوَةَ الناسِ إلَى التوحيدِ؛ ويُهْمِلُ تَصْحِيحَ عَقائدِهِمْ وعِباداتِهم ومَعامَلاتِهم عَلى وَفْقِ الوحْيَينِ الشرِيفَينِ؛ بِحُجَّةِ (فِقْهِ الواقِعِ)!، وكَمَن يُرِيدُ أنْ يَجْعَلَ فِقْهَ الشْرِعِ طَوْعَ فَهْمٍ للواقِعِ يُمْلِيهِ الهَوىَ والمصالِحُ الخاصةُ الجُزْئيةُ وإن عَارَضَتِ المَصالحَ العامةَ الكلّيةَ، بَلْ وإن عارَضَتْ أصولَ الشرْعِ وقَواعِدَهَ!.
وما دامَ هَذا الفَنُّ من شُغْلِ الأكابِرِ فَمِنَ الغُبْنِ صَرْفُ أوْقاتِ الناشِئَةِ فِيما لا طائلَ ورَاءَهُ ولايُبْلَغُ بِهِ إلَى المَقْصُودِ مِن ذلكَ؛ وقَدْ ذكَرْنا أنَّ لِهَذاالفَنِّ أُصُولا وقَواعِدَ يَتَعَيَّنُ الرجُوعُ إلَيها، فَمَنْ وُجِدَفِيه اسْتِعْدادٌ لِذلكَ مِن الطلابِ فلْيُرْشَدْ إلَى طِرِيقَةِ تَحْصِيلِهِ؛ فإنَّ الجَمْعَ بَينَ هَذا الفَنِّ مَعَ التمكُّنِ من فِقْهِالشرْعِ والعِلمِ بالكِتابِ والسنَّةِ هُو الغايَةُ التِي تُوقِفُالمُجِدَّ عَلى مَدارِجِ الاجْتِهادِ فِي السياسَةِ الشرْعِيَّةِ وأبْوابِها؛ فَيَتَوصلُ العالمُ بِمَعْرِفَةِ الوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، كما أشارَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله، والجَمْعُ بَينَ رِعايَةِ مَصالِحِ الدِينِ والدنيا من أوجَبِ الواجِباتِ عَلى عُلماءِ المُسلمين.
أمّا شَغْلُ العامَّةِ وصِغارِ الطلَبِهِ بذلكَ؛ معَ إهمالِ سُنَّةِ التدَرُّجِ فِي تَحْصِيلِ هَذا الفَنِّ، وأنْ يُصْبِحَ ذلكَ دأبَ الأتْباعِ مَن كانَ لهُ أهْلاً ومن لَم يَكُنْ؛ وأنْ يُغَرَّرَبِهمْ حَتَّى يَظُنَّ المُشْتَغِلُ بأَقَاوِيلِ المَجَلاّتِ وأكاذِيبِ الصحُفِ أنهُ قَدْ حازَ من هَذا الفَنِّ ما غابَ عَن غَيرِهِ، وهُو مَعَ ذلكَ مِن أجْهَلِ الناسِ بِما أوْجَبَهُ اللهُ تَعالَى عَلَيهِ منالفَرائِضِ والتكالِيفِ!؛ فَهَذا لَعَمْرُ اللهِ – مَعَ كَوْنِهِ خارِجاًعَن نَهْجِ السلَفِ فِي إحْكامِ أًصُولِ الدينِ وقَواعِدِهِ فِي النفُوسِ أولاً؛ وفِي تَرْبِيَتِهم عَلى صِغارِ العِلمِ قَبْلَ كِبارَهِ - مِما يُرْهِقُ كاهِلَ الأُمَّةِ ويَزِيدُ منْ أحْمالِها، وإنَّما المُطْلُوبُ صِناعَةُ بُناةِ الأُمَّةِ ورِجالِ الدَّوْلِةِ؛ وَهذا هُو غايَةُ الإعْدادِ المَطْلُوبِ بَعْدَ تَقْوى اللهِ تعالَى، لأَنَّهُ من لَوازِمِ التمِكِينِ لأمَة المسلمِين التي جُعِلَتْ في محَلِّ السيادَةِ والقيادَة خَيرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ للناسِ، فَما للجُهَّالِ الأغْرارِ ولِهَذا؟!.
