الضبر (1)إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أما بعد .فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون، ألا وإنَّ أعظمَ ما تحصُلُ به التقوى، وتُجنى به ثمارُها الصبرُ.واعلموا أن الله سبحانه جعلَ الصبرَ جواداً لا يكبُو، وصارماً لا ينبو، وحِصْناً لا يُهدمُ، ولا يُثلمُ، وقد أجمع العلماءُ على وجوبِه، فقد أمر اللهُ تعالى به عبادَه، فقال جلَّ ذكرُه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([1]).ونهى عن ضدِّه فقال سبحانه مخاطباً نبيَّه صلى الله عليه وسلم : ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾([2])، وقال جل وعلا: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾([3])، وقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾([4])، وقد أثنى اللهُ على أهلِه: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾([5])، وأوجبَ سبحانه للصابرين محبَّتَه، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾([6])، وأخبر أنه خيرٌ لأهلِه فقال: ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾([7])، وقال: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾([8])،وَوَعدَهم سبحانه بعظيمِ الأجرِ، فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([9])، وقد أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه خَيْرُ ما يُعطاه العبدُ، فقال: «وما أُعطِيَ أَحدٌ عطاءً، خيراً وأوسعَ من الصبرِ»([10]).والصبرُ أيها المؤمنون ضرورةٌ حياتيةٌ قبل أن يكونَ فريضةً دينيةً شرعيةً، فلا نجاحَ في الدُّنيا، ولا فلاحَ في الآخرةِ إلا بالصَّبرِ، فلا تُحقَّقُ الآمالُ، ولا تنجح المقاصدُ، ولا يُؤْتِي عملٌ أُكُلَه إلا بالصَّبرِ، فلولا الصبرُ ما حصدَ الزارعُ زرعَه، وما جَنى الغارسُ ثمَرَه، ولا حصَّلَ الساعي قصْدَه، فكُلُّ الناجحين في الدنيا بمقاصدِهم إنما حقَّقُوا آمالَهم بالصَّبرِ، فاستمرؤُوا المُرَّ، واستعذبوا العَذابَ، واستهانُوا بالصِّعابِ، ومشوا على الشَّوكِ، ووطَّنوا أنفسَهُم على احتمالِ المكارِه دون ضَجَرٍ، وانتظارِ النتائجِ دون مللٍ، ومواجهةِ العقباتِ دون كلَلٍ، مضوا في طريقِهم غيرَ وانين، ولا متوقِّفين.حادِيهِم في سَيْرِهم: "من صَبَرَ ظفَرَ".وشاعرُهم يهتفُ مردِّداً:إني رأيتُ وفي الأيامِ تجْرُبةٌ*** للصَّـــبرِ عاقبةٌ محمودةُ الأثَرِ.وقلَّ مَن جدَّ في أمرٍ يحاولُه***فاستصْحَبَ الصَّبرَ إلا فازَ بالظَّفَرِ([11]).فالصبرُ طريقُ المجدِ وسبيلُ المعالي، فالرِّفعةُ في الدُّنيا لا تُنالُ إلا بركوبِ المشقَّاتِ وتجرُّعِ الغصَصِ، فمن اختطَّ طريقاً يبلغُ به أمانيَه غيرَ هذا فقد أخطَأَ الطريقَ، وضلَّ السبيلَ، وما أصدقَ قولَ القائلِ:لا تحسَبْ المجدَ تمراً أنت آكِلُه لن تبلغَ المجدَ حتى تلعَقَ الصَّبِرا([12])أيها المؤمنون.إذا كانت الدنيا -على هَوانِها، وأنها لا تعدِلُ عندَ اللهِ جناحَ بَعوضةٍ- لا تحصُلُ إلا بالصَّبرِ والمصابرةِ، فكيفَ تحصُلُ الجنةُ -التي عرضُها السماواتُ والأرضُ، والتي أعدَّ اللهُ فيها لأوليائِه ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمِعَت، ولا خطَرَ على قلبِ بشرٍ- بالكسلِ والضَّجرِ والعجزِ والجزعِ؟!أيها المؤمنون.إن حاجةَ طلابِ هذا النعيمِ، وخُطَّابِ هذه الجَنَّةِ إلى الصَّبرِ أحوَجُ وألزَمُ، فطريقُهم مليءٌ بالأشواكِ والعقباتِ، ومحفوفٌ بالمخاطرِ والمكارهِ.ولن تبلغَ أيها المؤمنُ ما ترجُوه من فضلِ اللهِ ورحمتِه، وعظيمِ مَنِّه وعطائِه بمثل الصَّبرِ، وهذا سرُّ احتفاءِ القرآنِ الكريمِ بالصَّبرِ، حتى ذكرَه اللهُ تعالى في كتابِه في نحوِ تسعين موضعاً.أيها المؤمنون.