قبل أن ينهدم الحصن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
تدريب الأطفال على العبادة:
إن حق الأطفال في التدليل والمداعبة لا يمنع من تدريبهم على العبادة بما يتناسب مع أعمارهم وقدراتهم وطبيعة التكوين البدني لديهم؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (عَلِّمُوا أَوْلاَدَكُمْ الصَّلاَة إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا، واضرِبُوهم عَليْها إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه البزار، وصححه الألباني).
كما كان للأطفال صفوف في المسجد للصلاة خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت صفوفهم فاصلة بين صفوف الرجال وصفوف النساء، كما روي ذلك في مسند الإمام أحمد بن حنبل، فعن عبد الرحمن بن غنم قال: قال أبو مالك الأشعري -رضي الله عنه- لقومه: "أَلاَ أُصَلِّى لَكُمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَفَّ الرِّجَالُ ثُمَّ صَفَّ الْوِلْدَانُ خَلْفَ الرِّجَالِ ثُمَّ صَفَّ النِّسَاءُ خَلْفَ الْوِلْدَانِ".
وروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعودوهم الخير فإن الخير عادة".
وأخرج أحمد والطبراني عن أبي الجوزاء قال: قلت للحسن بن علي -رضي الله عنه وعن أبيه-: "ما حفظت من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: الصلوات الخمس".
وها هي الربيع بنت معوذ تذكر أنهم كانوا يدربون أبناءهم على الصيام كما جاء ذلك في صحيحي البخاري ومسلم عَنِ الرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ -رضي الله عنه-ما قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَىَ قُرَىَ الأَنْصَارِ، الّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: (مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِماً، فَلْيُتِمّ صَوْمَهُ. وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمّ بَقِيّةَ يَوْمِهِ). فَكُنّا، بَعْدَ ذَلِكَ، نَصُومُهُ. وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصّغَارَ مِنْهُمْ، إِنْ شَاءَ اللّهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ. فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ. فَإِذَا بَكَىَ أَحَدُهُمْ عَلَىَ الطّعَامِ، أَعْطَيْنَاهَا إِيّاهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ.
كما أن ذلك لا يمنع أيضًا من تدريبهم على الامتناع عن المحرمات والممنوعات والمكروهات وما لا يليق، فإن من شبَّ على شيء شاب عليه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصّدَقَةِ. فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (كخ كخ. ارْمِ بِها. أَمَا عَلِمْتَ أَنّا لاَ نَأْكُلُ الصّدَقَةَ؟) (متفق عليه).
أما الذي نراه اليوم من الإغراق في التدليل، والإكثار من تلبية رغبات الطفل -بسبب وبدون سبب-؛ فإنه يؤدي إلى نشوء جيل تافه التفكير محدود الاهتمامات يتمحور حول ذاته، وتأسره شهواته.
إن همم الصحابة وأبنائهم كانت عالية حتى رأينا تنافس الصغار على الجهاد في سبيل الله -تعالى-، وكثيرًا ما رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صغار الصحابة عن الالتحاق بالجيش لصغر سنهم أو ضآلة أجسامهم، ولكنهم كانوا يحاولون ويعيدون الكرة طالبين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الالتحاق بالجيش؛ لنيل شرف الجهاد في سبيل الله.
وقد روى أبو عمر في الاستيعاب عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعرض عليه الغلمان من الأنصار فيلحق من أدرك منهم -يعني البلوغ-، فعُرضت عليه عامًا فألحق غلامًا وردني، فقلت: يا رسول الله، ألحقته ورددتني، ولو صارعني صرعته! قال: فصارعني فصرعته فألحقني.
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يتطاول بالوقوف على أصابعه عسى أن يظهره ذلك أكبر من حجمه وسنه فيُجاز؛ ففي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي".
حول تشغيل الأطفال:
عندما نتكلم عن تشغيل الأطفال فإننا لا نقصد بذلك المنع التام أو الإباحة المطلقة، فالأصل أن يلقى الطفل في مرحلة طفولته نوعًا من الاستقرار في أسرته، ونوعًا من الرعاية، وكذلك ينال قسطه من الراحة واللعب واللهو والتدليل، كما تتاح له فرصته الكاملة في الجلوس إلى والديه يكتسب منهما خبرة الحياة؛ ولذلك فإن هذا الموضوع لابد من ضبطه من عدة وجوه، منها:
الحاجة إلى العمل: فقد يكون للوالدين حاجة ملحة للمساعدة في نفقات الأسرة -وذلك بعد استنفاذ كل الوسائل المباحة- فإن لم يكن هناك سبيل لديهم إلا تشغيل الأطفال فلا بأس... وإذا كانت ثَمَّ مسئولية تقع على الوالدين، فمسئولية أخرى تقع على عاتق الدولة لكفاية الأسرة عن تشغيل أطفالها.
