نص السؤال
سئل : ما معنى التفرقة العنصرية وما موقف الإسلام منها ؟
نص الجواب
أجاب : الإجابة على السؤال تتناول عدة نقاط منها :
1 ـ مفهوم التفرقة العنصرية :
يقصد بالتفرقة العنصرية فى العرف الحديث التمييز بين الأجناس فى القوانين والمعاملات ، على أساس الدم وا المتعلقة بتكوين الجسم البشرى . وما يتبع ذلك من الحياة الفكرية ومظاهر السلوك والاجتماع . لقد صنَّف ال العلوم الإنسانية الأجناس البشرية إلى جماعات تجمع بين كل منها خصائص ومميزات طبيعية متوارثة فى مجموعها مجال للاختلاف البسيط بين أفرادها ، ومن أبرز هذه الخصائص لون البشرة وشكل الجمجمة ، وملامح الوجه وطول القامة ، وقالوا : إن هذه الطبيعية يتبعها اختلاف فى المواهب العقلية والقوى النفسية وما إليها ورأى بعض هؤلاء أن تقسيم البشر إلى أجناس يرجع إلى الدم نفسه على خلاف فيما بينهم على مقدار نسبة ما يوجد من دم الآباء والأجداد فى الإنسان حتى ينسب إلى هذا الجنس ، وعلى أساس هذا التقسيم العنصري قرر الباحثون أن هناك امتيازا لبعض الأ بعضهم الآخر ، يحق للأجناس العالية أن تكون لها قوانين وأن تعامل معاملة خاصة ، بخلاف الأجناس الأخرى التى لا ينبغى أن تدخل معها فى هذه القوانين وتلك المعاملات .
هذا هو مفهوم التفرقة العنصرية فى العرف الحديث ، والهدف منه ، و سيأتى بيان بطلان الأساس الذى قسموا عل وزيف ما يهدفون إليه من أغراض .
2 ـ التفرقة فى النظم القديمة :
إن فكرة التمييز بوجه عام بين بنى الإنسان فكرة قديمة ، ضرورة اختلاف الناس بعضهم عن بعض فى القوة الجسم العقلية والمظاهر المادية ، والتى كان من أثرها استعلاء بعضهم على بعض ، واستغلال القوى منهم للضعيف وتح الفقير ، وسيطرة العالم على الجاهل ، والتى كان من أكبر مظاهرها الرق .
( أ ) ففى الهند مثلا كانت كتبهم المقدسة تقرر التفاضل بين الناس بحسب عناصرهم التى خلقوا منها فى زعمهم " خلق فصيلة البرهميين من فمه ، وهم أشرف المخلوقات ولهم أرقى المناصب الدينية ، وخلق فصيلة الكشتريين أ ذراعه ، وهم الذين يتولون الوظائف الحربية ، وخلق فصيلة الفيشائيين أو الفاشا من فخذه ، وهم الذين يقومو ، وخلق فصيلة السود رائيين والمنبوذين من قدمه ، وهؤلاء لهم وظيفة واحدة هى خدمة الطبقات السابقة .
( ب ) وكان اليونان يعتقدون أنهم شعب مختار ، خلقوا من عناصر تختلف عن العناصر التى خلقت منها الشعوب الأخرى ، التى كانوا يطلقون عليها اسم " البربر "وقد قرر أرسطو فى كتابه "السياسة " أن الآلهة خلقت فصيلتين من الأناسى ، فصيلة زودتها بالعقل والإرادة ، وهى اليونان ، وقد فطرتها على هذا التكوين الكامل لتكون خليفتها فى الأرض ، وسيدة على سائر الخلق ، وفصيلة لم تزودها إلا بقوة الجسم وما يتصل اتصالا مباشرا به ، وهم البرابرة أى ما عدا اليونان من بنى آدم ، وقد فطروا على هذا التقويم الناقص ليكونوا عبيدا مسخرين للفصيلة المختارة المصطفاة وكانوا يقرون الرق الذى يقول فيه أرسطو: إن الرقيق آلة ذو روح ، أو متاع تقوم به الحياة ، فهم لا يدخلونه فى عداد المخلوقات الإنسانية .
( ج ) وكان الرومان يعتقدون كما يعتقد اليونان أنهم سادة العالم ، وان غيرهم بر ابره خدم لهم ، وكانت قوانينهم تقر الرق ، وتعامل الرقيق على أنه متاع ، مدعين أن استعباده رحمة به من القتل الذى تتعرض له الحيوانات ، وإلى جانب الاسترقاق بالحروب كانوا يسترقون الفقير إذا عجز عن أداء الدين ، ولم تكن للرقيق حقوق قانونية ولا مدنية ، و لا يستطيع أن يقاضى سيده أو معاملته ، بل كان لسيده الحق فى قتله دون مجازاة ، ولم يخفف من حدة هذه المعاملة الدين المسيحى الذى اعت .
( د ) والعرب فى الجاهلية كانوا يعيشون على التفاخر بالأحساب والأنساب ، ويعتقدون أنهم أفضل من غيرهم ا يطلقون عليهم اسم العجم ، ولعل ذلك كان أساسه اعتزاز العربى بلغته الفصيحة التى لا يوجد لها مثيل فى العالم .
وكانوا بناء على ذلك يكرهون أن يتلوث دمهم العربى النقى بدم غيرهم عن طريق الزواج ، ويأنفون أن يزوجوا ب قبائلهم ، كباهلة ، وسلول ـ إلى أعجمى حتى لو كان كسرى نفسه ، وقد خطب كسرى أبرويز بنت النعمان بن المنذ النعمان مصاهرته ، مع أنه كان أحد ولاته ، وكانت حرب طاحنة بين الفرس والعرب ، تكتلت فيها قبائلهم ، من حرقة بنت النعمان أن يأخذها كسرى ، وانتهت المعركة بانتصار العرب فى موقعة ( ذى قار ) . وكان العرب يستخ فى الأعمال المنزلية وفى التجارة ، بل كان يمارس معهم الحرب أحيانا ، وإذا أعجبوا به أعتقوه وجعلوه أحد 3 ـ التفرقة عند اليهود و المسيحيين :
( أ ) لقد ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار ، وأن الإله الذى يعبدونه لا ينبغى أن يكون معبودا لغيرهم كانوا يطلقون عليهم أمبين ، قال تعالى : {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } ، فكان رد ال من خلقه لا يفضل أحد على أحد إلا بالعمل فقال تعالى :{قل فلمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر ويعذب من يشاء } [المائدة : 18 ] وكانوا يعتقدون أن غيرهم من الأميبن ليست لهم حقوق كحقوقهم ، كما حكى ا بقوله : {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك بلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى ال الكذب وهم يعلمون }[آل عمران : 75] .
وكانوا يبيحون استرقاق من عداهم عند العجز عن الوفاء بالدين ، وما يزال شعور التعالى والتعصب العنصرى موجودًا لديهم حتى الآن ، و كانت قمته هى الصهيونية بمظاهرها و أساليبها المعروفة التى تتنافى مع الكرامة الإنسانية .
( ب ) والمسيحية أقرت الرق كما أقرته اليهودية ، وقد جاء فى المعجم الكبير للقرن التاسع عشر (( لاروس ) الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم ، فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته ، ويسلمو فيه : الخلاصة أن الدين المسيحى ارتضى الاسترقاق تماما إلى يومنا هذا ، ويتعذر عك الإنسان أن يثبت ـ أنه كما أثبت ذلك أيضا ( قاموس الكتاب المقدس ) للدكتور جورج يوسف .
وظل الرق معترفا به بين المسيحيين ، وكثر كثرة فاحشة بعد اكتشاف أمريكا وجلب الرقيق من أفريقيا للعمل ب الاتجار على أشده بين الدول الاستعمارية ، يمارسه ملوكها وكبار رجالها ، مع قسوة بالغة العنف ، برروها ب المقدسة ، وصدرت قوانين تنص على احتقار الجنس الأسود وإهدار كرامته ، وكان مفكر وهم ينادون بذلك ، كما ج ( روح القوالين ) حيث قال مؤلفه ( مونتيسكيو ) الفرنسى فى الفصل الخامس منه : إن شعوب أوروبا بعد ما أبا أمريكا الأصليين ، وهم الهنود الحمر ،لم تر بُدًّا من استعمار شعوب أفريقيا ، لكى تستخدمها فى استغلال فإن هذه الشعوب سود البشرة من أقدامهم إلى رءوسهم ولا يمكن أن يتصور أحد أن الله ـ وهو ذو الحكمة البا خلق روحا ـ وعلى الأخص روحا طيبة ـ فى أجسام حالكة السواد .
و على الرغم من إبطاله قانونا فإن الدول المسيحية ما زالت تمارسه بلون آخر هو الاستعمار والتفرقة العنصرية على ما سيأتى بيانه .
4 ـ العلم و التفرقة العنصرية :
إن تقسيم البشر إلى أجناس على أساس الدم أو التكوين الطبيعى للجسم قد قرر العلماء المنصفون أخيرا أنه تقسيم باطل ، فإن مظاهر التقدم والرقى الموجودة عند بعض الجماعات لا يرجع سببها إلى ذلك ، وإنما يرجع إلى عوامل من البيئة الطبيعية والظروف السياسية والأوضاع الاقتصادية والأجواء الثقافية ، وقرروا أنه لو وضع شخصان من جنسين مختلفين فى بيئة حضارية وثقافية واجتماعية ، واحدة ما كان هناك فرق يذكر بينهما فى الفكر والسلوك ، وكم تقدم أفراد من أناس ملونة على أفراد من البيض فى الجامعات وفى النشاط الاجتماعي العام ، وذلك عندما تهيأت لهم الظروف ا من الناس ، ومن هنا لا تكون وراثة الخصائص البيولوجية مانعة من التقدم والحضارة عندما تتوافر الظروف للت كان هناك تخلف حضاري عند سلالة من السلالات فمرده إلى العوامل الطبيعية والاقتصادية والثقافية والسياسي وقد بحث العلماء بنوع خاص فى عنصرية اليهود ، فأكدوا أن الموجودين منهم الآن ، وهم حوالى خمسة عشر مليون كله، ليسوا من عنصر واحد بحكم اختلاطهم بالأجناس الأخرى طوعا أو كرها ، وقد تحدث البحاثة " بيتار " عن ذ أن الإسرائيليين يكونون جماعات دينية واجتماعية قوية النفوذ وثيقة التضامن ، غير أنها متباينة العناصر إ الإسرائيليين الخلص الذين هم من أصل آشورى برأسه المستطيل عددهم محدود جدا ، كما قرر ذلك أيضا " هاتزجو كتابه " أصول الأجناس فى التاريخ الأوروبى " وأكده أيضا " كوماس " أستاذ التاريخ الطبيعى للأجناس البشري الوطنية بمكسيكو "انظر رسالة الدكتور العمرى فى التفرقة العنصرية ، ومجلة العربى أكتوبر1970 " .