ولعلَّ اللهَ تعالَى يُيَسرُ مزيداً من التفْصِيلِ فِي هذا فِي موضعٍ آخر.
وباللهِ وحده التوفيقُ؛ وصلى اللهُ علَى مُحَمَّدٍ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسلم.
خادِمُ العِلمِ وأهْلِهِ
كانَاللهُ له
أبو الوليد الغزيُّ الأنصاريُّ.
.....
نقلا عن حاسوبي والله المستعان
ونفع الله بشيخنا الكريم ...
مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ مِن فِقْهِ الواقِعِ.
سُئلَ شيخنا – مِراراً – عَما اصطْلَحَ قَومٌ مِن المُعاصِرِينَ عَلى تَسْمِيَتِهِ بِ(فِقْهِ الواقِعِ)، ما خُلاصَةُ القَولِ فِيهِ؟.
فَأجَاب:
الحَمْدُ للهِ؛ وبعد:
فَهَذهِ المسئلَةُ مِن المسائلِ التِي كَثُرَ الخَوْضُ فِيها؛ والكلامُ حَولَها، وقَدْ رَأَيْنا الناسَ فِيها – بَعْدَ التأَمُّلِ – طَرَفَينِ وَواسِطَةً، كما هُو الشأْنُ فِي كَثِيرٍ من المسائلِ التِي يَتَنازَعُ الناسُ حَولَها!.
وإِنَّنِي واللهِ لأَعْجَبُ من تَطْويلِ ذُيُولِ النزاعِ فِي مِثْلِ هَذا؛ مَعَ يُسْرِهِ وظُهُورِ أَمْرِهِ!، وأرَى أّنَّ ذلكَ منَ المكايدِ الخَفِيَّةِ بأُمَّةِ المُسْلِمِينَ، ومِنْ أَعْظَمِ البَلِيَّةِ أنْ يَنْزِعَ الخِلافُ بالمُسْلِمينَ إلَى حَيْرَةٍ لا يَهْتَدُونَ مَعَها إلَى الفَرْقِ بَينَ ما يُرِيدُونَ وما لا يُرِيدُونَ، وإلَى الذِي يَحْتاجُونَ إلَيْهِ؛ والذِي لا يَحْتاجُونَ إلَيْهِ، وللهِ عاقِبَةُ الأمور.
والواجِبُ عَلى من طَلَبَ الإنْصافَ فِي مِثْلِ هَذهِ المواطِنِ تَحْرِيرُ مَحَلِّ النزاعِ مِن بَيْنِ كَلامِ المُخْتَصِمينَ، دُونَ التَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ دُونَ فِئَةٍ، فإنَّ الخُصَومَةَ عَمْياءُ بَكْماءُ صَمَّاءُ!، وطَلَبُ الحَقِّ يَحْتاجُ إلَى أُذُنٍ واعِيَةٍ وعَينٍ تُبْصِرُ ولِسانٍ لا تأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِم.
والذِي أوْجَبَ تطوِيلَ ذُيُولِ المُنازَعَةِ فِي هَذا المَقامِ هُوَ التَسْمِيةُ الحادِثَةُ (فِقْهُ الواقِعِ)؛ مَعَ جَعْلِ مَذاهِبِ الناسِ ومَناهِجِهِمْ تَفْسيراً للمُرادِ مِن ذلكَ، وفِي هَذِهِ المَناهِجِ والمَذاهِبِ - ولا شَكَّ - ما يُقْبَلُ وما يُرَدُّ فِي مِيزانِ الوَحْيَيْنِ الشرِيفَيْنِ.
