الحياة قصيرة، بل أقصر مما نتصور، لكن لا يشفي غليل فقد الأعمار إلا كثرة الإثمار، فمسيرة الحياة عندما تتعدد المحطات المثمرة فيها تهدأ المشاعر فلا ينغصها لوم الفوت، وتصفو النفس فلا يعكرها كدر الكِبَر، ويرتاح الضمير عند محطة الرحيل الأخيرة.
«ضياع الأعمار من ضياع الأقدار» .. فيا حسرة المفرط على نفسه التي هانت عليه، ويا حسرة الفارغ على أيام ضاعت من بين يديه، ويا حسرة المستهتر على أماني تسربت من بين ثنايا العمر دون أن يتذوق حلاوة تحقيقها أو يرى جمال طيفها.
وفي سورة الحاقة يجسد القرآن خلاصة المشهد الإنساني وحصيلة المسيرة البشرية يوم القيامة في أروع بيان، فقال تعالى:
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)}
عن الحسن البصري قال: "إن المومن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الامر عن غير محاسبة".
ومن خطب أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: "أوصيكم عبادَ اللّه ونَفسي بتَقْوى اللّه ولُزوم طاعته، وتقديم العَمَل، وتَرْك الأمَل، فإنه من فَرّط في عمله، لمْ يَنْتفع بِشيء من أمله. أين التَّعِب بالليل والنهار، واْلمقتحم لِلُجج البحارِ، ومَفاوِز القِفار؛ يَسير من ورِاء الجبال، وعالج الرمال؛ يَصل الغُدُوّ بالرَّواح، والمَساء بالصَّباحِ، في طلب مُحقَرات الأرباحِ؛ هَجَمتْ عليه منيّته، فعظُمت بنفسه رَزِيته؛ فصار ما جَمع بُوراً، وما اكتسب غروراً، ووافَى القيامةَ مَحْسوراً، أيها اللاهي الغار نفسه، كأنِّي بك وقد أتاك رسولُ ربك، لا يَقْرع لك باباً، ولا يَهاب لك حِجاباً؟ ولا يَقْبل منك بَدِيلًا، ولا يأخذ منك كَفِيلاً؛ ولا يرْحم لك صغيراً، ولا يُوقّر فيك كبيراً؛ حتى يُؤدِّيك إلى قَعْر مُظلمة، أرجاؤُها مُوحشة، كفِعْله بالأمم الخالية، والقُرون الماضية. أين مَن سعى واجتهد، وجَمع وعدّد، وبَنَى وشَيّد، وزَخرف ونَجّد، وبالقليل لم يَقْنع، وبِالكثير لم يُمتَّع؟ أين مَن قاد الجنود، ونَشر البُنود؛ أضحَوْا رُفاتاً، تحت الثرى أمواتاً، وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون، عبادَ اللّه، فاتّقوا اللّه ورَاقبوه، واعملوِا لِلْيوم الذي تُسيَر فيه الجبال، وتَشقّق السماء بالغَمام، وتَطايَرُ الكُتب عن الأيمان والشمائل، فأيّ رَجُل يومئذ تُراك؟ أقائل: هاؤم اقَرءوا كتابيه؟ أم: يا ليتني لم أوت كتابيَه؟ نسأل مَن وَعَدَنا بإقامة الشرائع جَنَّته أن يَقينا سُخْطه، إنّ أحسنَ الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ اللّه الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفه، تَنْزِيل من حَكِيم حَمِيد".
وقال ابن القيم –رحمه الله-: "فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله تعالى إخبارا عن المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] أي معلما للخير، داعيا إلى الله، مذكرا به مرغبا في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة ومحقت بركة لقائه والاجتماع به، بل تمحق بركة من لقيه واجتمع به، فإنه يضيع الوقت في الماجريات ويفسد القلب، وكل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظه من الله ونقصان درجته ومنزلته عنده، ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوقت وتفسد القلب، فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها، وكان ممن قال الله تعالى فيه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهفك28] .. أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم واشتغلوا بما لا ينفعهم بل يعود بضررهم عاجلا وآجلا".
شمر عسى أن ينفع التشمير *** وانظر بفكرك ما إليه تصير
طولت آمالاً تكنفها الهوى *** ونسيت أن العمر منك قصير
أضطهد جبابرة الملك، الخُلص من أهل العلم، والقائمين بالجهر بالحق، في أفضل جهاد عرفته البشرية، ثم مات الجميع فبقي لأهل الجبروت سوء السيرة، وبقي لأهل العلم ترحم المؤمنين عبر الأزمان، وانتفاع المتعلمين بعلمهم على تعاقب الأيام.