5 ـ الاهتمام بالأبحاث العنصرية :
إن الاهتمام بالبحث فى الأجناس وخصائصها ومميزاتها لم يأخذ شكلا واضحا إلا فى العصور المتأخرة ، حين غلب الأمم القوية نزعة الاستعمار والاستغلال للأمم الضعيفة المتخلفة ، أرادت به الدعاية لجنس معيَّن ، أو لف طريقها التحكم فى الأجناس الأخرى ، وكثيرا ما لجأت هذه الأفكار إلى الدين تستمد منه تأييدا لها ، كالصهي شعب الله المختار . ولقد ظهرت هذه النغمة بالذات فى أوروبا فى العصر الحديث فبعد أن كانت دولها لا تفرق وغير مسيحى ، وبعد أن كان يفاخر بعضها البعض الآخر بالأخلاق والآثار أصبحت تتحدث عن الأجناس وخصائصها ، بين جنس وآخر تبعا لهذه الخصائص ، كما يقول المؤرخ " توينبى " ويرجع ظهور هذه النغمة فى أوروبا إلى أسباب منها :
( أ ) النزعة الاستعمارية التى تبرر نقاء الجنس الأبيض الأوروبى وزعامته لبقية الأجناس ، ووصايته عليها ، كما مرت موجة الاستعمار الأوربى للشعوب الأخرى .
( ب ) النزعة القومة المعتدة بجنسها ، والداعية إلى وحدة شعوبها التى تنتمى إلى جنس واحد . وفى ظل هذه النزعة أيضا سمعنا تمسك الشعب الألمانى بفكرة نقاء أصله وسلالته الآرية ، وبخاصة بعد قيام الاتحاد الألمانى فى أعقاب الحرب السبعينية بين بروسيا وفرنسا ، وجاءت نداءات : ألمانيا فوق الجميع ، وقول غليون الثانى :
إنه منتدب من الله لنصرة الألمان على سائر شعوب أوروبا ، وكذلك رأينا فى الشرق الجنس الأصفر اليابانى يعتز بنفسه أيضا وينادى :
آسيا للآسيويين ، ورأينا الإنجليز أيضا ينادون بفكرة سيادة الإنجلوسكسون وتعاليهم على سكان أوروبا ما عد ( ج ) الانقلاب الصناعى والحاجة إلى الأيدى العاملة فى المصانع و سوق الآلاف من العمال لخدمة الرأسماليي الأجناس الأخرى والأمم المختلفة ، وإعيائهم أجورا قليلة دون اعتراف لهم بحقوق تحفظ كرامتهم .
( د ) اكتشاف أمريكا والحاجة إلى استغلال خيراتها ، الأمر الذى خلق تجارة الرقيق وجلبهم من أفريقيا للعم مصانعها .
6 ـ اثار النزعة العنصرية :
لقد سخر المستعمرون والمستغلون علماء هم لتبرير نقاء الجنس الأبيض وإثبات خصائص للألوان و الأجناس ، فزع : هى : البيض والسود والصفر والحمر ، وأعلاها جميعا الجنس الأبيض ، وقد علمت أن العلماء المنصفين أثبتو الأجناس لم يعد لها وجود متميز الآن ، فقد تداخلت وتلاقت بعوامل مختلفة ، وانتقلت خصائص بعضها إلى البعض ولم يبق من الأجناس الصافية إلا قلة ضئيلة من الهنود الحمر ، وفى وسط أفريقيا وحوض الأمازون وبعض جزر ال أرض النار فى جنوبى قارتى العالم الجديد .
لقد قال المستعمرون : إن السود والهنود الحمر ليسوا من نسل آدم ، فروحهم مشتقة من أصل أقل من الإنسان ، وفى معمعة التطور الصناعى ومعاملة الطبقات العاملة نشأت نظرية " داروين " فى تطور النوع وبقاء الأصلح ، وسادت نظرية "مندل " فى الوراثة وظهرت مؤلفات كثيرة تبحث عن فكرة عدم المساواة بين الأجناس البشرية وعن سيادة الجنس الآرى ، وتكونت مدرسة لها نظرياتها تزعمها الكونت "جوبينو" الفرنسى وكذلك "فاجنر" الموسيقى الألمانى ، ومثله ( ستيوارت شامبرلين ) الإنجليزي ، وأيضا ( لوتروب ستودارد) الأمريكي ، وهؤلاء قالوا : إن الجنس الأبيض هو وحده منشى الحضارة ، وهو الجنس الآرى المنحدر من شمالي ال كما ظهرت نغمات : الشرق شرق ، والغرب غربب ، ولن يلتقيا .
مع هذا التزييف للحقائق العلمية والتحيز الظاهر فى الأحكام على الأجناس البشرية الذى كان أثرا من آثار ا ـ كانت هناك اثار واضحة تطبيقية لهذه النزعة ، من أهمها :
( أ ) استعمار البيض للملونين ، وكسبهم مزايا سياسية واقتصادية انتعشت بها أوروبا ، وفكت بها أزمتها ، وكثرت تبعا لذلك رءوس الأموال الأجنبية فى البلاد المستعمرة ، واستنزفت ثرواتها ، كما كان من لوازم الاستعمار تخصيص محاكم ومصحات ونواد وغير ذلك للسادة المستعمرين لا يتمتع بها الملونون .
( ب ) احتقار البيض لغيرهم ، واستخدامهم المزرى لهم ، كما كان يحدث فى الهند ، فقد كان الإنجليزي يركب على ظهر الهندي ليستطيع أن يمتطى جواده ، وفى الصين عندما كان ي على جر العربة بالسائحين كالدابة سواء بسواء ، وقد كتبت لافتات على بعض الحدائق العامة فى شنغهاى مدينة الأجنبية عبارة ( محظور على الوطنيين والكلاب دخول هذا المكان ) .
( ج ) العزل الاجتماعي والسياسي لأهل البلاد ، وعدم تمكينهم من ممارسة نشاطهم فى هذه المجالات ، كما يظه جنوبى أفريقيا وروديسيا .
( د ) إبقاء الوطنيين على التأخر والجهل والانحطاط ، وذلك ليمكن للأجنبي التسلط عليهم ، فإن من المقرر ع تقدم الأهالى يخلق فرصة للمطالبة بالحرية والاستقلال ولا شك أن ذلك كله يهدد الأمن الداخلى للبلاد التى العنصرية ، ويزعرغ أركان السلام العالمى ويثير الفتن والحروب بين الدول .
7 ـ أمثلة من مظاهر العنصرية الحديثة :
على الرغم من إصدار القرارات ضد التفرقة العنصرية فى المؤتمرات الدولية المتعاقبة منذ مطلع القرن التاسع اتفاق عصبة الأمم سنة 1926 م ، الذى وقعه ثمان وثلاثون دولة ، وعلى الرغم من الإعلان العالمى لحقوق الإن الأمم المتحدة فى العاشر من ديسمبر سنة 1948 م فإن التفرقة العنصرية ما زالت تمارس فى بعض الدول الحديثة مظاهرها ما يوجد فى أمريكا و جنوبى أفريقيا .
( أ ) ففى أمريكا الآن حوالى عشرين مليونا من الملونين ، يقطن أكثرهم فى الولايات الجنوبية ، وقد قامت ح الشمال والجنوب من سنة 1860 إلى سنة1865 م بزعامة ( لنكولن ) صاحب فكرة تحرير العبيد ، وقد قتل بيد عنص اسمه ( بوث )فى14من أبريل سنة 1865 م كان الجنوب مصرا على الإبقاء على التفرقة العنصرية لضمان استخدام ا مزارعه ، وكان الشمال يصر على تحريره ليتمكن من الهجرة إلى الشمال ويعمل فى مصانعه ، ومن هنا يعرف أن ال هذه الحرب كان اقتصاديا استغلاليا وليس ثورة على الكرامة الإنسانية .
وإذا كانت الحرب قد انتهت بتقرير المساواة فإن التفرقة ما زالت تمارس عمليا ومنصوصا عليها فى قوانين بع دستور ولاية (مسيسبى ) فى الفصل الثامن فى التربية والتعليم ( مادة 207 ) :
يراعى فى هذا الحقل أن يفصل بين أطفال الزنوج ، فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة .
وفى الفصل الرابع عشر ( أحكام عامة ) مادة 263 : أن زواج شخص أبيض من شخص زنجى يعد غير شرعي وباطلا ، بل جاء فى قانون هذه الولاية : أن الذى يطالب بالمساواة الاجتماعية والتزاوج بين البيض والسود ، بالطبع أو النشر أو أية وسيلة ، يعتبر عمله جرما يعاقب عليه القانون .
وهذه التشريعات تطبق فى عدة ولايات أمريكية ، كما جاء فى تقرير قدم إلى الأمم المتحدة سنة 1947 ، تحت عن إلى العالم ) .
على أن الكنيسة نفسها شاركت فى إقرار هذا الظلم ، فإن للزنوج كنائس خاصة ، ولا يصح لهم أن يعبدوا ربهم فى كنائس البيض مع أن الذى خلقهم جميعا واحد وهو الله سبحانه .
وقد جاء فى كتاب ( مصرع الديموقراطية فى العالم الجديد) الذى نشرته دار العلم للملايين فى بيروت كثير من تدل على تمكن النزعة العنصرية من نفوس الأمريكيين .
وقد تأسست فى الجنوب جمعية ( كلوكلوكس كلان ) لإرهاب الملونين ، وانتشرت فى جميع أنحاء الولايات المتحدة قائمة على أنقاض جميعة لإرهاب الكاثوليك ومنع هجرتهم .
وما زالت حوادث التفرقة فى أمريكا دليلا على أن هذا العالم الذى يدعى حماية الحريات يعيش على النفاق والخداع ، بعيدا عن مقررات الأمم المتحدة وعن قواعد الأخلاق والإنسانية .