ولا حَاجَةَ للتَّطْويلِ أيْضاً بالنزاعِ فِي تَجْوِيزِ هَذا المُصْطلِحِ أو مَنْعِهِ، ولَيْسَ خُلُوُّ عِبارَةِ السلَفِ مِنْهُ دَلِيلاً عَلَى أنّهُ حادِثٌ فِي الدِينِ وبِدْعَةٌ ضَلالَةٌ!، ولَو كانَ اسْتِعْمالُهُمْ لِمُفْرَدِيِ (الفِقْهِ) و (الواقِعِ) معَ تَركِ اسْتِعْمالِ التركِيبِ (فِقْهِ الواقِعِ) دَلِيلاً عَلَى أنَّ اسْتِعْمالَ التركِيبِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الدين، لكانَ كُلُّ مُسْتَعْمَلٍ من التراكِيبِ التِي لا عَهْدَ لَهُمْ بِها؛ مِثْلِ (أُصُولِ الفِقْهِ) و (أُصُولِ النحْو) و (أصُولِ الحَدِيثِ) بِدْعَةً أيْضاً؛ لأَنَّ مُفْرداتِ هَذهِ التراكِيبِ كانَتْ مَعُروفَةً مُسْتَعْمَلَةً عِنْدَ الصدْرِ الأولِ خَيرِ هذهِ الأمَّةِ؛ دُونَ التراكِيبِ نَفْسِها.
نَعَمْ؛ الفِقْهُ فِي الدينِ بالمَعْنَى الأَعَمِّ، والسياسَةُ الشرْعِيَّةُ بالمَعْنَى الأعَمِّ كذلكَ كافِيانِ؛ كَفِيلانِ بِكُلِّ ما يُحْتاجُ إلَيهِ فِي هَذا المَقامِ، وينَدَرِجُ تَحْتَهُما المَعْنَى الصوابُ الحَقُّ مِن الاصْطلاحِ الحادِثِ (فِقْهِ الواقِعِ) عَلى ما نَبَيِّنُهُ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى، ويَسَعُ الناسَ - وللهِ الحَمْدُ - أنْ يَجْتَمِعُوا عَلى هَذا، فَإنَّهُ مِما وَقَعَ الاتِّفاقُ عَلى اسْمِهِ ومَعْناه.
والمَعْنَى الذي لَمْ أرَ فِيهِ اخْتِلافاً بَينَ المُتَكَلِّمِينَ فِي (فِقْهِ الواقِعِ) – عَلى تَبايُنِ مذاهِبِهِم فِيهِ هُوَ الذِي يَهُمُّنا فِي هَذا المَقامِ أولاً، ثُمَّ إنْ ثَبَتَتْ صِحَّةُ هَذا شَرْعاً؛ أمكَنَ تَمْييزُ الصوابِ مِن الخَطَأِ؛ وعُرِفَتِ المواضِعُ التِي وُجِّهَتْ إلَيْها سِهامُ الناقِدِين.
فَأَقُولُ وباللهِ التوفِيق: (فِقْهُ الواقِعِ) عَلَى هَذا:عِلْمٌ يُعْنَى بِمَعْرِفَةِ أحْوالِ الناسِ والأُمَمِ مِنَ المُسْلِمينَ وغَيْرِالمُسْلِمينَ؛ والوُقُوفِ عَلَى حَقائقِ تِلْكَ الأحْوال، وما بَيْنَهَذهِ الأمَمِ من مَواضِعِ الالْتِقاءِ والافْتِراقِ؛ وما يَتَبايَنُ مِنمَصالِحِها ومَا يَلْتَقِي؛ وما يَطْرأُ عَلَى ذلكَ مِنَ التَّغْيِيرِوالتَّبْدِيلِ، وما يُؤَثِّرُ فِي ذلكَ مِنَ العَوامِلِ والقُوى؛والعَقائدِ والمَناهِجِ؛ والسياساتِ والأَفْكارِ، والأهْدافِ والغاياتِ،بُغْيَةَ التَّوَصُّلِ بِذلكَ إلَى سُبُلِ وِقايَةِ الأُمَّةِ وحِمايَتِها مِن كَيدِ عَدُوِّها، والوقُوفِ عَلى الأسْبابِ التِي يَتَعَيَّنُ الأخْذُ بِها؛ لِنُهُوضِها فِي حاضِرِها ورُقِيِّها فِي مُسْتَقْبَلِها؛ عَلَى الوَجْهِ الذِي يَقْتَضِيهِ كَوْنُها خَيْرَ أَمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللهُ عنه : قَد اجْتَهَدْتُ فِي صِياغَةِ هَذا التعْرِيفِ عَلَى وَجْهٍ جامِعٍ مانِعٍ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى؛ مُسْتَنِداً فِي ذلكَ إلَى ما وَقَفْتُ عَلَيهِ مِما يُحْتاجُ إلَيهِ فِي هَذا المَقامِ؛ وإلَى ما اتَّفَقَتْ عَلَيهِ عِبارَةُ المُتَكَلِّمِينَ فِيه؛ عَلى تَبايُنِ أنْظارِهِمْ واخْتِلافِ وِجْهاتِهم، أما الوقُوفُ عَلى مُفْرداتِ التعْرِيفِ وشَرْحُ ما تَضَمَّنَهُ من الفَوائدِ فَفِي مَوضِعٍ آخَرَ غَيرِ هَذهِ النوازِلِ التِي شَرِطْنا لها الاخْتصار.
