بسم الله الرحمن الرحيم ,,
:::::
ورد في شرح العقيدة الطحاوية :
(وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ له أَهْلًا، وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ في قَبْرِه عَنْ رَبِّه وَدِينِه وَنَبِيِّه، على مَا جَاءَتْ به الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَعَنِ الصَّحَابَة رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ.
وَ الْقَبْرُ رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة، أَوْ حُفْرَة مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ).
قَالَ تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
وَقَالَ تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ}
{يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ به عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ وغيره في الدُّنْيَا، وَأَنْ يُرَادَ به عَذَابُهُمْ في الْبَرْزَخِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَاتَ وَلَمْ يُعَذَّبْ في الدُّنْيَا، أَوِ الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: «كُنَّا في جِنَازَة في بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ،
فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَه، كَأَنَّ على رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَهُوَ يُلْحَدُ له، فَقَالَ:"أعُوذُ بالله مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"، ثَلاثَ مَرَّاتٍ،
ثُمَّ قَالَ:
"إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ في إِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَة وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، نَزَلَتْ إليه الْمَلَائِكَة، كَأَنَّ على وُجُوهِهِمُ الشَّمْسَ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّة،
وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّة، فَجَلَسُوا منه مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حتى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِه، فَيَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَة، اخْرُجِي إلى مَغْفِرَة مِنَ الله وَرِضْوَانٍ"،
قَالَ:"فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَة مِنْ في السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا في يَدِه طَرْفَة عَيْنٍ، حتى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا في ذَلِكَ الْكَفَنِ وَذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَتَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَة مِسْكٍ وُجِدَتْ على وَجْه الْأَرْضِ"، قَالَ:"فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا، - يعني على مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَة -، إِلَّا قَالُوا: مَا هذه الرُّوحُ الطَّيِّبَة ؟
فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِه التي كَانُوا يُسَمُّونَه بِهَا في الدُّنْيَا، حتى يَنْتَهُوا بِهَا إلى السَّمَاءِ، فَيَسْتَفْتِحُونَ له، فَيُفْتَحُ له،
فَيُشَيِّعُه مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، إلى السَّمَاءِ التي تَلِيهَا، حتى يُنْتَهَى بِهَا إلى السَّمَاءِ التي فيها الله، فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي في عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوه إلى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَة أخرى. قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُه في جَسَدِه، فَيَأْتِيه مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِه،
فَيَقُولَانِ له: مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ: رَبِّي الله، فَيَقُولَانِ له: مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ له: مَا هَذَا الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ الله، فَيَقُولَانِ له: مَا عِلْمُكَ ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ الله فَآمَنْتُ به وَصَدَّقْتُ،
فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوه مِنَ الْجَنَّة، وَافْتَحُوا له بَابًا إلى الْجَنَّة، قَالَ: فَيَأْتِيه مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ له في قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه، قَالَ: وَيَأْتِيه رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْه، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الذي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ له: مَنْ أَنْتَ ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْه الذي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: يَا رَبُّ، أَقِمِ السَّاعَة حتى أَرْجِعَ إلى أَهْلِي وَمَالِي".
قَالَ: "وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ في انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَة، نَزَلَ إليه مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَة سُودُ الْوُجُوه، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ منه مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حتى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِه،
فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَة، اخْرُجِي إلى سَخَطٍ مِنَ الله وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتَتَفَرَّقُ في جَسَدِه، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السُّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا في يَدِه طَرْفَة عَيْنٍ، حتى يَجْعَلُوهَا في تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحٍ خَبِيثَة وُجِدَتْ على وَجْه الْأَرْضِ،
فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا على مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا [ الرُّوحُ الْخَبِيثُ ] ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِه التي كَانُ يُسَمُّى بِهَا في الدُّنْيَا، حتى يُنْتَهَى بِهَا إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ له، فَلَا يُفْتَحُ له،
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ، فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَه في [ سِجِّينٍ ] ، في الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُه طَرْحًا"،
ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} ،
فَتُعَادُ رُوحُه في جَسَدِه، وَيَأْتِيه مَلَكَانِ [ فَيُجْلِسَانِه ] ،
فَيَقُولَانِ له: مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ: هَاه هَاه، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ له: مَا هَذَا الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فِيكُمْ، فَيَقُولُ: هَاه هَاه، لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ،
فَافْرِشُوه مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا له بَابًا إلى النَّارِ، فَيَأْتِيه مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيَضِيقُ عليه قَبْرُه، حتى تَخْتَلِفَ [ فيه ] أَضْلَاعُه، وَيَأْتِيه رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْه، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ،
فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الذي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ، فَوَجْهُكَ الْوَجْه يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَة». رواه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وروى النسائي وَابْنُ مَاجَه أَوَّلَه، ورواه الْحَاكِمُ وَأَبُو عَوَانَة الْإِسْفِرَائينِي في صَحِيحَيْهِمَا، وَابْنُ حِبَّانَ .
