غض الطرف عن الهفوات والأخطاء من أعظم الحقوق المشتركة بين الزوجين، فالحياة الأسرية لا يتم سعادتها واكتمالها إلا بهذا الخلق الكريم وهذا الحق الجليل، فأي مجموعة صغرت أم كبرت تتباين طباع أفرادها بين السهل والحزن، وعالي الهمة النشيط وضعيف الهمة الكسول، وحاد الذكاء وقليل الفهم .. كما ورد في الحديث الشريف ( إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب وبين ذلك ) (1) فإن لم يكن الرفق والتسامح السمة الغالبة على الفرد سرعان ما نفرت منه الخلق، واستحالت معه العشرة التي لابد له منها، وفقد المعين والمشير والرفيق في أشد الأوقات احتياجا لهم، فيتنغص حاله، ويتكدر عيشه، ويسلب التوفيق في أمره، وصدق –صلى الله عليه وسلم-: ( من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير ) (2) ( من يحرم الرفق يحرم الخير كله ) (3) فعلى كلا من الزوج والزوجة أن يحتمل صاحبه، فلكل جواد كبوة، ولكل امرئ هفوة، ولكل إنسان زلة، وأحق الناس بالاحتمال من كان كثير الاحتكاك بمن يعاشر.
إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، فهو لا يرضى لها الضعف في مجال القوة، أو الغضب في مقام الحلم، أو السكوت في معرض بيان الحق .. ولكنه يتحمل نفسه، ويتعلل بما يستحضره من المعاذير، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين .. يلتمس كلاهما لقرينه المعاذير، فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات، وحين تحسن النوايا وتتوارد القلوب ويكون التعقل هو مدار المعيشة يتوفر هذا الجانب الكريم في حياة الأسرة.
وعلى كل طرف ألا يقابل انفعال الآخر بمثله، فإذا رأى أحد الزوجين صاحبه منفعلا بحدة فعليه أن يكظم غيظه، ولا يرد على الانفعال بانفعال مثله، وهذه النصيحة تخص الزوجة أكثر من الزوج، رعاية لحقه، وما أجمل قول أبي الدرداء –رضي الله عنه- لزوجته: "إذا رأيتني غضبت فرضني، وإذا رأيتك غضبى رضيتك، وإلا لم نصطحب".
وعن محمد بن عيسى قال: أراد شعيب بن حرب أن يتزوج امرأة فقال لها: إني سيء الخلق، فقالت أسوأ منك خلقا من أحوجك أن تكون سيء الخلق، فقال: إذا أنت امرأتي. (4)
وتزوج الإمام أحمد رحمة الله عليه عباسة بنت الفضل أم ولده صالح، وكان الإمام يثني عليها، ويقول في حقها: "أقامت أم صالح معي عشرين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة" (5)
وإذا كان ارتباط «اللين والرفق» بالسعادة الزوجية من أوكد الأمور، فارتباطهما بالتقوى والإيمان يزيدهما محبة وإجلالا في قلب المسلم إذ بهما يكون صلاح دنياه وآخرته، فقال –صلى الله عليه وسلم-: ( من كان سهلا هينا لينا حرمه الله على النار ) (6) ( ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدا؟ على كل هين لين قريب سهل ) (7)
قال الماوردي : "بين بهذا الحديث أن حسن الخلق يدخل صاحبه الجنة ويحرمه على النار، فإن حسن الخلق عبارة عن كون الإنسان سهل العريكة لين الجانب طلق الوجه قليل النفور طيب الكلمة، لكن لهذه الأوصاف حدود مقدرة في مواضع مستحقة، فإن تجاوز بها الخير صارت ملقاً، وإن عدل بها عن مواضعها صارت نفاقاً، والملق ذل والنفاق لؤم". (8)
وقال –صلى الله عليه وسلم-: ( المؤمنون هينون لينون، كالجمل الأنف، إن قيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ ) (9) والمراد بالهين: سهولته في أمر دنياه ومهمات نفسه، أما في أمر دينه فكما قال عمر –رضي الله عنه-: "فصرت في الدين أصلب من الحجر". وقال بعض السلف: "الجبل يمكن أن ينحت منه، ولا ينحت من دين المؤمن شيء". واللين لين الجانب وسهولة الانقياد إلى الخير والمسامحة في المعاملة.