( ب ) وفى جنوبى أفريقيا تفرقة عنصرية صارخة ، فقد احتل الهولنديون المسمون ( البوير ) أى الفلاحين ، هذ وأسسوا مدينة رأس الرجاء الصالح سنة 1752 م ، ثم احتلها الإنجليز سنة 1806 م ، وطاردت البوير إلى ناتال والترنسفال ، وكان البوير قد جلبوا عمالا من الملايو والهند للزراعة ، ولا يعترفون لهم بحقوق كحقوقهم ، على هذه البلاد مكن رجالهم لاستعمارها حتى تكون اتحاد جنوبى أفريقيا سنة 1910 م بعد حروب طويلة كان من أ ( سيسل رودس ) الذى حاول خلق حياة أفضل للبيض على حساب الأفريقيين . فكانت التفرقة العنصرية التى لم تحا تعمل شيئا للحد منها .
لقد كان فى جنوبى أفريقيا حسب إحصاء سنة 1952 نحو 5 , 14 مليونا ، منهم 0 1 أفريقيون ، 3 أوربيون ، وملي الملونين ، ونصف مليون من الآسيويين . ومع ذلك يتحكم الأوربيون فى بقية السكان ، مطبقين للتفرقة العنصرية بأشد مظاهرها ، تلك المظاهر التى تبدو فى : تقييد حرية التعاقد على العمل للملونين ، وعدم زيارتهم للمدن إلا لمدة اثنتين وسبعين ساعة ، ووجوب الحصول على إذن فيما زاد على ذلك ، وتحديد عدد المقيمين منهم فى المدن ، ومنع دخول كنائس البيض ، وعدم علاجهم فى المصحات إلا عند الضرورة القصوى ، ومنع عقد اجتماع ع ، وتحريم امتلاكهم لعقارات البيض ، ومنع التزاوج بين الأوربيين وبينهم ، وتحديد عدد تلاميذ المدارس من ا من الحقوق السياسية .
وقد أثيرت مشكلة هذه التفرقة فى هيئة الأمم سنة 1947 م غير أن إنجلترا وأمريكا ضغطتا على الأعضاء فلم يفز القرار بالأغلبية المطلوبة ، وقامت عدة ثورات تطالب بمنع هذه ،ولكنها لم تجد أذنا مصغية .
وفى أول أبريل سنة 1960 اصدر مجلس الأمن قرارا بدعوة جنوبى أفريقيا لنبذ سياسة التفرقة العنصرية كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحده فى 11 من أكتوبر سنة 961 1 قرارا بلومها ومع ذلك لم تستجب الحكومة لهذا كله وقد دعا إلى إصدار هذه القرارات توالى حوادث العنف وكان من أهمها حادث ( شارب فيل ) فى 21 من مارس 1960 عندما احتج الأفريقيون على نظام تصريحات المرور فأطلق البوليس النار عليهم وقتل منهم عددا كبيرا .
8 ـ الإسلام والتفرقة العنصرية :
لقد تحدثت لك طويلا عن هذه المشكلة بمفهومها ومظاهرها آثارها وتاريخها، لتكون على بينة من الأمر حين تحك نصوص دينك ، ولتعرف بوضوح أن الإسلام دين حق جاء بأرقي التشريعات لأرقى الأمم ولأرقى العصور ، ومن المعر صدق النتائج مرهون بصدق المقدمات ، وأن الحكم الصحيح يلزمه التصور الواضح للمحكوم عليه ، ولعلمى بأن الع يملك رصيدا ضخما من النصوص الدينية بخصوص هذه المشكلة . أحببت أن أعطيه بعض الرصيد من المعرفة العامة نح فلخصت له كثيرا من الأبحاث والكتب حول هذه القضية ، ولعل ما قدمته يكون فيه غناء له يوفر عليه جهدا كبير ولهذا سيكون حديثى عن موقف الإسلام من هذه القضية يميل إلى الاختصار والتركيز ، معتمدا على أن مراجع الب كثيرة ، والاطلاع عليها ميسر لكثير من المهتمين بهذا الموضوع ، وحديثي سيكون فى نقطتين هامتين ، إحداهما قام عليها موقف الإسلام من رفضه للتفرقة العنصرية ، وثانيتهما إيراد بعض المظاهر التطبيقية لهذه النظرة الإسلام إلى البشر على اختلاف مستوياتهم .
فلسفة الإسلام فى رفضه للتفرقة العنصرية :
( أ ) قرر الإسلام أن الناس جميعا مخلوقون من أصل واحد هو التراب ، قال تعالى : {والله أنبتكم من الأرض نباتا . ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا }[نوح : 17 ، 18 ] وقال { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى }[طه : 55]وجعل حياتنا كلها ، ونشاطنا فى جميع المجالات مرتبطا بالأصل الذى خلقنا منه ، وهو الأرض ووثق صلتنا بكل ما يعيش عليها من حيوان ونبات ، فهى أمنا جميعا ، ونحن لها أبناء ، لم يخلق واحد منا من غير تربتها، ولم يعش واحد منا على غير خيرها ، ولم يدفن واحد منا فى غير بطنها .
( ب ) قرر الإسلام أيضا أننا مولودون من أب واحد هو آدم ، فنسبنا جميعا واحد ، ونحن إخوة فى هذه الأسرة الإنسانية الواسعة ، وإذا كان لبعض أفرادها نوع امتياز بلون أو شكل أو نشاط فذلك لا يغض من قيمته فى أنه يشكل ركنا أساسيا فى تالف هذه المجموعة وتضامنها فى عمارة الكون وتحقيق الخلافة فى الأرض ، كما يعبر بعض الكاتبين عن ذلك بقوله : الإنسانية كلها حديقة كبيرة تختلف ألوان أزهارها وما يفوح منها من عطر دون أن يكون للون أو رائحة انفصال عن الآخر فى إبراز بهجة هذه الحديقة ، قال تعالى { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام }[النساء : 1] وقال النبى صلى الله عليه و سلم " إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقى ، وف بنو آدم ، وآدم خلق من تراب " رواه أبو داود و الترمذى وحسنه .
( ج ) قرر الإسلام أن الناس جميعا مخلوقون لخالق واحد هو الله سبحانه ، فمبدؤهم منه خلقا ، ونهايتهم إليه بعثا وحسابا { فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون }[يس : 83]{ الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء}[الروم : 40] ، فهو وحده المحيى والرازق والمميت والمعيد للنشور ، وكانا مدينون له بهذا كله وليس له شريك فيه ، سواء أقر بذلك المؤمنون أم جحد الملحدون ، ومن هنا لا يكون لأحد منا فضل على الآخر فى هذه النواحى الجامعة لمسيرة الحيلة من مبدئها إلى منتهاها وما يجرى بينهما .
( د ) جعل الإسلام الناس موزعين إلى مجموعات نسبية على الرغم من اتفاقهم فى هذه الأصول ، وذلك ليتميز بعضهم عن بعض ، ولتعرف الحقوق وتحدد الواجبات ، ويسهل تنظيم أمر الجماعة ، فهذا الإجراء تنظيمى بحت لا يمس جوهر المساواة الحقيقية فى الأصول المذكورة ، وهذا التوزيع نعمة من نعم النظام ، والنظام تستريح له النفس ويطمئن إليه القلب ، قال تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأن وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}[الحجرات : 13 ] كما أن تقسيم الشعوب إلى ألسنة وألوان دليل وتمام إرادته واختياره فى خلقه { ومن آياته خلق السموات و الأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآي }[الروم : 23] .
( هـ ) جعل الإسلام هناك تفاوتا فى المعاملة بين البشر لا على الجنس أو اللون أو اللسان ، بل على أساس الكمالات النفسية والأخلاق الطيبة والعمل الصالح القائم على الإيمان بالله ، فالطبيعة البشرية واحدة ، وإن كان هناك اختلاف فهو لأمور عارضة كتأثير البيئة ، وعدم إتاحة الفرصة للبعض أن يكمل نفسه ، وحارب الإسلام أن يكون هناك تفاوت فى المعاملة على غير هذا الأساس كما تدل عليه آية الحجرات السابقة ، وحديث " من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه "رواه مسلم ، وحديث " ليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية " رواه أبو داود وحديث " الناس معادن خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا " رواه البخارى ومسلم .
والنصوص فى ذلك كثيرة تطبيقات عملية للقضاء على التفرقة العنصرية :
من التطبيقات العملية لجعل التفضيل بين الناس على أساس المزايا الدينية والخلقية بعيدا عن اعتبار الجنس التوجه إليهم بالخطاب للقيام بالتكاليف الدينية ووقوفهم متساويين فى الصلاة أمام الله دون تمييز طبقى أ وأداؤهم لشعائر الحج مجردين عن كل مظهر من مظاهر التفرقة ، التى كان الناس على أساسها يفرقون بين قبيلة وقبيلة ، ومن ذلك وقوفهم جميعا بعرفة بعد أن كان بعضهم فى الجاهلية يقف فى المشعر الحرام . {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }[البقرة :199] ومنها أن أعظم المناصب الدينية فى المسجد النبوى كانت بين محمد القرشى وبلال الحبشى ، فالنبى للامامة وب ومنها قول النبى صلى الله عليه و سلم عن سلمان " سلمان منا أهل البيت " مع أنه فارسى ، لكن شرفه عمله و ، وذلك لما رأى المسلمون قوته فى حفر الخندق وقال المهاجرون : سلمان منا ، وقال الأنصار : سلمان منا ( ا المواهب ) .
ولما ضرب مسلم مشركا يوم أحد وقال : خذها وأنا الغلام الفارسى ، نهاه النبى عن هذا القول الذى يشعر بالع وأرشده إلى قول مستمد من وحى الدين فقال له " هلا قلت : وأنا الغلام الأنصارى " رواه مسلم .
ومنها توليته زيد بن حارثة قيادة الجيش ، وكذلك تولية ابنه أسامة أيضا ، وفى جندهما كان خيار المسلمين من العرب ، وزيد كان رقيقا ثم أعتقه النبى وزوجه من زينب القرشية التى صارت بعد ذلك من امهات المؤمنين .