ومن أهل الأموال من استعبدهم الدينار، فصاروا له يجمعون، ولبريقه يلهثون، وعن حقه معرضون، فأيامهم بين شره المال، وتكثير الخزائن الجرار، تلاحقهم دعوات المحرومين ونظرات الحاسدين، ثم آل المآل إلى فقد المال أو فقد العمر والموت الزؤام، فإن الدنيا إما تتركك وإما تتركها.. فأين هؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس) [رواه أحمد] أي يوم القيامة حين تدنو الشمس من الرؤوس .. قال أهل العلم: "أي أن المتصدق يكفى المخاوف ويصير في كنف اللّه وستره، يقال: أنا في ظل فلان أي في داره وحماه. أو المراد الحقيقة بأن تجسد الصدقة فيصير بها في ظل بخلق اللّه وإيجاده، كما قيل فيه وفي نظائره المعروفة كذبح الموت ووزن الأعمال" .. وكان بعض السلف لا يأتي عليه يوم إلا تصدق ولو ببصلة أو لقمة.
ومن أهل الفراغ من أمضى وقته في القيل والقال، والتسكع في الطرقات أو على الإنترنت وسائر الشبكات، حتى أورثه طول المكث أمام الشاشات فتور الهمة وبلادة العزيمة .. يقول الأستاذ إبراهيم السكران: "لم تعد القضية قضية تبديد الزمن فقط، بل تكشف سقم جديد أشد تعقيدا، ذلك أن هذه الحالة المشار لها، النابعة عن اضطراب التوازن في التصفح الشبكي، تنتهي تدريجيا إلى انحلال الدافعية وهبوط العزيمة، ومما يساعد بصورة رئيسية في تعزيز هذا الركون والإخلاد والاستنامة للواقع قلة الاتصال الممازج للمشروعات العلمية والعملية، أو بتعبير أدق: بعد العهد بالتجارب العلمية والثقافية والإصلاحية، ذلك أن ترامي المسافة بين المرء والمنتجين يوفر بيئة جيدة لاستمرار الإغفاء، بينما البيئة المستعرة بصخب الفاعلين تطرد النعاس وتلهب الحيوية وتحي الدافعية". [الماجريات]
ومن الناس من شغله زوجه، أو ولده، أو عشيرته، ومنهم من أفنى عمره في نيل شهواته وتحصيل رغباته، ومنهم من أفناه في العشق، ومنهم من أمضاه في اللهو، ومنهم من يقضيه في كسب البطولات، ومنهم من ينفقه في المغامرات، ومنهم من يسير سير البعير لا يعرف له طريقا ولا يجد له هدفا، وإنما هان العمر على من هانت عليه نفسه التي بين جنبيه.
فهل من مشمر لاكتناز خيرات وقته، وثمرات عمره، وحلو أيامه.
وهل من مدبر لدقائق العمر كما يدبر راعي الرعية شئون رعيته.
وهل من مستفيق من سكرة الشباب التي لن تطول.
وهل من منتبه لأيام الكهولة فتعدادها قليل، وهل من متدارك توبة قبل الرحيل، وهل من مدخر نفعا يكون له في عالم البرزخ هاديا ودليل.
قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} [سورة الزمر]
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
«ضياع الأعمار من ضياع الأقدار» .. فيا حسرة المفرط على نفسه التي هانت عليه، ويا حسرة الفارغ على أيام ضاعت من بين يديه، ويا حسرة المستهتر على أماني تسربت من بين ثنايا العمر دون أن يتذوق حلاوة تحقيقها أو يرى جمال طيفها.
وفي سورة الحاقة يجسد القرآن خلاصة المشهد الإنساني وحصيلة المسيرة البشرية يوم القيامة في أروع بيان، فقال تعالى:
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)}
عن الحسن البصري قال: "إن المومن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الامر عن غير محاسبة".
ومن خطب أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: "أوصيكم عبادَ اللّه ونَفسي بتَقْوى اللّه ولُزوم طاعته، وتقديم العَمَل، وتَرْك الأمَل، فإنه من فَرّط في عمله، لمْ يَنْتفع بِشيء من أمله. أين التَّعِب بالليل والنهار، واْلمقتحم لِلُجج البحارِ، ومَفاوِز القِفار؛ يَسير من ورِاء الجبال، وعالج الرمال؛ يَصل الغُدُوّ بالرَّواح، والمَساء بالصَّباحِ، في طلب مُحقَرات الأرباحِ؛ هَجَمتْ عليه منيّته، فعظُمت بنفسه رَزِيته؛ فصار ما جَمع بُوراً، وما اكتسب غروراً، ووافَى القيامةَ مَحْسوراً، أيها اللاهي الغار نفسه، كأنِّي بك وقد أتاك رسولُ ربك، لا يَقْرع لك باباً، ولا يَهاب لك حِجاباً؟ ولا يَقْبل منك بَدِيلًا، ولا يأخذ منك كَفِيلاً؛ ولا يرْحم لك صغيراً، ولا يُوقّر فيك كبيراً؛ حتى يُؤدِّيك إلى قَعْر مُظلمة، أرجاؤُها مُوحشة، كفِعْله بالأمم الخالية، والقُرون الماضية. أين مَن سعى واجتهد، وجَمع وعدّد، وبَنَى وشَيّد، وزَخرف ونَجّد، وبالقليل لم يَقْنع، وبِالكثير لم يُمتَّع؟ أين مَن قاد الجنود، ونَشر البُنود؛ أضحَوْا رُفاتاً، تحت الثرى أمواتاً، وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون، عبادَ اللّه، فاتّقوا اللّه ورَاقبوه، واعملوِا لِلْيوم الذي تُسيَر فيه الجبال، وتَشقّق السماء بالغَمام، وتَطايَرُ الكُتب عن الأيمان والشمائل، فأيّ رَجُل يومئذ تُراك؟ أقائل: هاؤم اقَرءوا كتابيه؟ أم: يا ليتني لم أوت كتابيَه؟ نسأل مَن وَعَدَنا بإقامة الشرائع جَنَّته أن يَقينا سُخْطه، إنّ أحسنَ الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ اللّه الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفه، تَنْزِيل من حَكِيم حَمِيد".
