الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
فهمي 10000 في الأحد فبراير 07, 2010 9:13 pm
• شمعة على الطريق .
• المولد والنشأة .
• اتجاهات الدعوة .
• متاعب الدعوة .
• مع المسلمين خارج الجزيرة .
• الهجوم على الدعوة .
• آراء المفكرين في دعوة الشيخ .
• وداعاً إمام الموحدين .
--------------------------------------------------------------------------------
شمعة على الطريق
مرَّ المسلمون في القرن الثامن عشر بفترات ظلام وجهل ، جعلت من دينهم عرضة للبدع ، وطريق الضلال ؛ التي دسها المفسدون بين الناس تحت شعار الدين ، فكانت هذه الطريق طريق البدعة والضلالة ، مسلكاً مهلكاً لكل من اتبعه . . .
ولا بد من ضوء في هذا الظلام . . . لا بد من شمعة تنير الطريق ، ذلك طريق الذي يدعو إلى صراط مستقيم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وكان الإمام . . إمام الموحدين . . حامل كلمة لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . . كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الشمعة التي تضئ الطريق في طريق الضلالات والبدع ، فاستبدلها الرجل خيراً ودعوة إلى الحق ، فحدَّث الرجل بقلمه كل من له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد .
كاتب دعاةَ الإسلام في كل موضع ومكان . . . كاتبهم لدعوة الناس حكاماً ومحكومين لتصحيح المسيرة . . . مسيرة العقيدة ؛ لتصويب أفكار الناس ، ونفض غبار الجهل من على رؤوسهم .
كان الرجل بعيداً كل البعد عن بداية النهضة والعلم في أوربا ، ولكنه كأنما أحس أن البدع قد دخلت عقول المسلمين ، فأغفلتهم عن سلطان العقل وبأسه ودعوة قومهم إلى تغليب سلطان العقل والدين ، فرفع شعار التوحيد ، مصحوباً بضرورة العمل بكتاب الله وسنة رسوله .
لم ييأس الرجل ، ولم يكلّ . . ما تقاعس أبداً في سبيل محاربة البدع ، والدعوة الصادقة للجهاد . . جهاد النفس . . والجهاد في سبيل الله .
لقد أشعل شمعته ، وانطلق في طريق وعرٍ ، زاد في وعورته جهل القوم ، وتكالب الأعداء حباً في السلطة والتسلط .
سنوات قلائل من الجهد والعمل ، هي جهد الرجل ، وكان المحصولُ وافراً طيباً . . . إنها الشريعة الإسلامية وتطبيقها في شبه جزيرة العرب .
لقد توحدت الجزيرة على توحيد الله عز وجل ، وأيَّدت دعوة الإمام تأييداً مقنعاً رائعاً ، فلقد سُلطَ الضوء ، وهربت الخفافيش من جماعة إبليس إلى الظلام .
لقد أضاء الرجل شمعة في ظلام دامس .
ولم تكن الشمعة بعمل سهل ، ولم يتلألأ ضوؤها في الجزيرة بيسر وسهولة ، وإنما الذي جعل لنورها مذاقاً رائعاً هو ظلام البدع الحالك ، وجهل القوم بدينهم . . . فلنوقد الشمعة على أول الطريق .
--------------------------------------------------------------------------------
المولد والنشأة
في مدينة العينية من نجد بجزيرة العرب ، وفي العام الخامس عشر بعد المئة والألف ولد محمد بن عبد الوهاب ، في بيت مملوء بالصلاح والتقوى ، تتحرك في أرجائه آيات التقوى ، واستغفار الأوابين .
في منزل الشيخ عبد الوهاب بن سليمان الوهيبي التميمي ، قاضي العينية ، جاء المولود بشرى لأهله وذويه .
نشأ الإمام في كنف العلم والقرآن في مدينة العينية ، وكان أبوه خير معين له في درب الثقافة والتعليم مع مطلع حياته ، فحفظ القرآن كعادة القوم في ذلك الزمان الذي عاشوه كأحكام وتشريع ، ولم يعيشوه بعيداً عن جو تشريعه وحدوده . .
تعلم محمد بن عبد الوهاب في مسقط رأسه " العينية " على أيدي أئمة المسلمين من الحنابلة ، ففي كُتَّاب هذه القرية حفظ القرآن قبل حلول السنة العاشرة من عمره . . . أيّ ذهن هذا الذي يحفظ أشرف كتاب في عمر العاشرة ؟! إنه لدليل ذكاء حاد .
وتفقّه الرجل حتى روى أخوه سليمان قائلاً في ذكائه :
" كان أبي عبد الوهاب يتعجب من ذكاء أخي محمد ، فقد تعلم والدي منه ، واستفاد من شدة اطلاعه ، ونفاذ بصيرته ، فراح يقول : لقد استفدت منه كثيراً " .
كان الحج كفريضة وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول عمل يؤديه محمد ابن عبد الوهاب في شبابه ، وتعلم على أيدي علماء الحرمين .
ولقد كان لعدد من العلماء السلفيين دور في تشكيل وبناء فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومنهم الشيخ محمد المجموعي ، وبعض علماء العراق الآخرين ، وقد هاجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما رآه من المعاصي هناك ، وعاد غاضباً .
ومن علماء الإحساء كان للشيخ ابن عبد اللطيف ، وهو أحد علماء الإحساء الحنابلة ، دور في بناء فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب الديني .
وقد تدارس الشيخ كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم ؛ مما كان له الأثر في انطلاق فكره ، وحرية آرائه ، واجتهاده العظيم .
نلاحظ من كل ما سبق أن الشيخ لم يقتصر في علمه على دائرة ضيقة حوله تمثلت في بيئة علم ودين ، ولكن الشيخ أخذ العلم في رحلاته من علماء لهم اليد الطولى ، فالتقى بهم في المدينة المنورة والإحساء والبصرة وغيرها من البلاد التي كانت في زمانه بمثابة رحلات شاسعة ، شاقة السفر .
ولذلك فلقد كانت نشأة الشيخ لا تحضّ على بدعة ، ولا على ضلالة ، وإنما الصدق كل الصدق وإخلاص اللسان والقلب لكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله .
--------------------------------------------------------------------------------
اتجاهات الدعوة
اتجهت دعوة الشيخ إلى تخليص المسلمين من البدع والخرافات مثل الدعاء عند القبور والقباب ، والأشجار والأحجار ، وتجريد الدين والعبادة وتوحيد الله عز وجل ، وجعله خالصاً لله وحده ، ليس في ذلك وساطة من أحد .
وقد كان كتاب " التوحيد " للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أحد مؤلفاته التي ساق فيه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
لقد كان كتابه " التوحيد " وغيره من مؤلفاته بداية نضال لمصلح كبير ، أراد الله أن يكون من دعاة الإصلاح ، إصلاح العقيدة والدين ، وتخليص الناس من الجاهلية . . . من عقيدة فاسدة ، وأطماع متسلطة ، تتسم بسيادة القوي على الضعيف ، وكأن الناس والمجتمعات قد تحولوا إلى غابات تحكمها سباع . . .
وتضاءلت قوى الخير ، وجحافل الإيمان ، وحل محلّها الشر ، والتفكك الخلقي ؛ فاعتقد الناس من سيئات جاهليتهم بأن الجماد يشفي المرضى ، وأوشكت على أن تكون وثنية مقنَّعة بالدين .
وتكاسل الناس ، وراحوا في غفلة يقولون : هذا ما وجدنا عليها آباءنا ، وإنا على آثارهم مقتدون . . . سائرون لا نميز الخبيث من الطيب .
كان على الشيخ ودعوته الإصلاحية محاربة كل هذه البدع والضلالات، من خلال غزو هذا الفكر الضال بفكر إصلاحي بنَّاء .
