أول المواعظ و .بداية الدنيا
أول المواعظ : قدم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشام متفقداً أحوالها فزار صاحبه أبا الدرداء في منزله ليلاً ، فدفع الباب فإذا هو بغير غلق ، ثم دخل في بيت مظلم لا ضوء فيه ، فلما سمع أبو الدرداء رضي الله عنه حسه قام إليه ورحب به ثم جلس الرجلان يتفاوضان الأحاديث والظلام يحجب كلاً منهما عن عيني صاحبه ،فجس عمر وساد أبي الدرداء فإذا هو برذعة ، وجس فراشه فإذا هو حصا ، وجس دثاره – يعني لحافه – فإذا هو كساء رقيق لا يفعل شيئاً في برد الشام ...فقال له عمر : رحمك الله يا أبا الدرداء : ألم أوسع عليك ؟! ألم أبعث لك ؟! فقال أبو الدرداء : أتذكر يا عمر حديثاً حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قال عمر : وما هو ؟! قال : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: " ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب " فماذا فعلنا بعده يا عمر!! فماذا فعلنا بعده يا عمر !! فبكى عمر وبكى أبو الدرداء وما زالا يتجاوبان البكاء والنحيب حتى طلع عليهما الفجر ..
فلا إله إلا الله والله أكبر .. كيف إذا جاء عمر وجاء أبو الدرداء ونظرا في أحوالنا !!! كم غيرنا !! وكم بدلنا !! وكم انفتحت الدنيا !!
ومضت الأيام قدماً وتوفي أبو الدرداء رضي الله عنه كما هو سبيل كل حي .. فرأى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.. رأى فيما يراه النائم .. رأى مرجاً أخضراً فسيح الأرجاء وارف الأفياء فيه قبة عظيمة من أدم حولها غنم رابضة لم ترَ العين مثلها قط ، فقال : لمن هذه ؟ فقيل : هذه لعبد الرحمن بن عوف .. فبينما هو يتأمل في حسن المرج وبهاءه إذ طلع عليه عبد الرحمن بن عوف من القبة ، وقال : يا ابن مالك هذا ما أعطانا الله عز وجل على القرآن .. هذا ما أعطانا الله عز وجل على القرآن.. ولو أشرفت على هذه الثنية لرأيت ما لم ترَ عينيك وسمعت ما لم تسمع أذنك .. ووجدت ما لم يخطر على قلبك .. أعده الله عز وجل لمن ؟! أعده الله لأبي الدرداء لأنه كان يدفع عنه الدنيا بالراحتين والصدر ..
وصدق الله العظيم حين قال : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) وصدق الله العظيم حين قال : ( والسابقون السابقون ، أولئك المقربون ، في جنات النعيم ، ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين ، على سرر موضونة ، متكئين عليها متقابلين ، يطوف عليهم ولدان مخلدون ، بأكواب وأباريق وكأس من معين ، لا يصدّعون عنها ولا ينزفون ، وفاكهة مما يتخيرون ، ولحم طير مما يشتهون ، وحور عين ، كأمثال اللؤلؤ المكنون ، جزاء بما كانوا يعملون ، لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً ، إلا قيلاً سلاماً سلاماً ) .. جزاء بما كانوا يعملون ..ما غيروا وما بدلوا ..
هيا نسمع بداية الحياة ونهايتها .. تعال نسمع من أخبار الدنيا ..
قبل ان أبدأ في ذكر أخبار الدنيا أريدك أن تعرف أنه ما ذُمّت الدنيا من أجل الدنيا،إنما ذمت الدنيا لسوء فعل أهلها وغفلتهم عن الآخرة ، وإلاَّ فهي طريقنا إلى الآخرة وفيها نتزود من العمل الصالح .. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " خيركم من طال عمره وحسن عمله ، وشركم من طال عمر وساء عمله " ..
أما من أخبارها فجديدها يبلى ، ملكها يفنى ، عزيزها يذل ، كثيرها يقل ، حيها يموت ، وخيرها يفوت ، لو لم يكن فيها عيب إلا أن أهلها يموتون لكفاها ..اسمع حقيقتها كما قال تعالى : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور )،هذه حقيقتها.. سريعة الفناء ، قريبة الانقضاء ، تعد بالبقاء ثم تخلف عند الوفاء ..
أحلام نوم أو كظل زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع .
طريق النجاة فيها (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
خلقها الله – يعني الدنيا – خلقها الله للامتحان والابتلاء كما قال سبحانه : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملاً ، وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً )
الناس فيها على صنفين ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة )
وهم أيضاً على حالين ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً )
اسمع رعاك الله ماذا أعد الله لهؤلاء وماذا أعد الله لهؤلاء ( فأما من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ،فإن الجحيم هي المأوى ، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى ) ..
وقال سبحانه: ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ).. النتيجة :(ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً ، كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً ، انظر ( انظر ) كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً )
قال صلى الله عليه وسلم : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " .
وقال " ما لي وللدنيا ،ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها "
وقال : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " .
وقال : " ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أ هلكتهم " .
مر صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه على شاة ميتة ، قال : " أترون هذه الشاة هينة على أهلها " قالوا : من هوانها ألقوها . قال : " والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء " .
وقال :" إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون،وكل الناس غادي " .
تأمل بعد هذا الكلام من سيد المرسلين ..تأمل في حياته ومماته .. تأمل من البداية حتى النهاية .. لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز وكسرت أغلالها لما رآها الله تمشي نحوه لا تريد إلا رضاه سعى لها ..
تقول عائشة : يمر الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال لا توقد نار في بيوت آل محمد صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا خالة : ما طعامكم ، قالت : الأسودان التمر والماء .
قالت أيضاً : " ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتاليين ..
تخبز فاطمة خبيزاً فتأتيته بكسرة خبز فيأكلها ثم يقول - بأبي هو وأمي - : " والله يا فاطمة ما دخل بطن أبيك طعام منذ أيام " .
يبكي عمر لما رأى حاله وقد أثر الحصير في جنبه وملوك فارس والروم تلبس الحرير وتنام على الوثير .. فقال يا عمر : " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ".. " أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " ..
يبغي من الله المكان الأرفعا .. ما لبس الحرير ولا وضع التاج على الرأس مرصعا ..
يقول الحسن البصري رحمه الله : دخلت بيوت النبوة بعد موته صلى الله عليه وسلم بحين فإذا جدرانها من طين ، سقفها من جريد ، فرشها من حصير ، طولها وعرضها أمتار..
يقول سعيد بن المسيب : لما هدمت بيوت النبوة لتوسيع المسجد ما رأيت باكياً كما رأيت في ذلك اليوم .. يقول : ليتهم أبقوها .. ليتهم أبقوها ..حتى ينشأ ناشئ الفتيان فينا ويروا كيف كانت حياة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو الذي حيزت له الدنيا بما فيها
اسمع من كلامهم وقل بارك الله فيك: أين نحن من هؤلاء ؟!
يقول أبو بكر لخالد رضي الله عنهم : فرّ من الشرف يتبعك الشرف ، واحرص على الموت توهب لك الحياة ، لا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم..
أتعبت من بعدك يا خليفة رسول الله ...
كتب عمر إلى ابنه عبد الله رضي الله عنها في غيبة غابها أما بعد:فإنه من اتقى الله وقاه،ومن اتكل عليه كفاه،ومن شكر له زاده،ومن أقرضه جزاه، فأهل التقوى أهل الله فاجعل التقوى عمارة قلبك وجلاء بصرك فإنه لا عمل لمن لا نية له ولا خير لمن لا خشية له .
كان يقول : كل يوم يقال مات فلان ومات فلان ولا بد من يوم يقال فيه مات عمر ..
ولقد مات عمر .. لكن على أي حال !! .
أما من كلام عثمان فقد كان يقول : لو أني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير .
كان يقول : لو طهرت قلبوكم ما شبعت من كلام ربها ..
لا عجب فقد كان يقوم الليل كله بالقرآن ..
ولعلي رضي الله عنه كلام ومقال .. اسمع وتفكر ..قال رضي الله عنه : ألا إن لله عباداً مخلصين كمن رأى أهل الجنة في الجنة فاكهين ورأى أهل النار في النار معذبين.. شرورهم مأمونة ، قلوبهم محزونة ، أنفسهم عفيفة ،حوائجهم خفيفة ، صبروا أياماً قليلة لعقبى راحة طويلة ، أما بالليل فصفوا أقدامهم في صلاتهم تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى ربهم : ربنا..ربنا ..يطلبون فكاك رقابهم وصلاح قلوبهم ، أما بالنهار فعلماء حلماء بررة أتقياء كأنهم القداح – يعني السهام وشبههم بالسهام لأن أجسامهم ضامرة من الصيام والقيام - يقول من ينظر إليهم الناظر فيقول : مرضى ووالله ما بالقوم من مرض ولكن خالط القوم أمر عظيم .. وما أحلى وما أجمل وصف الله لهم : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) فلما وصف نهارهم كان من المناسب أن يصف ليلهم فقال : ( والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً ، إنها ساءت مستقراً ومقاماً ) ..