وقال ابن القيم –رحمه الله-: "فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله تعالى إخبارا عن المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] أي معلما للخير، داعيا إلى الله، مذكرا به مرغبا في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة ومحقت بركة لقائه والاجتماع به، بل تمحق بركة من لقيه واجتمع به، فإنه يضيع الوقت في الماجريات ويفسد القلب، وكل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظه من الله ونقصان درجته ومنزلته عنده، ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوقت وتفسد القلب، فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها، وكان ممن قال الله تعالى فيه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهفك28] .. أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم واشتغلوا بما لا ينفعهم بل يعود بضررهم عاجلا وآجلا".
شمر عسى أن ينفع التشمير *** وانظر بفكرك ما إليه تصير
طولت آمالاً تكنفها الهوى *** ونسيت أن العمر منك قصير
أضطهد جبابرة الملك، الخُلص من أهل العلم، والقائمين بالجهر بالحق، في أفضل جهاد عرفته البشرية، ثم مات الجميع فبقي لأهل الجبروت سوء السيرة، وبقي لأهل العلم ترحم المؤمنين عبر الأزمان، وانتفاع المتعلمين بعلمهم على تعاقب الأيام.
ومن أهل الأموال من استعبدهم الدينار، فصاروا له يجمعون، ولبريقه يلهثون، وعن حقه معرضون، فأيامهم بين شره المال، وتكثير الخزائن الجرار، تلاحقهم دعوات المحرومين ونظرات الحاسدين، ثم آل المآل إلى فقد المال أو فقد العمر والموت الزؤام، فإن الدنيا إما تتركك وإما تتركها.. فأين هؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس) [رواه أحمد] أي يوم القيامة حين تدنو الشمس من الرؤوس .. قال أهل العلم: "أي أن المتصدق يكفى المخاوف ويصير في كنف اللّه وستره، يقال: أنا في ظل فلان أي في داره وحماه. أو المراد الحقيقة بأن تجسد الصدقة فيصير بها في ظل بخلق اللّه وإيجاده، كما قيل فيه وفي نظائره المعروفة كذبح الموت ووزن الأعمال" .. وكان بعض السلف لا يأتي عليه يوم إلا تصدق ولو ببصلة أو لقمة.
ومن أهل الفراغ من أمضى وقته في القيل والقال، والتسكع في الطرقات أو على الإنترنت وسائر الشبكات، حتى أورثه طول المكث أمام الشاشات فتور الهمة وبلادة العزيمة .. يقول الأستاذ إبراهيم السكران: "لم تعد القضية قضية تبديد الزمن فقط، بل تكشف سقم جديد أشد تعقيدا، ذلك أن هذه الحالة المشار لها، النابعة عن اضطراب التوازن في التصفح الشبكي، تنتهي تدريجيا إلى انحلال الدافعية وهبوط العزيمة، ومما يساعد بصورة رئيسية في تعزيز هذا الركون والإخلاد والاستنامة للواقع قلة الاتصال الممازج للمشروعات العلمية والعملية، أو بتعبير أدق: بعد العهد بالتجارب العلمية والثقافية والإصلاحية، ذلك أن ترامي المسافة بين المرء والمنتجين يوفر بيئة جيدة لاستمرار الإغفاء، بينما البيئة المستعرة بصخب الفاعلين تطرد النعاس وتلهب الحيوية وتحي الدافعية". [الماجريات]
ومن الناس من شغله زوجه، أو ولده، أو عشيرته، ومنهم من أفنى عمره في نيل شهواته وتحصيل رغباته، ومنهم من أفناه في العشق، ومنهم من أمضاه في اللهو، ومنهم من يقضيه في كسب البطولات، ومنهم من ينفقه في المغامرات، ومنهم من يسير سير البعير لا يعرف له طريقا ولا يجد له هدفا، وإنما هان العمر على من هانت عليه نفسه التي بين جنبيه.
فهل من مشمر لاكتناز خيرات وقته، وثمرات عمره، وحلو أيامه.
وهل من مدبر لدقائق العمر كما يدبر راعي الرعية شئون رعيته.
وهل من مستفيق من سكرة الشباب التي لن تطول.
وهل من منتبه لأيام الكهولة فتعدادها قليل، وهل من متدارك توبة قبل الرحيل، وهل من مدخر نفعا يكون له في عالم البرزخ هاديا ودليل.
قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} [سورة الزمر]
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com