الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد
فرمضان شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة، قال تعالى «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» البقرة ،
وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» البقرة
قال مجاهد الصبر في هذه الآية هو الصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصيام يكسر الشهوة ويزهد في الدنيا، والصلاة تورث الخشوع وتنفي الكبر وترغب في الآخرة
وقد صح عن النبي أنه قال صم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر
ورمضان شهر الصبر؛ فإن الصائم يصبر فيه على الطاعة، ويصبر كذلك عن المعاصي، فيَكُفُّ نفسه عما كان يستمتع به من المباحات طاعة لله جل وعلا وتحقيقاً للتقوى، ويحبس نفسه عن المعاصي ويُلزمها بكثير من القربات من قيام وصدقة وصلة للأرحام وإطعام للطعام، ويصبر فيه على ألم الجوع والعطش
وهو كذلك شهر الجهاد والجهاد من الصبر، وقد غزا النبي في شهر رمضان غزوتين، من أعظم غزواته جميعاً هما غزوة بدر وغزوة الفتح
ولقد كان الصحابة يعرفون أن رمضان شهر الصبر، وكان صبرهم عظيماً على أعباء الدعوة إلى الله، وعلى أعباء الجهاد، وعلى طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله، فكان وأصحابه يبلغون من الصبر غايته في شهر رمضان الذي هو شهر الصبر
فهل استفدنا هذا الدرس من صوم رمضان وقيامه ؟
جزاء الصابرين بغير حساب
لقد وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية واحدة فقال «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» الأنعام ، وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» البقرة
لكنه جعل أجر الصابرين بغير حساب فقال «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» الزمر وقال «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» الشورى
وقد قيل إن المراد بالصابرين في قوله «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ» الزمر أي الصائمون، لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي «الصيام لي وأنا أجزي به» فلم يذكر ثوابًا مقدرًا كما لم يذكره في الصبر والله اعلم
جزاء الصابرين الجنة
أخبر الله سبحانه أن ملائكته تسلم علي الصابرين في الجنة بصبرهم كما قال تعالى «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ، فِنْعَم عُقُبَى الدار»
وقال تعالى «وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً»
وقال تعالى «أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً»
وورد في سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك واسترجع فيقول ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد
وفي صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة ، يريد عينيه
وعند الترمذي في الحديث إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة
وفي الترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله يقول الله عز وجل من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة
وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله لا يرضى الله لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض واحتسبه بثواب دون الجنة
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة
وفي صحيحه أيضاً عن عطاء بن أبي رباح قال قال لي ابن عباس رضي الله عنهما ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي فقالت يا رسول الله إني أصرع واني أتكشف فادع الله لي، قال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك فقالت أصبر، فقالت إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها
وعند البخاري في رواية عن عطاء «أنه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة»
وفي الموطأ من حديث عطاء بن يسار أن رسول الله قال إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فقال انظروا ماذا يقول لعواده؟ فإن هو إذ جاءاه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم، فيقول إن لعبدي عليَّ إن توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وأن أكفر عنه سيئاته
الصبر في القرآن
قال ابن القيم في عدة الصابرين قال الإمام أحمد رحمه الله ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعاً
ونحن نذكر الأنواع التي سيق فيها الصبر وهي عدة أنواع
أحدها الأمر به كقوله «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ»، «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ»، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»
الثاني النهي عما يضاده كقوله «وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» وقوله «وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا» وقوله «وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ» وبالجملة فكل ما نهى عنه فإنه يضاد الصبر المأمور به
الثالث تعليق الفلاح به كقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور
الرابع الإخبار عن مضاعفة أجر الصابر على غيره، كقوله «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»
قال سليمان بن القاسم كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر، قال الله تعالى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» قال كالماء المنهمر
الخامس تعليق الإمامة في الدين به وباليقين قال الله تعالى «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
السادس ظفرهم بمعية الله سبحانه لهم، قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» قال أبو علي الدقاق فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته
السابع أنه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهي الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم
قال تعالى «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»
وقال بعض السلف وقد عُزِّيَ على مصيبة نالته فقال مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها
الثامن أنه سبحانه جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به فقال «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ» البقرة فمن لا صبر له لا عون له
التاسع أنه سبحانه علق النصر بالصبر والتقوى فقال تعالى «بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ» ولهذا قال النبي واعلم أن النصر مع الصبر
العاشر أنه سبحانه جعل الصبرَ والتقوى جُنَّةً عظيمة من كيد العدو ومكره فما استجن العبد من ذلك بجنة أعظم منهما قال تعالى «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا»
الحادي عشر أنه سبحانه أخبر أن ملائكته تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما قال «وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»
الثاني عشر أنه سبحانه أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبوا به ثم أقسم قسماً مؤكداً غاية التأكيد أن صبرهم خير لهم فقال «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» فتأمل هذا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثم باللام بعده ثم باللام التي في الجواب
الثالث عشر أنه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال «إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» هود
الرابع عشر أنه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور أي مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجَلِّها وأشرفها فقال «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» الشورى
