الحمد لله جامع النَّاس ليومٍ لا ريبَ فيه إنَّ الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدةٍ إنَّ الله سميعٌ بصيرٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو اللطيف الخبير وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله البشير النَّذير والسِّراج المنير المبعوث بأسس الحقِّ وأصول الإيمان والخضوع للملك الدَّيان صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتَّابعين لهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا.
أمَّا بعد أيُّها النَّاس: اتَّقوا ربَّكم واعلموا أنَّه ما خلقكم عبثًا ولن يترككم سدًى وإنَّما خلقكم لتعبدوه وتقدموا بدينه وتطيعوه وتقدموا لليوم الآخر فلا بد أن تلاقوه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَ*بَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّ*نَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّ*نَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُ*ورُ*} [لقمان: 33].
في ذلك اليوم تندَّك الأرض وتسير الجبال وفي ذلك اليوم تشتَّد الأمور وتعظم الأهوال، وفي ذلك اليوم ينزل للقضاء بين عباده الحكم العدل المتعال، في ذلك اليوم تحشرون حافيةً أقدامكم عاريةً أجسامكم شاخصةً أبصاركم واجفةً قلوبكم في ذلك اليوم يجمع الله الأولين والآخرين من الإنس والجنِّ والدَّوابِّ في صعيدٍ واحدٍ يسمعهم الدَّاعي وينفذهم البصر في ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكلِّ امرئ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه، في ذلك اليوم يقبض الله الأرض بيده ويطوي السَّماوات بيمينه ثمّض يقول أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وفي ذلك اليوم تدنو الشَّمس من رؤوس الخلائق حتَّى تكون قدر ميل، فيعرق النَّاس على قدر أعمالهم فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا فعند ذلك يبلغهم من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول النَّاس ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربِّكم، فيذهبون إلى آدم فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوحٍ، فيأتون فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيمَ، فيأتون إبراهيم فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيذهبون إلى موسى فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى، فيذهبون إلى عيسى فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فيأتون نبيَّ الله محمَّدًا -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيشفع في النَّاس؛ ليقضي بينهم وهذا من المقام المحمود الَّذي وعده الله نبيَّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- في قوله: {عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَ*بُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وفي هذا اليوم يحاسب الله الخلائق على أعمالهم فأوَّل ما يحاسب عليه العبد صلاته فإن كانت صالحةً أفلح ونجح، وإن كانت فاسدةً خاب وخسر. ويقضي بين الخلائق فتردُّ المظالم إلى أهلها من حسنات الظَّالم فإن لم يبقَ شيءٌ من حسناته أخذ من سيِّئات المظلوم فطرحت عليه ثمَّ طرح في النَّار في ذلك اليوم ينصب الميزان فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون قال -تعالى-: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُ*وا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿103﴾ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ* وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 103-104]. في ذلك اليوم تنشر الدَّواوين وهي صحائف الأعمال فيأخذ المؤمنون كتابهم بأيمانهم مستبشرين مغتبطين ويأخذ الكافرون كتابهم بشمائلهم أو خلف ظهورهم حزانى خاسرين ويوضع الصِّراط على متن جهنَّم فيمرُّ النَّاس عليه على قدر أعمالهم فمنهم من يمرُّ كالبرق ومنهم من يمرُّ كالرِّيح ومنهم من يمرُّ كالطير وكأشدِّ الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم -صلَّى الله عليه وسلَّم- قائمٌ على الصِّراط يقول: «ربِّ سلِّم سلِّم» [متفقٌ عليه] حتَّى تعجز أعمال العباد حتَّى يجيء الرَّجل فلا يستطيع المشي إلا زحفًا.