( كالجمل الأَنِف ) من أنف البعير إذا اشتكى أنفه من البرة، فإن قلت: من أمثالهم: "لا تكن رطباً فتعصر، ولا يابساً فتكسر"، ولهذا قال لقمان لابنه: "يا بني لا تكن حلواً فتبلع، ولا مراً فتلفظ"، ففيه نهي عن اللين. فما وجه كونه مدح؟ قلت: لا شبهة في أن خير الأمور أوساطها، وقد أطبق العقل والنقل على أن طرفي الإفراط والتفريط في الأفعال والأحوال والأقوال مذموم، إنما الممدوح ما في الطبيعة من حالة جبلية مقابلة لغلظ القلب وقساوته، وإنما يعبر عنها باللين تسمية لها باسم أثرها وذلك سائغ
( إن قيد انقاد وإذا أنيخ على صخرة استناخ ) فإن البعير إذا كان أنفاً للوجع الذي به، ذلول منقاد إلى طريق سلك به فيه أطاع، والمراد أن المؤمن سهل يقضي حوائج الناس ويخدمهم وشديد الانقياد للشارع في أوامره ونواهيه (10)
وقال –صلى الله عليه وسلم-:
( إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه ويعين عليه ما لا يعين على العنف) (11) ( عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ) (12) ( ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم ) (13) ( إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق ) (14) ( إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق ) (15) أي وذلك بأن يرفق بعضهم ببعض، والرفق لين الجانب واللطف والأخذ بالأسهل وحسن الصنيع.
الهوامش
(1) رواه أحمد والترمذي عن أبي موسى (صحيح) انظر حديث رقم: 1759 في صحيح الجامع (2) رواه أحمد والترمذي عن أبي الدرداء (صحيح) انظر حديث رقم: 6055 في صحيح الجامع (3) رواه مسلم وأبو داود عن جرير(صحيح) انظر حديث رقم: 6606 في صحيح الجامع (4) انظر عودة الحجاب – محمد بن إسماعيل ج2 ص 260 ط دار الصفوة، وأحكام النساء لابن الجوزي ص 82 (5) طبقات الحنابلة 1/429 (6) رواه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة (صحيح) انظر حديث رقم: 6484 في صحيح الجامع (7) رواه الترمذي والطبراني عن ابن مسعود (صحيح) انظر حديث رقم: 2609 في صحيح الجامع.* (8) نقلا عن فيض القدير للمناوي 2/641 (9) رواه ابن المبارك عن مكحول مرسلا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر (حسن) انظر حديث رقم: 6669 في صحيح الجامع (10) فيض القدير للمناوي 2/154 (11) رواه الطبراني في المعجم الكبير عن معدان (صحيح) انظر حديث رقم: 1770 في صحيح الجامع (12) رواه مسلم عن عائشة (صحيح) انظر حديث رقم: 4041 في صحيح الجامع (13) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر (صحيح) انظر حديث رقم: 5541 في صحيح الجامع (14) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن جابر (صحيح) انظر حديث رقم: 1704 في صحيح الجامع (15) رواه أحمد عن عائشة والبزار عن جابر (صحيح) انظر حديث رقم: 303 في صحيح الجامع
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، فهو لا يرضى لها الضعف في مجال القوة، أو الغضب في مقام الحلم، أو السكوت في معرض بيان الحق .. ولكنه يتحمل نفسه، ويتعلل بما يستحضره من المعاذير، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين .. يلتمس كلاهما لقرينه المعاذير، فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات، وحين تحسن النوايا وتتوارد القلوب ويكون التعقل هو مدار المعيشة يتوفر هذا الجانب الكريم في حياة الأسرة.
وعلى كل طرف ألا يقابل انفعال الآخر بمثله، فإذا رأى أحد الزوجين صاحبه منفعلا بحدة فعليه أن يكظم غيظه، ولا يرد على الانفعال بانفعال مثله، وهذه النصيحة تخص الزوجة أكثر من الزوج، رعاية لحقه، وما أجمل قول أبي الدرداء –رضي الله عنه- لزوجته: "إذا رأيتني غضبت فرضني، وإذا رأيتك غضبى رضيتك، وإلا لم نصطحب".