وَذَهَبَ إلى مُوجَبِ هَذَا الْحَدِيثِ جَمِيعُ أَهْلِ السنة وَالْحَدِيثِ، وله شَوَاهِدُ مِنَ الصَّحِيحِ.
فَذَكَرَ البخاري رحمه الله عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ في قَبْرِه وَتَوَلَّى عنه أَصْحَابُه، أنه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، فَيَأْتِيه مَلَكَانِ، فَيُقْعِدَانِه،
فَيَقُولَانِ له: مَا كُنْتَ تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ، مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وَسَلَّمَ ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أنه عَبْدُ الله ورسوله،
فَيَقُولُ له: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ الله به مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّة، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا». قَالَ قَتَادَة: وَرُوِي لَنَا: أنه يُفْسَحُ له في قَبْرِه، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عَنْهُمَا:
«أَنَّ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ:"إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَبرُئ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَة"، فَدَعَا بِجَرِيدَة رَطْبَة، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ،
وَقَالَ:"لَعَلَّه يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا». وفي صَحِيحِ أبي حَاتِمٍ عَنْ أبي هريرة، قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ:
«إِذَا قُبِرَ أحدكم، أَوِ الْإِنْسَانُ، أَتَاه مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ»، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَخْ.
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ في ثُبُوتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِه لِمَنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ثُبُوتِ ذَلِكَ وَالْإِيمَانُ به،
وَلَا يَتَكَلَّمُ في كَيْفِيَّتِه، إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ وُقُوفٌ على كَيْفِيَّتِه، لِكَوْنِه لَا عَهْدَ له به في هذه الدَّارِ، وَالشَّرْعُ لَا يأتي بِمَا تُحِيلُه الْعُقُولُ، وَلَكِنَّه قَدْ يأتي بِمَا تَحَارُ فيه الْعُقُولُ. فَإِنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إلى الْجَسَدِ لَيْسَ على الْوَجْه الْمَعْهُودِ في الدُّنْيَا، بَلْ تُعَادُ الرُّوحُ إليه إِعَادَة غَيْرَ الْإِعَادَة الْمَأْلُوفَة في الدُّنْيَا.
فَالرُّوحُ لَهَا بِالْبَدَنِ خَمْسَة أَنْوَاعٍ مِنَ التَّعَلُّقِ، مُتَغَايِرَة الْأَحْكَامِ:
أَحَدُهَا: تَعَلُّقُهَا به في بَطْنِ الْأُمِّ جَنِينًا.
الثاني: تَعَلُّقُهَا به بَعْدَ خُرُوجِه إلى وَجْه الْأَرْضِ.
الثَّالِثُ: تَعَلُّقُهَا به في حَالِ النَّوْمِ، فَلَهَا به تَعَلُّقٌ مِنْ وَجْه، وَمُفَارَقَة مِنْ وَجْه.
الرَّابِعُ: تَعَلُّقُهَا به في الْبَرْزَخِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ فَارَقَتْه وَتَجَرَّدَتْ عنه فَإِنَّهَا لَمْ تُفَارِقْه فِرَاقًا كُلِّيًّا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا إليه الْتِفَاتٌ أَلْبَتَّة، فإنه وَرَدَ رَدُّهَا إليه وَقْتَ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ، وَوَرَدَ أنه يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عنه، وَهَذَا الرَّدُّ إِعَادَة خَاصَّة، لَا يُوجِبُ حَيَاة الْبَدَنِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة.
الْخَامِسُ: تَعَلُّقُهَا به يَوْمَ بَعْثِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ تَعَلُّقِهَا بِالْبَدَنِ، وَلَا نِسْبَة لِمَا قبله مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَلُّقِ إليه، إِذْ هُوَ تَعَلُّقٌ لَا يَقْبَلُ الْبَدَنُ معه مَوْتًا وَلَا نَوْمًا وَلَا فَسَادًا، فَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ. فَتَأَمُّلُ هَذَا يُزِحُ عَنْكَ إِشْكَالَاتٍ كثيرة.