أنتم محتاجون إلى الصَّبرِ عند فعلِ ما أمَرَكُم اللهُ تعالى به، وعندَ ترْكِ ما نهاكم اللهُ عنه، وعند حلولِ الكرْبِ، ونزول الضَّيمِ والبلاءِ، فالصبرُ لازمٌ لكم إلى الممَاتِ، وإليكم بيان ذلك:أما الصبرُ على طاعةِ اللهِ تعالى، فذلك لأنًَّ النفْسَ جُبِلت على حبِّ الراحةِ والدَّعَةِ والكسلِ والعجزِ، فحملُها على فعلِ ما أمر اللهُ به يحتاجُ إلى صبرٍ ومجاهدةٍ وتحمُّلٍ ومعاناةٍ.فالأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ مثلاً عبادةٌ، تحتاجُ إلى صبرٍ؛ لذلك أمَرَ اللهُ بالصبرِ عنده: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾([13]).والصلاةُ فريضةٌ متكرِّرةٌ تحتاجُ إلى صَبرٍ وجُهْدٍ، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾([14]).وعِشْرةُ المؤمنين والإبقاءُ على مودَّتِهم، والإغضاءُ عن هَفَواتِهم، والرِّضا بهم، وهجْرُ غيرِهم خِصالٌ تحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرةٍ؛ لذا قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾([15]).والخلاصةُُ أيها الإخوةُ الكرامُ أن العبادةَ بشتَّى صُوَرِها وصُنوفِها تحتاجُ إلى صبرٍ ومجاهدةٍ؛ ولذلك جعل اللهُ الصبرَ سبباً لدخولِ الجنةِ، إذ إنه هو الذي يحمِلُ على فعلِ الطاعاتِ، قال تعالى عن أهلِ الجنةِ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾([16])، وقال ابن القيم عنهم:صَبَروا قليلاً فاستراحُوا دائِماً يا عِزَّةَ التوفيقِ للإنسانِ([17])أما النوعُ الثَّاني من الصبرِ، الذي تحتاجُه يا عبدَ اللهِ، فهو الصَّبرُ عن الشهواتِ والملذاتِ؛ وذلك أن النفسَ ميَّالةٌ إلى الآثامِ، تَوَّاقةٌ إلى الشهواتِ، فإن لم تلجِمْها بلجامِ التقوى، وتحكمْها بحِكمةِ الصبرِ، وقعتَ في الآثامِ، وتلطَّختَ بالأوزارِ، فالإعراضُ عن الملاهي، والإدبارُ عن الشهواتِ، لا يأتي إلا لمن تدرَّعَ بلباسِ المجاهدةِ والصبرِ، ولا يلقَّاه إلا الصابرون، قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.([18])فيا أخي الحبيبَ، إذا دعتْكَ شهوتُك إلى مواقَعةِ ما حرَّمه اللهُ عليك، فعليك بالصبرِ عن ذلك، فإن سلعةَ اللهِ غاليةٌ.وإذا أزَّتْك نفسُك لغِيبةِ أخيك أو سبِّه أو شتمِه أو التنقُّصِ منه، فاصبر عن ذلك.فعاقبةُ الصَّبرِ الجميلِ جَميلةٌ وأَحْسَنُ أخلاقِ الرجالِ التَّحفُّظُ([19])وإذا سوَّلت لك نفسُك، ودعاك جَشَعُك إلى أن تظلِمَ إخوانَك، وتأخُذَ حقوقَهم بغيرِ حقٍّ، فكُفَّ عن ذلك، واصبرْ فبِالصبرِ تنجُو من غوائلِ المعاصي والرَّزايا، وتحصِّلُ الفضائلَ والمزايا.أيا صاحبي إنْ رُمْتَ أنْ تكسِبَ العلا***وترقى إلى العَلياءِ غيرَ مزاحمِ.عليك بِحُسنِ الصَّبرِ في كلِّ حــالةٍ*** فما صابِرٌ فيما يرومُ بنادِمِ([20]).وأما ثالثُ أنواعِ الصبرِ التي يحتاجُها العبدُ، فهو الصبرُ على أقدارِ اللهِ تعالى، ألا وإنَّ من أعظَمِ الصبرِ الصبرَ على قضاءِ اللهِ، وهذا النوعُ من الصبرِ لا غنى للإنسانِ عنه، فإنه إذا استُحكِمَت الأزماتُ، وتعقَّدت حبالُها، وترادَفَت الضوائقُ، وطال ليلُها، وادلهمَّت الخطوبُ والنَّكَباتُ، واشتدَّ أَوَارُها، فالصبرُ خيرُ مطيَّةٍ يرتحلُها العبدُ لتخطِّي تلك الظلماتِ، والنجاةِ من تلك المصائبِ والمدلهِمَّاتِ، هو وحْده الذي يُخرجُك من تلك الظلماتِ، ويُنجِيك من تلك المدلهِمَّاتِ، فالدنيا مليئةٌ بالغُصَصِ والمنغِّصاتِ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾([21])، فمن ذا الذي لا يشكو همًّا ولا يحمل همًّا، ولم تطرُقْه الدواهي وتَغْشَاه الكروبُ؟!فهي كما قال الأوَّلُ:طُبعتعلى كَدَرٍ وأنت تُرِيدُها صفواً من الأقذاءِوالأكدارِ([22])فكلُّنا يشكو ضَيماً، ويحمِلُ همًّا، كما قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾([23])؛أي عناءٍ ومشقةٍ:
كلُّ مَن لاقيتُ يشْكو دهْرَه ليتَ شِعرِي هذه الدنيا لمَنْ؟([24])
الشيخ خالد المصلح
كلُّ مَن لاقيتُ يشْكو دهْرَه ليتَ شِعرِي هذه الدنيا لمَنْ؟([24])
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا
حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
الشيخ خالد المصلح