ومنها قوله " اسمعوا وأطيعوا وإن ولى عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة" رواه البخارى ، وتطبيقا لذلك قال عمر: والله لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا ما جعلتها شورى ، أى لأسندت الخلافة إليه ، وسالم هذا كان مولى لأبى حذيفة ، وأمر أن يتولى الصلاة بالناس صهيب الرومى ، وكان صهيب عبدا أسر فى بلاد الروم ثم بيع فى بلاد العرب .
وتزوج بلال من أخت عبد الرحمن بن عوف وهى قرشية، وأعتق الحسين بن على جارية ثم تزوجها وعندما علم معاوية بذلك عاب عليه ، فرد عليه الحسين بقوله : قد رفع الله بالإسلام الخسيسة ووضع عنا به النقيصة، فلا لوم على امرىء مسلم إلا فى أمر مأثم وإنما اللوم لوم الجاهلية .
وقد كان أكثر العلماء الأفذاذ الذين خدموا الإنسانية من غير العرب ، ومن العناصر المختلفة والألوان المت فى بوتقته وأخرج منها نماذج موحدة للمسلم الكامل الذى يردد هذا ا لشعا ر :
أبى الإسلام لا أب لى سواه * إذا افتخروا بقيس أو تميم ( ذكر ابن الأثير فى كتابه الباعث الحثيث ) : روى مسلم أن عمر رضى الله عنه لما تلقاه نائب مكة أثناء الطريق فى حج أو عمرة قال له :
من استحلفت على أهل الوادى ؟ فقال : ابن أبزى ، قال ومن ابن أبزى قال رجل من الموالى ، قال عمر: أما إنى سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : "إن الله يرفع بهذا العل آخرين " .
وذكر الزهرى أن هشام بن عبد الملك قال له : من يسود مكة ؟ فقلت : عطاء ، قال فأهل اليمن ؟ قلت : طاوس ، قال : فأهل الجزيرة؟ قلت : ميمون بن مهران . قال : فأهل خراسان قلمت : الضحاك بن مزاحم ، قال : فأهل البصره ؟ قلت . الحسن بن أبى الحسن . قال :
فأهل الكوفة؟ قلت : إبراهيم النخعى وذكر أنه كان يقوله له عند كل واحد : أمن العرب أم من الموالى؟ فيقول : من الموالى . فلما انتهى قال : يا زهرى ، والله لتسودن الموالى على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب من تحتها .
فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنما هو أمر الله ودينه ، فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط .
وأخبار المساواة فى الحقوق والواجبات والمعاملة وأمام القضاء كثيرة مشهورة ، من أبرزها حادث المخزومية التى أراد أسامة أن يتشفع فى إسقاط حد الشرقة عنها فغضب النبى صلى الله عليه و سلم وقال " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت يدها " رواه البخارى ومسلم .
ومن الأحاديث الواردة فى الأخوة الإسلامية الجامعة "المسلم أخو المسلم " رواه مسلم ، وحديث " المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه .
حتى إن اختلاف الدين لم يكن مانعا من تحقيق المساواة ونبذ التفرقة ، فهناك رابطة إنسانية عامة تعلو على {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله }[الممتحنة : 8 ] وقد تولى هؤلاء مناصب عدة فى الدولة الإسلامية وأفاد المسلمون من علمهم وخبرتهم على ما كتب التاريخ ، وقد ورد أن النبى صلى الله عليه و سلم قام لجنازة ولما قيل له : إنها جنازة يهودى قال :" رواه البخارى ومسلم ، ولأجل أن يحمل الناس على نبذ العصبية المقيتة، وعلى التزام العدل فى المعاملة حتى العقيدة قرر أن الأنبياء إخوة من علات ، ومنع تفضيله على أحد من الأنبياء ، على الرغم من أنه سيد ولد آد القرآن وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل دون تفريق بين أحد منهم .
ـ نظرة الإسلام إلى الرق يظهر موقف الإسلام جليا فى محاربته للتفرقة العنصرية فى تشريعه الحكيم لإبطال الرق يتمثل فى ثلاث إجراءات رئيسية وهى :
( أ ) تضييق باب الرق الذى كان متسعا جدا قبل الإسلام ، من حرب وخطف وشراء وغير ذلك ، وحصره فى مورد واحد هو الأسر فى الحروب المشروعة إذا رأى الإمام أن يضرب الرق على الأسرى ، والأسر مبدأ معمول به قديما وحديثا ، وله أثر وتبادل الأسرى ولم يكن الشراء طريقا لامتلاك الرقيق إلا فى عهد معاوية كما قال المحققون .
( ب ) فتح الأبواب الواسعة لتحرير الرقيق ، وإيجاد منافذ كثيرة للانطلاق من الرق إلى الحرية ، فحثت النصوص على العتق فى كثير من الأحاديث ، وجعلنه كفارة لكثير من الأخطاء ، كالقتل الخطأ والإفطار فى رمضان والحنث فى اليمين والظهار وشجع على مكاتبة الرقيق وتيسير دفع ما يلزمه ، وأباح التسرى بالإماء دون تحديد بعدد، وليس هذا إطلاقا للمتعة الجنسية بل للحصول على حرية الإماء إذا حملن مسا السادة وولدن ، فإنهن يعتقن بعد موتهم ، وكذلك ليسرى الدم العربى إلى غيره من الأجناس الأخرى التى كان منها الأسرى .
( ج ) الأمر بالإحسان إلى الرقيق حتى تحين الفرصة لعتقه ، والوصايا فى ذلك كثيرة يكفى منها مراعاة شعوره ، فلا يقال له : عبدى أو أمتى، بل يقال فتاى وفتاتى ، أو غلامى وج كما رواه مسلم ، وإكرامه فى مطعمه وملبسه كما فى الحديث " هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فم أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، ويلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ،فإن كلفتموهم فأعينوهم " روا ، وذلك عندما سمع النبى أبا ذر يعير رجلا بأمه السوداء فقال له : " إنك امرؤ فيك جاهلية " كذلك نهى النبى صلى الله عليه و سلم عن ظلمه فقد سمع أبا م غلامه فقال له : " الله أقدر منك عليه " فكفَّر أبو مسعود عن ذنبه بعتقه ، وقال النبى صلى الله عليه و س تفعل للفحتك النار" رواه مسلم .
هذا ، وإذا كان الإسلام يضرب أروع الأمثلة فى احترامه لآدمية الإنسان عن طريق الإحسان إلى الرقيق ، فإنه من غير شك يراعى هذا التكريم مع من لا يملك الإنسان رقبته ، بل يملك رعايته وتوجيهه لا غير، وذلك كحال الرعايا فى البلاد الإسلامية من الأديان المختلفة ، لقد قال عمر بن الخطاب فى توجيه عماله ، أى حكام البلاد المفتوحة : إنى لم أرسل إليكم عمالا ليضربوا أبش ليأخذوا اموالكم ، ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنتكم ، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلى، فو الذى نفسى بيده لأقصنه منه ، وقد اقتص للقبطى من ابن عمرو بن العاص على ملأ من الناس ، وقال كلمته الخالدة :
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ " سيرة عمر لأبن الجوزى ص 67 ، 70" .
وكل ذلك من وحى وصية الإسلام بأهل الذمة ففى الحديث " من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " رواه أبو داود وقال أيضًا : " إن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذى فرض عليهم البغوى .
10 ـ رد بعض الشبهات ( أ ) قد يقول قائل : إذا كان الإسلام ينبذ التفرقة العنصرية فلماذا توجد تفرقة فى معاملة بعض الناس ؛ كجعل نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين فى الميراث وجعل شهادته بشهادة امرأتين .
والجواب أن هذه التفرقة فى المعاملة ليست على أساس عنصرى مما يتعامل على أساسه المستعمرون اليوم ؛ وإنما هى لاعتبارات قائمة على المواهب والاستعدادات ، و الحياة البشرية لابد أن يكون فيها تفاوت فى ذلك لتترتب عليها اثار مناسبة لها وهذا هو مقتضى العدل ؛ قال تعالى : {أفنجعل المسلمين كالمجرمين .
ما لكم كيف تحكمون }[ القلم :35، 36 ] وقال { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض أم نجعل المتقين كالفجار }[ص : 28 ] وقال : {ولكل درجات مما عملوا } [الأحقاف : 19 ] وقال : {ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] .
وبخصوص المثال السابق فى الميراث والشهادة بالنسبة للرجل والمرأة قال العلماء : إن الرجل هو الذى يتولى الإنفاق عليها من نصيبه وهو لا يمس نصيبها مطلقا فى هذا الشأن ؛ فهو محفوظ لها تتصرف به فى أمورها الخاصة كيف تشاء ة على أن إثبات حقها فى الميراث بوجه عام هو دليل مساواتها له فى مطلق الحق ؛ أما التفاوت فيه فهو أمر يقتضيه نظام الحياة ؛ وكون شهادتها على النصف من شهادة الرجل بين حكمته قول الله تعالى : {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}[البقرة : 282] ومراعاة طبيعتها البشرية أمر لا ب عليه ؛ كما لا يعاب به أحد ، على أن شهادتها فى بعض الأحيان هى المعتمدة دون الرجل كمسائل الرضاع والبكارة والعيوب الداخلية للمرأة .
( ب ) وقد يقال أيضا ، إذا كان الإسلام لا يقر التفرقة العنصرية فلماذا رأينا بعض الولاة يخالفون ذلك ، كما حدث فى الدولة الأموية التى قلدت الوظائف الهامة للعرب دون العجم ، والجواب أن عمل هؤلاء لا يُعد تشريعا يناقض التشريع المعتبر فى مصادره المعروفة ، وقد تكون هناك ظروف جعلت هؤلاء الولاة يتخذون هذا الإجراء ، وذلك كعدم اطمئنان العرب إذ ذاك إلى العجم الداخلين فى الإسلام حديثًا ، والذين لم يزل الكثير منهم متأثرًا بمواريثه الدينية والسلوكية ، الأمر الذى جعل بعض الأفراد ينادى بما سمى باسم الشعوبية، وجاءت على أثر هذه الصيحات الدولة العباسية بجهود الفارسيين المتشيعين للبيت الهاشمى والناقمين على البيت الأموى .