القدرة على العمل: فإن لبعض الأطفال من المواهب الجسمية والنفسية ما يستطيعون معه أداء ما أسند إليهم من أعمال، لاسيما إن كانت تلك الأعمال يسيرة وغير شاقة كالبيع مثلاً، وإنه ليثير الأسى كثيرًا ما نراه في بعض وسائل الإعلام من صور يعاني فيها الأطفال من الأعمال الشاقة التي تنوء بها كواهلهم الضعيفة، وحيث لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها والتكليف لا يجوز بما لا يطيقه الإنسان في العبادات فضلاً عن المعاملات؛ فإنه والحالة هذه يجب منع تشغيل الأطفال فيما يشق عليهم من الأعمال، ويجب على الدولة التكفل بواجبها بأن تكفي المعوزين حاجتهم.
قد يكون في بعض الأحوال لتشغيل الأطفال فوائد في تنمية قدراتهم وصقل مواهبهم ـمع الانتباه إلى النقطة السابقةـ، وهو ما يعود بالنفع عليه وعلى أسرته في المستقبل وكثيرًا ما تحرص الأسر الفقيرة والمتوسطة على تشغيل أبنائها في فترات الإجازة من الدراسة، ولعل الصبي يكفي شيئًا من نفقاته، وقد يساهم ذلك في كفاية الأسرة وهو هدف مشروع لو وضع في الاعتبار وجود هامش من التسلية والترفيه لا يحرم منه الطفل على أي حال؛ فها هو أنس بن مالك -رضي الله عنه- وهو صغير يعمل خادمًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: "خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلاَ قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا" (متفق عليه).
بقي حصن واحد لنا بعد ما انهدمت معاقلنا جميعًا:
وكأنما تحقق فينا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لَيَنْتَقِضَنَّ عُرَى الإِسْلامِ عُرْوَةٌ عُرْوَةٌ، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاةُ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).
حصننا الذي ينبغي أن نقاتل دونه حتى آخر نفس في أعمارنا هو الأسرة...
نعم.. الأسرة... ذلك الحصن الذي بقي لنا، والذي يحاول أعداء الله في كل مكان النيل منه، تكالبوا عليه وأطلقوا سهامهم من كل مكان، ونصبوا له المجانيق، وأطلقوها من كل سبيل؛ كي ينهدم فيستباح منه كل ما فيه.
وكان رائدهم في ذلك الإعلام بكل صوره وجبروته... وبكل إبهاره الذي يتسلل منه سمه الخبيث.
تراه في أغنية مفسدة فاسدة تختزل معاني الحياة في علاقة سرابية حمقاء تصوغ فكر شبابنا بأن الحياة هي حب فتاة لا يعرف عنها شيئًا إلا أنه رآها... فقط رآها أو تراه في أفلام تثير الغرائز أو تعلم الانحراف وتسوِّغ الجرائم!
أو في قلم مسموم يُعلِّم النفاق أو يبرره، أو في فكر منحرف يُمَكَّنُ له تتلقفه أيدي منابر مقروءة أو مرئية.
أو في تسطيح متعمد أو تجهيل مجرّم يعمد إلى الأمة المنكوبة "التي لا تصبر على علم تزين به الأمور أو ثقافة حقيقية تنير بصائرها" فيزيدها استسلامًا وخضوعًا حتى يقول لسان حالها: لا فائدة! دعونا لقمة سائغة للغرب ينهبون خيراتنا، ويرتعون في بلادنا فهم أعلم منا، أخبر منا وأقوى منا!!
ويبقى الحصن: حصننا الأخير بعد ما باع الربابنة السفن، وبعد ما خرق سفننا مفسدون ادعوا أنهم كالخضر إصلاحًا وإلهامًا ووحيًا فإذا بهم كالسامري خيانة وجهلاً وإفسادًا.