وقال لقمان لابنه «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ»
الخامس عشر أنه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر والظفر وهي كلمته التي سبقت لهم وهي الكلمة الحسنى وأخبر أنه إنما أنالهم ذلك بالصبر فقال تعالى «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا» الأعراف
السادس عشر أنه سبحانه علق محبته بالصبر وجعلها لأهله فقال «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» آل عمران
السابع عشر أنه سبحانه أخبر عن خصال الخير أنه لا يلقاها إلا الصابرون في موضعين من كتابه في سورة القصص في قصة قارون وأن الذين أوتوا العلم قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي «وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ» القصص
وفي سورة حم السجدة حيث أمر العبد أن يدفع بالتي هي أحسن، فإذا فعل ذلك صار الذي بينه وبينه عداوة كأنه حبيب قريب ثم قال «وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» فصلت
الثامن عشر أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور فقال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» سبأ
وقال تعالى «وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» الشورى ، فهذه تدل على أن آيات الرب إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر
التاسع عشر أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» سورة ص فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابراً، وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلى فإنه بئس العبد
العشرون أنه سبحانه حكم بالخسران حكماً عاماً على كل من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر، وهذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال تعالى «وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» ولهذا قال الشافعي لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه قوة العلم وقوة العمل، وهما الإيمان والعمل الصالح، وكما هو محتاج إلى تكميل نفسه فهو محتاج إلى تكميل غيره وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر
الحادي والعشرون أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهما فقال تعالى «ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ»
وهذا حصر لأصحاب الميمنة فيمن قام به هذان الوصفان والناس بالنسبة إليهما أربعة أقسام هؤلاء خير الأقسام، وشرهم من لا صبر له ولا رحمة فيه ويليه من له صبر ولا رحمة عنده، ويليه القسم الرابع وهو من له رحمة ورقة ولكن لا صبر له
الثاني والعشرون أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها فقرنه بالصلاة كقوله «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ» البقرة وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً كقوله «إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» هود وجعله قرين التقوى كقوله «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ» يوسف وجعله قرين الشكر كقوله «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» إبراهيم ، لقمان ، سبأ ، الشورى وجعله قرين الحق وقرين المرحمة كقوله «وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» البلد وجعله قرين اليقين كقوله «لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» السجدة وجعله قرين الصدق كقوله «وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ» الأحزاب وجعله سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاً والله أعلم
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا الصيام والقيام وسائر الأعمال وأن يلهمنا الصبر والصدق والإخلاص ويرزقنا الفردوس الأعلى من الجنة
فرمضان شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة، قال تعالى «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» البقرة ،
وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» البقرة
قال مجاهد الصبر في هذه الآية هو الصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصيام يكسر الشهوة ويزهد في الدنيا، والصلاة تورث الخشوع وتنفي الكبر وترغب في الآخرة
وقد صح عن النبي أنه قال صم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر
ورمضان شهر الصبر؛ فإن الصائم يصبر فيه على الطاعة، ويصبر كذلك عن المعاصي، فيَكُفُّ نفسه عما كان يستمتع به من المباحات طاعة لله جل وعلا وتحقيقاً للتقوى، ويحبس نفسه عن المعاصي ويُلزمها بكثير من القربات من قيام وصدقة وصلة للأرحام وإطعام للطعام، ويصبر فيه على ألم الجوع والعطش
وهو كذلك شهر الجهاد والجهاد من الصبر، وقد غزا النبي في شهر رمضان غزوتين، من أعظم غزواته جميعاً هما غزوة بدر وغزوة الفتح
ولقد كان الصحابة يعرفون أن رمضان شهر الصبر، وكان صبرهم عظيماً على أعباء الدعوة إلى الله، وعلى أعباء الجهاد، وعلى طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله، فكان وأصحابه يبلغون من الصبر غايته في شهر رمضان الذي هو شهر الصبر
فهل استفدنا هذا الدرس من صوم رمضان وقيامه ؟
جزاء الصابرين بغير حساب
لقد وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية واحدة فقال «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» الأنعام ، وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» البقرة
لكنه جعل أجر الصابرين بغير حساب فقال «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» الزمر وقال «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» الشورى
وقد قيل إن المراد بالصابرين في قوله «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ» الزمر أي الصائمون، لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي «الصيام لي وأنا أجزي به» فلم يذكر ثوابًا مقدرًا كما لم يذكره في الصبر والله اعلم
جزاء الصابرين الجنة
أخبر الله سبحانه أن ملائكته تسلم علي الصابرين في الجنة بصبرهم كما قال تعالى «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ، فِنْعَم عُقُبَى الدار»
وقال تعالى «وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً»
وقال تعالى «أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً»
وورد في سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك واسترجع فيقول ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد
وفي صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة ، يريد عينيه
وعند الترمذي في الحديث إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة
وفي الترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله يقول الله عز وجل من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة
وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله لا يرضى الله لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض واحتسبه بثواب دون الجنة
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة
وفي صحيحه أيضاً عن عطاء بن أبي رباح قال قال لي ابن عباس رضي الله عنهما ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي فقالت يا رسول الله إني أصرع واني أتكشف فادع الله لي، قال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك فقالت أصبر، فقالت إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها
وعند البخاري في رواية عن عطاء «أنه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة»