ومهما يكن من شىء فإن هذه التصرفات السياسية موكولة إلى رأى القائمين بالأمر، وهى على كل حال لا تعرض النصوص الأصلية فى مقاومة التفرقة العنصرية ومن أراد التوسعة فليرجع إلى كتابنا " دراسات إسلامية لأهم القضايا المعاصره "
مصدر الفتوى : موقع الأزهر
سئل : ما معنى التفرقة العنصرية وما موقف الإسلام منها ؟
نص الجواب
أجاب : الإجابة على السؤال تتناول عدة نقاط منها :
1 ـ مفهوم التفرقة العنصرية :
يقصد بالتفرقة العنصرية فى العرف الحديث التمييز بين الأجناس فى القوانين والمعاملات ، على أساس الدم وا المتعلقة بتكوين الجسم البشرى . وما يتبع ذلك من الحياة الفكرية ومظاهر السلوك والاجتماع . لقد صنَّف ال العلوم الإنسانية الأجناس البشرية إلى جماعات تجمع بين كل منها خصائص ومميزات طبيعية متوارثة فى مجموعها مجال للاختلاف البسيط بين أفرادها ، ومن أبرز هذه الخصائص لون البشرة وشكل الجمجمة ، وملامح الوجه وطول القامة ، وقالوا : إن هذه الطبيعية يتبعها اختلاف فى المواهب العقلية والقوى النفسية وما إليها ورأى بعض هؤلاء أن تقسيم البشر إلى أجناس يرجع إلى الدم نفسه على خلاف فيما بينهم على مقدار نسبة ما يوجد من دم الآباء والأجداد فى الإنسان حتى ينسب إلى هذا الجنس ، وعلى أساس هذا التقسيم العنصري قرر الباحثون أن هناك امتيازا لبعض الأ بعضهم الآخر ، يحق للأجناس العالية أن تكون لها قوانين وأن تعامل معاملة خاصة ، بخلاف الأجناس الأخرى التى لا ينبغى أن تدخل معها فى هذه القوانين وتلك المعاملات .
هذا هو مفهوم التفرقة العنصرية فى العرف الحديث ، والهدف منه ، و سيأتى بيان بطلان الأساس الذى قسموا عل وزيف ما يهدفون إليه من أغراض .
2 ـ التفرقة فى النظم القديمة :
إن فكرة التمييز بوجه عام بين بنى الإنسان فكرة قديمة ، ضرورة اختلاف الناس بعضهم عن بعض فى القوة الجسم العقلية والمظاهر المادية ، والتى كان من أثرها استعلاء بعضهم على بعض ، واستغلال القوى منهم للضعيف وتح الفقير ، وسيطرة العالم على الجاهل ، والتى كان من أكبر مظاهرها الرق .
( أ ) ففى الهند مثلا كانت كتبهم المقدسة تقرر التفاضل بين الناس بحسب عناصرهم التى خلقوا منها فى زعمهم " خلق فصيلة البرهميين من فمه ، وهم أشرف المخلوقات ولهم أرقى المناصب الدينية ، وخلق فصيلة الكشتريين أ ذراعه ، وهم الذين يتولون الوظائف الحربية ، وخلق فصيلة الفيشائيين أو الفاشا من فخذه ، وهم الذين يقومو ، وخلق فصيلة السود رائيين والمنبوذين من قدمه ، وهؤلاء لهم وظيفة واحدة هى خدمة الطبقات السابقة .
( ب ) وكان اليونان يعتقدون أنهم شعب مختار ، خلقوا من عناصر تختلف عن العناصر التى خلقت منها الشعوب الأخرى ، التى كانوا يطلقون عليها اسم " البربر "وقد قرر أرسطو فى كتابه "السياسة " أن الآلهة خلقت فصيلتين من الأناسى ، فصيلة زودتها بالعقل والإرادة ، وهى اليونان ، وقد فطرتها على هذا التكوين الكامل لتكون خليفتها فى الأرض ، وسيدة على سائر الخلق ، وفصيلة لم تزودها إلا بقوة الجسم وما يتصل اتصالا مباشرا به ، وهم البرابرة أى ما عدا اليونان من بنى آدم ، وقد فطروا على هذا التقويم الناقص ليكونوا عبيدا مسخرين للفصيلة المختارة المصطفاة وكانوا يقرون الرق الذى يقول فيه أرسطو: إن الرقيق آلة ذو روح ، أو متاع تقوم به الحياة ، فهم لا يدخلونه فى عداد المخلوقات الإنسانية .
( ج ) وكان الرومان يعتقدون كما يعتقد اليونان أنهم سادة العالم ، وان غيرهم بر ابره خدم لهم ، وكانت قوانينهم تقر الرق ، وتعامل الرقيق على أنه متاع ، مدعين أن استعباده رحمة به من القتل الذى تتعرض له الحيوانات ، وإلى جانب الاسترقاق بالحروب كانوا يسترقون الفقير إذا عجز عن أداء الدين ، ولم تكن للرقيق حقوق قانونية ولا مدنية ، و لا يستطيع أن يقاضى سيده أو معاملته ، بل كان لسيده الحق فى قتله دون مجازاة ، ولم يخفف من حدة هذه المعاملة الدين المسيحى الذى اعت .
( د ) والعرب فى الجاهلية كانوا يعيشون على التفاخر بالأحساب والأنساب ، ويعتقدون أنهم أفضل من غيرهم ا يطلقون عليهم اسم العجم ، ولعل ذلك كان أساسه اعتزاز العربى بلغته الفصيحة التى لا يوجد لها مثيل فى العالم .
وكانوا بناء على ذلك يكرهون أن يتلوث دمهم العربى النقى بدم غيرهم عن طريق الزواج ، ويأنفون أن يزوجوا ب قبائلهم ، كباهلة ، وسلول ـ إلى أعجمى حتى لو كان كسرى نفسه ، وقد خطب كسرى أبرويز بنت النعمان بن المنذ النعمان مصاهرته ، مع أنه كان أحد ولاته ، وكانت حرب طاحنة بين الفرس والعرب ، تكتلت فيها قبائلهم ، من حرقة بنت النعمان أن يأخذها كسرى ، وانتهت المعركة بانتصار العرب فى موقعة ( ذى قار ) . وكان العرب يستخ فى الأعمال المنزلية وفى التجارة ، بل كان يمارس معهم الحرب أحيانا ، وإذا أعجبوا به أعتقوه وجعلوه أحد 3 ـ التفرقة عند اليهود و المسيحيين :
( أ ) لقد ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار ، وأن الإله الذى يعبدونه لا ينبغى أن يكون معبودا لغيرهم كانوا يطلقون عليهم أمبين ، قال تعالى : {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } ، فكان رد ال من خلقه لا يفضل أحد على أحد إلا بالعمل فقال تعالى :{قل فلمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر ويعذب من يشاء } [المائدة : 18 ] وكانوا يعتقدون أن غيرهم من الأميبن ليست لهم حقوق كحقوقهم ، كما حكى ا بقوله : {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك بلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى ال الكذب وهم يعلمون }[آل عمران : 75] .
وكانوا يبيحون استرقاق من عداهم عند العجز عن الوفاء بالدين ، وما يزال شعور التعالى والتعصب العنصرى موجودًا لديهم حتى الآن ، و كانت قمته هى الصهيونية بمظاهرها و أساليبها المعروفة التى تتنافى مع الكرامة الإنسانية .
( ب ) والمسيحية أقرت الرق كما أقرته اليهودية ، وقد جاء فى المعجم الكبير للقرن التاسع عشر (( لاروس ) الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم ، فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته ، ويسلمو فيه : الخلاصة أن الدين المسيحى ارتضى الاسترقاق تماما إلى يومنا هذا ، ويتعذر عك الإنسان أن يثبت ـ أنه كما أثبت ذلك أيضا ( قاموس الكتاب المقدس ) للدكتور جورج يوسف .
وظل الرق معترفا به بين المسيحيين ، وكثر كثرة فاحشة بعد اكتشاف أمريكا وجلب الرقيق من أفريقيا للعمل ب الاتجار على أشده بين الدول الاستعمارية ، يمارسه ملوكها وكبار رجالها ، مع قسوة بالغة العنف ، برروها ب المقدسة ، وصدرت قوانين تنص على احتقار الجنس الأسود وإهدار كرامته ، وكان مفكر وهم ينادون بذلك ، كما ج ( روح القوالين ) حيث قال مؤلفه ( مونتيسكيو ) الفرنسى فى الفصل الخامس منه : إن شعوب أوروبا بعد ما أبا أمريكا الأصليين ، وهم الهنود الحمر ،لم تر بُدًّا من استعمار شعوب أفريقيا ، لكى تستخدمها فى استغلال فإن هذه الشعوب سود البشرة من أقدامهم إلى رءوسهم ولا يمكن أن يتصور أحد أن الله ـ وهو ذو الحكمة البا خلق روحا ـ وعلى الأخص روحا طيبة ـ فى أجسام حالكة السواد .
و على الرغم من إبطاله قانونا فإن الدول المسيحية ما زالت تمارسه بلون آخر هو الاستعمار والتفرقة العنصرية على ما سيأتى بيانه .
4 ـ العلم و التفرقة العنصرية :
إن تقسيم البشر إلى أجناس على أساس الدم أو التكوين الطبيعى للجسم قد قرر العلماء المنصفون أخيرا أنه تقسيم باطل ، فإن مظاهر التقدم والرقى الموجودة عند بعض الجماعات لا يرجع سببها إلى ذلك ، وإنما يرجع إلى عوامل من البيئة الطبيعية والظروف السياسية والأوضاع الاقتصادية والأجواء الثقافية ، وقرروا أنه لو وضع شخصان من جنسين مختلفين فى بيئة حضارية وثقافية واجتماعية ، واحدة ما كان هناك فرق يذكر بينهما فى الفكر والسلوك ، وكم تقدم أفراد من أناس ملونة على أفراد من البيض فى الجامعات وفى النشاط الاجتماعي العام ، وذلك عندما تهيأت لهم الظروف ا من الناس ، ومن هنا لا تكون وراثة الخصائص البيولوجية مانعة من التقدم والحضارة عندما تتوافر الظروف للت كان هناك تخلف حضاري عند سلالة من السلالات فمرده إلى العوامل الطبيعية والاقتصادية والثقافية والسياسي وقد بحث العلماء بنوع خاص فى عنصرية اليهود ، فأكدوا أن الموجودين منهم الآن ، وهم حوالى خمسة عشر مليون كله، ليسوا من عنصر واحد بحكم اختلاطهم بالأجناس الأخرى طوعا أو كرها ، وقد تحدث البحاثة " بيتار " عن ذ أن الإسرائيليين يكونون جماعات دينية واجتماعية قوية النفوذ وثيقة التضامن ، غير أنها متباينة العناصر إ الإسرائيليين الخلص الذين هم من أصل آشورى برأسه المستطيل عددهم محدود جدا ، كما قرر ذلك أيضا " هاتزجو كتابه " أصول الأجناس فى التاريخ الأوروبى " وأكده أيضا " كوماس " أستاذ التاريخ الطبيعى للأجناس البشري الوطنية بمكسيكو "انظر رسالة الدكتور العمرى فى التفرقة العنصرية ، ومجلة العربى أكتوبر1970 " .