بكى أحد الصالحين عند موته فقيل له : ما يبكيك ، فقال : أبكي أن يصوم الصائمون ولست فيهم ،ويذكر الذاكرون ولست فيهم ،ويصلي المصلون لست فيهم ..
انظر على ماذا يبكون
أخوتي ليس المطلوب ترك الدنيا بتاتاً فإن هذا ليس بالإمكان .. ولكن المطلوب الاعتدال في طلبها على وجه المباح لا يصد عن ذكر الله وطاعته .. قال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون )..
وقال : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور )
لو لم يكن في الدنيا عيب إلا أن أهلها يموتون لكفاها ..
أول المواعظ : قدم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشام متفقداً أحوالها فزار صاحبه أبا الدرداء في منزله ليلاً ، فدفع الباب فإذا هو بغير غلق ، ثم دخل في بيت مظلم لا ضوء فيه ، فلما سمع أبو الدرداء رضي الله عنه حسه قام إليه ورحب به ثم جلس الرجلان يتفاوضان الأحاديث والظلام يحجب كلاً منهما عن عيني صاحبه ،فجس عمر وساد أبي الدرداء فإذا هو برذعة ، وجس فراشه فإذا هو حصا ، وجس دثاره – يعني لحافه – فإذا هو كساء رقيق لا يفعل شيئاً في برد الشام ...فقال له عمر : رحمك الله يا أبا الدرداء : ألم أوسع عليك ؟! ألم أبعث لك ؟! فقال أبو الدرداء : أتذكر يا عمر حديثاً حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قال عمر : وما هو ؟! قال : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: " ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب " فماذا فعلنا بعده يا عمر!! فماذا فعلنا بعده يا عمر !! فبكى عمر وبكى أبو الدرداء وما زالا يتجاوبان البكاء والنحيب حتى طلع عليهما الفجر ..
فلا إله إلا الله والله أكبر .. كيف إذا جاء عمر وجاء أبو الدرداء ونظرا في أحوالنا !!! كم غيرنا !! وكم بدلنا !! وكم انفتحت الدنيا !!
ومضت الأيام قدماً وتوفي أبو الدرداء رضي الله عنه كما هو سبيل كل حي .. فرأى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.. رأى فيما يراه النائم .. رأى مرجاً أخضراً فسيح الأرجاء وارف الأفياء فيه قبة عظيمة من أدم حولها غنم رابضة لم ترَ العين مثلها قط ، فقال : لمن هذه ؟ فقيل : هذه لعبد الرحمن بن عوف .. فبينما هو يتأمل في حسن المرج وبهاءه إذ طلع عليه عبد الرحمن بن عوف من القبة ، وقال : يا ابن مالك هذا ما أعطانا الله عز وجل على القرآن .. هذا ما أعطانا الله عز وجل على القرآن.. ولو أشرفت على هذه الثنية لرأيت ما لم ترَ عينيك وسمعت ما لم تسمع أذنك .. ووجدت ما لم يخطر على قلبك .. أعده الله عز وجل لمن ؟! أعده الله لأبي الدرداء لأنه كان يدفع عنه الدنيا بالراحتين والصدر ..
وصدق الله العظيم حين قال : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) وصدق الله العظيم حين قال : ( والسابقون السابقون ، أولئك المقربون ، في جنات النعيم ، ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين ، على سرر موضونة ، متكئين عليها متقابلين ، يطوف عليهم ولدان مخلدون ، بأكواب وأباريق وكأس من معين ، لا يصدّعون عنها ولا ينزفون ، وفاكهة مما يتخيرون ، ولحم طير مما يشتهون ، وحور عين ، كأمثال اللؤلؤ المكنون ، جزاء بما كانوا يعملون ، لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً ، إلا قيلاً سلاماً سلاماً ) .. جزاء بما كانوا يعملون ..ما غيروا وما بدلوا ..