كان لفكر العلامة ابن تيمية دور عظيم في اتجاهات دعوة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد ردّد – رحمه الله – كثيراً اتجاهات ابن تيمية ، فقد قال في إحدى رساله مردداً ذلك على الناس :
" اعلم – رحمك الله – أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل :
الأولى : العلم ، وهو معرفة الله ، ومعرفة نبيه ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة " .
وهناك انعكس المعنى السابق على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مؤلفاته التي امتلأت بالأدلة والبراهين من الكتاب والسنة ، وبعض الاجتهادات من الفروع لأحمد بن حنبل .
" الثانية : العمل به " أي : بما تعلمنا من ديننا وأدائه المستقيم .
" الثالثة : الدعوة إليه " .
" الرابعة : الصبر على الأذى فيه " .
إن هذه الاتجاهات الأربع السابقة ، دعوة دينية خالصة ، لم يقصد بها مذهباً جديداً ، أو " إيديولوجية " غريبة على الإسلام ، وإنما هي رسالة دينية خالصة ، تتسم بالحسم والحزم ، وتنقية الطريق الإسلامي من أشواك البدع والضلالات .
وقد تصدى للدعوة في مطلعها أناس لهم مطامع دنيوية ، يحكمهم الحسد والتسلط ، حباً في سياسة الناس ، وتوجيههم .
اشتد عداء خصومه لدعوته ، وأطلقوا اسم " الوهابية " أو " الوهابيون" على دعوته ، وردّده الأوربيون ، ثم تداولته ألسنة الناس .
راح الشيخ يقول : إن التوحيد هو عماد الإسلام الأكبر ، وقد ضاع في زماننا هذا ، وتداخل به الفكر الفاسد . فهو – أي : التوحيد – الاعتقاد بأن الله عز وجل هو خالق الدنيا ، وباسط شأنه عليها ، ورازق عباده ، وواضع قوانينه التي تسيِّرها ، والمشرع لها . . . ليس لمخلوق شَرِكة في ذلك ، فهو واحد أحد ، فرد صمد ، ليس في حاجة لمعين فهو المستعان . . . هو حاكم هذا الكون بما أنزل من تشريع وديانات ، وكتب ورسل ، وهو النافع ، بيده النفع والضر لا شريك له . . . وإن كلمة لا إله إلا الله : تنزه الخالق عز وجل عن وجود سلطة تسير الدنيا غيره هو عز وجل ، الخالق البارئ المصور .
من ذلك كان قوله عز وجل بالتوجيه المباشر : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) [آال عمران : 64] .
لم يرفع الشيخ هذا الشعار من فراغ ، وإنما " التوحيد المطلق " النقي من كل شائبة هو في نص الكتابة لا اجتهاد فيه . . . إن الله عز وجل يستجيب لنا دون وسيط . . . إن الاستجابة مقرونة بصلاحنا ، وإخلاص نية توحيدنا .
كان في الوقت ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للتوحيد . . . كان في ذلك الوقت يحكم مصر محمد علي باشا ، التركي الأصل ، وكان هذا الرجل يتجه في إصلاحه وحكمه إلى الحياة المادية، في حين أن الشيخ ابن عبد الوهاب اتجه إلى العقيدة وحدها ، فأساس فكره هو العقيدة والروح ، وهما الجوهر الحقيقي إن صلحا صلح كل شئ ، وإن فسدا فسد كل شئ .
وبذلك كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رئيس دين في نجد . . . دعوته خالصة لله وحده عز وجل .
وكان محمد علي رئيس حكم وسلطان في مصر ، تحكمه الحياة الدنيا ، وسلطان الحكم والتحكم ، والجلوس على قمة السلطة في الحكم .
ولقد استعانت دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب بأسانيد قوية أعطتها جانباً عظيماً من المناعة والقوة الفكرية ، مما ساهم في انتشارها وتفوّقها على امتداد أراضي " الجزيرة " بل وخارج نطاق جزيرة العرب .
فالتاريخ يروي " أن أهل الطائف لما أسلموا كان لهم بَنِيّة على اللات – أي : قبة ، أو كعبة – فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها ، فطلبوا منه أن يترك هدمها شهراً حتى لا يصدموا نساءهم وصبيانهم ، حتى يُدخلوهم في دين الله أفواجاً ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض ذلك ، وأنكره عليهم ، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهم بهدمها "[زعماء الإصلاح ، الأستاذ أحمد أمين ص (16) ] .
وفي عهد عمر بن الخطاب رأي أن بعض الناس أخذ يرجع إلى عاداته الجاهلية القديمة ، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان ، فيفضلون إقامة الصلاة تحتها ، والاستراحة عندها على سبيل التبرك ، فأمر عمر بقطعها ، فقُطِعَتْ .
قال صلى الله عليه وسلم : " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، أَلا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك " .
بدأت الدعوة في لين ورفق من الشيخ بين أتباعه ومريديه وفي بلدته العينية ، إلا أن الشيخ لقيَ معارضة شديدة ، وكَثُرَ أعداء فكرِهِ ممن أخذتهم العاطفة ، وأثارهم هدم شواخص القبور .
ولكن الشيخ – رحمه الله – لم يهدأ ، بل استقرت العقيدة في قلبه ، ولن يمنعه من نشرها جور سلطان ، أو خلاف دنيوي ، مهما ابتغى من قصد أو نيّة .
--------------------------------------------------------------------------------
متاعب الدعوة
اُضْطُهِدَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلدة العينية ، واضطره ضغط أعدائه ومخالفيه أن يخرج منها إلى الدرعية ، مقر آل سعود . . . وهناك التقى بأمير الدرعية الشيخ محمد بن سعود ، فاستقبل الشيخ على الرحب والسعة ، وعرض الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته على الأمير محمد بن سعود فقبلها ، وتعاهد الشيخان على حمل الدعوة على عاتقهم والدفاع عنها ، والدعوة للدين الصحيح ، ومحاربة البدع ، ونشر كل ذلك في جميع أرجاء جزيرة العرب .
وكان أخطر شئ في هذا الاتفاق الذي ينم عن صدقه وجدّه . . . كان أخطر الأشياء هو الاتفاق على نشر الدعوة باللسان لمن يقبلها ، وبالسيف لمن يرفض دعوتهم .
واجتمع السيف واللسان في وقت واحد ، ورفع في ذلك شعار من الكتاب والسنة ، فيقول عز وجل ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) [النحل : 125] .
ودخلت الدعوة في إطار التنفيذ ، ونجحت الدعوة شيئاً فشيئاً ، ودخل الناس في دعوة التوحيد ، ودخل أتباع الشيخ مكة ، وأرادوا أن يخلصوا الدين من البدع على الرغم مما في ذلك من خدش لمشاعر المسلمين وعاطفتهم .
هدم أتباع الشيخ كثيراً من القباب الأثرية في مكة ، كقبة السيدة خديجة ، وقبة كانت على المكان الذي وُلِدَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبة مولد أبي بكر وعلي .
وفي المدينة رفعوا بعض الحلي والزينة الموضوعة على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ممّا أثار غضب كثير من الناس ، وبُرّر غضبهم رغبة من هؤلاء الناس في الحفاظ على معالم التاريخ ، ولأن قبر الرسول رمز للعاطفة الإسلامية ، وقوة دولة المسلمين .
ولم يهتم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بذلك ، بل اهتموا بعقيدتهم وإزالة البدع ، والرجوع إلى الأصول في دينهم .
وكان الاهتمام الأكبر بأخلاق الناس وعقيدتهم ، والشروع في تقويتها ، وترسيخها ، وإزالة الرواسب منها .