وَلَيْسَ السُّؤَالُ في الْقَبْرِ لِلرُّوحِ وَحْدَهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وغيره، وَأَفْسَدُ منه قَوْلُ مَنْ قَالَ: أنه لِلْبَدَنِ بِلَا رُوحٍ ! وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَة تَرُدُّ الْقَوْلَيْنِ.
وَكَذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ يَكُونُ لِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السنة وَالْجَمَاعَة، تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُفْرَدَة عَنِ الْبَدَنِ وَمُتَّصِلَة به.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ هُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ، فَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ نَالَه نَصِيبُه منه، قُبِرَ أَوْ لَمْ يُقْبَرْ، أَكَلَتْه السِّبَاعُ أَوِ احْتَرَقَ حتى صَارَ رَمَادًا وَنُسِفَ في الْهَوَاءِ، أَوْ صُلِبَ أَوْ غَرِقَ في الْبَحْرِ - وَصَلَ إلى رُوحِه وَبَدَنِه مِنَ الْعَذَابِ مَا يَصِلُ إلى الْمَقْبُورِ.
وَمَا وَرَدَ مِنْ إِجْلَاسِه وَاخْتِلَافِ أَضْلَاعِه وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَيَجِبُ أَنْ يُفْهَمَ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ مُرَادُه مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ،
فَلَا يُحَمَّلُ كَلَامُه مَا لَا يَحْتَمِلُه، وَلَا يُقَصَّرُ به عَنْ مُرَادِ مَا قَصَدَه مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ، فَكَمْ حَصَلَ بِإِهْمَالِ ذَلِكَ وَالْعُدُولِ عنه مِنَ الضَّلَالِ وَالْعُدُولِ عَنِ الصَّوَابِ - مَا لَا يَعْلَمُه إِلَّا الله. بَلْ سُوءُ الْفَهْمِ عَنِ الله ورسوله أَصْلُ كُلِّ بِدْعَة وَضَلَالَة نَشَأَتْ في الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَطَأٍ في الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَلا سِيَّمَا إِنْ أُضِيفَ إليه سُوءُ الْقَصْدِ.
والله الْمُسْتَعَانُ.
منقوووول
:::::
ورد في شرح العقيدة الطحاوية :
(وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ له أَهْلًا، وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ في قَبْرِه عَنْ رَبِّه وَدِينِه وَنَبِيِّه، على مَا جَاءَتْ به الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَعَنِ الصَّحَابَة رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ.
وَ الْقَبْرُ رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة، أَوْ حُفْرَة مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ).
قَالَ تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
وَقَالَ تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ}
{يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ به عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ وغيره في الدُّنْيَا، وَأَنْ يُرَادَ به عَذَابُهُمْ في الْبَرْزَخِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَاتَ وَلَمْ يُعَذَّبْ في الدُّنْيَا، أَوِ الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: «كُنَّا في جِنَازَة في بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ،
فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَه، كَأَنَّ على رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَهُوَ يُلْحَدُ له، فَقَالَ:"أعُوذُ بالله مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"، ثَلاثَ مَرَّاتٍ،
ثُمَّ قَالَ:
"إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ في إِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَة وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، نَزَلَتْ إليه الْمَلَائِكَة، كَأَنَّ على وُجُوهِهِمُ الشَّمْسَ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّة،
وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّة، فَجَلَسُوا منه مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حتى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِه، فَيَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَة، اخْرُجِي إلى مَغْفِرَة مِنَ الله وَرِضْوَانٍ"،
قَالَ:"فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَة مِنْ في السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا في يَدِه طَرْفَة عَيْنٍ، حتى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا في ذَلِكَ الْكَفَنِ وَذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَتَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَة مِسْكٍ وُجِدَتْ على وَجْه الْأَرْضِ"، قَالَ:"فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا، - يعني على مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَة -، إِلَّا قَالُوا: مَا هذه الرُّوحُ الطَّيِّبَة ؟
فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِه التي كَانُوا يُسَمُّونَه بِهَا في الدُّنْيَا، حتى يَنْتَهُوا بِهَا إلى السَّمَاءِ، فَيَسْتَفْتِحُونَ له، فَيُفْتَحُ له،
فَيُشَيِّعُه مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، إلى السَّمَاءِ التي تَلِيهَا، حتى يُنْتَهَى بِهَا إلى السَّمَاءِ التي فيها الله، فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي في عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوه إلى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَة أخرى. قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُه في جَسَدِه، فَيَأْتِيه مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِه،
فَيَقُولَانِ له: مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ: رَبِّي الله، فَيَقُولَانِ له: مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ له: مَا هَذَا الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ الله، فَيَقُولَانِ له: مَا عِلْمُكَ ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ الله فَآمَنْتُ به وَصَدَّقْتُ،
فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوه مِنَ الْجَنَّة، وَافْتَحُوا له بَابًا إلى الْجَنَّة، قَالَ: فَيَأْتِيه مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ له في قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه، قَالَ: وَيَأْتِيه رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْه، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الذي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ له: مَنْ أَنْتَ ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْه الذي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: يَا رَبُّ، أَقِمِ السَّاعَة حتى أَرْجِعَ إلى أَهْلِي وَمَالِي".