بقيت الأسرة ملاذنا الأخير وحصننا الحصين.. فهل سنسلمه؟
هل سيسلمه الأب أو الزوج فيترك أسرته دون توجيه ورعاية، وهو يظن أن توفيره لمآكلهم وملابسهم هو غاية المطلوب منه، وينسى دوره كمربٍ وراعٍ مسئول عن رعيته.
هل نظر إلى عبادة أبنائه فقوَّمها وحرص على تلقينهم إياها حتى يعتادوها ويحبوها؟!
هل نظر في عقيدتهم وربَّاهم على حب الله وطاعته والتوكل عليه والخوف منه والرغبة في ما عنده، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟!
هل نظر في أصدقاء أبنائه فأبعدهم عن صديق السوء وحبب لهم رفاق الخير؟!
هل سألهم في كل يوم عما فعلوه فوجَّه وقوَّم بابتسامة مشرقة وحضن دافئ؟!
وهل ستسلم الأم حصنها الأخير فتنشغل عن أسرتها بصديقاتها أو اهتماماتها؟! أو بعملها الذي لا تحتاجه غالبًا إذا قورن بما تخسره من تشتت الأبناء وضياعهم؛ إذ تتركهم للخدم يهملون حاجاتهم الروحية والعقلية، أو يزيدون غربة الأبناء في ديارهم؟!
إن الأسرة -حصننا الأخير- لن ينهدم أبدًا لو حافظنا عليها بجلسة يومية بين أفراد الأسرة يتجاذبون فيها أطراف الحديث فيوجِّه الأب والأم الأبناء إلى ما فيه طاعة لله ثم يقرءون سويًا في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسير سلفنا الصالح وما نقلوه لنا من الحكمة والقدوة ما يحصلون به الزاد الذي يحفظ أسرنا من فتن التغريب والزيغ.
فإلى كل أب وأم:
(كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا) (متفق عليه).
فهل أعددتم للسؤال جوابًا.. وهل اتخذتم التدابير لتقوا أبناءكم عذاب الله وسخطه؟!!
وهل اهتممتم بحصننا الأخير في مواجهة حرب شرسة تريد أن تنال منه؟!!
احرصوا عليه قبل أن ينهدم... فلو انهدم فلن ينفعنا يومئذ الندم...www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
قلعة الأسرة من يحميها (8)
كتبه/ ياسر عبد التوابالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
تدريب الأطفال على العبادة:
إن حق الأطفال في التدليل والمداعبة لا يمنع من تدريبهم على العبادة بما يتناسب مع أعمارهم وقدراتهم وطبيعة التكوين البدني لديهم؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (عَلِّمُوا أَوْلاَدَكُمْ الصَّلاَة إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا، واضرِبُوهم عَليْها إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه البزار، وصححه الألباني).
كما كان للأطفال صفوف في المسجد للصلاة خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت صفوفهم فاصلة بين صفوف الرجال وصفوف النساء، كما روي ذلك في مسند الإمام أحمد بن حنبل، فعن عبد الرحمن بن غنم قال: قال أبو مالك الأشعري -رضي الله عنه- لقومه: "أَلاَ أُصَلِّى لَكُمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَفَّ الرِّجَالُ ثُمَّ صَفَّ الْوِلْدَانُ خَلْفَ الرِّجَالِ ثُمَّ صَفَّ النِّسَاءُ خَلْفَ الْوِلْدَانِ".
وروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعودوهم الخير فإن الخير عادة".
وأخرج أحمد والطبراني عن أبي الجوزاء قال: قلت للحسن بن علي -رضي الله عنه وعن أبيه-: "ما حفظت من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: الصلوات الخمس".
وها هي الربيع بنت معوذ تذكر أنهم كانوا يدربون أبناءهم على الصيام كما جاء ذلك في صحيحي البخاري ومسلم عَنِ الرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ -رضي الله عنه-ما قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَىَ قُرَىَ الأَنْصَارِ، الّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: (مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِماً، فَلْيُتِمّ صَوْمَهُ. وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمّ بَقِيّةَ يَوْمِهِ). فَكُنّا، بَعْدَ ذَلِكَ، نَصُومُهُ. وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصّغَارَ مِنْهُمْ، إِنْ شَاءَ اللّهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ. فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ. فَإِذَا بَكَىَ أَحَدُهُمْ عَلَىَ الطّعَامِ، أَعْطَيْنَاهَا إِيّاهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ.