وفي وقت سيادة الدعوة بقيادة الوهابيين قلّت المشاكل في مجتمع الجزيرة ، فانعدمت السرقات ، وحروب الفجور وشرب الخمور .
وأصبحت الطرق أكثر أمناً وأماناً ، بعد أن كانت مصدر متاعب للناس ، وحركتهم ، حيث السطو والسرقات قبل انتشار الوهابيين ودعوتهم السمحة ، وأصبحت منطقة الجزيرة بمثابة منطقة جهاد بالنسبة للوهابيين ؛ مما أثار انتباه العلم الخارجي لهذه الدعوة الإسلامية الخطيرة الجديدة في ذلك الوقت .
--------------------------------------------------------------------------------
مع المسلمين خارج الجزيرة
سُمِعَ صوت الدعوة للتوحيد بقيادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وصاحبه الأمير محمد بن سعود ، ودوى الصوت عالياً خارج الجزيرة العربية والحجاز .
وكان مؤتمر المسلمين السنوي في الحج ميداناً عظيماً ، ومتابعة لعرض الدعوة على قيادات الحجاج ؛ لإقناعهم بالدعوة ، وعرضها عليهم ، فإذا قبلوها ، وفهموا مغزاها حق الفهم عادوا إلى بلادهم ، ونشروها في أوساط بلادهم ومجتمعاتهم ، وهنا كان للحج دور عظيم في لقاء المفكرين الإسلاميين بعضهم ببعض .
فعندما حضر الإمام السنوسي إلى مكة للحج ، والتقى بالوهابيين ، وسمع منهم ، واقتنع بفكرهم عاد على المغرب العربي ، وأسس دعوته ، وطريقته الخاصة على أساس فكر الوهابيين ، وعلى منهجهم ، وكان هذا في أقصى مغرب العالم الإسلامي .
ومن مشرقه في الهند ظهر زعيم وهابي هو " السيد أحمد " فقد جاء إلى مكة حاجاً في عام ( 1822م ) وآمن بالمذهب الوهابي ، ونشر الدعوة في منطقة البنجاب في شمال الهند ، وأنشأ بها ما يشابه الدولة الإسلامية الوهابية ، وهدّد كل مناطق شمال الهند .
والجالية الهندية الضخمة الإسلامية هي نتاج لدعوة هذا الرجل ، والتي بدأت تزداد وتكبر حتى قدر عددهم بعشرات الملايين من المسلمين .
شنّ السيد أحمد في شمال الهند حرباً عنيفة ضد البدع والخرافات ، وهاجم الوعاظ ورجال الدين ممن ينقادون إلى البدع والخرافات ، ويدعون إليها ، بل انه أعلن الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ، ويرفع شعار التوحيد ، ويدعو لذلك دعوة دينية خالصة كإخلاص الموحدين .
وكان الإنجليز في ذلك الوقت له بالمرصاد هو وأتباعه ، وبذلوا جهداً شاقاً في السيطرة عليهم ، وإخضاعهم لها .
وواجه الوهابيون من أتباع السيد احمد في شمال الهند هجوماً عنيفاً من المستعمر الإنجليزي ، إلا أن العقيدة راسخة في القلوب ، وبفكر راسخ في العقول .
ولا تزال العقيدة والشعائر تقام في الهند ، وجاء المفكرون من رجال الدين من الهند ، وأسسوا جماعة لها شأن عظيم ، وأصبح لهذه الجماعة مفكرون أثروا الفكر الإسلامي في القرن العشرين منهم الأستاذ الكبير " أبو الأعلى المودودي " [1903 – 1979 م ، 1321 – 1399 هجرية] وأتباعه ، ولا يزالون يحملون أمانة الدعوة ونشرها في شبة الجزيرة الهندية .
وفي أقصى الجنوب في اليمن تلاقت أفكار الإمام الشوكاني المولود في سنة ( 1172 ) هجرية مع أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والذي تأثر الرجل بمدرسة " ابن تيمية " العظيمة .
وآثر الشوكاني الاجتهاد على التقليد ، وهاجم بناء القبور والشواخص عليها ، وتزيينها ، وتحسينها ، وقال : إنها مفاسد يبكي لها الإسلام .
--------------------------------------------------------------------------------
الهجوم على الدعوة
منذ أن جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدرعية ، عاصمة السعوديين ، أتباع الإمام محمد بن سعود في عام ( 1158 ) هجرية ( 1747م ) ، وبسطوا نفوذهم على مكة والمدينة . . . منذ ذلك الحين شعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها ، بل ويجعل منطقة الحجاز خارج نطاق سلطانها ونفوذها .
وتكمن خطورة ذلك في أن مكة والمدينة موطن الحرمين الشريفين ، وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث المركز الإسلامي الممتاز للخليفة الجالس في الآستانة ، عاصمة الدولة الإسلامية ، ورمز الخلافة في ذلك الوقت . . . وإذا فقدت الدولة العثمانية هذه المنطقة – منطقة الحجاز – فقدت مركزها كله ، وروح سلطانها ونفوذها .
ولذلك أرسل السلطان العثماني " السلطان محمود " إلى محمد علي باشا حاكم مصر التركي الأصل ، وكان في مركز قوي في ذلك الوقت : أن يرسل جيوشه لمقاتلة وتأديب الوهابيين الخارجين عن طاعة السلطان .
وبدأت تبث دعاية مسمومة ضد الإمام ودعوته ، والنيل منها وتكفير أصحابها ، وحمل رجال الفكر الإسلامي والكتاب في ذلك الوقت على الدعوة ، فخطبوا ، وكتبوا فيها كثيراً ، وكان ذلك بمثابة لفت النظار للدعوة الوهابية في أنحاء كثيرة من العلم الإسلامي .
وأعد محمد علي باشا حملة قوية بقيادة ابنه الأمير طوسون ، وسار بحملته ، إلا أن الوهابيين انتصروا على الحملة ، وأعادوها .
وأحس السلطان العثماني بالخوف من ذلك ، نظراً لأنه سبق حملات محمد علي حملات من الوالي في العراق ، إلا أنها فشلت جميعها .
ولما فشلت حملة الأمير طوسون أعد محمد علي باشا العدة ، وبقوة كبيرة ، وترأس بنفسه الحملة ، وحارب الوهابيين بكل ما يملك من سلاح حديث ، وانتصر عليهم ، وأعاد سيطرته على مكة والمدينة ، ومنطقة الحجاز .
ثم أكمل ابنه إبراهيم باشا هذا العمل بقيامه بالهجوم على الدعية في سبتمبر ( 1818م ) وحطم أغلب مبانيها ، ونكل بمن لحق من الوهابيين ، وألقى إبراهيم باشا القبض على الأمير عبد الله بن سعود أمير الدرعية ، وأرسله أسيراً إلى الآستانة ليلقى حتفه هناك .
ولم تكن هذه الحملات العسكرية ونتائجها سبباً في القضاء على الدعوة الوهابية ، بل كانت أساساً متيناً لانتشار هذا الفكر والثناء عليه ، فهو مفهوم التوحيد الخالص ، وقد بقيت الدعوة كامنة في النفوس يتدارسها علماء نجد والحجاز وغيرهم .
--------------------------------------------------------------------------------
أراء المفكرين في دعوة الشيخ
لا شك في أن الدعوة الوهابية كان لها أنصارها، كما كان لها خصومها ، الذين اتهموا الإمام محمد بن عبد الوهاب بالغلو في دعوته غلواً خرج بها عما عرف عن الإسلام من سماحة ويسر .
هكذا كان زعمهم ، إلا أن علماء الإسلام عقدوا مجالس لمناقشة الدعوة ، وقد أحدثت الحركة وفكرها حواراً فكرياً ما زال صداه يسمع في مجالس العلماء ، وقاعات الدرس في الجامعات ، والمدارس الإسلامية ، مما أحدث نوعاً من الحوار الهائل ، واليقظة الفكرية في أرجاء العلم الإسلامي .
