إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

فن معالجة الأخطــاء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فن معالجة الأخطــاء

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته إخوة الإسلام
    انتقيت لكم هذه المقالة لفضيلة الشيخ محمد حسين يعقوب و هي بعنوان نظرية السوس، و ذلك لما فيها من فوائد عظيمة، أسأل الله أن ينفعنا بها جميعا.. يقول الشيخ أطال الله في عمره..
    الحياة مواقف.. و مواقف عجيبة.. و الناس فيها ألوان و أشكال .. فمنهم من لا ينظر إلا إلى الأمور الكبيرة، و منهم من لا يُدقِّق النَّظر إلا في الأمور الصغيرة، و منهم من لا يعبأ بالصغير و لا الكبير، فحياته كيفما اتَّفق.. و منهم الرجل الرَّشيد الذي فَهِم الحياة فأعطى كل شيء حجمه المطلوب و أهميته المطلوبة، لذا نريد أن نفهم الحياة.
    نعم.. تحتاج الحياة إلى فهم لكي نعيشها كما يريدها ربَُنا سبحانه و تعالى..
    و من فَهم الحياة أنَّ هناك أشياء دقيقة تُعكَِر صفوة الحياة..
    أشياء دقيقة.. قد يعتبرها البعض تافهة و لا تُذكر و لكنَّها تُكدَِر صفو الحياة..
    أشياء دقيقة.. صغيرة جدا و لكن تأثيرها في إفساد هذه الحياة كبير..
    أشياء دقيقة.. قد تغيب عن نظر الكبير يتفطن لها صغير ناصح أمين، فيتوجه الكبير لاستدراكها فيستعلي عليها و يتغافل عنها فيتسبب منها فساد عريض..
    أشياء دقيقة.. لا يتفطن إليها و لا يكون لها تأثير في وقتها أو وقعٌ في ساعتها، و لكنها مع الوقت يكون تأثيرها كبيراًُ و خطيراً، و أخطر ما في ذلك بالطبع الذَُنوب و المعاصي..
    يقول ابن القيم عليه رحمة الله في "الدَّاء و الدَّواء" : [و ها هنا نكتة دقيقة يغلط فيها النَّاس في أمر الذَّنب، و هي أنَّهم لا يرون تأثيره في الحال، و قد يتأخر تأثيره فينسى، و يظن العبد أنَّه لا يغير بعد ذلك و أن الأمر كما قال القائل :
    إذا لم يُغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غُبار
    و سبحان الله.. ماذا أهلكت هذه النكتة من الخلق؟
    و كم أزالت من نعمة؟ و كم جلبت من نقمة؟
    و ما أكثر المغترين بها من العلماء و الفضلاء، فضلا عن الجهال، و لم يعلم المُغتر أن الذَّنب ينقض، و لو بعد حين كما ينقض السُّم، و كما ينقض الجرح المندمل على الغش و الدغل.
    و قد ذكر الامام أحمد عن أبي الدرداء : {اعبدوا الله كأنَّكم ترونه، و عدوا أنفسكم في الموتى، و اعلموا أن قليلا يُغنيكم خيرٌ من كثير يُلهيكم، و اعلموا أن البر لا يَبلى و أن الإثم لا يُنسى}.
    و نظر أحد العُبَّاد إلى صبيّ، فتأمَّل محاسنه فأتي في منامه و قيل له : لتجدنَّ غبها بعد أربعين سنة..
    هذا مع أن للذَّنب نقدا معجلا لا يتأخر عنه، قال سليمان التيمي : إن الرجل ليُصيبُ الذنب في السر فيصبح و عليه مذلَّته..
    و قال يحي بن معاذ الرازي : عجبتُ من ذي عقل يقول في دعائه : اللهم لا تُشمت بي الأعداء ثم هو يُشمت بنفسه كل عدو له، قيل : و كيف ذلك؟، قال : يعصي الله فيُشمت به في القيامة كل عدو.
    قال ذو النون : من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية] انتهى كلام ابن القيم
    ثم هي الدنيا : قلّب و الأيام دُول و عالم الأسباب عُجب
    و قد جعل الله لكل شيء قدرا، و لكل شيء سببا، و عالم الأسباب من الغيب الذي استأثر الله بعلمه و لا يظهر للناس منه و يبدو من خبره إلا كمثل رشح الإناء.
    أحبيتي في الله..
