النخبة.. خطر يهدد الأجيال
ودعونا نبدأ بقصة عمر مع الأعرابي حينما قال لعمر وهو على المنبر: (من أين لك هذا يا عمر؟!)، أعرابي يقف في المسجد أمام الجموع يخاطب أمير المؤمنين ويسأله عن بردة كان يلبسها، فيجيب عمر بكل تواضع ويبين له قصة البردة.
إنه لا حياة للأمة إلا حينما يتساوى الناس في حقوقهم، ودور النخبة في كل مجتمع يزداد خطورةً وسوءً كلما استأثروا لأنفسهم بالحظوظ الشخصية أو الدعوية وإن كانت مغلّفة بمصالح شرعية.
لقد ظهر في واقع الدعاة اليوم داء النخبة الخطير الذي يتناسب عكسيًا مع الفتوحات الربانية.
يبدو أن هذه النخبة قد انحرفت عن أهدافها شيئًا يسيرًا فضلت السبيل، ربما غرتها بيّنات الطريق فذهبت تتخبط وهي تريد أن تجمع بين الدنيا والآخرة بتوازن غير معقول حتى لو تخلت عن شيء من مبادئها وثوابتها، والضحية هم الأجيال.
يقول محمد الراشد حاسمًا هذا الخلط بين الأهداف: (فالاختيار إنما هو اختيار واحد، وقد تجنح النفس إلى اختيارات هابطة تزاحم هدفها السامي، إلا أن التقاء الهدفين محال، وسد الشاعر طريق التقائهما لما أخبر أن:
الهوى الدنيوي والهدف العلوي *** في النفس ليس يلتقيان
وهذه الحقيقة تدعونا إلى تجديد السير وتمحيص الإخلاص في نفوس العاملين، وأن يتحرروا من كل الأطماع والشوائب، وأن يظل هذا التجرد يتعاظم فيه حتى يصل إلى التبتل في أداء العمل للدعوة الإسلامية المباركة، ويصيرون (كأن مادتهم من السحب، فيها لغيرهم الظل الماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة، والعلو والجمال، يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناس في تركيبهم طباعهم إلا الإخلاص وإن كان حرمانًا، وإلا المروءة وإن كانت مشقة)، إن طريق الدعوة واحد لا يحتمل الشركة(1).
وإن من أبرز العيوب التي أفرزتها تلك الطبقة في واقعنا:
1- أصبح للدعاة امتيازات دنيوية وفرص دعوية ورحلات مجانية ودورات إدارية لا تتوفر إلا للنخبة وللنخبة فقط.
2- ادعاء الفرادة في توجيه المدعوين وتعليمهم كل ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، (إن من الأخطاء الفادحة أن نزرع في حس الناس أننا نمثل الإسلام تمثيلاً صادقًا، وأن تجربتنا الخاصة هي الأكثر نضجًا أو الأعم نفعًا، فالواحد من الدعاة مهما سما سيظل غير معصوم ولا مكتمل، ومهما نضجت خبرته فإن ما لا يعرفه أكثر مما عرفه(2).
3- التعالي عن ممارسة أي واجب دعوي عملي أو ميداني بحجة الانشغال بما هو أهم.
4- زيادة تحقير الدهماء وفائدتها.
وعليه؛ فإنه يتوجب علينا أن نصحح المسار، وأن نعود إلى سيرة سلفنا الصالح حتى نرى النخبة في ذلك الزمان، ثم نقارن فيتبين لنا الحق.
إن النخبة في تاريخ سلفنا الصالح ومن سار على نهجهم هم إما:
أ- عالم نذر نفسه لله يعقد الدروس وينهل من العلم وينشر الخير بين الناس في يومه وليلته كما قال أحدهم: (من المحبرة إلى المقبرة).
ب- أو عابد قد تفطرت قدماه من طول القيام وظهر على وجنتيه خطان أسودان من كثرة البكاء حتى إذا أصبح كان وجهه نورًا يعقل به من يراه.
ج- أو مجاهد تكسرت في يده أسياف ودروع ليس في جسده موضع شبر إلا وفيه طعنة أو إصابة في سبيل الله (فلا نامت أعين الجبناء).
د- أو متصدق قد بذل ماله في سبيل الله فهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
هـ- وإما داعية يجوب البلاد شرقًا وغربًا؛ فهو مبارك أينما حلَّ، يدعو الناس إلى الإسلام والإيمان، فكم هدى الله به من البشر.
ولنا في رسولنا الكريم وسلفنا الصالح أسوة حسنة، فلماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
يقول عبد الكريم بكَّار: (وإذا كنا ننهى أنفسنا عن التعصب للفكرة فإننا نرى أن الصفوة التي تتمتع بالحد الأدنى من الرجولة للدفاع عن الأفكار والمبادئ التي تؤمن بها ـ هي صفوة منحطَّة ـ وستظل جاهزة لخدمة مصالحها الخاصة، وتوظيف ثقافتها في بناء مجدها الذاتي، ولو كان الثمن هو عناء أمة بأكملها!! إن قيمة الصفوة بل طبيعة وجودها لا تنبع من القدر المعرفي الذي تحمله، وإنما من مقدار ما تحملها للهم العام ومشاركتها في إصلاح الشأن العام، أي على قدر تعدي نفعها للأمة، وعلى قدر تجاوزها لمصالحها الشخصية)(3).
وما أجمل ما قاله الراشد وهو يؤكد على أهم صفة من صفات النخبة وهو يصف أحدهم: (أن يكون صاحب فؤاد ملذوع يتحرق، بحيث تكون خطة تطوير النشاط وتربية الثقات شغلاً قلبيًا له، وليس هو ممن أعطيت له الصدارة تبركًا بورعه الذي لا يسنده حزم، ولا لشهادته العالية التي تجعله وجهًا اجتماعيًا، ولا لكتاباته التي جعلت اسمه ذائعًا، ولا لصرامته الزائدة الجافة التي لا يربطها طول عكوفه مع تفسير القرآن الكريم ومتون الحديث النبوي الشريف وتراث الفقه المبارك)(4).
أحبتي في الله؛ إذا كنا نعيب على النخب المجرمة سيرها الذميم وطريقتها البشعة وآثارها السيئة على الأمة فلنحذر من انتقال المرض إلى واقع الدعاة؛ فإن الثمن سيكون باهظًا؛ إنه ضعف الدين والوهن الذي دب في المسلمين.
لقد عانت الأمة الإسلامية منذ زمن طويل من ويلات النخبة؛ سواءً في السياسة أو في الاقتصاد أو غير ذلك، وفي كل مرة يتساقط الضحايا تحت أرجلهم، تسحق الشعوب لأجل مجموعة من البشر، وتدمر الديار لاسترضاء عصابة من الطغاة، والضحية هم الشعوب والأجيال.
هذا الكلام شواهده منقوشة في جبين التاريخ، وأدلته مسطَّرة بمداد من دماء الأبرياء والمساكين التي تعلن للملأ قديمًا وحديثًا أن التهمة ثابتة في حق المجرمين من هذه النخبة مع سبق الإصرار والترصد.
------------------
([1]) المسار، 319.
([2]) عبد الكريم بكار، مقدمات للنهضة بالعمل الدعوي، 122.
([3]) مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، 3/107.
([4]) المسار، 352.
خالد بن تامر السبيعي