وقد أثبتت الدعوة الوهابية قدرتها على أن تكون مسرحاً فكرياً ضرورياً لكل مسلم ، وكانت الدعوة مصدراً ومنبعاً استقت منه حركات الإصلاح الحديث ، وانتهى حكم إبراهيم باشا في الجزيرة العربية عام ( 1840م ) .
وقامت الدولة السعودية الثانية مؤكدة تمسكها بالدعوة الوهابية ونشرها ؛ ولما أسس عبد العزيز آل سعود دولته في أول القرن الحالي كانت الدعوة الوهابية سلاحه الفكري ، والوهابيون أنفسهم أشد أنصاره ، وأقوامهم تحمساً له .
وقد كان للمفكرين آراء هامة في الحركة الوهابية ، نبدؤها بمفكري الإسلام ، وعلى رأسهم الإمام محمد عبده ، فقد قال ما معناه :
إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلاح ، يتحمل المسؤولية من وقف أمام هذه الدعوة ؛ لمنع نشرها وانتشارها بين عامة المسلمين .
وقد أيد إمام صنعاء الإمام الصنعاني دعوة الشيخ شعراً فقال :
يذكرني مسراك نجداً وأهله *** لقد زادني مسراك وجداً على وجد
قفي واسألي عن عالم حلّ سوحها *** به يهتدي من ضلَّ عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد *** فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
وقال الدكتور طه حسين :
" لا يستطيع الباحث عن الحياة في جزيرة العرب أن يهمل حركة عنيفة نشأت بها أثناء القرن الثامن عشر الميلادي ، تلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب ، وأخطرته أنه يهتم بأمرها ، وأحدثت فيها آثاراً خطيرة هان شأنها بعض الشئ ، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام ، وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها ، بل في علاقتها بالأمم الأوربية ؛ هذه الحركة هي الحركة الوهابية " .
ولم تمر حركة الشيخ مرور الكرام على العلماء والمفكرين ، بل لقد تناولها الكثير منهم ، فأثنى عباس محمود العقاد الكاتب والمفكر الإسلامي على دعوة الشيخ ، وأشار كثيراً إلى مضمون كتابه " التوحيد " .
وقال عنه الأستاذ أحمد أمين :
" أهم مسألة صقلت ذهن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دروسه ورحلاته مسألة التوحيد ، التي هي عماد الإسلام ، والتي تبلورت في لا إله إلا الله ، والتي تميز الإسلام بها عما عداه ، والتي دعا إليها " محمد صلى الله عليه وسلم " أصدق دعوة وأجرأها ، فلا أصنام ولا أوثان ن ولا عبادة آباء وأجداد ولا أحبار ولا نحو ذلك ، ومن أجل هذا سمّى هو وأتباعه أنفسهم " بالموحِّدين " أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليه خصومه " .
مما سبق اطَّلعنا على أراء مفكرين عرب ومسلمين ، ولكن ماذا قال علماء الغرب عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب !
قال النمسوي [جول صهيري] في كتابه عن العقيدة والشريعة :
"وإذا أردنا أن بحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية نجد أن مما يستدعي انتباهنا خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ الديني ما يلي :
يجب على من ينصب نفسه للحكم على الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصاراً للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ، فغاية الوهابيين هي إعادة الإسلام كما كان " .
وقال مستشرق ألماني :
" كان هذا المصلح يتأسّى بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويحذو حذوه ، وينحو نحوه ، في التفكير .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قادراً على إلهاب نار الحماسة في قلوب أصحابه ، وعلى استثمار محبتهم العادية للحرب في سبيل قضيته ، أما اعتقاد المسلمين فلا يماثل الرسول صلى الله عليه وسلم في شئ " .
وبعد كل هذا ؛ وفوق كل شئ فإن الإمام الشيخ – رحمه الله – أراد جوهر العبادة . . . إخلاصاً لله وحده . . . عقيدة صافية ، لا يشوبها جهل البدع .
وقد ورد نفي هذه البدع في آيات عديدة توضح بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول عز وجل ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) [الإسراء : 93] .
وإذا كان السيد الرسول صلى الله عليه وسلم قد تجرد من مقولات البدع ، وجرد دعوته مما يحمل هذا المعنى ، فلقد كانت توجيهات الوحي له ، وتوجيهه صلى الله عليه وسلم لصحابته كما أسلفنا في حاث هدم قبة عند أهل الطائف ، فإن القرآن جاء بالمضمون في سياق الآيات الكريمة فيقول عز وجل : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) [الأعراف : 188] .
وإذا كانت هذه هي مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه ، فمن من أصحاب الأضرحة والمقامات يملك لنا نفعاً أو ضراً لغيرنا ؟!
إننا نقوى بأعمالنا ، إن صلحت كانت خير شفيع لنا ، وإن فسدت فلا مبدل لحكم الله . . . هذا الجوهر في ديننا . . إذ لم يساوِ بين الطيب والخبيث ، وبين الزبد وما ينفع الناس .
إن دعوة السماء لنا بالعمل الصالح ليس فيها مردود إلا صلاح حالنا نحن . . . إن الحرب التي شنها الإمام محمد بن عبد الوهاب على البدع ، والضلالات ، ومشاهد القبور لم يقصد بها شيئاً أو موقفاً شخصياً من أحد ، وإنما أراد الإصلاح في جوهر ديننا ، فكيف يشفع صاحب ضريح لشارب خمر ، أو آكل ربا ، أو أي إنسان لا يقيم حدود الله في بيته وقومه ؟!
إن ديننا ليس توابيت محنطة ، أو أحجاراً كريمة نحجّ إليها كلما أحسسنا بالملل والفراغ ؛ ولكنه بناء خيِّر ، كل لبنهّ فيه دستور لسلوك من سلوكيات حياتنا ، تلك هي الخلاصة .
والشيخ لم يحارب شخصاً ولا مذهباً ، ولا أراد أن يبني لنفسه مجداً وراء فكره ، وإنما كلمة قالها ، ودافع عنها حتى آخر يوم حياته .
--------------------------------------------------------------------------------
وداعاً إمام الموحدين
مات الرجل – رحمه الله – وظن أعداؤه أن العقيدة عادت لتهتز بعده ، ولكن ما تزال آراء الشيخ تهدي الضالين ، وتقنع أدعياء الفلسفة والتصوف .
لقد عاشت أهدافه الست في قلوب أتباعه ، وممن اهتدوا بها من المسلمين في قلوبهم ، وأهدافه هي :
1 – إنكار الشرك بأنواعه صغيره وكبيره .
2 – إنكار جميع ما يخالف التوحيد وخلوصه ، فينكر البدع ، وتعظيم القبور .
3 - ينكر التصوف الذي يخالف الإسلام .
4 – يحارب الرشوة بأنواعها ، أو التلاعب في حكم الله سواء بوصية أو غيرها .
5 – يأمر بالمعروف .
6 – ينهي عن المنكر ، ويحاربه بالسيف والقلم.
هذه هي خلاصة الدعوة ، دعوة إمام الموحدين .
عاش الرجل قرابة التسعين عاماً ، من عام (1703م) حتى عام (1791م) ، ومرَّ على وفاته قرنان من الزمان ، ولكن لن تموت دعوته .
وقال الشاعر في رثائه :
ففاضت عيون واستهلت مدامع *** يخالطها مزج من الدم يهمع
بكاه ذوو الحاجات يوم فراقه *** وأهل الهدى والحق والدين أجمع
وداعاً إمام الموحِّدين . . وداعاً شيخ المصلحين .
الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
فهمي 10000 في الأحد فبراير 07, 2010 9:13 pm
• شمعة على الطريق .
• المولد والنشأة .
• اتجاهات الدعوة .
• متاعب الدعوة .
• مع المسلمين خارج الجزيرة .
• الهجوم على الدعوة .
• آراء المفكرين في دعوة الشيخ .
• وداعاً إمام الموحدين .
--------------------------------------------------------------------------------
شمعة على الطريق
مرَّ المسلمون في القرن الثامن عشر بفترات ظلام وجهل ، جعلت من دينهم عرضة للبدع ، وطريق الضلال ؛ التي دسها المفسدون بين الناس تحت شعار الدين ، فكانت هذه الطريق طريق البدعة والضلالة ، مسلكاً مهلكاً لكل من اتبعه . . .
ولا بد من ضوء في هذا الظلام . . . لا بد من شمعة تنير الطريق ، ذلك طريق الذي يدعو إلى صراط مستقيم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وكان الإمام . . إمام الموحدين . . حامل كلمة لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . . كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الشمعة التي تضئ الطريق في طريق الضلالات والبدع ، فاستبدلها الرجل خيراً ودعوة إلى الحق ، فحدَّث الرجل بقلمه كل من له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد .
كاتب دعاةَ الإسلام في كل موضع ومكان . . . كاتبهم لدعوة الناس حكاماً ومحكومين لتصحيح المسيرة . . . مسيرة العقيدة ؛ لتصويب أفكار الناس ، ونفض غبار الجهل من على رؤوسهم .
كان الرجل بعيداً كل البعد عن بداية النهضة والعلم في أوربا ، ولكنه كأنما أحس أن البدع قد دخلت عقول المسلمين ، فأغفلتهم عن سلطان العقل وبأسه ودعوة قومهم إلى تغليب سلطان العقل والدين ، فرفع شعار التوحيد ، مصحوباً بضرورة العمل بكتاب الله وسنة رسوله .
لم ييأس الرجل ، ولم يكلّ . . ما تقاعس أبداً في سبيل محاربة البدع ، والدعوة الصادقة للجهاد . . جهاد النفس . . والجهاد في سبيل الله .
لقد أشعل شمعته ، وانطلق في طريق وعرٍ ، زاد في وعورته جهل القوم ، وتكالب الأعداء حباً في السلطة والتسلط .
سنوات قلائل من الجهد والعمل ، هي جهد الرجل ، وكان المحصولُ وافراً طيباً . . . إنها الشريعة الإسلامية وتطبيقها في شبه جزيرة العرب .
لقد توحدت الجزيرة على توحيد الله عز وجل ، وأيَّدت دعوة الإمام تأييداً مقنعاً رائعاً ، فلقد سُلطَ الضوء ، وهربت الخفافيش من جماعة إبليس إلى الظلام .
لقد أضاء الرجل شمعة في ظلام دامس .
ولم تكن الشمعة بعمل سهل ، ولم يتلألأ ضوؤها في الجزيرة بيسر وسهولة ، وإنما الذي جعل لنورها مذاقاً رائعاً هو ظلام البدع الحالك ، وجهل القوم بدينهم . . . فلنوقد الشمعة على أول الطريق .
--------------------------------------------------------------------------------
المولد والنشأة
في مدينة العينية من نجد بجزيرة العرب ، وفي العام الخامس عشر بعد المئة والألف ولد محمد بن عبد الوهاب ، في بيت مملوء بالصلاح والتقوى ، تتحرك في أرجائه آيات التقوى ، واستغفار الأوابين .
في منزل الشيخ عبد الوهاب بن سليمان الوهيبي التميمي ، قاضي العينية ، جاء المولود بشرى لأهله وذويه .
نشأ الإمام في كنف العلم والقرآن في مدينة العينية ، وكان أبوه خير معين له في درب الثقافة والتعليم مع مطلع حياته ، فحفظ القرآن كعادة القوم في ذلك الزمان الذي عاشوه كأحكام وتشريع ، ولم يعيشوه بعيداً عن جو تشريعه وحدوده . .
تعلم محمد بن عبد الوهاب في مسقط رأسه " العينية " على أيدي أئمة المسلمين من الحنابلة ، ففي كُتَّاب هذه القرية حفظ القرآن قبل حلول السنة العاشرة من عمره . . . أيّ ذهن هذا الذي يحفظ أشرف كتاب في عمر العاشرة ؟! إنه لدليل ذكاء حاد .
وتفقّه الرجل حتى روى أخوه سليمان قائلاً في ذكائه :
" كان أبي عبد الوهاب يتعجب من ذكاء أخي محمد ، فقد تعلم والدي منه ، واستفاد من شدة اطلاعه ، ونفاذ بصيرته ، فراح يقول : لقد استفدت منه كثيراً " .
كان الحج كفريضة وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول عمل يؤديه محمد ابن عبد الوهاب في شبابه ، وتعلم على أيدي علماء الحرمين .
ولقد كان لعدد من العلماء السلفيين دور في تشكيل وبناء فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومنهم الشيخ محمد المجموعي ، وبعض علماء العراق الآخرين ، وقد هاجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما رآه من المعاصي هناك ، وعاد غاضباً .
ومن علماء الإحساء كان للشيخ ابن عبد اللطيف ، وهو أحد علماء الإحساء الحنابلة ، دور في بناء فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب الديني .
وقد تدارس الشيخ كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم ؛ مما كان له الأثر في انطلاق فكره ، وحرية آرائه ، واجتهاده العظيم .
نلاحظ من كل ما سبق أن الشيخ لم يقتصر في علمه على دائرة ضيقة حوله تمثلت في بيئة علم ودين ، ولكن الشيخ أخذ العلم في رحلاته من علماء لهم اليد الطولى ، فالتقى بهم في المدينة المنورة والإحساء والبصرة وغيرها من البلاد التي كانت في زمانه بمثابة رحلات شاسعة ، شاقة السفر .
ولذلك فلقد كانت نشأة الشيخ لا تحضّ على بدعة ، ولا على ضلالة ، وإنما الصدق كل الصدق وإخلاص اللسان والقلب لكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله .
--------------------------------------------------------------------------------
اتجاهات الدعوة
اتجهت دعوة الشيخ إلى تخليص المسلمين من البدع والخرافات مثل الدعاء عند القبور والقباب ، والأشجار والأحجار ، وتجريد الدين والعبادة وتوحيد الله عز وجل ، وجعله خالصاً لله وحده ، ليس في ذلك وساطة من أحد .
وقد كان كتاب " التوحيد " للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أحد مؤلفاته التي ساق فيه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
لقد كان كتابه " التوحيد " وغيره من مؤلفاته بداية نضال لمصلح كبير ، أراد الله أن يكون من دعاة الإصلاح ، إصلاح العقيدة والدين ، وتخليص الناس من الجاهلية . . . من عقيدة فاسدة ، وأطماع متسلطة ، تتسم بسيادة القوي على الضعيف ، وكأن الناس والمجتمعات قد تحولوا إلى غابات تحكمها سباع . . .
وتضاءلت قوى الخير ، وجحافل الإيمان ، وحل محلّها الشر ، والتفكك الخلقي ؛ فاعتقد الناس من سيئات جاهليتهم بأن الجماد يشفي المرضى ، وأوشكت على أن تكون وثنية مقنَّعة بالدين .
وتكاسل الناس ، وراحوا في غفلة يقولون : هذا ما وجدنا عليها آباءنا ، وإنا على آثارهم مقتدون . . . سائرون لا نميز الخبيث من الطيب .
كان على الشيخ ودعوته الإصلاحية محاربة كل هذه البدع والضلالات، من خلال غزو هذا الفكر الضال بفكر إصلاحي بنَّاء .