    كم في حياة المسلم من أسرار و عجائب.. كم يقول المُسلم في حياته مرات : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا و لم أفعل كذا.. أو قلت كذا و كذا.. أو سكتُّ عن كذا أو كذا.. و يقينا قد أتته قبل موقفه هذا إشارات لو انتبه.. و نصائح لو رأى.. و نُذر لو تفطَّن.. و رسائل لو علم أنها تخصُّه لما جرى ما كان..
    لذلك إخوتي، و عن خبرات حياتية أتوجه إليكم اليوم بنصيحة صدق من ناصح أمين :
    في حياتك أشياء قد تعتبرها صغيرة تافهة و هي خطيرة..
    في علاقتك مع الله خطايا و أخطاء من جهل و غباء..
    من صغائر و لمم قد تودي بحياة إيمانك فانتبه لها..
    نصيحتي : لا تهمل شيئا و لا تستصغر أمرا و أصلح حالك أولا بأول..
    أرى خلل الرَّماد وميض نار و أخشى أن يكون لها ضرام
    فإن النَّار بالعودين تُذكـــــى و إن الحرب أولها كــــــلام
    و محبة لإخواني أنقل لكم هنا نصا طريفا للشاعر أحمد شوقي كتبه فيما كتب من شعر الرموز و هو نص ظريف و جميل و لكنه صادق حقيقي، استللت منه فوائد أذكرها بعده إن شاء الله تعالى، أولا يقول الشاعر :
    حُكي أن ملكا للغربان يعيش في مملكته و قصره المُشيَّد على قمة نخلة كبيرة، و كان لهذا الملك خادم أمين ناصح اسمه ندور، جاءت ذات يوم سوسة فانغرست في جذور هذه النَّخلة، فانتبه لذلك الأمر الخادم النَّاصح، فدار بينه و بين ملك الغربان حوار لطيف تدور أحداثه و كلماته حول هذه السُّوسة، و ما يمكن أن تُحدِثُه من مصائب على الأمد البعيد، يقول أحمد شوقي شارحا هذا الحوار :
    كان للغبان فـــــي العصر مليك و له في النخلة الكبرى أريـــــــك
    فيه كرسي و خــدر و مهــــود لصغار الملك أصحاب العهـــــــود
    جـاءه يـوما نــدور الخـــــــادم و هو في الباب الأمين الحـــــازم
    قال : يا فرع الملوك الصالحين أنت ما زلت تُحب النَّاصحيـــــــن
    سوسة كانت على القصر تدور جازت القصر و دبت في الجذور
    فابعث الغربان في إهــــــلاكها قبل أن نَهلك في أشــــــــــراكها
    ضحك السُّلطان من هذا المقال ثمَّ أدنى خادم الخير و قـــــــال :
    أنا رب الشوكة الضافي الجناح أنا ذو المنقار غلاب الريـــــــاح
    أنا لا أنظر في هــذه الأمـــــور أنا لا أنظر تحتي يا نـــــــــــدور
    ثُمَّ لما كان عـام بـعـد عـــــــام قام بين الريح و النخل خصـــام
    و إذا النَّخلة أهوى جذعـــــها فبدا للريح سهـــلا قـلــعــــــــها
    فهوت للأرض كالتل الكــبيــر و هوى الديوان و انقض السرير
    فدها السُلطان ذا الخطب المهول و دعا خادمــه الغـالي يـقـــــول :
    يا ندور الخير أسعف بالصياح ما ترى ما فعلت فينا الريــــــــاح
    قال : يا مولاي لا تسأل ندور أنا لا أنظر في هذي الأمــــــــــور
    و قد استخرجت من نص الشاعر بعض الفوائد السريعة فخذها هنيئا مريئا :
    أولا : لا بد لكل إنسان من ناصح أمين يكون قريبا منه مطَّلعا على بواطنه و أسراره و خفاياه، ينصح له فيها و يكون مقبولا نصحه، و كلما رأيت إنسانا يجمع حوله المنافقين و الإمعات و يطرد الصادقين و النُصحاء فاعلم أنه إنسان فاشل في الدنيا و الآخرة.
    ثانيا : في أدب النصح انظر إلى قول ندور : {يا فرع الملوك الصالحين أنت مازلت تُحب الناصحين}
    فتعلَّم أن تُشجع من تنصحه كي يقبل نُصحك، قال الإمام الشافعي رحمه الله لبعض تلاميذه : "إذا رأيت من أخيك زلة لم يكن لك بدٌ من أن تنصحه فيها، فإن واجَهتَهُ بها أوحشته، و إن كتمتها فقد خُنته، قال : فكيف افعل يا إمام؟، قال : تعرض بها في الكلام و تجعلها في بعض حديثك..