وفي الموطأ من حديث عطاء بن يسار أن رسول الله قال إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فقال انظروا ماذا يقول لعواده؟ فإن هو إذ جاءاه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم، فيقول إن لعبدي عليَّ إن توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وأن أكفر عنه سيئاته
الصبر في القرآن
قال ابن القيم في عدة الصابرين قال الإمام أحمد رحمه الله ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعاً
ونحن نذكر الأنواع التي سيق فيها الصبر وهي عدة أنواع
أحدها الأمر به كقوله «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ»، «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ»، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»
الثاني النهي عما يضاده كقوله «وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» وقوله «وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا» وقوله «وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ» وبالجملة فكل ما نهى عنه فإنه يضاد الصبر المأمور به
الثالث تعليق الفلاح به كقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور
الرابع الإخبار عن مضاعفة أجر الصابر على غيره، كقوله «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»
قال سليمان بن القاسم كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر، قال الله تعالى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» قال كالماء المنهمر
الخامس تعليق الإمامة في الدين به وباليقين قال الله تعالى «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
السادس ظفرهم بمعية الله سبحانه لهم، قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» قال أبو علي الدقاق فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته
السابع أنه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهي الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم
قال تعالى «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»
وقال بعض السلف وقد عُزِّيَ على مصيبة نالته فقال مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها
الثامن أنه سبحانه جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به فقال «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ» البقرة فمن لا صبر له لا عون له
التاسع أنه سبحانه علق النصر بالصبر والتقوى فقال تعالى «بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ» ولهذا قال النبي واعلم أن النصر مع الصبر
العاشر أنه سبحانه جعل الصبرَ والتقوى جُنَّةً عظيمة من كيد العدو ومكره فما استجن العبد من ذلك بجنة أعظم منهما قال تعالى «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا»
الحادي عشر أنه سبحانه أخبر أن ملائكته تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما قال «وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»
الثاني عشر أنه سبحانه أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبوا به ثم أقسم قسماً مؤكداً غاية التأكيد أن صبرهم خير لهم فقال «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» فتأمل هذا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثم باللام بعده ثم باللام التي في الجواب
الثالث عشر أنه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال «إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» هود
الرابع عشر أنه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور أي مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجَلِّها وأشرفها فقال «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» الشورى
وقال لقمان لابنه «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ»
الخامس عشر أنه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر والظفر وهي كلمته التي سبقت لهم وهي الكلمة الحسنى وأخبر أنه إنما أنالهم ذلك بالصبر فقال تعالى «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا» الأعراف
السادس عشر أنه سبحانه علق محبته بالصبر وجعلها لأهله فقال «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» آل عمران
السابع عشر أنه سبحانه أخبر عن خصال الخير أنه لا يلقاها إلا الصابرون في موضعين من كتابه في سورة القصص في قصة قارون وأن الذين أوتوا العلم قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي «وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ» القصص
وفي سورة حم السجدة حيث أمر العبد أن يدفع بالتي هي أحسن، فإذا فعل ذلك صار الذي بينه وبينه عداوة كأنه حبيب قريب ثم قال «وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» فصلت
الثامن عشر أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور فقال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» سبأ
وقال تعالى «وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» الشورى ، فهذه تدل على أن آيات الرب إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر
التاسع عشر أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» سورة ص فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابراً، وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلى فإنه بئس العبد
العشرون أنه سبحانه حكم بالخسران حكماً عاماً على كل من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر، وهذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال تعالى «وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» ولهذا قال الشافعي لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه قوة العلم وقوة العمل، وهما الإيمان والعمل الصالح، وكما هو محتاج إلى تكميل نفسه فهو محتاج إلى تكميل غيره وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر
الحادي والعشرون أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهما فقال تعالى «ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ»
وهذا حصر لأصحاب الميمنة فيمن قام به هذان الوصفان والناس بالنسبة إليهما أربعة أقسام هؤلاء خير الأقسام، وشرهم من لا صبر له ولا رحمة فيه ويليه من له صبر ولا رحمة عنده، ويليه القسم الرابع وهو من له رحمة ورقة ولكن لا صبر له
الثاني والعشرون أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها فقرنه بالصلاة كقوله «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ» البقرة وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً كقوله «إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» هود وجعله قرين التقوى كقوله «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ» يوسف وجعله قرين الشكر كقوله «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» إبراهيم ، لقمان ، سبأ ، الشورى وجعله قرين الحق وقرين المرحمة كقوله «وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» البلد وجعله قرين اليقين كقوله «لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» السجدة وجعله قرين الصدق كقوله «وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ» الأحزاب وجعله سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاً والله أعلم
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا الصيام والقيام وسائر الأعمال وأن يلهمنا الصبر والصدق والإخلاص ويرزقنا الفردوس الأعلى من الجنة