وهذا العِلْمُ بِهَذا المَعْنَى لَيْسَ مِما يَجُوزُ النزاعُ فِيهِ ولا الخِلافُ حَوْلَهُ، بَلْ هُو مِن فُرُوضِ الكِفاياتِ التِي إذا قامَ بِها مَنيَحْصُلُ بِهمُ المَقْصُودُ سقْطَ عن الباقِين.
ويُعْلَمُ من التَّعْرِيفِ المَذكُورِ أَنَّ (فِقْهَ الواقِعِ) لَيْسَ قَسيماً لِفِقْهِ السنَّةِ والكِتابِ، بلْ هُو آلَةٌ من آلاتِ الفِقْهِ فِي الدَّينِ بالمَعْنَى الأَعَمِّ الجامِعِ لِمصالِحِ الدنْيا والآخَرَةِ، قَدْ دَلَّ عَلَيهِ نَحْوُ قَولِهِ تعالَى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}؛ ودَلَّ عَلَيهِ قَوْلُهُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}؛ وقَولُهُ: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}، وَغَيْرُها مِن الآياتِ، كما دَلَّ عَلَيْهِ هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ فِي السلْمِ والحَرْب؛ وعِلْمُهُ بأَحْوالِ الناسِ والقَبائلِ والأُمَمِ، ودَلَّتْ عَلَيهِ سُنَّةُ الخُلَفاءِ الراشدِينَ المَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِهِ.
ثُمَّ هُوعِلْمٌ يَرْجِعُ إلَى أُصُولٍ وقَواعِدَ؛ شأنُهُ فِي ذلكَ شأنُ غَيْرِهِ من العُلُومِ، ويَحْتاجُ المُشْتَغِلُ بِهِ إلَى جُمْلَةٍ من العُلُومِ التِي تُقَوِّمِهُ وتُكَمِّلُهُ؛ وبِدُونِها يَبْقَى النظَرُ فِيهِ قاصِراً عَنْ إِدراكِ الحَوادِثِ والحُكْمِ عَلى الوَقائعِ، فَلا بُدَّ لَهُ من العِلْمِ بالسنَنِ الكونِيَّةِ القَدَرِيَّةِ التِي تَسيرُ عَلى وَفْقِها حَركَةُ الكَونِ والحَياةِ، ويَحْتاجُ إلَى التارِيخِ وفِقْهِ حَرَكَتِهِ، وإلَى عِلْمِ الاجْتماعِ وسُنّتهِ، وإلَى مَعْرِفَةِ طَبائعِ الأُمَمِ والشعُوبِ وإدْراكِ مَفاتِيحِها وأسرارِها، وإلَى عُلُومِ السياسَةِ ومَدارِسِها، وإلَى عِلْمِ الاقْتِصادِ وفُرُوعِهِ؛ وإلَى الإعْلامِ وفُنُونِهِ، وإلَى عِلْمِ الحَرْبِ وضُرُوبِها وَمكايِدِها،وغَيْرِ ذلكَ مِما لا يَخْفَى خَطَرُهُ وأثَرَهُ.