    إنه فن معالجة الأخطاء :
    · قدِّم شيئا من المدح و الثناء عليه بالحق و بما فيه دون كذب أو مبالغة أو بخس.
    · و أتبعها بذكر فوائد قبول النُّصح و أمثلة ممن استفاد ممن هو أصغر منه.
    · ثم أعرض المسألة دون مبالغة في أهميتها و لا تضخيم لها.
    · ثم التمس له بعض الأعذار و قدم له ما يمكن أن يكون من المبررات.
    · استعمل أيضا الأدب في العرض و الهدية البسيطة المناسبة.
    · أخيرا لا تحوجه إلى اعتذار أو سوق مبررات، بل احسم الموضوع بمجرد عرض النَّصيحة.
    · و اختم قولك بأنَّك قد تكون المخطئ و هو المُحق فسامح و اعذر من أحبَّك.
    ثالثا : إيَّاك و الكبر و الغرور، قالوا في المثل العربي : [إذا كان عدوك نملة فلا تنم عنه]، و انظر إلى قول الغراب :
    أنا لا أنظر في هذي الأمور أنا لا أنظر تحتي يا ندور
    ينبغي للإنسان أن ينظر تحته و فوقه و عما حوله ليدفع عن نفسه الأذى، فلا يركبنَّك الغرور، و انظر في جميع الأمور، و لا تكن كما قيل : "الزوج آخر من يعلم".
    رابعا : السُّوسة.. و ما أدراك ما السُّوس، ينخر من تحت حتى يسقط السقف من فوق، و هذا موضع الشاهد و ركيزة هذا الموقف في النُّصح.
    أحبتي في الله.. كم في حياتنا من سوس ينخر في ديننا و علاقاتنا و أعمالنا و جملة حياتنا.. كم من سوس ينخر فعلا و نحن نراه و نهمله و لا نهتم به و لا نعمل على علاجه و التخلُّص منه..
    فأدركوا الأمر و أنقذوا أنفسكم
    فهناك سوسة تنخر في دينك أدركها : معصية صغيرة أو كبيرة مع الإصرار، أو سوسة أخرى : سوء الظن بالله.. أو كبر أو عجب أو رياء.. أو عدم رضا عن الله.. أو جهل و تمادي..
    ابحث عن السُّوس في علاقتك مع الله، و استرشد ناصحا أمينا منك قريب.
    و هناك سوسة أخرى تنخر في بيتك : إهمال زوجتك و أولادك.. خطايا الزوجات و خطيئات الأولاد.. منكرات موجودة بالبيت (تلفاز، موسيقى، صور، تماثيل، إختلاط..)
    و هناك سوسة أخرى تنخر في علاقتك مع النَّاس : سوء الظن بالآخرين.. و تعلُّق القلب بالآخرين.. و طلب الحقوق و نسيان الواجبات..
    ابحث عن السُّوس و أنقذ بنيانك من الانهيار و أدرك نفسك قبل أن تغرق بك السَّفينة، و ضَع خطة عامة لترميم ما أفسده السُّوس في قلبك و في عباداتك و في معاملاتك.
    و في النهاية ثمة أمر آخر ألا و هو :
    لقد قام كثير من المصلحين بواجبهم، آمرين أمتهم بالمعروف، ناهينها عن المنكر، ناصحين إياها بكل خير، و لكن نخشى أحيانا أن يحق في بعضنا قول القائل :
    لقد أسمعت لو نادينا حــــــيا و لكن لا حياة لمن تُنادي
    و لو نارا نفخت بها أضاءت و لكن أنت تنفخ في رماد
    أينما جال الإنسان ببصره في أرجاء هذه الأمَّة وجد سوسة تنخر في جسدها..
    سوسة تفتك بالدين و القيم و الخلق.. سوسة لا ترحم.. سوسة يُبصرها أولو الأحلام و النُّهى و يُقدِّرون عاقبتها ... ألا إن عاقبتها وخيمة.
    و رحم الله عملاق هذه الأمَّة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- حينما قال : {رحم الله رجلا أهدى إليَّ عيوبي}.
    فهل تعي أمتنا، حُكاما و محكومين، أغنياء و فقراء، وُجهاء و بُسطاء هذا الأمر العظيم؟، و هل نعي نحن جميعا عبادة التناصح فيما بيننا؟، و هل نُذل أنفسنا للحق و نقبله مهما كان؟ نأمل ذلك و الله ولي التوفيق.
    أسأل الله أن يحفظنا من بين أيدينا و من خلفنا و عن أيماننا و عن شمائلنا و من فوقنا و نعوذ بعظمته أن نُغتال من تحتنا.
يعمل...
X