5 ـ الاهتمام بالأبحاث العنصرية :
إن الاهتمام بالبحث فى الأجناس وخصائصها ومميزاتها لم يأخذ شكلا واضحا إلا فى العصور المتأخرة ، حين غلب الأمم القوية نزعة الاستعمار والاستغلال للأمم الضعيفة المتخلفة ، أرادت به الدعاية لجنس معيَّن ، أو لف طريقها التحكم فى الأجناس الأخرى ، وكثيرا ما لجأت هذه الأفكار إلى الدين تستمد منه تأييدا لها ، كالصهي شعب الله المختار . ولقد ظهرت هذه النغمة بالذات فى أوروبا فى العصر الحديث فبعد أن كانت دولها لا تفرق وغير مسيحى ، وبعد أن كان يفاخر بعضها البعض الآخر بالأخلاق والآثار أصبحت تتحدث عن الأجناس وخصائصها ، بين جنس وآخر تبعا لهذه الخصائص ، كما يقول المؤرخ " توينبى " ويرجع ظهور هذه النغمة فى أوروبا إلى أسباب منها :
( أ ) النزعة الاستعمارية التى تبرر نقاء الجنس الأبيض الأوروبى وزعامته لبقية الأجناس ، ووصايته عليها ، كما مرت موجة الاستعمار الأوربى للشعوب الأخرى .
( ب ) النزعة القومة المعتدة بجنسها ، والداعية إلى وحدة شعوبها التى تنتمى إلى جنس واحد . وفى ظل هذه النزعة أيضا سمعنا تمسك الشعب الألمانى بفكرة نقاء أصله وسلالته الآرية ، وبخاصة بعد قيام الاتحاد الألمانى فى أعقاب الحرب السبعينية بين بروسيا وفرنسا ، وجاءت نداءات : ألمانيا فوق الجميع ، وقول غليون الثانى :
إنه منتدب من الله لنصرة الألمان على سائر شعوب أوروبا ، وكذلك رأينا فى الشرق الجنس الأصفر اليابانى يعتز بنفسه أيضا وينادى :
آسيا للآسيويين ، ورأينا الإنجليز أيضا ينادون بفكرة سيادة الإنجلوسكسون وتعاليهم على سكان أوروبا ما عد ( ج ) الانقلاب الصناعى والحاجة إلى الأيدى العاملة فى المصانع و سوق الآلاف من العمال لخدمة الرأسماليي الأجناس الأخرى والأمم المختلفة ، وإعيائهم أجورا قليلة دون اعتراف لهم بحقوق تحفظ كرامتهم .
( د ) اكتشاف أمريكا والحاجة إلى استغلال خيراتها ، الأمر الذى خلق تجارة الرقيق وجلبهم من أفريقيا للعم مصانعها .
6 ـ اثار النزعة العنصرية :
لقد سخر المستعمرون والمستغلون علماء هم لتبرير نقاء الجنس الأبيض وإثبات خصائص للألوان و الأجناس ، فزع : هى : البيض والسود والصفر والحمر ، وأعلاها جميعا الجنس الأبيض ، وقد علمت أن العلماء المنصفين أثبتو الأجناس لم يعد لها وجود متميز الآن ، فقد تداخلت وتلاقت بعوامل مختلفة ، وانتقلت خصائص بعضها إلى البعض ولم يبق من الأجناس الصافية إلا قلة ضئيلة من الهنود الحمر ، وفى وسط أفريقيا وحوض الأمازون وبعض جزر ال أرض النار فى جنوبى قارتى العالم الجديد .
لقد قال المستعمرون : إن السود والهنود الحمر ليسوا من نسل آدم ، فروحهم مشتقة من أصل أقل من الإنسان ، وفى معمعة التطور الصناعى ومعاملة الطبقات العاملة نشأت نظرية " داروين " فى تطور النوع وبقاء الأصلح ، وسادت نظرية "مندل " فى الوراثة وظهرت مؤلفات كثيرة تبحث عن فكرة عدم المساواة بين الأجناس البشرية وعن سيادة الجنس الآرى ، وتكونت مدرسة لها نظرياتها تزعمها الكونت "جوبينو" الفرنسى وكذلك "فاجنر" الموسيقى الألمانى ، ومثله ( ستيوارت شامبرلين ) الإنجليزي ، وأيضا ( لوتروب ستودارد) الأمريكي ، وهؤلاء قالوا : إن الجنس الأبيض هو وحده منشى الحضارة ، وهو الجنس الآرى المنحدر من شمالي ال كما ظهرت نغمات : الشرق شرق ، والغرب غربب ، ولن يلتقيا .
مع هذا التزييف للحقائق العلمية والتحيز الظاهر فى الأحكام على الأجناس البشرية الذى كان أثرا من آثار ا ـ كانت هناك اثار واضحة تطبيقية لهذه النزعة ، من أهمها :
( أ ) استعمار البيض للملونين ، وكسبهم مزايا سياسية واقتصادية انتعشت بها أوروبا ، وفكت بها أزمتها ، وكثرت تبعا لذلك رءوس الأموال الأجنبية فى البلاد المستعمرة ، واستنزفت ثرواتها ، كما كان من لوازم الاستعمار تخصيص محاكم ومصحات ونواد وغير ذلك للسادة المستعمرين لا يتمتع بها الملونون .
( ب ) احتقار البيض لغيرهم ، واستخدامهم المزرى لهم ، كما كان يحدث فى الهند ، فقد كان الإنجليزي يركب على ظهر الهندي ليستطيع أن يمتطى جواده ، وفى الصين عندما كان ي على جر العربة بالسائحين كالدابة سواء بسواء ، وقد كتبت لافتات على بعض الحدائق العامة فى شنغهاى مدينة الأجنبية عبارة ( محظور على الوطنيين والكلاب دخول هذا المكان ) .
( ج ) العزل الاجتماعي والسياسي لأهل البلاد ، وعدم تمكينهم من ممارسة نشاطهم فى هذه المجالات ، كما يظه جنوبى أفريقيا وروديسيا .
( د ) إبقاء الوطنيين على التأخر والجهل والانحطاط ، وذلك ليمكن للأجنبي التسلط عليهم ، فإن من المقرر ع تقدم الأهالى يخلق فرصة للمطالبة بالحرية والاستقلال ولا شك أن ذلك كله يهدد الأمن الداخلى للبلاد التى العنصرية ، ويزعرغ أركان السلام العالمى ويثير الفتن والحروب بين الدول .
7 ـ أمثلة من مظاهر العنصرية الحديثة :
على الرغم من إصدار القرارات ضد التفرقة العنصرية فى المؤتمرات الدولية المتعاقبة منذ مطلع القرن التاسع اتفاق عصبة الأمم سنة 1926 م ، الذى وقعه ثمان وثلاثون دولة ، وعلى الرغم من الإعلان العالمى لحقوق الإن الأمم المتحدة فى العاشر من ديسمبر سنة 1948 م فإن التفرقة العنصرية ما زالت تمارس فى بعض الدول الحديثة مظاهرها ما يوجد فى أمريكا و جنوبى أفريقيا .
( أ ) ففى أمريكا الآن حوالى عشرين مليونا من الملونين ، يقطن أكثرهم فى الولايات الجنوبية ، وقد قامت ح الشمال والجنوب من سنة 1860 إلى سنة1865 م بزعامة ( لنكولن ) صاحب فكرة تحرير العبيد ، وقد قتل بيد عنص اسمه ( بوث )فى14من أبريل سنة 1865 م كان الجنوب مصرا على الإبقاء على التفرقة العنصرية لضمان استخدام ا مزارعه ، وكان الشمال يصر على تحريره ليتمكن من الهجرة إلى الشمال ويعمل فى مصانعه ، ومن هنا يعرف أن ال هذه الحرب كان اقتصاديا استغلاليا وليس ثورة على الكرامة الإنسانية .
وإذا كانت الحرب قد انتهت بتقرير المساواة فإن التفرقة ما زالت تمارس عمليا ومنصوصا عليها فى قوانين بع دستور ولاية (مسيسبى ) فى الفصل الثامن فى التربية والتعليم ( مادة 207 ) :
يراعى فى هذا الحقل أن يفصل بين أطفال الزنوج ، فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة .
وفى الفصل الرابع عشر ( أحكام عامة ) مادة 263 : أن زواج شخص أبيض من شخص زنجى يعد غير شرعي وباطلا ، بل جاء فى قانون هذه الولاية : أن الذى يطالب بالمساواة الاجتماعية والتزاوج بين البيض والسود ، بالطبع أو النشر أو أية وسيلة ، يعتبر عمله جرما يعاقب عليه القانون .
وهذه التشريعات تطبق فى عدة ولايات أمريكية ، كما جاء فى تقرير قدم إلى الأمم المتحدة سنة 1947 ، تحت عن إلى العالم ) .
على أن الكنيسة نفسها شاركت فى إقرار هذا الظلم ، فإن للزنوج كنائس خاصة ، ولا يصح لهم أن يعبدوا ربهم فى كنائس البيض مع أن الذى خلقهم جميعا واحد وهو الله سبحانه .
وقد جاء فى كتاب ( مصرع الديموقراطية فى العالم الجديد) الذى نشرته دار العلم للملايين فى بيروت كثير من تدل على تمكن النزعة العنصرية من نفوس الأمريكيين .
وقد تأسست فى الجنوب جمعية ( كلوكلوكس كلان ) لإرهاب الملونين ، وانتشرت فى جميع أنحاء الولايات المتحدة قائمة على أنقاض جميعة لإرهاب الكاثوليك ومنع هجرتهم .
وما زالت حوادث التفرقة فى أمريكا دليلا على أن هذا العالم الذى يدعى حماية الحريات يعيش على النفاق والخداع ، بعيدا عن مقررات الأمم المتحدة وعن قواعد الأخلاق والإنسانية .