كان لفكر العلامة ابن تيمية دور عظيم في اتجاهات دعوة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد ردّد – رحمه الله – كثيراً اتجاهات ابن تيمية ، فقد قال في إحدى رساله مردداً ذلك على الناس :
" اعلم – رحمك الله – أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل :
الأولى : العلم ، وهو معرفة الله ، ومعرفة نبيه ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة " .
وهناك انعكس المعنى السابق على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مؤلفاته التي امتلأت بالأدلة والبراهين من الكتاب والسنة ، وبعض الاجتهادات من الفروع لأحمد بن حنبل .
" الثانية : العمل به " أي : بما تعلمنا من ديننا وأدائه المستقيم .
" الثالثة : الدعوة إليه " .
" الرابعة : الصبر على الأذى فيه " .
إن هذه الاتجاهات الأربع السابقة ، دعوة دينية خالصة ، لم يقصد بها مذهباً جديداً ، أو " إيديولوجية " غريبة على الإسلام ، وإنما هي رسالة دينية خالصة ، تتسم بالحسم والحزم ، وتنقية الطريق الإسلامي من أشواك البدع والضلالات .
وقد تصدى للدعوة في مطلعها أناس لهم مطامع دنيوية ، يحكمهم الحسد والتسلط ، حباً في سياسة الناس ، وتوجيههم .
اشتد عداء خصومه لدعوته ، وأطلقوا اسم " الوهابية " أو " الوهابيون" على دعوته ، وردّده الأوربيون ، ثم تداولته ألسنة الناس .
راح الشيخ يقول : إن التوحيد هو عماد الإسلام الأكبر ، وقد ضاع في زماننا هذا ، وتداخل به الفكر الفاسد . فهو – أي : التوحيد – الاعتقاد بأن الله عز وجل هو خالق الدنيا ، وباسط شأنه عليها ، ورازق عباده ، وواضع قوانينه التي تسيِّرها ، والمشرع لها . . . ليس لمخلوق شَرِكة في ذلك ، فهو واحد أحد ، فرد صمد ، ليس في حاجة لمعين فهو المستعان . . . هو حاكم هذا الكون بما أنزل من تشريع وديانات ، وكتب ورسل ، وهو النافع ، بيده النفع والضر لا شريك له . . . وإن كلمة لا إله إلا الله : تنزه الخالق عز وجل عن وجود سلطة تسير الدنيا غيره هو عز وجل ، الخالق البارئ المصور .
من ذلك كان قوله عز وجل بالتوجيه المباشر : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) [آال عمران : 64] .
لم يرفع الشيخ هذا الشعار من فراغ ، وإنما " التوحيد المطلق " النقي من كل شائبة هو في نص الكتابة لا اجتهاد فيه . . . إن الله عز وجل يستجيب لنا دون وسيط . . . إن الاستجابة مقرونة بصلاحنا ، وإخلاص نية توحيدنا .
كان في الوقت ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للتوحيد . . . كان في ذلك الوقت يحكم مصر محمد علي باشا ، التركي الأصل ، وكان هذا الرجل يتجه في إصلاحه وحكمه إلى الحياة المادية، في حين أن الشيخ ابن عبد الوهاب اتجه إلى العقيدة وحدها ، فأساس فكره هو العقيدة والروح ، وهما الجوهر الحقيقي إن صلحا صلح كل شئ ، وإن فسدا فسد كل شئ .
وبذلك كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رئيس دين في نجد . . . دعوته خالصة لله وحده عز وجل .
وكان محمد علي رئيس حكم وسلطان في مصر ، تحكمه الحياة الدنيا ، وسلطان الحكم والتحكم ، والجلوس على قمة السلطة في الحكم .
ولقد استعانت دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب بأسانيد قوية أعطتها جانباً عظيماً من المناعة والقوة الفكرية ، مما ساهم في انتشارها وتفوّقها على امتداد أراضي " الجزيرة " بل وخارج نطاق جزيرة العرب .
فالتاريخ يروي " أن أهل الطائف لما أسلموا كان لهم بَنِيّة على اللات – أي : قبة ، أو كعبة – فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها ، فطلبوا منه أن يترك هدمها شهراً حتى لا يصدموا نساءهم وصبيانهم ، حتى يُدخلوهم في دين الله أفواجاً ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض ذلك ، وأنكره عليهم ، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهم بهدمها "[زعماء الإصلاح ، الأستاذ أحمد أمين ص (16) ] .
وفي عهد عمر بن الخطاب رأي أن بعض الناس أخذ يرجع إلى عاداته الجاهلية القديمة ، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان ، فيفضلون إقامة الصلاة تحتها ، والاستراحة عندها على سبيل التبرك ، فأمر عمر بقطعها ، فقُطِعَتْ .
قال صلى الله عليه وسلم : " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، أَلا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك " .
بدأت الدعوة في لين ورفق من الشيخ بين أتباعه ومريديه وفي بلدته العينية ، إلا أن الشيخ لقيَ معارضة شديدة ، وكَثُرَ أعداء فكرِهِ ممن أخذتهم العاطفة ، وأثارهم هدم شواخص القبور .
ولكن الشيخ – رحمه الله – لم يهدأ ، بل استقرت العقيدة في قلبه ، ولن يمنعه من نشرها جور سلطان ، أو خلاف دنيوي ، مهما ابتغى من قصد أو نيّة .
--------------------------------------------------------------------------------
متاعب الدعوة
اُضْطُهِدَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلدة العينية ، واضطره ضغط أعدائه ومخالفيه أن يخرج منها إلى الدرعية ، مقر آل سعود . . . وهناك التقى بأمير الدرعية الشيخ محمد بن سعود ، فاستقبل الشيخ على الرحب والسعة ، وعرض الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته على الأمير محمد بن سعود فقبلها ، وتعاهد الشيخان على حمل الدعوة على عاتقهم والدفاع عنها ، والدعوة للدين الصحيح ، ومحاربة البدع ، ونشر كل ذلك في جميع أرجاء جزيرة العرب .
وكان أخطر شئ في هذا الاتفاق الذي ينم عن صدقه وجدّه . . . كان أخطر الأشياء هو الاتفاق على نشر الدعوة باللسان لمن يقبلها ، وبالسيف لمن يرفض دعوتهم .
واجتمع السيف واللسان في وقت واحد ، ورفع في ذلك شعار من الكتاب والسنة ، فيقول عز وجل ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) [النحل : 125] .
ودخلت الدعوة في إطار التنفيذ ، ونجحت الدعوة شيئاً فشيئاً ، ودخل الناس في دعوة التوحيد ، ودخل أتباع الشيخ مكة ، وأرادوا أن يخلصوا الدين من البدع على الرغم مما في ذلك من خدش لمشاعر المسلمين وعاطفتهم .
هدم أتباع الشيخ كثيراً من القباب الأثرية في مكة ، كقبة السيدة خديجة ، وقبة كانت على المكان الذي وُلِدَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبة مولد أبي بكر وعلي .
وفي المدينة رفعوا بعض الحلي والزينة الموضوعة على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ممّا أثار غضب كثير من الناس ، وبُرّر غضبهم رغبة من هؤلاء الناس في الحفاظ على معالم التاريخ ، ولأن قبر الرسول رمز للعاطفة الإسلامية ، وقوة دولة المسلمين .
ولم يهتم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بذلك ، بل اهتموا بعقيدتهم وإزالة البدع ، والرجوع إلى الأصول في دينهم .
وكان الاهتمام الأكبر بأخلاق الناس وعقيدتهم ، والشروع في تقويتها ، وترسيخها ، وإزالة الرواسب منها .