وفي يوم القيامة الحوض المورود للنَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- طوله شهر وعرضه شهر عليه ميزابان أحدهما ذهب والآخر فضة يصبَّان فيه من الكوثر وهو النَّهر الَّذي أعطيه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الجنَّة وماؤها أشدُّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من المسك وأبرد من الثَّلج آنيته كنجوم السَّماء في كثرتها وحسنها من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبدًا، فيرد عليه المؤمنون من أمَّته -صلَّى الله عليه وسلَّم- غرًّا محجلين من آثار الوضوء ورسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قائمٌ عليه ينظر من يرد عليه من أمَّته فيقتطع أناسٌ دونه فيقول: «يا رب مني ومن أمَّتي»، فيقال: «هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم» [متفقٌ عليه]. قال -تعالى-: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَ*بُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.
بعض الأمور الَّتي تقع يوم القيامة
أيُّها النَّاس: اتَّقوا الله -تعالى- واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثمَّ توفَّى كلُّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون، يوم يفرُّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكلِّ امرئ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه، يحشر النَّاس ذاهلةً عقولهم شاخصةً أبصارهم عاريةً أجسامهم حافيهً أقدامهم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ، يوم يحشر النَّاس على ثلاثة أصناف صنف مشاة وصنف ركبان وصنف يمشون على وجوههم، يوم يتكون السَّماء كالمهل، وتكون الجبال كالعهن وهو الصُّوف المنفوش، يوم تدنو الشَّمس من رؤوس الخلائق قدر ميل فيعرقون على قدر أعمالهم فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا، ليس هناك ليلٌ ولا نهارٌ ولا قمرٌ ولا شمسٌ وقد كورت الشَّمس، وانكدرت النُّجوم، وخشعت الأصوات للرَّحمن فلا تسمع إلا همسًا، وعنت الوجوه للحيِّ القيوم وقد خاب من حمل ظلمًا، ويومئذٍ تنصب الموازين لوزن الأعمال يوم يؤتى بالرَّجل له صلاةٌ وصيامٌ وزكاةٌ قد ضرب هذا وأخذ مال هذا وشتم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته حتَّى تفنى فإن بقي لهم حقٌّ أخذ من سيِّئاتهم فطرح عليه ثمَّ طرح في النَّار، فلتؤدين الحقوق إلى أهلها حتَّى يقتص للشَّاة الجلحاء من الشَّاة القرناء، ويومئذٍ تتطاير صحائف الأعمال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَ*ءُوا كِتَابِيَهْ ﴿19﴾ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴿20﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّ*اضِيَةٍ ﴿21﴾ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴿22﴾ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴿23﴾ كُلُوا وَاشْرَ*بُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴿24﴾ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴿25﴾ وَلَمْ أَدْرِ* مَا حِسَابِيَهْ ﴿26﴾ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة: 19-27].
أي ظنَّ أنَّه لا يبعث.
هناك تبيضُّ وجوهُ المؤمنين وتسودُّ وجوهُ الكفار المعتدين، هناك تحدث الأرض أخبارها أتدرون ما أخبارها؟ إنَّها تشهد على كلِّ إنسانٍ بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا. إخواني كلنا ولله الحمد يؤمن بيوم الحساب وما عندنا فيه من شكٍّ ولا ارتياب غير أنَّنا في غفلةٍ ساهون، وعن الاستعداد له معرضون، وفي دنيانا الدنيئة ولذائذنا منغمسون ولاهون، إنَّنا لنعمل لها كأنَّنا نعمِّر فيها، وإنَّنا لنفرط بأعمال وأوقات لا يمكننا تلافيها، فاتَّقوا الله أيُّها المسلمون وابتدروا الأعمال الصَّالحة ففي ذلك فليتنافس المتنافسون فما بعد الشَّباب إن قدر للإنسان البقاء إلا الهرم، وحينذاك يقرب الموت ويستولى الهمُّ والحزن، وجعل أمالنا مقرونةٌ بالتَّسديد والإخلاص وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يوم الأخذ بالنَّواصي إنَّه سميع مجيبٌ رحيمٌ قريبٌ.
وصلَّى اللهمَّ على محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
لفضيلة الشَّيخ
محمَّد بن صالح العثيمين -رحمه الله-
بتصرفٍ