كما أن ذلك لا يمنع أيضًا من تدريبهم على الامتناع عن المحرمات والممنوعات والمكروهات وما لا يليق، فإن من شبَّ على شيء شاب عليه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصّدَقَةِ. فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (كخ كخ. ارْمِ بِها. أَمَا عَلِمْتَ أَنّا لاَ نَأْكُلُ الصّدَقَةَ؟) (متفق عليه).
أما الذي نراه اليوم من الإغراق في التدليل، والإكثار من تلبية رغبات الطفل -بسبب وبدون سبب-؛ فإنه يؤدي إلى نشوء جيل تافه التفكير محدود الاهتمامات يتمحور حول ذاته، وتأسره شهواته.
إن همم الصحابة وأبنائهم كانت عالية حتى رأينا تنافس الصغار على الجهاد في سبيل الله -تعالى-، وكثيرًا ما رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صغار الصحابة عن الالتحاق بالجيش لصغر سنهم أو ضآلة أجسامهم، ولكنهم كانوا يحاولون ويعيدون الكرة طالبين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الالتحاق بالجيش؛ لنيل شرف الجهاد في سبيل الله.
وقد روى أبو عمر في الاستيعاب عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعرض عليه الغلمان من الأنصار فيلحق من أدرك منهم -يعني البلوغ-، فعُرضت عليه عامًا فألحق غلامًا وردني، فقلت: يا رسول الله، ألحقته ورددتني، ولو صارعني صرعته! قال: فصارعني فصرعته فألحقني.
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يتطاول بالوقوف على أصابعه عسى أن يظهره ذلك أكبر من حجمه وسنه فيُجاز؛ ففي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي".
حول تشغيل الأطفال:
عندما نتكلم عن تشغيل الأطفال فإننا لا نقصد بذلك المنع التام أو الإباحة المطلقة، فالأصل أن يلقى الطفل في مرحلة طفولته نوعًا من الاستقرار في أسرته، ونوعًا من الرعاية، وكذلك ينال قسطه من الراحة واللعب واللهو والتدليل، كما تتاح له فرصته الكاملة في الجلوس إلى والديه يكتسب منهما خبرة الحياة؛ ولذلك فإن هذا الموضوع لابد من ضبطه من عدة وجوه، منها:
الحاجة إلى العمل: فقد يكون للوالدين حاجة ملحة للمساعدة في نفقات الأسرة -وذلك بعد استنفاذ كل الوسائل المباحة- فإن لم يكن هناك سبيل لديهم إلا تشغيل الأطفال فلا بأس... وإذا كانت ثَمَّ مسئولية تقع على الوالدين، فمسئولية أخرى تقع على عاتق الدولة لكفاية الأسرة عن تشغيل أطفالها.
القدرة على العمل: فإن لبعض الأطفال من المواهب الجسمية والنفسية ما يستطيعون معه أداء ما أسند إليهم من أعمال، لاسيما إن كانت تلك الأعمال يسيرة وغير شاقة كالبيع مثلاً، وإنه ليثير الأسى كثيرًا ما نراه في بعض وسائل الإعلام من صور يعاني فيها الأطفال من الأعمال الشاقة التي تنوء بها كواهلهم الضعيفة، وحيث لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها والتكليف لا يجوز بما لا يطيقه الإنسان في العبادات فضلاً عن المعاملات؛ فإنه والحالة هذه يجب منع تشغيل الأطفال فيما يشق عليهم من الأعمال، ويجب على الدولة التكفل بواجبها بأن تكفي المعوزين حاجتهم.
قد يكون في بعض الأحوال لتشغيل الأطفال فوائد في تنمية قدراتهم وصقل مواهبهم ـمع الانتباه إلى النقطة السابقةـ، وهو ما يعود بالنفع عليه وعلى أسرته في المستقبل وكثيرًا ما تحرص الأسر الفقيرة والمتوسطة على تشغيل أبنائها في فترات الإجازة من الدراسة، ولعل الصبي يكفي شيئًا من نفقاته، وقد يساهم ذلك في كفاية الأسرة وهو هدف مشروع لو وضع في الاعتبار وجود هامش من التسلية والترفيه لا يحرم منه الطفل على أي حال؛ فها هو أنس بن مالك -رضي الله عنه- وهو صغير يعمل خادمًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: "خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلاَ قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا" (متفق عليه).
