في ظل كتاب
قال لها:
• يا أمَّاه، ألا تهدئين؟ ابحثي لي إذًا عن زوجةٍ ترضى أن تكون الثانية بعد كتبي، فلستُ أرى امرأةً ترضى، كلُّهن همُّهنَّ الأحمرانِ؛ الحرير والذهب، وولدك بضاعة كاسدةٌ، فلا تحتاري وتُضيِّعي العمر.
فقالت:
• أسمعتَ عن فلانة؟ أخبروني أنها تُناسبك ذات عقل وديانة.
فقال:
• لعلَّها! وإن يكن خيرًا فالله يُمضيه.
وذهبت الأمُّ على أمَل؛ فقد تقدَّم سنها وخافت على وحيدها أن تتركه بغير زوجةٍ، فكانت الزيارة والحكاية.
استمعت الأمُّ للفتاة، وهي تصفُ لها زوج الأحلام وبيت الزوجية، فقالت الفتاةُ بعفويةٍ:
• زوجي لا أحتاجُ فيه شرطًا، يكفيني شرطٌ في الدار.
فقالت الأمُّ:
• حرتُ من العجب، فلم أُجب! ودارت في رأسي الأسئلة؛ لقد قالوا لي: عاقلة ديِّنة؟ لكني تأملتُ العقل فلم أرَه، وهل تطمعُ ديِّنةٌ في دارٍ ولا يعنيها ألصق جارٍ؛ الزوجُ؟ (الصاحبُ بالجنب) كيف رأوها عاقلةً؟ بل زادوا: ديِّنة! يبدو أنَّ آفة الأخبار فعلًا رواتُها، فقلتُ:
• يا بُنية، الدارُ زائلةٌ، ابقي إذًا في دار أبيكِ؛ فإنها جميلةٌ مهيَّأة، أمَّا الزواج فإنَّه أسْرٌ، أتضعين نفسك في أسرٍ من أجل دارٍ؟
قالت:
• أماه، أريد شرطًا في الدار الزوجيَّة، ولا شيء بعدها؛ فإن وافق ولدُكِ فبها ونعمت، وإلا فلا حاجة لي بزواجٍ، فاسمعيني، فإن أخطأتُ فعظيني.
واستمرَّت ترسم حلمها، قالت:
• كلُّهن يبحثن عن دارٍ يسكنَّ بها، يأوين إليها، لكنني أبحثُ عن دارٍ تسكنُني، تُعسكر في قلبي، تأوي تحت ضُلوعي، إن كانت حجرةً فلا ضير، لو زادت أخرى فلا فرق، لكن بالشرط، إن وفَّر ولدُك دارًا تسكنُني كان هو الزوج، لا بأس يدهنها أخضر أو أصفر، أو مزجًا من لونين، أو خلطًا بين الألوان، أو يتركها هملًا بلا لون، لكن لا تنسي الشرط: أن يأتي بدارٍ تسكنُني.
فقلتُ لها:
• أوضحي، لا أفهم.