( ب ) وفى جنوبى أفريقيا تفرقة عنصرية صارخة ، فقد احتل الهولنديون المسمون ( البوير ) أى الفلاحين ، هذ وأسسوا مدينة رأس الرجاء الصالح سنة 1752 م ، ثم احتلها الإنجليز سنة 1806 م ، وطاردت البوير إلى ناتال والترنسفال ، وكان البوير قد جلبوا عمالا من الملايو والهند للزراعة ، ولا يعترفون لهم بحقوق كحقوقهم ، على هذه البلاد مكن رجالهم لاستعمارها حتى تكون اتحاد جنوبى أفريقيا سنة 1910 م بعد حروب طويلة كان من أ ( سيسل رودس ) الذى حاول خلق حياة أفضل للبيض على حساب الأفريقيين . فكانت التفرقة العنصرية التى لم تحا تعمل شيئا للحد منها .
لقد كان فى جنوبى أفريقيا حسب إحصاء سنة 1952 نحو 5 , 14 مليونا ، منهم 0 1 أفريقيون ، 3 أوربيون ، وملي الملونين ، ونصف مليون من الآسيويين . ومع ذلك يتحكم الأوربيون فى بقية السكان ، مطبقين للتفرقة العنصرية بأشد مظاهرها ، تلك المظاهر التى تبدو فى : تقييد حرية التعاقد على العمل للملونين ، وعدم زيارتهم للمدن إلا لمدة اثنتين وسبعين ساعة ، ووجوب الحصول على إذن فيما زاد على ذلك ، وتحديد عدد المقيمين منهم فى المدن ، ومنع دخول كنائس البيض ، وعدم علاجهم فى المصحات إلا عند الضرورة القصوى ، ومنع عقد اجتماع ع ، وتحريم امتلاكهم لعقارات البيض ، ومنع التزاوج بين الأوربيين وبينهم ، وتحديد عدد تلاميذ المدارس من ا من الحقوق السياسية .
وقد أثيرت مشكلة هذه التفرقة فى هيئة الأمم سنة 1947 م غير أن إنجلترا وأمريكا ضغطتا على الأعضاء فلم يفز القرار بالأغلبية المطلوبة ، وقامت عدة ثورات تطالب بمنع هذه ،ولكنها لم تجد أذنا مصغية .
وفى أول أبريل سنة 1960 اصدر مجلس الأمن قرارا بدعوة جنوبى أفريقيا لنبذ سياسة التفرقة العنصرية كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحده فى 11 من أكتوبر سنة 961 1 قرارا بلومها ومع ذلك لم تستجب الحكومة لهذا كله وقد دعا إلى إصدار هذه القرارات توالى حوادث العنف وكان من أهمها حادث ( شارب فيل ) فى 21 من مارس 1960 عندما احتج الأفريقيون على نظام تصريحات المرور فأطلق البوليس النار عليهم وقتل منهم عددا كبيرا .
8 ـ الإسلام والتفرقة العنصرية :
لقد تحدثت لك طويلا عن هذه المشكلة بمفهومها ومظاهرها آثارها وتاريخها، لتكون على بينة من الأمر حين تحك نصوص دينك ، ولتعرف بوضوح أن الإسلام دين حق جاء بأرقي التشريعات لأرقى الأمم ولأرقى العصور ، ومن المعر صدق النتائج مرهون بصدق المقدمات ، وأن الحكم الصحيح يلزمه التصور الواضح للمحكوم عليه ، ولعلمى بأن الع يملك رصيدا ضخما من النصوص الدينية بخصوص هذه المشكلة . أحببت أن أعطيه بعض الرصيد من المعرفة العامة نح فلخصت له كثيرا من الأبحاث والكتب حول هذه القضية ، ولعل ما قدمته يكون فيه غناء له يوفر عليه جهدا كبير ولهذا سيكون حديثى عن موقف الإسلام من هذه القضية يميل إلى الاختصار والتركيز ، معتمدا على أن مراجع الب كثيرة ، والاطلاع عليها ميسر لكثير من المهتمين بهذا الموضوع ، وحديثي سيكون فى نقطتين هامتين ، إحداهما قام عليها موقف الإسلام من رفضه للتفرقة العنصرية ، وثانيتهما إيراد بعض المظاهر التطبيقية لهذه النظرة الإسلام إلى البشر على اختلاف مستوياتهم .
فلسفة الإسلام فى رفضه للتفرقة العنصرية :
( أ ) قرر الإسلام أن الناس جميعا مخلوقون من أصل واحد هو التراب ، قال تعالى : {والله أنبتكم من الأرض نباتا . ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا }[نوح : 17 ، 18 ] وقال { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى }[طه : 55]وجعل حياتنا كلها ، ونشاطنا فى جميع المجالات مرتبطا بالأصل الذى خلقنا منه ، وهو الأرض ووثق صلتنا بكل ما يعيش عليها من حيوان ونبات ، فهى أمنا جميعا ، ونحن لها أبناء ، لم يخلق واحد منا من غير تربتها، ولم يعش واحد منا على غير خيرها ، ولم يدفن واحد منا فى غير بطنها .
( ب ) قرر الإسلام أيضا أننا مولودون من أب واحد هو آدم ، فنسبنا جميعا واحد ، ونحن إخوة فى هذه الأسرة الإنسانية الواسعة ، وإذا كان لبعض أفرادها نوع امتياز بلون أو شكل أو نشاط فذلك لا يغض من قيمته فى أنه يشكل ركنا أساسيا فى تالف هذه المجموعة وتضامنها فى عمارة الكون وتحقيق الخلافة فى الأرض ، كما يعبر بعض الكاتبين عن ذلك بقوله : الإنسانية كلها حديقة كبيرة تختلف ألوان أزهارها وما يفوح منها من عطر دون أن يكون للون أو رائحة انفصال عن الآخر فى إبراز بهجة هذه الحديقة ، قال تعالى { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام }[النساء : 1] وقال النبى صلى الله عليه و سلم " إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقى ، وف بنو آدم ، وآدم خلق من تراب " رواه أبو داود و الترمذى وحسنه .
( ج ) قرر الإسلام أن الناس جميعا مخلوقون لخالق واحد هو الله سبحانه ، فمبدؤهم منه خلقا ، ونهايتهم إليه بعثا وحسابا { فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون }[يس : 83]{ الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء}[الروم : 40] ، فهو وحده المحيى والرازق والمميت والمعيد للنشور ، وكانا مدينون له بهذا كله وليس له شريك فيه ، سواء أقر بذلك المؤمنون أم جحد الملحدون ، ومن هنا لا يكون لأحد منا فضل على الآخر فى هذه النواحى الجامعة لمسيرة الحيلة من مبدئها إلى منتهاها وما يجرى بينهما .
( د ) جعل الإسلام الناس موزعين إلى مجموعات نسبية على الرغم من اتفاقهم فى هذه الأصول ، وذلك ليتميز بعضهم عن بعض ، ولتعرف الحقوق وتحدد الواجبات ، ويسهل تنظيم أمر الجماعة ، فهذا الإجراء تنظيمى بحت لا يمس جوهر المساواة الحقيقية فى الأصول المذكورة ، وهذا التوزيع نعمة من نعم النظام ، والنظام تستريح له النفس ويطمئن إليه القلب ، قال تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأن وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}[الحجرات : 13 ] كما أن تقسيم الشعوب إلى ألسنة وألوان دليل وتمام إرادته واختياره فى خلقه { ومن آياته خلق السموات و الأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآي }[الروم : 23] .
( هـ ) جعل الإسلام هناك تفاوتا فى المعاملة بين البشر لا على الجنس أو اللون أو اللسان ، بل على أساس الكمالات النفسية والأخلاق الطيبة والعمل الصالح القائم على الإيمان بالله ، فالطبيعة البشرية واحدة ، وإن كان هناك اختلاف فهو لأمور عارضة كتأثير البيئة ، وعدم إتاحة الفرصة للبعض أن يكمل نفسه ، وحارب الإسلام أن يكون هناك تفاوت فى المعاملة على غير هذا الأساس كما تدل عليه آية الحجرات السابقة ، وحديث " من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه "رواه مسلم ، وحديث " ليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية " رواه أبو داود وحديث " الناس معادن خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا " رواه البخارى ومسلم .
والنصوص فى ذلك كثيرة تطبيقات عملية للقضاء على التفرقة العنصرية :
من التطبيقات العملية لجعل التفضيل بين الناس على أساس المزايا الدينية والخلقية بعيدا عن اعتبار الجنس التوجه إليهم بالخطاب للقيام بالتكاليف الدينية ووقوفهم متساويين فى الصلاة أمام الله دون تمييز طبقى أ وأداؤهم لشعائر الحج مجردين عن كل مظهر من مظاهر التفرقة ، التى كان الناس على أساسها يفرقون بين قبيلة وقبيلة ، ومن ذلك وقوفهم جميعا بعرفة بعد أن كان بعضهم فى الجاهلية يقف فى المشعر الحرام . {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }[البقرة :199] ومنها أن أعظم المناصب الدينية فى المسجد النبوى كانت بين محمد القرشى وبلال الحبشى ، فالنبى للامامة وب ومنها قول النبى صلى الله عليه و سلم عن سلمان " سلمان منا أهل البيت " مع أنه فارسى ، لكن شرفه عمله و ، وذلك لما رأى المسلمون قوته فى حفر الخندق وقال المهاجرون : سلمان منا ، وقال الأنصار : سلمان منا ( ا المواهب ) .
ولما ضرب مسلم مشركا يوم أحد وقال : خذها وأنا الغلام الفارسى ، نهاه النبى عن هذا القول الذى يشعر بالع وأرشده إلى قول مستمد من وحى الدين فقال له " هلا قلت : وأنا الغلام الأنصارى " رواه مسلم .
ومنها توليته زيد بن حارثة قيادة الجيش ، وكذلك تولية ابنه أسامة أيضا ، وفى جندهما كان خيار المسلمين من العرب ، وزيد كان رقيقا ثم أعتقه النبى وزوجه من زينب القرشية التى صارت بعد ذلك من امهات المؤمنين .
ومنها قوله " اسمعوا وأطيعوا وإن ولى عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة" رواه البخارى ، وتطبيقا لذلك قال عمر: والله لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا ما جعلتها شورى ، أى لأسندت الخلافة إليه ، وسالم هذا كان مولى لأبى حذيفة ، وأمر أن يتولى الصلاة بالناس صهيب الرومى ، وكان صهيب عبدا أسر فى بلاد الروم ثم بيع فى بلاد العرب .