ومِن نافِلَةِ القَوْلِ أنْ نَذكِّرَ هُنا أنَّ الفِقْهِ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ فِي ذلكَ كُلِّهِ، ولِذا قُلْنا مِن قَبْلُ: إنَّ (فِقْهَ الواقِعِ) بِهَذاالمَعْنَى راجعٌ إلى السياسَةِ الشرْعِيةِ التِي تَنْتَظِمُ مَصالِحَ الدارَيْنِ، فَلا تَعارُضُ بَينَ هَذا إِذَنْ وبَيْنَ الدَّعْوَةِ إلَى اللهِ تعالَى وإِقامَةِ التوْحِيدِ والشرْعِ؛ وإحْياءِ السنَّة المُطَهَّرَةِ؛ وإماتَتَةِ ما عَلِقِ بأهْلِ الإسلامِ من شوائبِ الخرافاتِ والبِدَعِ؛ وتَرْبِيَةِ المُسْلِمينَ عَلى ذلكَ، فالواجِباتُ الشرْعِيَّةُ يُكَمِّلُ بَعْضُها بَعْضاً، والواجِبُ عَلى المُسْلمِينَ الأخْذُ بِجَمِيعِها؛ وامْتِثالُ الأمْرِ بالقِيامِ بِها كُلِّها.
وجُمْلَةُ ما ذكَرْناهُ عَن (فِقْهِ الواقِعِ) يَدُلُّ عَلى أنَّ المُخاطَبَ بِذلكَ هُمْ أهْلُ الحَلِّ والعَقْدِ منْ عُلَماءِ المُسْلِمينَ وأُمَرائِهِم، فَبِقِيامِهمْ بِهَذا الواجِبِ تَتَحَقَّقُ الكِفايَةُ لأهْلِ الإسلامِ، وهَؤلاءِ مَتَى فَقِهُوا فَقِهَ أتْباعُهُمْ ولا بُدَّ؛ وسَرَتْ فِي الأمَّةِ الخِبْرَةُُ والدرايَةُ بِأحْوالِ الأَمَّةِ وما يُحِيطُ بِها، وكانَ فَهْمُ الأكابِرِ لذلكَ وفِقْههم فِيهِ من أعْظَمِ أسبابِ جَمْعِ الكَلِمَةِ والتعاوُنِ عَلى الإصلاح.
ويَلُوحُ لكَ من هَذا التَّقْرِيرِ أنَّ كُلَّ سِياسَةٍ خارِجَةٍ عن قَواعِدِ الشرْعِ وأصُولِهِ فَهِي مَرْدُودَةٌ عَلى أصْحابِها؛ مَمْنُوعٌ من جِهَةِ الشرْعِ مِنْها، وإنْ زَعَمَ المُشْتَغِلُ بِها أنَّ (فِقْهَ الواقِعِ) يَقْتَضِي ذلكَ، ولِذا فالأحْسَنُ أنْ يُقالَ: (الفِقْهُ الشَّرْعِيُّ للواقِعِ)؛ لِيَخْرُجَ بِذلكَ كُلُّ ما خالَفَ الدِينَ والشرْعَ مِن العَقائدِ والمَنهاهِجِ والمَفاهِيم؛ كَمَنْ يَدْعُو إلَى تَعْطِيلِ شَرْعِ اللهِ وأحْكامِهِ؛ وكَمَنْ يَسْلكُ فِي السياسَةِ مَسالكَ مَن لا يَرْفَعُونَ بِدِينِ الإسلامِ رَأساً ولا يُعَظِّمُونَ للهِ جَلَّ وعَلا حُرْمَةً؛ وكَمَنْ يُهْمِلُ دَعْوَةَ الناسِ إلَى التوحيدِ؛ ويُهْمِلُ تَصْحِيحَ عَقائدِهِمْ وعِباداتِهم ومَعامَلاتِهم عَلى وَفْقِ الوحْيَينِ الشرِيفَينِ؛ بِحُجَّةِ (فِقْهِ الواقِعِ)!، وكَمَن يُرِيدُ أنْ يَجْعَلَ فِقْهَ الشْرِعِ طَوْعَ فَهْمٍ للواقِعِ يُمْلِيهِ الهَوىَ والمصالِحُ الخاصةُ الجُزْئيةُ وإن عَارَضَتِ المَصالحَ العامةَ الكلّيةَ، بَلْ وإن عارَضَتْ أصولَ الشرْعِ وقَواعِدَهَ!.
