توبة الأمة بسم الله الرحمن الرحيم
فإن الأمة تمر بأحوال غريبة، وأهوال عصيبة، فالخطوب تحيط بها، والأمم من كل مكان تتداعى عليها.
وإن مما يلفت النظر في هذا الشأن غفلة الأمة عن التوبة؛ فإذا تحدث متحدث عن التوبة تبادر إلى الذهن توبة الأفراد فحسب، أما توبة الأمة بعامة فقلَّ أن تخطر بالبال.
وهذا من الأخطاء في باب التوبة؛ ذلك أن سنته_عز وجل_ في الأفراد، وفي مغفرته للتائبين وعفوه عن المذنبين
_ هي هي سنته_ سبحانه_ في الأمم والشعوب.
فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتَصْدُق في التوبة والإنابة إلى رب العباد_ يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من شرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وخذلان لأوليائه، وتقصير في تبليغ دعوة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتركٍ للصلوات ونحو ذلك مما هو مؤذن بالعقوبة، وحلول اللعنة كالربا والفسوق، والمجون، ونقص المكاييل وغير ذلك.
فإذا تابت إلى ربها متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض.
قال_ تعالى_ :[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ] النور: 55.
وإذا أردت مثالاً على توبة الأمة من القرآن الكريم فانظر إلى قوله_تعالى_: [ فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] يونس: 98. هؤلاء القوم الذين ذكروا في هذه الآية هم قوم يونس
_عليه السلام_ وقريتهم هي نينوى التي تقع شرقي مدينة الموصل في شمالي العراق.
ومعنى الآية_ كما يقول المفسرون_ : أن قوم يونس
_عليه السلام_ لما أظلهم العذاب، وظنوا أنه قد دنا منهم، وأنهم قد فقدوا يونس _ قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة_ أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء_ فلما علم الله منهم صدق التوبة كشف عنهم العذاب، وقال: [وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ]
يونس: 98.
أي لم نعاجلهم بالعقوبة، فاستمتعوا بالحياة الدنيا إلى حين مماتهم وقت انتهاء أعمارهم.
فما أحوج أمتنا اليوم أن تعج إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها، ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها.
هذا ومما يجب على الأمة في هذا الباب زيادة على ما مضى ما يلي:
_ التوبة من الإسراف: فالإسراف نذير شؤم، ومؤذن هلاك؛ فهو يفضي إلى الفاقة، وينزل بأهله إلى طبقة المقلين أو المعدمين.
والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير.
أما أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأنَّ شِدَّةَ تعلق النفوس بالزينة واللذائذ يقوِّي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرصُ على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن الدين، والنفس، والمال، والعرض.
وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة.
وأما أنه يَذْهَبُ بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همُّه الوصولُ إلى زينة أو لذة، أو مطعم ونحوه_ كثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي ائتُمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.
وأما أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه كان أعظم قصدِه من جمع المال إنفاقَه فيما يَلَذُّه من مأكول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش.
لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث يبسط غيرهم يده؛ إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.
ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى هي قطع صلة التعاطف والتوادد بين كثير من أفراد الأمة.
ولهذا تجد من الموسرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذَّاته وشياطينه، وإذا سئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.
هذا وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛ ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسُه العيش الناعم_ يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم.
وللإسراف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة بالرفاهية من كل جانب يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية.
ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تُدْرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرفُ في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح؛ فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال على غير حكمة وحسن تقدير.
قال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي × : =إن أمة تنفق الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها_ لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها+.
وقال ×: =المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار.
أما المال الذي تحيي به العلم، وتميت به الجهل_ فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله منزلة الأبرار+.
ولا يعني التحذير من الإسراف في الترف أن يكون الناس على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذِّ؛ فقد قال
_تعالى_ :[ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ ] الأعراف: 32.
وإنما المقصود من ذلك الدعوةُ إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الإفراط في الزينة واللذيذ من العيش.
ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم، وهو طريق الاقتصاد؛ فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال
_ تعالى_: [وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ] الإسراء: 29.
وألحق المبذرين بقبيل الشياطين فقال_ تعالى ـ[إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ]الإسراء: 27.
وعدهم في زمرة من يستحقون بغضه فقال_عز وجل_: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] الأعراف: 31.
وأثنى على عباده المؤمنين بفضيلة الاقتصاد فقال: [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ] الفرقان: 67.
وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضارّ كثيرة كان واجباً على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم.
وحين يُحذَّر من عواقب الإسراف، ويُدعى إلى الاقتصاد_ يبين أنه لا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبات عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة لأهلها، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجىء، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة والدفاع عن حقوقها.