بقي حصن واحد لنا بعد ما انهدمت معاقلنا جميعًا:
وكأنما تحقق فينا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لَيَنْتَقِضَنَّ عُرَى الإِسْلامِ عُرْوَةٌ عُرْوَةٌ، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاةُ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).
حصننا الذي ينبغي أن نقاتل دونه حتى آخر نفس في أعمارنا هو الأسرة...
نعم.. الأسرة... ذلك الحصن الذي بقي لنا، والذي يحاول أعداء الله في كل مكان النيل منه، تكالبوا عليه وأطلقوا سهامهم من كل مكان، ونصبوا له المجانيق، وأطلقوها من كل سبيل؛ كي ينهدم فيستباح منه كل ما فيه.
وكان رائدهم في ذلك الإعلام بكل صوره وجبروته... وبكل إبهاره الذي يتسلل منه سمه الخبيث.
تراه في أغنية مفسدة فاسدة تختزل معاني الحياة في علاقة سرابية حمقاء تصوغ فكر شبابنا بأن الحياة هي حب فتاة لا يعرف عنها شيئًا إلا أنه رآها... فقط رآها أو تراه في أفلام تثير الغرائز أو تعلم الانحراف وتسوِّغ الجرائم!
أو في قلم مسموم يُعلِّم النفاق أو يبرره، أو في فكر منحرف يُمَكَّنُ له تتلقفه أيدي منابر مقروءة أو مرئية.
أو في تسطيح متعمد أو تجهيل مجرّم يعمد إلى الأمة المنكوبة "التي لا تصبر على علم تزين به الأمور أو ثقافة حقيقية تنير بصائرها" فيزيدها استسلامًا وخضوعًا حتى يقول لسان حالها: لا فائدة! دعونا لقمة سائغة للغرب ينهبون خيراتنا، ويرتعون في بلادنا فهم أعلم منا، أخبر منا وأقوى منا!!
ويبقى الحصن: حصننا الأخير بعد ما باع الربابنة السفن، وبعد ما خرق سفننا مفسدون ادعوا أنهم كالخضر إصلاحًا وإلهامًا ووحيًا فإذا بهم كالسامري خيانة وجهلاً وإفسادًا.
بقيت الأسرة ملاذنا الأخير وحصننا الحصين.. فهل سنسلمه؟
هل سيسلمه الأب أو الزوج فيترك أسرته دون توجيه ورعاية، وهو يظن أن توفيره لمآكلهم وملابسهم هو غاية المطلوب منه، وينسى دوره كمربٍ وراعٍ مسئول عن رعيته.
هل نظر إلى عبادة أبنائه فقوَّمها وحرص على تلقينهم إياها حتى يعتادوها ويحبوها؟!
هل نظر في عقيدتهم وربَّاهم على حب الله وطاعته والتوكل عليه والخوف منه والرغبة في ما عنده، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟!
هل نظر في أصدقاء أبنائه فأبعدهم عن صديق السوء وحبب لهم رفاق الخير؟!
هل سألهم في كل يوم عما فعلوه فوجَّه وقوَّم بابتسامة مشرقة وحضن دافئ؟!
وهل ستسلم الأم حصنها الأخير فتنشغل عن أسرتها بصديقاتها أو اهتماماتها؟! أو بعملها الذي لا تحتاجه غالبًا إذا قورن بما تخسره من تشتت الأبناء وضياعهم؛ إذ تتركهم للخدم يهملون حاجاتهم الروحية والعقلية، أو يزيدون غربة الأبناء في ديارهم؟!
إن الأسرة -حصننا الأخير- لن ينهدم أبدًا لو حافظنا عليها بجلسة يومية بين أفراد الأسرة يتجاذبون فيها أطراف الحديث فيوجِّه الأب والأم الأبناء إلى ما فيه طاعة لله ثم يقرءون سويًا في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسير سلفنا الصالح وما نقلوه لنا من الحكمة والقدوة ما يحصلون به الزاد الذي يحفظ أسرنا من فتن التغريب والزيغ.
فإلى كل أب وأم:
(كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا) (متفق عليه).
فهل أعددتم للسؤال جوابًا.. وهل اتخذتم التدابير لتقوا أبناءكم عذاب الله وسخطه؟!!
وهل اهتممتم بحصننا الأخير في مواجهة حرب شرسة تريد أن تنال منه؟!!
احرصوا عليه قبل أن ينهدم... فلو انهدم فلن ينفعنا يومئذ الندم...
موقع صوت السلف
تعليق