قَالَ: "وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ في انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَة، نَزَلَ إليه مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَة سُودُ الْوُجُوه، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ منه مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حتى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِه،
فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَة، اخْرُجِي إلى سَخَطٍ مِنَ الله وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتَتَفَرَّقُ في جَسَدِه، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السُّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا في يَدِه طَرْفَة عَيْنٍ، حتى يَجْعَلُوهَا في تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحٍ خَبِيثَة وُجِدَتْ على وَجْه الْأَرْضِ،
فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا على مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا [ الرُّوحُ الْخَبِيثُ ] ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِه التي كَانُ يُسَمُّى بِهَا في الدُّنْيَا، حتى يُنْتَهَى بِهَا إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ له، فَلَا يُفْتَحُ له،
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ، فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَه في [ سِجِّينٍ ] ، في الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُه طَرْحًا"،
ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} ،
فَتُعَادُ رُوحُه في جَسَدِه، وَيَأْتِيه مَلَكَانِ [ فَيُجْلِسَانِه ] ،
فَيَقُولَانِ له: مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ: هَاه هَاه، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ له: مَا هَذَا الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فِيكُمْ، فَيَقُولُ: هَاه هَاه، لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ،
فَافْرِشُوه مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا له بَابًا إلى النَّارِ، فَيَأْتِيه مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيَضِيقُ عليه قَبْرُه، حتى تَخْتَلِفَ [ فيه ] أَضْلَاعُه، وَيَأْتِيه رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْه، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ،
فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الذي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ، فَوَجْهُكَ الْوَجْه يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَة». رواه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وروى النسائي وَابْنُ مَاجَه أَوَّلَه، ورواه الْحَاكِمُ وَأَبُو عَوَانَة الْإِسْفِرَائينِي في صَحِيحَيْهِمَا، وَابْنُ حِبَّانَ .
وَذَهَبَ إلى مُوجَبِ هَذَا الْحَدِيثِ جَمِيعُ أَهْلِ السنة وَالْحَدِيثِ، وله شَوَاهِدُ مِنَ الصَّحِيحِ.
فَذَكَرَ البخاري رحمه الله عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ في قَبْرِه وَتَوَلَّى عنه أَصْحَابُه، أنه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، فَيَأْتِيه مَلَكَانِ، فَيُقْعِدَانِه،
فَيَقُولَانِ له: مَا كُنْتَ تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ، مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وَسَلَّمَ ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أنه عَبْدُ الله ورسوله،
فَيَقُولُ له: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ الله به مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّة، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا». قَالَ قَتَادَة: وَرُوِي لَنَا: أنه يُفْسَحُ له في قَبْرِه، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عَنْهُمَا:
«أَنَّ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ:"إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَبرُئ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَة"، فَدَعَا بِجَرِيدَة رَطْبَة، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ،
وَقَالَ:"لَعَلَّه يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا». وفي صَحِيحِ أبي حَاتِمٍ عَنْ أبي هريرة، قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ:
«إِذَا قُبِرَ أحدكم، أَوِ الْإِنْسَانُ، أَتَاه مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ»، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَخْ.
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ في ثُبُوتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِه لِمَنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ثُبُوتِ ذَلِكَ وَالْإِيمَانُ به،
وَلَا يَتَكَلَّمُ في كَيْفِيَّتِه، إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ وُقُوفٌ على كَيْفِيَّتِه، لِكَوْنِه لَا عَهْدَ له به في هذه الدَّارِ، وَالشَّرْعُ لَا يأتي بِمَا تُحِيلُه الْعُقُولُ، وَلَكِنَّه قَدْ يأتي بِمَا تَحَارُ فيه الْعُقُولُ. فَإِنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إلى الْجَسَدِ لَيْسَ على الْوَجْه الْمَعْهُودِ في الدُّنْيَا، بَلْ تُعَادُ الرُّوحُ إليه إِعَادَة غَيْرَ الْإِعَادَة الْمَأْلُوفَة في الدُّنْيَا.
فَالرُّوحُ لَهَا بِالْبَدَنِ خَمْسَة أَنْوَاعٍ مِنَ التَّعَلُّقِ، مُتَغَايِرَة الْأَحْكَامِ:
أَحَدُهَا: تَعَلُّقُهَا به في بَطْنِ الْأُمِّ جَنِينًا.
الثاني: تَعَلُّقُهَا به بَعْدَ خُرُوجِه إلى وَجْه الْأَرْضِ.
الثَّالِثُ: تَعَلُّقُهَا به في حَالِ النَّوْمِ، فَلَهَا به تَعَلُّقٌ مِنْ وَجْه، وَمُفَارَقَة مِنْ وَجْه.
الرَّابِعُ: تَعَلُّقُهَا به في الْبَرْزَخِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ فَارَقَتْه وَتَجَرَّدَتْ عنه فَإِنَّهَا لَمْ تُفَارِقْه فِرَاقًا كُلِّيًّا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا إليه الْتِفَاتٌ أَلْبَتَّة، فإنه وَرَدَ رَدُّهَا إليه وَقْتَ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ، وَوَرَدَ أنه يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عنه، وَهَذَا الرَّدُّ إِعَادَة خَاصَّة، لَا يُوجِبُ حَيَاة الْبَدَنِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة.
الْخَامِسُ: تَعَلُّقُهَا به يَوْمَ بَعْثِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ تَعَلُّقِهَا بِالْبَدَنِ، وَلَا نِسْبَة لِمَا قبله مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَلُّقِ إليه، إِذْ هُوَ تَعَلُّقٌ لَا يَقْبَلُ الْبَدَنُ معه مَوْتًا وَلَا نَوْمًا وَلَا فَسَادًا، فَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ. فَتَأَمُّلُ هَذَا يُزِحُ عَنْكَ إِشْكَالَاتٍ كثيرة.
وَلَيْسَ السُّؤَالُ في الْقَبْرِ لِلرُّوحِ وَحْدَهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وغيره، وَأَفْسَدُ منه قَوْلُ مَنْ قَالَ: أنه لِلْبَدَنِ بِلَا رُوحٍ ! وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَة تَرُدُّ الْقَوْلَيْنِ.
وَكَذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ يَكُونُ لِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السنة وَالْجَمَاعَة، تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُفْرَدَة عَنِ الْبَدَنِ وَمُتَّصِلَة به.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ هُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ، فَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ نَالَه نَصِيبُه منه، قُبِرَ أَوْ لَمْ يُقْبَرْ، أَكَلَتْه السِّبَاعُ أَوِ احْتَرَقَ حتى صَارَ رَمَادًا وَنُسِفَ في الْهَوَاءِ، أَوْ صُلِبَ أَوْ غَرِقَ في الْبَحْرِ - وَصَلَ إلى رُوحِه وَبَدَنِه مِنَ الْعَذَابِ مَا يَصِلُ إلى الْمَقْبُورِ.
وَمَا وَرَدَ مِنْ إِجْلَاسِه وَاخْتِلَافِ أَضْلَاعِه وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَيَجِبُ أَنْ يُفْهَمَ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ مُرَادُه مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ،
فَلَا يُحَمَّلُ كَلَامُه مَا لَا يَحْتَمِلُه، وَلَا يُقَصَّرُ به عَنْ مُرَادِ مَا قَصَدَه مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ، فَكَمْ حَصَلَ بِإِهْمَالِ ذَلِكَ وَالْعُدُولِ عنه مِنَ الضَّلَالِ وَالْعُدُولِ عَنِ الصَّوَابِ - مَا لَا يَعْلَمُه إِلَّا الله. بَلْ سُوءُ الْفَهْمِ عَنِ الله ورسوله أَصْلُ كُلِّ بِدْعَة وَضَلَالَة نَشَأَتْ في الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَطَأٍ في الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَلا سِيَّمَا إِنْ أُضِيفَ إليه سُوءُ الْقَصْدِ.
والله الْمُسْتَعَانُ.
منقوووول