وما دامَ هَذا الفَنُّ من شُغْلِ الأكابِرِ فَمِنَ الغُبْنِ صَرْفُ أوْقاتِ الناشِئَةِ فِيما لا طائلَ ورَاءَهُ ولايُبْلَغُ بِهِ إلَى المَقْصُودِ مِن ذلكَ؛ وقَدْ ذكَرْنا أنَّ لِهَذاالفَنِّ أُصُولا وقَواعِدَ يَتَعَيَّنُ الرجُوعُ إلَيها، فَمَنْ وُجِدَفِيه اسْتِعْدادٌ لِذلكَ مِن الطلابِ فلْيُرْشَدْ إلَى طِرِيقَةِ تَحْصِيلِهِ؛ فإنَّ الجَمْعَ بَينَ هَذا الفَنِّ مَعَ التمكُّنِ من فِقْهِالشرْعِ والعِلمِ بالكِتابِ والسنَّةِ هُو الغايَةُ التِي تُوقِفُالمُجِدَّ عَلى مَدارِجِ الاجْتِهادِ فِي السياسَةِ الشرْعِيَّةِ وأبْوابِها؛ فَيَتَوصلُ العالمُ بِمَعْرِفَةِ الوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، كما أشارَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله، والجَمْعُ بَينَ رِعايَةِ مَصالِحِ الدِينِ والدنيا من أوجَبِ الواجِباتِ عَلى عُلماءِ المُسلمين.
أمّا شَغْلُ العامَّةِ وصِغارِ الطلَبِهِ بذلكَ؛ معَ إهمالِ سُنَّةِ التدَرُّجِ فِي تَحْصِيلِ هَذا الفَنِّ، وأنْ يُصْبِحَ ذلكَ دأبَ الأتْباعِ مَن كانَ لهُ أهْلاً ومن لَم يَكُنْ؛ وأنْ يُغَرَّرَبِهمْ حَتَّى يَظُنَّ المُشْتَغِلُ بأَقَاوِيلِ المَجَلاّتِ وأكاذِيبِ الصحُفِ أنهُ قَدْ حازَ من هَذا الفَنِّ ما غابَ عَن غَيرِهِ، وهُو مَعَ ذلكَ مِن أجْهَلِ الناسِ بِما أوْجَبَهُ اللهُ تَعالَى عَلَيهِ منالفَرائِضِ والتكالِيفِ!؛ فَهَذا لَعَمْرُ اللهِ – مَعَ كَوْنِهِ خارِجاًعَن نَهْجِ السلَفِ فِي إحْكامِ أًصُولِ الدينِ وقَواعِدِهِ فِي النفُوسِ أولاً؛ وفِي تَرْبِيَتِهم عَلى صِغارِ العِلمِ قَبْلَ كِبارَهِ - مِما يُرْهِقُ كاهِلَ الأُمَّةِ ويَزِيدُ منْ أحْمالِها، وإنَّما المُطْلُوبُ صِناعَةُ بُناةِ الأُمَّةِ ورِجالِ الدَّوْلِةِ؛ وَهذا هُو غايَةُ الإعْدادِ المَطْلُوبِ بَعْدَ تَقْوى اللهِ تعالَى، لأَنَّهُ من لَوازِمِ التمِكِينِ لأمَة المسلمِين التي جُعِلَتْ في محَلِّ السيادَةِ والقيادَة خَيرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ للناسِ، فَما للجُهَّالِ الأغْرارِ ولِهَذا؟!.
ولعلَّ اللهَ تعالَى يُيَسرُ مزيداً من التفْصِيلِ فِي هذا فِي موضعٍ آخر.
وباللهِ وحده التوفيقُ؛ وصلى اللهُ علَى مُحَمَّدٍ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسلم.
خادِمُ العِلمِ وأهْلِهِ
كانَاللهُ له
أبو الوليد الغزيُّ الأنصاريُّ.
.....
نقلا عن حاسوبي والله المستعان
ونفع الله بشيخنا الكريم ...
تعليق