وفي وقت سيادة الدعوة بقيادة الوهابيين قلّت المشاكل في مجتمع الجزيرة ، فانعدمت السرقات ، وحروب الفجور وشرب الخمور .
وأصبحت الطرق أكثر أمناً وأماناً ، بعد أن كانت مصدر متاعب للناس ، وحركتهم ، حيث السطو والسرقات قبل انتشار الوهابيين ودعوتهم السمحة ، وأصبحت منطقة الجزيرة بمثابة منطقة جهاد بالنسبة للوهابيين ؛ مما أثار انتباه العلم الخارجي لهذه الدعوة الإسلامية الخطيرة الجديدة في ذلك الوقت .
--------------------------------------------------------------------------------
مع المسلمين خارج الجزيرة
سُمِعَ صوت الدعوة للتوحيد بقيادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وصاحبه الأمير محمد بن سعود ، ودوى الصوت عالياً خارج الجزيرة العربية والحجاز .
وكان مؤتمر المسلمين السنوي في الحج ميداناً عظيماً ، ومتابعة لعرض الدعوة على قيادات الحجاج ؛ لإقناعهم بالدعوة ، وعرضها عليهم ، فإذا قبلوها ، وفهموا مغزاها حق الفهم عادوا إلى بلادهم ، ونشروها في أوساط بلادهم ومجتمعاتهم ، وهنا كان للحج دور عظيم في لقاء المفكرين الإسلاميين بعضهم ببعض .
فعندما حضر الإمام السنوسي إلى مكة للحج ، والتقى بالوهابيين ، وسمع منهم ، واقتنع بفكرهم عاد على المغرب العربي ، وأسس دعوته ، وطريقته الخاصة على أساس فكر الوهابيين ، وعلى منهجهم ، وكان هذا في أقصى مغرب العالم الإسلامي .
ومن مشرقه في الهند ظهر زعيم وهابي هو " السيد أحمد " فقد جاء إلى مكة حاجاً في عام ( 1822م ) وآمن بالمذهب الوهابي ، ونشر الدعوة في منطقة البنجاب في شمال الهند ، وأنشأ بها ما يشابه الدولة الإسلامية الوهابية ، وهدّد كل مناطق شمال الهند .
والجالية الهندية الضخمة الإسلامية هي نتاج لدعوة هذا الرجل ، والتي بدأت تزداد وتكبر حتى قدر عددهم بعشرات الملايين من المسلمين .
شنّ السيد أحمد في شمال الهند حرباً عنيفة ضد البدع والخرافات ، وهاجم الوعاظ ورجال الدين ممن ينقادون إلى البدع والخرافات ، ويدعون إليها ، بل انه أعلن الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ، ويرفع شعار التوحيد ، ويدعو لذلك دعوة دينية خالصة كإخلاص الموحدين .
وكان الإنجليز في ذلك الوقت له بالمرصاد هو وأتباعه ، وبذلوا جهداً شاقاً في السيطرة عليهم ، وإخضاعهم لها .
وواجه الوهابيون من أتباع السيد احمد في شمال الهند هجوماً عنيفاً من المستعمر الإنجليزي ، إلا أن العقيدة راسخة في القلوب ، وبفكر راسخ في العقول .
ولا تزال العقيدة والشعائر تقام في الهند ، وجاء المفكرون من رجال الدين من الهند ، وأسسوا جماعة لها شأن عظيم ، وأصبح لهذه الجماعة مفكرون أثروا الفكر الإسلامي في القرن العشرين منهم الأستاذ الكبير " أبو الأعلى المودودي " [1903 – 1979 م ، 1321 – 1399 هجرية] وأتباعه ، ولا يزالون يحملون أمانة الدعوة ونشرها في شبة الجزيرة الهندية .
وفي أقصى الجنوب في اليمن تلاقت أفكار الإمام الشوكاني المولود في سنة ( 1172 ) هجرية مع أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والذي تأثر الرجل بمدرسة " ابن تيمية " العظيمة .
وآثر الشوكاني الاجتهاد على التقليد ، وهاجم بناء القبور والشواخص عليها ، وتزيينها ، وتحسينها ، وقال : إنها مفاسد يبكي لها الإسلام .
--------------------------------------------------------------------------------
الهجوم على الدعوة
منذ أن جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدرعية ، عاصمة السعوديين ، أتباع الإمام محمد بن سعود في عام ( 1158 ) هجرية ( 1747م ) ، وبسطوا نفوذهم على مكة والمدينة . . . منذ ذلك الحين شعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها ، بل ويجعل منطقة الحجاز خارج نطاق سلطانها ونفوذها .
وتكمن خطورة ذلك في أن مكة والمدينة موطن الحرمين الشريفين ، وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث المركز الإسلامي الممتاز للخليفة الجالس في الآستانة ، عاصمة الدولة الإسلامية ، ورمز الخلافة في ذلك الوقت . . . وإذا فقدت الدولة العثمانية هذه المنطقة – منطقة الحجاز – فقدت مركزها كله ، وروح سلطانها ونفوذها .
ولذلك أرسل السلطان العثماني " السلطان محمود " إلى محمد علي باشا حاكم مصر التركي الأصل ، وكان في مركز قوي في ذلك الوقت : أن يرسل جيوشه لمقاتلة وتأديب الوهابيين الخارجين عن طاعة السلطان .
وبدأت تبث دعاية مسمومة ضد الإمام ودعوته ، والنيل منها وتكفير أصحابها ، وحمل رجال الفكر الإسلامي والكتاب في ذلك الوقت على الدعوة ، فخطبوا ، وكتبوا فيها كثيراً ، وكان ذلك بمثابة لفت النظار للدعوة الوهابية في أنحاء كثيرة من العلم الإسلامي .
وأعد محمد علي باشا حملة قوية بقيادة ابنه الأمير طوسون ، وسار بحملته ، إلا أن الوهابيين انتصروا على الحملة ، وأعادوها .
وأحس السلطان العثماني بالخوف من ذلك ، نظراً لأنه سبق حملات محمد علي حملات من الوالي في العراق ، إلا أنها فشلت جميعها .
ولما فشلت حملة الأمير طوسون أعد محمد علي باشا العدة ، وبقوة كبيرة ، وترأس بنفسه الحملة ، وحارب الوهابيين بكل ما يملك من سلاح حديث ، وانتصر عليهم ، وأعاد سيطرته على مكة والمدينة ، ومنطقة الحجاز .
ثم أكمل ابنه إبراهيم باشا هذا العمل بقيامه بالهجوم على الدعية في سبتمبر ( 1818م ) وحطم أغلب مبانيها ، ونكل بمن لحق من الوهابيين ، وألقى إبراهيم باشا القبض على الأمير عبد الله بن سعود أمير الدرعية ، وأرسله أسيراً إلى الآستانة ليلقى حتفه هناك .
ولم تكن هذه الحملات العسكرية ونتائجها سبباً في القضاء على الدعوة الوهابية ، بل كانت أساساً متيناً لانتشار هذا الفكر والثناء عليه ، فهو مفهوم التوحيد الخالص ، وقد بقيت الدعوة كامنة في النفوس يتدارسها علماء نجد والحجاز وغيرهم .
--------------------------------------------------------------------------------
أراء المفكرين في دعوة الشيخ
لا شك في أن الدعوة الوهابية كان لها أنصارها، كما كان لها خصومها ، الذين اتهموا الإمام محمد بن عبد الوهاب بالغلو في دعوته غلواً خرج بها عما عرف عن الإسلام من سماحة ويسر .
هكذا كان زعمهم ، إلا أن علماء الإسلام عقدوا مجالس لمناقشة الدعوة ، وقد أحدثت الحركة وفكرها حواراً فكرياً ما زال صداه يسمع في مجالس العلماء ، وقاعات الدرس في الجامعات ، والمدارس الإسلامية ، مما أحدث نوعاً من الحوار الهائل ، واليقظة الفكرية في أرجاء العلم الإسلامي .