قالت:
• لي دارٌ تسكنُ في قلبي، لا أرضى بسواها، فيها ركنٌ يحوينا نحفظُ أو نتدبرُ ما نزل من القرآن، واحد يقرأ وآخرُ يسمع، وقد نتبادل، وركنٌ آخر يحملُ مكتبةً ضخمة، لا يظهرُ أثرٌ للجدران، لا تُبقي في رأسي حيرةً، فكلُّ استفهامٍ يمحُوه جوابٌ من بطن كتابٍ بل ألف جوابٍ، سلَّمُها عالي الدرجات، إن غاب صوتُ الزوج أجده أعلى الدرج غارقًا في الورقات، ولا يدري أنِّي أسفله بدرجات، أخط حروفًا تعجبني من صيد الخطرات، وأنقب عن لغزٍ حيَّرني في إعراب الآيات، ويمر الوقت فلا نشعر إلا بأذانٍ يدعونا لصلاةٍ تعبيرًا عمَّا قُرئ من الصَّفحات، لصلاةٍ مُسكبة للعبرات والزفرات، مطلبنا فيها عفوٌ عن زلَّاتٍ، وجبرٌ للكسرات، ثم نعود فنختم تلك الصلوات بما ورَد من الدعوات، فرغنا للتوِّ من الظهر وحان أوان لُقيماتٍ، فاليوم فطورٌ، والغد صيام، وبعد غداءٍ أقام الصلب نخلد للراحات سويعة، ثم تعود الدار كما كانت لحظات تدبرٍ، أو حلقات نقاشٍ تسبر غور الأقوال، ولا بأس بعد العصر من الأضياف يثرون اللحظات، بمقطوف الثمرات، ومكتوب الخطرات، فبهم تَحلو الدنيا وتبقى كالمنقول عن الفاروق: "لولاهم ما أعجبني في الدنيا بقاء"، ثم يأتي المغرب وقت المسجد والحلقات، فأصطف مع الأخوات لسماع الدرس من شيخٍ يشرح في الفقه كتابَ الزاد، وفي السيرة يشرح لابن القيم زاد معادٍ، ويقول لنا: نخرج من زادٍ وندخل في زادٍ آخر؛ فالسفر طويلٌ، والعمر ولو طال قصير، فلنكثر جمعًا للزاد، ثم نعود إلى الدار فيطول الليل، وأنا والزوج منهومان لا يشبعان؛ من أخذ كتابٍ، وترك كتابٍ، حتى يسلمنا التعب إلى نومٍ هانئ حتى السحَر، أتقلَّب في حلمي بين رحاب العلم، وأصحو على أملي أزيد من العلم، فلا أبرح تلك الدار؛ فقد حلَّت منِّي موضع قلبي، فصارت تسكن فيَّ.
• هل ولدك يا أمِّي يَملِكُ تلك الدارَ؟
هاتفتُ ولدي في الحال، ونسيتُ لفرحتي أن ألقي عليه السلام، وقلتُ:
• وجدت فتاتك يا ولدي، مَن رضيَتْ أن تحيا معك في ظل كتابٍ!
قال لها:
• يا أمَّاه، ألا تهدئين؟ ابحثي لي إذًا عن زوجةٍ ترضى أن تكون الثانية بعد كتبي، فلستُ أرى امرأةً ترضى، كلُّهن همُّهنَّ الأحمرانِ؛ الحرير والذهب، وولدك بضاعة كاسدةٌ، فلا تحتاري وتُضيِّعي العمر.
فقالت:
• أسمعتَ عن فلانة؟ أخبروني أنها تُناسبك ذات عقل وديانة.
فقال:
• لعلَّها! وإن يكن خيرًا فالله يُمضيه.
وذهبت الأمُّ على أمَل؛ فقد تقدَّم سنها وخافت على وحيدها أن تتركه بغير زوجةٍ، فكانت الزيارة والحكاية.
استمعت الأمُّ للفتاة، وهي تصفُ لها زوج الأحلام وبيت الزوجية، فقالت الفتاةُ بعفويةٍ:
• زوجي لا أحتاجُ فيه شرطًا، يكفيني شرطٌ في الدار.
فقالت الأمُّ:
• حرتُ من العجب، فلم أُجب! ودارت في رأسي الأسئلة؛ لقد قالوا لي: عاقلة ديِّنة؟ لكني تأملتُ العقل فلم أرَه، وهل تطمعُ ديِّنةٌ في دارٍ ولا يعنيها ألصق جارٍ؛ الزوجُ؟ (الصاحبُ بالجنب) كيف رأوها عاقلةً؟ بل زادوا: ديِّنة! يبدو أنَّ آفة الأخبار فعلًا رواتُها، فقلتُ:
• يا بُنية، الدارُ زائلةٌ، ابقي إذًا في دار أبيكِ؛ فإنها جميلةٌ مهيَّأة، أمَّا الزواج فإنَّه أسْرٌ، أتضعين نفسك في أسرٍ من أجل دارٍ؟
قالت:
• أماه، أريد شرطًا في الدار الزوجيَّة، ولا شيء بعدها؛ فإن وافق ولدُكِ فبها ونعمت، وإلا فلا حاجة لي بزواجٍ، فاسمعيني، فإن أخطأتُ فعظيني.
واستمرَّت ترسم حلمها، قالت:
• كلُّهن يبحثن عن دارٍ يسكنَّ بها، يأوين إليها، لكنني أبحثُ عن دارٍ تسكنُني، تُعسكر في قلبي، تأوي تحت ضُلوعي، إن كانت حجرةً فلا ضير، لو زادت أخرى فلا فرق، لكن بالشرط، إن وفَّر ولدُك دارًا تسكنُني كان هو الزوج، لا بأس يدهنها أخضر أو أصفر، أو مزجًا من لونين، أو خلطًا بين الألوان، أو يتركها هملًا بلا لون، لكن لا تنسي الشرط: أن يأتي بدارٍ تسكنُني.
فقلتُ لها:
• أوضحي، لا أفهم.
قالت:
• لي دارٌ تسكنُ في قلبي، لا أرضى بسواها، فيها ركنٌ يحوينا نحفظُ أو نتدبرُ ما نزل من القرآن، واحد يقرأ وآخرُ يسمع، وقد نتبادل، وركنٌ آخر يحملُ مكتبةً ضخمة، لا يظهرُ أثرٌ للجدران، لا تُبقي في رأسي حيرةً، فكلُّ استفهامٍ يمحُوه جوابٌ من بطن كتابٍ بل ألف جوابٍ، سلَّمُها عالي الدرجات، إن غاب صوتُ الزوج أجده أعلى الدرج غارقًا في الورقات، ولا يدري أنِّي أسفله بدرجات، أخط حروفًا تعجبني من صيد الخطرات، وأنقب عن لغزٍ حيَّرني في إعراب الآيات، ويمر الوقت فلا نشعر إلا بأذانٍ يدعونا لصلاةٍ تعبيرًا عمَّا قُرئ من الصَّفحات، لصلاةٍ مُسكبة للعبرات والزفرات، مطلبنا فيها عفوٌ عن زلَّاتٍ، وجبرٌ للكسرات، ثم نعود فنختم تلك الصلوات بما ورَد من الدعوات، فرغنا للتوِّ من الظهر وحان أوان لُقيماتٍ، فاليوم فطورٌ، والغد صيام، وبعد غداءٍ أقام الصلب نخلد للراحات سويعة، ثم تعود الدار كما كانت لحظات تدبرٍ، أو حلقات نقاشٍ تسبر غور الأقوال، ولا بأس بعد العصر من الأضياف يثرون اللحظات، بمقطوف الثمرات، ومكتوب الخطرات، فبهم تَحلو الدنيا وتبقى كالمنقول عن الفاروق: "لولاهم ما أعجبني في الدنيا بقاء"، ثم يأتي المغرب وقت المسجد والحلقات، فأصطف مع الأخوات لسماع الدرس من شيخٍ يشرح في الفقه كتابَ الزاد، وفي السيرة يشرح لابن القيم زاد معادٍ، ويقول لنا: نخرج من زادٍ وندخل في زادٍ آخر؛ فالسفر طويلٌ، والعمر ولو طال قصير، فلنكثر جمعًا للزاد، ثم نعود إلى الدار فيطول الليل، وأنا والزوج منهومان لا يشبعان؛ من أخذ كتابٍ، وترك كتابٍ، حتى يسلمنا التعب إلى نومٍ هانئ حتى السحَر، أتقلَّب في حلمي بين رحاب العلم، وأصحو على أملي أزيد من العلم، فلا أبرح تلك الدار؛ فقد حلَّت منِّي موضع قلبي، فصارت تسكن فيَّ.
• هل ولدك يا أمِّي يَملِكُ تلك الدارَ؟
هاتفتُ ولدي في الحال، ونسيتُ لفرحتي أن ألقي عليه السلام، وقلتُ:
• وجدت فتاتك يا ولدي، مَن رضيَتْ أن تحيا معك في ظل كتابٍ!