وعن محمد بن عيسى قال: أراد شعيب بن حرب أن يتزوج امرأة فقال لها: إني سيء الخلق، فقالت أسوأ منك خلقا من أحوجك أن تكون سيء الخلق، فقال: إذا أنت امرأتي. (4)
وتزوج الإمام أحمد رحمة الله عليه عباسة بنت الفضل أم ولده صالح، وكان الإمام يثني عليها، ويقول في حقها: "أقامت أم صالح معي عشرين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة" (5)
وإذا كان ارتباط «اللين والرفق» بالسعادة الزوجية من أوكد الأمور، فارتباطهما بالتقوى والإيمان يزيدهما محبة وإجلالا في قلب المسلم إذ بهما يكون صلاح دنياه وآخرته، فقال –صلى الله عليه وسلم-: ( من كان سهلا هينا لينا حرمه الله على النار ) (6) ( ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدا؟ على كل هين لين قريب سهل ) (7)
قال الماوردي : "بين بهذا الحديث أن حسن الخلق يدخل صاحبه الجنة ويحرمه على النار، فإن حسن الخلق عبارة عن كون الإنسان سهل العريكة لين الجانب طلق الوجه قليل النفور طيب الكلمة، لكن لهذه الأوصاف حدود مقدرة في مواضع مستحقة، فإن تجاوز بها الخير صارت ملقاً، وإن عدل بها عن مواضعها صارت نفاقاً، والملق ذل والنفاق لؤم". (8)
وقال –صلى الله عليه وسلم-: ( المؤمنون هينون لينون، كالجمل الأنف، إن قيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ ) (9) والمراد بالهين: سهولته في أمر دنياه ومهمات نفسه، أما في أمر دينه فكما قال عمر –رضي الله عنه-: "فصرت في الدين أصلب من الحجر". وقال بعض السلف: "الجبل يمكن أن ينحت منه، ولا ينحت من دين المؤمن شيء". واللين لين الجانب وسهولة الانقياد إلى الخير والمسامحة في المعاملة.
( كالجمل الأَنِف ) من أنف البعير إذا اشتكى أنفه من البرة، فإن قلت: من أمثالهم: "لا تكن رطباً فتعصر، ولا يابساً فتكسر"، ولهذا قال لقمان لابنه: "يا بني لا تكن حلواً فتبلع، ولا مراً فتلفظ"، ففيه نهي عن اللين. فما وجه كونه مدح؟ قلت: لا شبهة في أن خير الأمور أوساطها، وقد أطبق العقل والنقل على أن طرفي الإفراط والتفريط في الأفعال والأحوال والأقوال مذموم، إنما الممدوح ما في الطبيعة من حالة جبلية مقابلة لغلظ القلب وقساوته، وإنما يعبر عنها باللين تسمية لها باسم أثرها وذلك سائغ
( إن قيد انقاد وإذا أنيخ على صخرة استناخ ) فإن البعير إذا كان أنفاً للوجع الذي به، ذلول منقاد إلى طريق سلك به فيه أطاع، والمراد أن المؤمن سهل يقضي حوائج الناس ويخدمهم وشديد الانقياد للشارع في أوامره ونواهيه (10)
وقال –صلى الله عليه وسلم-:
( إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه ويعين عليه ما لا يعين على العنف) (11) ( عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ) (12) ( ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم ) (13) ( إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق ) (14) ( إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق ) (15) أي وذلك بأن يرفق بعضهم ببعض، والرفق لين الجانب واللطف والأخذ بالأسهل وحسن الصنيع.
الهوامش
(1) رواه أحمد والترمذي عن أبي موسى (صحيح) انظر حديث رقم: 1759 في صحيح الجامع (2) رواه أحمد والترمذي عن أبي الدرداء (صحيح) انظر حديث رقم: 6055 في صحيح الجامع (3) رواه مسلم وأبو داود عن جرير(صحيح) انظر حديث رقم: 6606 في صحيح الجامع (4) انظر عودة الحجاب – محمد بن إسماعيل ج2 ص 260 ط دار الصفوة، وأحكام النساء لابن الجوزي ص 82 (5) طبقات الحنابلة 1/429 (6) رواه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة (صحيح) انظر حديث رقم: 6484 في صحيح الجامع (7) رواه الترمذي والطبراني عن ابن مسعود (صحيح) انظر حديث رقم: 2609 في صحيح الجامع.* (8) نقلا عن فيض القدير للمناوي 2/641 (9) رواه ابن المبارك عن مكحول مرسلا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر (حسن) انظر حديث رقم: 6669 في صحيح الجامع (10) فيض القدير للمناوي 2/154 (11) رواه الطبراني في المعجم الكبير عن معدان (صحيح) انظر حديث رقم: 1770 في صحيح الجامع (12) رواه مسلم عن عائشة (صحيح) انظر حديث رقم: 4041 في صحيح الجامع (13) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر (صحيح) انظر حديث رقم: 5541 في صحيح الجامع (14) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن جابر (صحيح) انظر حديث رقم: 1704 في صحيح الجامع (15) رواه أحمد عن عائشة والبزار عن جابر (صحيح) انظر حديث رقم: 303 في صحيح الجامع
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com