وقد أثبتت الدعوة الوهابية قدرتها على أن تكون مسرحاً فكرياً ضرورياً لكل مسلم ، وكانت الدعوة مصدراً ومنبعاً استقت منه حركات الإصلاح الحديث ، وانتهى حكم إبراهيم باشا في الجزيرة العربية عام ( 1840م ) .
وقامت الدولة السعودية الثانية مؤكدة تمسكها بالدعوة الوهابية ونشرها ؛ ولما أسس عبد العزيز آل سعود دولته في أول القرن الحالي كانت الدعوة الوهابية سلاحه الفكري ، والوهابيون أنفسهم أشد أنصاره ، وأقوامهم تحمساً له .
وقد كان للمفكرين آراء هامة في الحركة الوهابية ، نبدؤها بمفكري الإسلام ، وعلى رأسهم الإمام محمد عبده ، فقد قال ما معناه :
إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلاح ، يتحمل المسؤولية من وقف أمام هذه الدعوة ؛ لمنع نشرها وانتشارها بين عامة المسلمين .
وقد أيد إمام صنعاء الإمام الصنعاني دعوة الشيخ شعراً فقال :
يذكرني مسراك نجداً وأهله *** لقد زادني مسراك وجداً على وجد
قفي واسألي عن عالم حلّ سوحها *** به يهتدي من ضلَّ عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد *** فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
وقال الدكتور طه حسين :
" لا يستطيع الباحث عن الحياة في جزيرة العرب أن يهمل حركة عنيفة نشأت بها أثناء القرن الثامن عشر الميلادي ، تلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب ، وأخطرته أنه يهتم بأمرها ، وأحدثت فيها آثاراً خطيرة هان شأنها بعض الشئ ، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام ، وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها ، بل في علاقتها بالأمم الأوربية ؛ هذه الحركة هي الحركة الوهابية " .
ولم تمر حركة الشيخ مرور الكرام على العلماء والمفكرين ، بل لقد تناولها الكثير منهم ، فأثنى عباس محمود العقاد الكاتب والمفكر الإسلامي على دعوة الشيخ ، وأشار كثيراً إلى مضمون كتابه " التوحيد " .
وقال عنه الأستاذ أحمد أمين :
" أهم مسألة صقلت ذهن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دروسه ورحلاته مسألة التوحيد ، التي هي عماد الإسلام ، والتي تبلورت في لا إله إلا الله ، والتي تميز الإسلام بها عما عداه ، والتي دعا إليها " محمد صلى الله عليه وسلم " أصدق دعوة وأجرأها ، فلا أصنام ولا أوثان ن ولا عبادة آباء وأجداد ولا أحبار ولا نحو ذلك ، ومن أجل هذا سمّى هو وأتباعه أنفسهم " بالموحِّدين " أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليه خصومه " .
مما سبق اطَّلعنا على أراء مفكرين عرب ومسلمين ، ولكن ماذا قال علماء الغرب عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب !
قال النمسوي [جول صهيري] في كتابه عن العقيدة والشريعة :
"وإذا أردنا أن بحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية نجد أن مما يستدعي انتباهنا خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ الديني ما يلي :
يجب على من ينصب نفسه للحكم على الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصاراً للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ، فغاية الوهابيين هي إعادة الإسلام كما كان " .
وقال مستشرق ألماني :
" كان هذا المصلح يتأسّى بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويحذو حذوه ، وينحو نحوه ، في التفكير .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قادراً على إلهاب نار الحماسة في قلوب أصحابه ، وعلى استثمار محبتهم العادية للحرب في سبيل قضيته ، أما اعتقاد المسلمين فلا يماثل الرسول صلى الله عليه وسلم في شئ " .
وبعد كل هذا ؛ وفوق كل شئ فإن الإمام الشيخ – رحمه الله – أراد جوهر العبادة . . . إخلاصاً لله وحده . . . عقيدة صافية ، لا يشوبها جهل البدع .
وقد ورد نفي هذه البدع في آيات عديدة توضح بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول عز وجل ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) [الإسراء : 93] .
وإذا كان السيد الرسول صلى الله عليه وسلم قد تجرد من مقولات البدع ، وجرد دعوته مما يحمل هذا المعنى ، فلقد كانت توجيهات الوحي له ، وتوجيهه صلى الله عليه وسلم لصحابته كما أسلفنا في حاث هدم قبة عند أهل الطائف ، فإن القرآن جاء بالمضمون في سياق الآيات الكريمة فيقول عز وجل : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) [الأعراف : 188] .
وإذا كانت هذه هي مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه ، فمن من أصحاب الأضرحة والمقامات يملك لنا نفعاً أو ضراً لغيرنا ؟!
إننا نقوى بأعمالنا ، إن صلحت كانت خير شفيع لنا ، وإن فسدت فلا مبدل لحكم الله . . . هذا الجوهر في ديننا . . إذ لم يساوِ بين الطيب والخبيث ، وبين الزبد وما ينفع الناس .
إن دعوة السماء لنا بالعمل الصالح ليس فيها مردود إلا صلاح حالنا نحن . . . إن الحرب التي شنها الإمام محمد بن عبد الوهاب على البدع ، والضلالات ، ومشاهد القبور لم يقصد بها شيئاً أو موقفاً شخصياً من أحد ، وإنما أراد الإصلاح في جوهر ديننا ، فكيف يشفع صاحب ضريح لشارب خمر ، أو آكل ربا ، أو أي إنسان لا يقيم حدود الله في بيته وقومه ؟!
إن ديننا ليس توابيت محنطة ، أو أحجاراً كريمة نحجّ إليها كلما أحسسنا بالملل والفراغ ؛ ولكنه بناء خيِّر ، كل لبنهّ فيه دستور لسلوك من سلوكيات حياتنا ، تلك هي الخلاصة .
والشيخ لم يحارب شخصاً ولا مذهباً ، ولا أراد أن يبني لنفسه مجداً وراء فكره ، وإنما كلمة قالها ، ودافع عنها حتى آخر يوم حياته .
--------------------------------------------------------------------------------
وداعاً إمام الموحدين
مات الرجل – رحمه الله – وظن أعداؤه أن العقيدة عادت لتهتز بعده ، ولكن ما تزال آراء الشيخ تهدي الضالين ، وتقنع أدعياء الفلسفة والتصوف .
لقد عاشت أهدافه الست في قلوب أتباعه ، وممن اهتدوا بها من المسلمين في قلوبهم ، وأهدافه هي :
1 – إنكار الشرك بأنواعه صغيره وكبيره .
2 – إنكار جميع ما يخالف التوحيد وخلوصه ، فينكر البدع ، وتعظيم القبور .
3 - ينكر التصوف الذي يخالف الإسلام .
4 – يحارب الرشوة بأنواعها ، أو التلاعب في حكم الله سواء بوصية أو غيرها .
5 – يأمر بالمعروف .
6 – ينهي عن المنكر ، ويحاربه بالسيف والقلم.
هذه هي خلاصة الدعوة ، دعوة إمام الموحدين .
عاش الرجل قرابة التسعين عاماً ، من عام (1703م) حتى عام (1791م) ، ومرَّ على وفاته قرنان من الزمان ، ولكن لن تموت دعوته .
وقال الشاعر في رثائه :
ففاضت عيون واستهلت مدامع *** يخالطها مزج من الدم يهمع
بكاه ذوو الحاجات يوم فراقه *** وأهل الهدى والحق والدين أجمع
وداعاً إمام الموحِّدين . . وداعاً شيخ المصلحين .
الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله