الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه الرسالة الصغيرة هي عبارة عن شرح الحديث رقم الأربعين من متن الأربعين النووية للإمام النووي -رحمه الله- حيث قام الحافظ بن رجب الحنبلي بشرح الحديث شرحًا وافيًا في كتابه المسمى (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم) مستشهدًا بالآيات و الأحديث النبوية، مكثرًا من النقول من أقوال الصحابة والسلف و التابعين، فجاء شرحه مليئًا بالمواعظ ومؤثرًا في النفس. وقد رأت دار ابن خزيمة أن تنشر هذه الرسالة؛ ليستفيد منها الناس، و يعم نفعها تحت اسم (الحث على اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات قبل الندم عليها). ندعوا الله أن ينفع بها المسلمين، ويغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، إنه غفور رحيم.
الحث على الاستعداد للآخرة
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: البخاري، صحيح].
هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يُهيء جهازه للرحيل، قال -تعالى-: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}ِ [غافر: 39]، وكان النبي يقول: «مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها» [الراوي: عبدالله بن مسعود، المحدث: الألباني، حسن صحيح].
وكان علي بن أبي طالب يقول: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولاتكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغذًا حساب ولا عمل".
قال بعض الحكماء: "عجب ممن الدنيا مولية عنه، والآخرة مقبلة إليه بالمدبرة، ويعرض عن المقبلة".
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا -رحمكم الله- منها الرحلة بأحسن ما بحضراتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" (الحلية: 5/292).
حال المؤمن في الدنيا
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير المقيم البتة، بل هو ليله و نهاره، يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصى النبي ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين.
فأحدهما: أن ينزل المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب في بلد الغربة، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه. قال الحسن: "المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن".
لما خُلق آدم أُسكن هو وزوجته الجنة، ثم أُهبطها منها، ووُعدا الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبدًا يحن إلى وطنه الأول.
كان عطاء السليمي يقول في دعائه: "اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يديك" (الحلية 6/217).
وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي: "الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادمًا مع الخاسرين".
الحال الثاني: أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من الدنيا، ولهذا أوصى النبي جماعة من أصحابه: أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب، قيل لمحمد بن واسع: "كيف أصبحت؟" قال: "ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة؟".
الحث على اغتنام أوقات العمر
وقال الحسن: "إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك".
وقال: "ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك، يوضعك النهار إلى الليل، و الليل إلى النهار، وحتى يسلمانك إلى الآخرة".
قال داوود الطائي: "إنما الليل و النهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادًا لما بين يديها، فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك".
وكتب بعض السلف إلى أخ له: "يا أخي يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تساق مع ذلك سوقًا حثيثًا، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكار عليك".
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر *** ولا بد من زاد لكل مسافر
ولا بد للإنسان من حمل عدة *** ولا سيما إن خاف صولة قاهر
قال بعض الحكماء: "كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟".
و قال الفضيل بن عياض لرجل: "كم أتت عليك؟" قال: "ستون سنة"، قال: "فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ"، فقال الرجل: "فما الحيلة؟" قال: "يسيرة"، قال: "ما هي؟" قال: "تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقى، أخذت بما مضى وبما بقي".
قال بعض الحكماء: "من كانت الليالي و الأيام مطياه، سارت به وإن لم يسر"، وفي هذا قال بعضهم:
وما هذه الأيام إلا مراحل *** يحث بها داع إلى الموت قاصد
وأعجب شيء -لو تأملت- أنها *** منازل تطوى والمسافر قاعد
قال الحسن: "لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار، وتقريب الآجال".
وكتب الأوزاعي إلى أخ له: "أما بعد، فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسير بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام".
نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر مثل الموت حقًا كأنه *** إذا ما تخطه الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا *** فكيف به والشيب للرأس شامل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمرك أيام وهن قلائل
ذم طول الأمل والحث على تقصيره
وأما وصية ابن عمر -رضي الله عنهما-، فهي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه، وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل، وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح، وإذا أصبح لم ينتظر المساء، بل يظن أن أجله يدركه قبل ذلك، قال المروذي: "قلت لأبي عبد الله -يعني أحمد- أي شيء الزهد بالدنيا؟" قال: "قصر الأمل، من إذا أصبح، قال: لا أمسي".
وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: "أستودعكم الله، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها"، فكان هذا دأبه إذا أراد النوم، وقال بكر المزني: "إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب، فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة".
وقال عون بن عبد الله: "ما أنزل الموت كنه منزلته من عدّ غدًا من أجله"، وقال بكر المزني: "إذا أردت أن تنفعك صلاتك فقل: لعلي لا أصلي غيرها"، وهذا مأخوذ مما روي عن النبي أنه قال: «صل صلاة مودع» [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: الألباني، صحيح]، ومما أنشد بعض السلف:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً *** فإنما الربح والخسران بالعمل
الحث على استغلال أيام العمر في الأعمال الصالحة
قوله: "وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك"، يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك و بينها السقم، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت. وقد روي معني هذه الوصية عن النبي : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» [الراوي: عبدالله بن عباس، المحدث: البخاري، صحيح]، وعن ابن عباس أن رسول الله قال لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هِرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» [الراوي: عبدالله بن عباس، المحدث: الألباني، صحيح]
و عن أبي هريرة عن النبي: «بادروا بالأعمال ستًا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة» [الراوي: أبو هريرة، المحدث: مسلم، صحيح].
وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال -تعالى-: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي، قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس، آمنوا أجمعون، فذلك حين {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}» [الراوي: أبو هريرة، المحدث: البخاري، صحيح].
وعنه قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» [الراوي: أبو هريرة، المحدث: مسلم، صحيح]
فالواجب على المؤمنين المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها ويحال بينه وبينها، إما بمرض أو موت، أو بأن يدركه بعض هذه الآيات التي لا يقبل معها عمل.
قال أبو حازم: "إن بضاعة الآخرة كاسدة و يوشك أن تنفق، فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير. ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليها، يتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعه الأمنية".
قال -تعالى-: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)} [الزمر: 54-58]، وقال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون: 99-100].
اغتنم في الفراغ فضل ركوع *** فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير سقم *** ذهبت نفسه الصحيحة فلتة
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.