هيا نسمع بداية الحياة ونهايتها .. تعال نسمع من أخبار الدنيا ..
قبل ان أبدأ في ذكر أخبار الدنيا أريدك أن تعرف أنه ما ذُمّت الدنيا من أجل الدنيا،إنما ذمت الدنيا لسوء فعل أهلها وغفلتهم عن الآخرة ، وإلاَّ فهي طريقنا إلى الآخرة وفيها نتزود من العمل الصالح .. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " خيركم من طال عمره وحسن عمله ، وشركم من طال عمر وساء عمله " ..
أما من أخبارها فجديدها يبلى ، ملكها يفنى ، عزيزها يذل ، كثيرها يقل ، حيها يموت ، وخيرها يفوت ، لو لم يكن فيها عيب إلا أن أهلها يموتون لكفاها ..اسمع حقيقتها كما قال تعالى : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور )،هذه حقيقتها.. سريعة الفناء ، قريبة الانقضاء ، تعد بالبقاء ثم تخلف عند الوفاء ..
أحلام نوم أو كظل زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع .
طريق النجاة فيها (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
خلقها الله – يعني الدنيا – خلقها الله للامتحان والابتلاء كما قال سبحانه : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملاً ، وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً )
الناس فيها على صنفين ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة )
وهم أيضاً على حالين ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً )
اسمع رعاك الله ماذا أعد الله لهؤلاء وماذا أعد الله لهؤلاء ( فأما من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ،فإن الجحيم هي المأوى ، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى ) ..
وقال سبحانه: ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ).. النتيجة :(ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً ، كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً ، انظر ( انظر ) كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً )
قال صلى الله عليه وسلم : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " .
وقال " ما لي وللدنيا ،ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها "
وقال : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " .
وقال : " ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أ هلكتهم " .
مر صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه على شاة ميتة ، قال : " أترون هذه الشاة هينة على أهلها " قالوا : من هوانها ألقوها . قال : " والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء " .
وقال :" إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون،وكل الناس غادي " .
تأمل بعد هذا الكلام من سيد المرسلين ..تأمل في حياته ومماته .. تأمل من البداية حتى النهاية .. لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز وكسرت أغلالها لما رآها الله تمشي نحوه لا تريد إلا رضاه سعى لها ..
تقول عائشة : يمر الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال لا توقد نار في بيوت آل محمد صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا خالة : ما طعامكم ، قالت : الأسودان التمر والماء .
قالت أيضاً : " ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتاليين ..
تخبز فاطمة خبيزاً فتأتيته بكسرة خبز فيأكلها ثم يقول - بأبي هو وأمي - : " والله يا فاطمة ما دخل بطن أبيك طعام منذ أيام " .
يبكي عمر لما رأى حاله وقد أثر الحصير في جنبه وملوك فارس والروم تلبس الحرير وتنام على الوثير .. فقال يا عمر : " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ".. " أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " ..
يبغي من الله المكان الأرفعا .. ما لبس الحرير ولا وضع التاج على الرأس مرصعا ..
يقول الحسن البصري رحمه الله : دخلت بيوت النبوة بعد موته صلى الله عليه وسلم بحين فإذا جدرانها من طين ، سقفها من جريد ، فرشها من حصير ، طولها وعرضها أمتار..
يقول سعيد بن المسيب : لما هدمت بيوت النبوة لتوسيع المسجد ما رأيت باكياً كما رأيت في ذلك اليوم .. يقول : ليتهم أبقوها .. ليتهم أبقوها ..حتى ينشأ ناشئ الفتيان فينا ويروا كيف كانت حياة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو الذي حيزت له الدنيا بما فيها
ومما زادني شرفاً وتيهاً
دخولي تحت قولك يا عبادي
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
وأن صيرت لي أحمد نبياً
ثم سار أصحابه من بعده على نهجه دربه.. ما شربوا المسكرات والمخدرات ، ولا اتخذوا الجواري والقينات ، وما أكلوا الأموال الربويات ، ولا ألهاهم عن ذكر الله شاشات و قنوات ، ولا ضيعوا الأوقات في مطاردة الفتيات في المجمعات .دخولي تحت قولك يا عبادي
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
وأن صيرت لي أحمد نبياً
اسمع من كلامهم وقل بارك الله فيك: أين نحن من هؤلاء ؟!
يقول أبو بكر لخالد رضي الله عنهم : فرّ من الشرف يتبعك الشرف ، واحرص على الموت توهب لك الحياة ، لا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم..
أتعبت من بعدك يا خليفة رسول الله ...
كتب عمر إلى ابنه عبد الله رضي الله عنها في غيبة غابها أما بعد:فإنه من اتقى الله وقاه،ومن اتكل عليه كفاه،ومن شكر له زاده،ومن أقرضه جزاه، فأهل التقوى أهل الله فاجعل التقوى عمارة قلبك وجلاء بصرك فإنه لا عمل لمن لا نية له ولا خير لمن لا خشية له .
كان يقول : كل يوم يقال مات فلان ومات فلان ولا بد من يوم يقال فيه مات عمر ..
ولقد مات عمر .. لكن على أي حال !! .
أما من كلام عثمان فقد كان يقول : لو أني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير .
كان يقول : لو طهرت قلبوكم ما شبعت من كلام ربها ..
لا عجب فقد كان يقوم الليل كله بالقرآن ..
ولعلي رضي الله عنه كلام ومقال .. اسمع وتفكر ..قال رضي الله عنه : ألا إن لله عباداً مخلصين كمن رأى أهل الجنة في الجنة فاكهين ورأى أهل النار في النار معذبين.. شرورهم مأمونة ، قلوبهم محزونة ، أنفسهم عفيفة ،حوائجهم خفيفة ، صبروا أياماً قليلة لعقبى راحة طويلة ، أما بالليل فصفوا أقدامهم في صلاتهم تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى ربهم : ربنا..ربنا ..يطلبون فكاك رقابهم وصلاح قلوبهم ، أما بالنهار فعلماء حلماء بررة أتقياء كأنهم القداح – يعني السهام وشبههم بالسهام لأن أجسامهم ضامرة من الصيام والقيام - يقول من ينظر إليهم الناظر فيقول : مرضى ووالله ما بالقوم من مرض ولكن خالط القوم أمر عظيم .. وما أحلى وما أجمل وصف الله لهم : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) فلما وصف نهارهم كان من المناسب أن يصف ليلهم فقال : ( والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً ، إنها ساءت مستقراً ومقاماً ) ..
بكى أحد الصالحين عند موته فقيل له : ما يبكيك ، فقال : أبكي أن يصوم الصائمون ولست فيهم ،ويذكر الذاكرون ولست فيهم ،ويصلي المصلون لست فيهم ..
انظر على ماذا يبكون
والروح منك وديعة أودعتها
وغرور دنياك التي تسعى لها
والليل فاعلم والنهار كلاهما
وجميع ما حصلته وجمعته
تباً لدار لا يدوم نعيمها
ستردها بالرغم منها وتسلب
دار حقيقتها متاع يذهب
أنفاسنا فيها تعد وتحسب
حقاً يقيناً بعد موتك يذهب
ومشيدها عما قليل يخرب
الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له ..من اشتاق للجنة هجر الشهوات واللذات في الدنيا..الدنيا كالحلم تمر مرّ السحاب ساعة من زمن ثم تنقضي .. ألا إنها رحلة بدأت وسوف تنتهي..وسوف تنتهي..هبّ الدنيا تساق إليك عفوا.. أليس مصير ذلك إلى انقضاء .. هب الدنيا تساق إليك عفواً .. أليس مصير ذلك إلى انتقال..ومادنياك مثل ظل أظلك حيناً ثم آذن بالزوال ..وغرور دنياك التي تسعى لها
والليل فاعلم والنهار كلاهما
وجميع ما حصلته وجمعته
تباً لدار لا يدوم نعيمها
ستردها بالرغم منها وتسلب
دار حقيقتها متاع يذهب
أنفاسنا فيها تعد وتحسب
حقاً يقيناً بعد موتك يذهب
ومشيدها عما قليل يخرب
أخوتي ليس المطلوب ترك الدنيا بتاتاً فإن هذا ليس بالإمكان .. ولكن المطلوب الاعتدال في طلبها على وجه المباح لا يصد عن ذكر الله وطاعته .. قال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون )..
وقال : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور )
لو لم يكن في الدنيا عيب إلا أن أهلها يموتون لكفاها ..