وتزوج بلال من أخت عبد الرحمن بن عوف وهى قرشية، وأعتق الحسين بن على جارية ثم تزوجها وعندما علم معاوية بذلك عاب عليه ، فرد عليه الحسين بقوله : قد رفع الله بالإسلام الخسيسة ووضع عنا به النقيصة، فلا لوم على امرىء مسلم إلا فى أمر مأثم وإنما اللوم لوم الجاهلية .
وقد كان أكثر العلماء الأفذاذ الذين خدموا الإنسانية من غير العرب ، ومن العناصر المختلفة والألوان المت فى بوتقته وأخرج منها نماذج موحدة للمسلم الكامل الذى يردد هذا ا لشعا ر :
أبى الإسلام لا أب لى سواه * إذا افتخروا بقيس أو تميم ( ذكر ابن الأثير فى كتابه الباعث الحثيث ) : روى مسلم أن عمر رضى الله عنه لما تلقاه نائب مكة أثناء الطريق فى حج أو عمرة قال له :
من استحلفت على أهل الوادى ؟ فقال : ابن أبزى ، قال ومن ابن أبزى قال رجل من الموالى ، قال عمر: أما إنى سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : "إن الله يرفع بهذا العل آخرين " .
وذكر الزهرى أن هشام بن عبد الملك قال له : من يسود مكة ؟ فقلت : عطاء ، قال فأهل اليمن ؟ قلت : طاوس ، قال : فأهل الجزيرة؟ قلت : ميمون بن مهران . قال : فأهل خراسان قلمت : الضحاك بن مزاحم ، قال : فأهل البصره ؟ قلت . الحسن بن أبى الحسن . قال :
فأهل الكوفة؟ قلت : إبراهيم النخعى وذكر أنه كان يقوله له عند كل واحد : أمن العرب أم من الموالى؟ فيقول : من الموالى . فلما انتهى قال : يا زهرى ، والله لتسودن الموالى على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب من تحتها .
فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنما هو أمر الله ودينه ، فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط .
وأخبار المساواة فى الحقوق والواجبات والمعاملة وأمام القضاء كثيرة مشهورة ، من أبرزها حادث المخزومية التى أراد أسامة أن يتشفع فى إسقاط حد الشرقة عنها فغضب النبى صلى الله عليه و سلم وقال " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت يدها " رواه البخارى ومسلم .
ومن الأحاديث الواردة فى الأخوة الإسلامية الجامعة "المسلم أخو المسلم " رواه مسلم ، وحديث " المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه .
حتى إن اختلاف الدين لم يكن مانعا من تحقيق المساواة ونبذ التفرقة ، فهناك رابطة إنسانية عامة تعلو على {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله }[الممتحنة : 8 ] وقد تولى هؤلاء مناصب عدة فى الدولة الإسلامية وأفاد المسلمون من علمهم وخبرتهم على ما كتب التاريخ ، وقد ورد أن النبى صلى الله عليه و سلم قام لجنازة ولما قيل له : إنها جنازة يهودى قال :" رواه البخارى ومسلم ، ولأجل أن يحمل الناس على نبذ العصبية المقيتة، وعلى التزام العدل فى المعاملة حتى العقيدة قرر أن الأنبياء إخوة من علات ، ومنع تفضيله على أحد من الأنبياء ، على الرغم من أنه سيد ولد آد القرآن وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل دون تفريق بين أحد منهم .
ـ نظرة الإسلام إلى الرق يظهر موقف الإسلام جليا فى محاربته للتفرقة العنصرية فى تشريعه الحكيم لإبطال الرق يتمثل فى ثلاث إجراءات رئيسية وهى :
( أ ) تضييق باب الرق الذى كان متسعا جدا قبل الإسلام ، من حرب وخطف وشراء وغير ذلك ، وحصره فى مورد واحد هو الأسر فى الحروب المشروعة إذا رأى الإمام أن يضرب الرق على الأسرى ، والأسر مبدأ معمول به قديما وحديثا ، وله أثر وتبادل الأسرى ولم يكن الشراء طريقا لامتلاك الرقيق إلا فى عهد معاوية كما قال المحققون .
( ب ) فتح الأبواب الواسعة لتحرير الرقيق ، وإيجاد منافذ كثيرة للانطلاق من الرق إلى الحرية ، فحثت النصوص على العتق فى كثير من الأحاديث ، وجعلنه كفارة لكثير من الأخطاء ، كالقتل الخطأ والإفطار فى رمضان والحنث فى اليمين والظهار وشجع على مكاتبة الرقيق وتيسير دفع ما يلزمه ، وأباح التسرى بالإماء دون تحديد بعدد، وليس هذا إطلاقا للمتعة الجنسية بل للحصول على حرية الإماء إذا حملن مسا السادة وولدن ، فإنهن يعتقن بعد موتهم ، وكذلك ليسرى الدم العربى إلى غيره من الأجناس الأخرى التى كان منها الأسرى .
( ج ) الأمر بالإحسان إلى الرقيق حتى تحين الفرصة لعتقه ، والوصايا فى ذلك كثيرة يكفى منها مراعاة شعوره ، فلا يقال له : عبدى أو أمتى، بل يقال فتاى وفتاتى ، أو غلامى وج كما رواه مسلم ، وإكرامه فى مطعمه وملبسه كما فى الحديث " هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فم أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، ويلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ،فإن كلفتموهم فأعينوهم " روا ، وذلك عندما سمع النبى أبا ذر يعير رجلا بأمه السوداء فقال له : " إنك امرؤ فيك جاهلية " كذلك نهى النبى صلى الله عليه و سلم عن ظلمه فقد سمع أبا م غلامه فقال له : " الله أقدر منك عليه " فكفَّر أبو مسعود عن ذنبه بعتقه ، وقال النبى صلى الله عليه و س تفعل للفحتك النار" رواه مسلم .
هذا ، وإذا كان الإسلام يضرب أروع الأمثلة فى احترامه لآدمية الإنسان عن طريق الإحسان إلى الرقيق ، فإنه من غير شك يراعى هذا التكريم مع من لا يملك الإنسان رقبته ، بل يملك رعايته وتوجيهه لا غير، وذلك كحال الرعايا فى البلاد الإسلامية من الأديان المختلفة ، لقد قال عمر بن الخطاب فى توجيه عماله ، أى حكام البلاد المفتوحة : إنى لم أرسل إليكم عمالا ليضربوا أبش ليأخذوا اموالكم ، ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنتكم ، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلى، فو الذى نفسى بيده لأقصنه منه ، وقد اقتص للقبطى من ابن عمرو بن العاص على ملأ من الناس ، وقال كلمته الخالدة :
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ " سيرة عمر لأبن الجوزى ص 67 ، 70" .
وكل ذلك من وحى وصية الإسلام بأهل الذمة ففى الحديث " من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " رواه أبو داود وقال أيضًا : " إن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذى فرض عليهم البغوى .
10 ـ رد بعض الشبهات ( أ ) قد يقول قائل : إذا كان الإسلام ينبذ التفرقة العنصرية فلماذا توجد تفرقة فى معاملة بعض الناس ؛ كجعل نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين فى الميراث وجعل شهادته بشهادة امرأتين .
والجواب أن هذه التفرقة فى المعاملة ليست على أساس عنصرى مما يتعامل على أساسه المستعمرون اليوم ؛ وإنما هى لاعتبارات قائمة على المواهب والاستعدادات ، و الحياة البشرية لابد أن يكون فيها تفاوت فى ذلك لتترتب عليها اثار مناسبة لها وهذا هو مقتضى العدل ؛ قال تعالى : {أفنجعل المسلمين كالمجرمين .
ما لكم كيف تحكمون }[ القلم :35، 36 ] وقال { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض أم نجعل المتقين كالفجار }[ص : 28 ] وقال : {ولكل درجات مما عملوا } [الأحقاف : 19 ] وقال : {ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] .
وبخصوص المثال السابق فى الميراث والشهادة بالنسبة للرجل والمرأة قال العلماء : إن الرجل هو الذى يتولى الإنفاق عليها من نصيبه وهو لا يمس نصيبها مطلقا فى هذا الشأن ؛ فهو محفوظ لها تتصرف به فى أمورها الخاصة كيف تشاء ة على أن إثبات حقها فى الميراث بوجه عام هو دليل مساواتها له فى مطلق الحق ؛ أما التفاوت فيه فهو أمر يقتضيه نظام الحياة ؛ وكون شهادتها على النصف من شهادة الرجل بين حكمته قول الله تعالى : {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}[البقرة : 282] ومراعاة طبيعتها البشرية أمر لا ب عليه ؛ كما لا يعاب به أحد ، على أن شهادتها فى بعض الأحيان هى المعتمدة دون الرجل كمسائل الرضاع والبكارة والعيوب الداخلية للمرأة .
( ب ) وقد يقال أيضا ، إذا كان الإسلام لا يقر التفرقة العنصرية فلماذا رأينا بعض الولاة يخالفون ذلك ، كما حدث فى الدولة الأموية التى قلدت الوظائف الهامة للعرب دون العجم ، والجواب أن عمل هؤلاء لا يُعد تشريعا يناقض التشريع المعتبر فى مصادره المعروفة ، وقد تكون هناك ظروف جعلت هؤلاء الولاة يتخذون هذا الإجراء ، وذلك كعدم اطمئنان العرب إذ ذاك إلى العجم الداخلين فى الإسلام حديثًا ، والذين لم يزل الكثير منهم متأثرًا بمواريثه الدينية والسلوكية ، الأمر الذى جعل بعض الأفراد ينادى بما سمى باسم الشعوبية، وجاءت على أثر هذه الصيحات الدولة العباسية بجهود الفارسيين المتشيعين للبيت الهاشمى والناقمين على البيت الأموى .
ومهما يكن من شىء فإن هذه التصرفات السياسية موكولة إلى رأى القائمين بالأمر، وهى على كل حال لا تعرض النصوص الأصلية فى مقاومة التفرقة العنصرية ومن أراد التوسعة فليرجع إلى كتابنا " دراسات إسلامية لأهم القضايا المعاصره "
مصدر الفتوى : موقع الأزهر