هناك فرق بين الصبر والرضا ، فرق في التعريف ، وفرق في الحكم .
أما الحكم ، فالصبر واجب ، بحيث يأثم الإنسان إذا لم يصبر على ما أصابه من مكروه ، ويعرض نفسه بهذا لعقوبة الله تعالى .وأما الرضا ، فهو درجة أعلى من الصبر ، وهي درجة السابقين بالخيرات ، ولذلك كانت مستحبة وليست واجبة ، فلا يأثم المسلم إذا لم يصل إليها ، غير أنه مطالب بمجاهدة نفسه والشيطان حتى يصل إلى تلك الدرجة العالية .قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (10/682) :
" الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل : مستحب في أحد قولي العلماء وليس بواجب ، وقد قيل : إنه واجب ، والصحيح أن الواجب هو الصبر" انتهى .وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فما يقع من المصائب يستحب الرضا به عند أكثر أهل العلم ولا يجب ، لكن يجب الصبر عليه " انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (2/92) .وأما الفرق بين الصبر والرضا في التعريف ، فالصبر هو أن يمنع الإنسان نفسه من فعل شيء ، أو قول شيء يدل على كراهته لما قدره الله ، ولما نزل به من البلاء ، فالصابر يمسك لسانه عن الاعتراض على قدر الله ، وعن الشكوى لغير الله ، ويمسك جوارحه عن كل ما يدل على الجزع وعدم الصبر ، كاللطم وشق الثياب وكسر الأشياء وضرب رأسه في الحائط وما أشبه ذلك .قال ابن القيم رحمه الله في " عدة الصابرين " (ص/231) :
" الصبر : حبس اللسان عن الشكوى الى غير الله ، والقلب عن التسخط ، والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها " انتهى .وأما الرضا فهو صبر وزيادة ، فالراضي صابر ، ومع هذا الصبر فهو راضٍ بقضاء الله ، لا يتألم به .قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"الصبر : يتألم الإنسان من المصيبة جدا ويحزن ، ولكنه يصبر ، لا ينطق بلسانه ، ولا يفعل بجوارحه ، قابض على قلبه ، موقفه أنه قال : ( اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها ) ، ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ...
الرضا : تصيبه المصيبة ، فيرضى بقضاء الله .
والفرق بين الرضا والصبر : أن الراضي لم يتألم قلبه بذلك أبدا ، فهو يسير مع القضاء ( إن إصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ) ، ولا يرى الفرق بين هذا وهذا بالنسبة لتقبله لما قدره الله عز وجل ، أي إن الراضي تكون المصيبة وعدمها عنده سواء " انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (3/206) .ثالثاً :
مجرد شعور الإنسان بالضيق وعدم التحمل ، وتمنيه أن ما وقع به من الشدة لم يكن وقع .. كل هذا لا ينافي الصبر ، مادام قد أمسك قلبه ولسانه وجوارحه عن كل ما يدل على الجزع ، وما دام لم يعترض على قضاء الله تعالى ، بل الصبر في الغالب لا يكون إلا مع هذا الضيق والمشقة والتعب .
وأما الراضي : فلا يجد ذلك الضيق والألم ؛ لأنه يعلم أن الله تعالى لن يختار له إلا ما هو خير ، فهو يتقلب فيما يختاره الله بنفس راضية مطمئنة .قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"الصبر مثل اسمه مر مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه ، لكنه يتحمله ويتصبر ، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده ، بل يكره هذا ، ولكن إيمانه يحميه من السخط .
والرضا ، وهو أعلى من ذلك ، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدره ، وإن كان قد يحزن من المصيبة ؛ لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر ، أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل ، إن أصيب بنعمة ، أو أُصيب بضدها ، فالكل عنده سواء ، لا لأن قلبه ميت ، بل لتمام رضاه بربه سبحانه وتعالى يتقلب في تصرفات الرب عز وجل ، ولكنها عنده سواء ، إذ ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه" انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (10/692) .رابعاً :
هناك درجة أعلى من الرضا وهي درجة الشكر ، بأن يشكر الإنسان الله تعالى على ما أصابه من بلاء وشدة ، فيرى أن ما أصابه كان نعمة من الله ولذلك يقوم بشكرها .
ويصل الإنسان إلى درجة الصبر ثم الرضا ثم الشكر بما يأتي :
1- أن ينظر إلى اختيار الله تعالى له ، وأن الله لن يختار له إلا الخير . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم (2999) .
2- أن يتأمل فيما أصابه : فإنه سبب لتكفير ذنوبه ، حتى يلقى الله تعالى طاهرا من الخطايا ، قال صلى الله عليه وسلم : ( مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) رواه الترمذي ، وصححه الألباني في " سنن صحيح الترمذي " .
3- أن ينظر إلى ما أصابه وأن الله تعالى رفق به فيه ، فكم من الناس أصيب بما هو أشد من ذلك وأعظم ؟ قال ابن القيم في الفوائد (1/112-113) بعد أن ذكر الصبر والرضا : " عبودية العبد لربه في قضاء المصائب الصبر عليها ، ثم الرضا بها وهو أعلى منه ، ثم الشكر عليها وهو أعلى من الرضا ، وهذا إنما يتأتى منه ، إذا تمكن حبه من قلبه ، وعلم حسن اختياره له وبره به ولطفه به وإحسانه إليه بالمصيبة ، وإن كره المصيبة " انتهى .
4- أن ينظر إلى عواقب الابتلاء والشدة ، وأن الله يسوقه إليه بهذه الشدة التي تجعله يكثر من ذكر الله تعالى ودعائه والتضرع إليه .
5- أن ينظر إلى ثواب الصبر والرضا ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر: 10 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ) رواه الترمذي وصححه الألباني في " سنن صحيح الترمذي " . ورضا الله تعالى عن العبد أعظم من دخول الجنة ، قال الله تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة/72 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ . فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ : أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ! فَيَقُولُونَ : يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ) رواه البخاري (6549) ، ومسلم (2829) .
قال ابن القيم في " طريق الهجرتين " (1/417) بعد أن ذكر نحوا من هذه الأسباب التي تعين العبد على الرضا بقضاء الله تعالى : " فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء ، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر " انتهى .
تعليق